فصل: قال القرطبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقوله تعالى: {وجاءو على قميصه بدم كذب} الآية، روي أنهم أخذوا سخلة أو جديًا فذبحوه ولطخوا به قميص يوسف، وقالوا ليعقوب: هذا قميصه، فأخذه ولطخ به وجهه وبكى، ثم تأمله فلم ير خرقًا ولا أثر ناب.
فاستدل بذلك على كذبهم، وقال لