فصل: قال أبو حيان:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال أبو حيان:

{قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ}
ارتعى افتعل من الرعي بمعنى المراعاة وهي الحفظ للشيء، أو من الرعي وهو أكل الحشيش والنبات، يقال: رعت الماشية الكلأ ترعاه رعيًا أكلته، والرعي بالكسر الكلأ، ومثله ارتعى.
قال الأعشى:
ترتعي السفح فالكثيب فذا ق ** ر فروض القطا فذات الرمال

رتع أقام في خصب وتنعم، ومنه قول الغضبان بن القبعثري: القيد، والمتعة، وقلة الرتعة.
وقول الشاعر:
أكفرًا بعد رد الموت عني ** وبعد عطائك المائة الرتاعا

الذئب: سبع معروف، وليس في صقعنا الأندلسي، ويجمع على أذؤب وذئاب وذؤبان قال:
وأزور يمطو في بلاد بعيدة ** تعاوى به ذؤبانه وثعالبه

وأرض مذأبة كثيرة الذئاب، وتذاءبت الريح جاءت من هنا ومن هنا، فعل الذئب ومنه الذؤابة من الشعر لكونها تنوس إلى هنا وإلى هنا.
{قالوا يا أبانا ما لك لا تأمنا على يوسف وإنا له لناصحون أرسله معنا غدًا يرتع ويلعب وإنا له لحافظون قال إني ليحزنني أن تذهبوا به وأخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون قالوا لئن أكله الذئب ونحن عصبة إنا إذًا لخاسرون}: لما تقرر في أذهانهم التفريق بين يوسف وأبيه، أعملوا الحيلة على يعقوب وتلطفوا في إخراجه معهم، وذكروا نصحهم له وما في إرساله معهم من انشراح صدره بالارتعاء واللعب، إذ هو مما يشرح الصبيان، وذكروا حفظهم له مما يسوؤه.
وفي قولهم: ما لك لا تأمنا، دليل على أنهم تقدم منهم سؤال في أنْ يخرج معهم، وذكروا سبب الأمن وهو النصح أي: لم لا تأمنا عليه وحالتنا هذا؟ والنصح دليل على الأمانة، ولهذا قرنا في قوله: ناصح أمين، وكان قد أحس منهم قبل ما أوجب أنْ لا يأمنهم عليه.
ولا تأمنا جملة حالية، وهذا الاستفهام صحبة التعجب.
وقرأ زيد بن علي، وأبو جعفر، والزهري، وعمرو بن عبيد: بإدغام نون {تأمن} في نون الضمير من غير إشمام ومجيئه بعد مالك، والمعنى: يرشد إلى أنه نفي لا نهي، وليس كقولهم: ما أحسننا في التعجب، لأنه لو أدغم لالتبس بالنفي.
وقرأ الجمهور: بالإدغام والإشمام للضم، وعنهم إخفاء الحركة، فلا يكون إدغامًا محضًا.
وقرأ ابن هرمز: بضم الميم، فتكون الضمة منقولة إلى الميم من النون الأولى بعد سلب الميم حركتها، وإدغام النون في النون.
وقرأ أبي، والحسن، وطلحة بن مصرف، والأعمش: {لا تأمننا} بالإظهار، وضم النون على الأصل، وخط المصحف بنون واحدة.
وقرأ ابن وثاب، وأبو رزين: {لا يتمنا} على لغة تميم، وسهل الهمزة بعد الكسرة ابن وثاب.
وفي لفظة: {أرسله} دليل على أنه كان يمسكه ويصحبه دائمًا.
وانتصب {غدًا} على الظرف، وهو ظرف مستقبل يطلق على اليوم الذي يلي يومك، وعلى الزمن المستقبل من غير تقييد باليوم الذي يلي يومك.
وأصله: غدو، فحذفت لامه وقد جاء تامًا.
وقرأ الجمهور: {يرتع ويلعب} بالياء والجزم، والإبنان وأبو عمر وبالنون والجزم وكسر العين الحرميان، واختلف عن قنبل في إثبات الياء وحذفها.
وروي عن ابن كثير: {ويلعب} بالياء، وهي قراءة جعفر بن محمد.
وقرأ العلاء بن سيابة: {يرتع} بالياء وكسر العين مجزومًا محذوف اللام، {ويلعب} بالياء وضم الباء خبر مبتدأ محذوف أي: وهو يلعب.
وقرأ مجاهد، وقتادة، وابن محيصن: بنون مضمومة من ارتعنا ونلعب بالنون، وكذلك أبو رجاء، إلا أنه بالياء فيهما يرتع ويلعب، والقراءتان على حذف المفعول أي: يرتع المواشي أو غيرها.
وقرأ النخعي: {نرتع} بنون، ويلعب بياء، بإسناد اللعب إلى يوسف وحده لصباه، وجاء كذلك عن أبي إسحاق، ويعقوب.
وكل هذه القراآت الفعلان فيها مبنيان للفاعل.
وقرأ زيد بن علي: {يرتع ويلعب} بضم الياءين مبنيًا للمفعول، ويخرجها على أنه أضمر المفعول الذي لم يسم فاعله وهو ضمير غد، وكان أصله يرتع فيه ويلعب فيه، ثم حذف واتسع، فعدى الفعل للضمير، فكان التقدير: يرتعه ويلعبه، ثم بناه للمفعول فاستكن الضمير الذي كان منصوبًا لكونه ناب عن الفاعل.
واللعب هنا هو الاستباق والانتضال، فيدربون بذلك لقتال العدو، سموه لعبًا لأنه بصورة اللعب، ولم يكن ذلك للهو بدليل قولهم: إننا ذهبنا نستبق، ولو كان لعب لهو ما أقرهم عليه يعقوب.
ومن كسر العين من يرتع فهو يفتعل.
قال مجاهد: هي من المراعاة أي: يراعي بعضنا بعضًا ويحرسه.
وقال ابن زيد: من رعى الإبل أي يتدرب في الرعي، وحفظ المال، أو من رعى النبات والكلأ، أي: يرتع على حذف مضاف أي: مواشينا.
ومن أثبت الياء.
فقال ابن عطية: هي قراءة ضعيفة لا تجوز إلا في الشعر كقول الشاعر:
ألم يأتيك والأنباء تنمى ** بما لاقت لبون بني زياد

انتهى.
وقيل: تقدير حذف الحركة في الياء لغة، فعلى هذا لا يكون ضرورة.
ومن قرأ بسكون العين فالمعنى: نقم في خصب وسعة، ويعنون من الأكل والشرب.
{وإنا له لحافظون} جملة حالية، والعامل فيه الأمر أو الجواب، ولا يكون ذلك من باب الإعمال، لأن الحال لا تضمر، وبأنّ الإعمال لابد فيه من الإضمار إذا أعمل الأول، ثم اعتذر لهم يعقوب بشيئين: أحدهما: عاجل في الحال، وهو ما يلحقه من الحزن لمفارقته وكان لا يصبر عنه.
والثاني: خوفه عليه من الذئب إن غفلوا عنه برعيهم ولعبهم، أو بقلة اهتمامهم بحفظه وعنايتهم، فيأكله ويحزن عليه الحزن المؤبد.
وخص الذئب لأنه كان السبع الغالب على قطره، أو لصغر يوسف فخاف عليه هذا السبع الحقير، وكان تنبيهًا على خوفه عليه ما هو أعظم افتراسًا.
ولحقارة الذئب خصه الربيع بن ضبع الفزاري في كونه يخشاه لما بلغ من السن في قوله:
والذئب أخشاه إن مررت به ** وحدي وأخشى الرياح والمطرا

وكان يعقوب بقوله: وأخاف أن يأكله الذئب لقنهم ما يقولون من العذر إذا جاؤوا وليس معهم يوسف، فلقنوا ذلك وجعلوه عدة للجواب، وتقدّم خلاف القراء في يحزن.
وقرأ زيد بن علي، وابن هرمز، وابن محيصن: {ليحزني} بتشديد النون، والجمهور بالفك.
و{ليحزنني} مضارع مستقبل لا حال، لأن المضارع إذا أسند إلى متوقع تخلص للاستقبال، لأنّ ذلك المتوقع مستقبل وهو المسبب لأثره، فمحال أنْ يتقدم الأثر عليه، فالذهاب لم يقع، فالحزن لم يقع.
كما قال:
يهولك أن تموت وأنت ملغ ** لما فيه النجاة من العذاب

وقرأ زيد بن علي: {تذهبوا به} من أذهب رباعيًا، ويخرج على زيادة الباء في به، كما خرج بعضهم تنبت بالدهن.
في قراءة من ضم التاء وكسر الباء أي: تنبت الدهن وتذهبوه.
وقرأ الجمهور: و{الذئب} بالهمز، وهي لغة الحجز.
وقرأ الكسائي، وورش، وحمزة: إذا وقف بغير همز.
وقال نصر: سمعت أبا عمر ولا يهمز.
وعدل إخوة يوسف عن أحد الشيئين وهو حزنه على ذهابهم به لقصر مدة الحزن، وإيهامهم أنهم يرجعون به إليه عن قريب، وعدلوا إلى قضية الذئب وهو السبب الأقوى في منعه أن تذهبوا به، فحلفوا له لئن كان ما خافه من خطفة الذئب أخاهم من بينهم، وحالهم أنهم عشرة رجال بمثلهم تعصب الأمور وتكفي الخطوب.
إنهم إذًا لقوم خاسرون أي: هالكون ضعفاء وجورًا وعجزًا، أو مستحقون أن يهلكوا، لأنهم لا غنى عندهم ولا جدوى في حياتهم، أو مستحقون بأن يدعى عليهم بالخسار والدمار، وأن يقال: خسرهم الله ودمرهم حين أكل الذئب بعضهم وهم حاضرون.
وقيل: إن لم نقدر على حفظ بعضنا فقد هلكت مواشينا، إذًا وخسرنا.
وروي أن يعقوب رأى في منامه كأنه على ذروه جبل، وكان يوسف في بطن الوادي، فإذا عشرة من الذئاب قد احتوشته يردن أكله، فدرأ عنه واحد، ثم انشقت الأرض فتوارى يوسف فيها ثلاثة أيام.
{فلما ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه في غيابة الجب}
حكي أنهم قالوا ليوسف: اطلب من أبيك أن يبعثك معنا، فأقبل على يوسف فقال: أتحب ذلك؟ قال: نعم.
قال يعقوب: إذا كان غدًا أذنت لك، فلما أصبح يوسف لبس ثيابه وشد عليه منطقته، وخرج مع أخوته فشيعهم يعقوب وقال: يا بني أوصيكم بتقوى الله وبحبيبي يوسف، ثم أقبل على يوسف وضمه إلى صدره وقبل بين عينيه ثم قال: استودعتك الله رب العالمين، وانصرف.
فحملوا يوسف على أكتافهم ما دام يعقوب يراهم، ثم لما غابوا عن عينه طرحوه ليعدوا معهم إضرارًا به.
وذكر المفسرون أشياء كثيرة تتضمن كيفية إلقائه في غيابة الجب ومجاورته لهم بما يلين الصخر، وهم لا يزدادون إلا قساوة.
ولم يتعرض القرآن ولا الحديث الصحيح لشيء منها، فيوقف عليها في كتب التفسير.
وبين هذه الجملة والجمل التي قبلها محذوف يدل عليه المعنى تقديره: فأجابهم إلى ما سألوه وأرسل معهم يوسف، فلما ذهبوا به وأجمعوا أي: عزموا واتفقوا على إلقائه في الجب، وأن يجعلوه مفعول أجمعوا، يقال: أجمع الأمر وأزمعه بمعنى العزم عليه، واحتمل أن يكون الجعل هنا بمعنى الإلقاء، وبمعنى التصيير.
واختلفوا في جواب لمّا أهو مثبت؟ أو محذوف؟ فمن قال: مثبت، قال: هو قولهم قالوا يا أبانا إنا ذهبنا نستبق أي: لما كان كيت وكيت، قالوا وهو تخريج حسن.
وقيل: هو أوحينا، والواو زائدة، وعلى هذا مذهب الكوفيين يزاد عندهم بعد لما، وحتى إذا.
وعلى ذلك خرجوا قوله: فلما أسلما وتله للجيين وناديناه أي: ناديناه وقوله: حتى إذا جاؤوها وفتحت أي: فتحت.
وقول امرئ القيس:
فلما أحربا ساحة الحي وانتحى

أي: انتحى.
ومن قال: هو محذوف، وهو رأي البصريين، فقدره الزمخشري: فعلوا به ما فعلوا من الأذى، وحكى الحكاية الطويلة فيما فعلوا به، وما حاوروه وحاورهم به.
قدره بعضهم: فلما ذهبوا به وأجمعوا أنْ يجعلوه في غيابة الجب عظمت فتنتهم، وقدّره بعضهم جعلوه فيها، وهذا أولى إذ يدل عليه قوله: وأجمعوا أن يجعلوه والظاهر أنّ الضمير في وأوحينا إليه عائد على يوسف، وهو وحي إلهام قاله مجاهد.
وروي عن ابن عباس: أو منام.
وقال الضحاك وقتادة: نزل عليه جبريل في البئر.
وقال الحسن: أعطاه الله النبوة في الجب وكان صغيرًا، كما أوحى إلي يحيى وعيسى عليهما السلام، وهو ظاهر أوحينا، ويدل على أنّ الضمير عائد على يوسف قوله لهم قال: هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون.
وقيل: الضمير في إليه عائد على يعقوب، وإنما أوحي إليه ليأنس في الظلمة من الوحدة، وليبشر بما يؤول إليه أمره، ومعناه: للتخلص مما أنت فيه، ولتحدثن إخوتك بما فعلوا بك.
وهم لا يشعرون جملة حالية من قوله: لتنبئنهم بهذا أي: غير عالمين أنك يوسف وقت التنبئة قاله ابن جريج، وذلك لعلو شأنك وعظمة سلطانك، وبعد حالك عن أذهانهم، ولطول العمر المبدل للهيئات والأشكال.
وذكر أنهم حين دخلوا عليه ممتارين فعرفهم وهم له منكرون، دعا بالصواغ فوضعه على يده ثم نقره فطن فقال: إنه ليخبرني هذا الجام أنه كان لكم أخ من أبيكم يقال له: يوسف، وكان يدنيه دونكم، وأنكم انطلقتم به وألقيتموه في غيابة الجب وقلتم لأبيكم: أكله الذئب.
وبيع بثمن بخس، ويجوز أن يكون وهم لا يشعرون حالًا من قوله: وأوحينا أي: وهم لا يشعرون، قاله قتادة.
أي: بإيحائنا إليك وما أخبرناك به من نجاتك وطول عمرك، إلى أن تنبئهم بما فعلوا بك.
وقرأ الجمهور {لتنبئنهم} بتاء الخطاب، وابن عمر بياء الغيبة، وكذا في بعض مصاحف البصرة.
وقرأ سلام بالنون.
والذي يظهر من سياق الأخبار والقصص أن يوسف كان صغيرًا، فقيل: كان عمره إذ ذاك سبع سنين.
وقيل: ست، قاله الضحاك.
وأبعد من ذهب إلى أنه اثنتا عشرة سنة، وثمان عشرة سنة، وكلاهما عن الحسن، أو سبع عشرة سنة قاله ابن السائب.
ويدل على أنه كان صغيرًا بحيث لا يدفع نفسه قوله: وأخاف أن يأكله الذئب ويرتع ويلعب وإنا له لحافظون، وأخذ السيارة له، وقول الوارد: هذا غلام، وقول العزيز: عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدًا، وما حكى من حملهم إياه واحدًا بعد واحد، ومن كلامه لأخيه يهوذا: ارحم ضعفي وعجزي وحداثة سني، وارحم قلب أبيك يعقوب.
ومن هو ابن ثمان عشرة سنة لا يخاف عليه من الذئب ولاسيما إن كان في رفقة، ولا يقال فيه: وإنا له لحافظون، لأنه إذ ذاك قادر على التحيل في نجاة نفسه، ولا يسمى غلامًا إلا بمجاز، ولا يقال فيه: أو نتخذه ولدًا. اهـ.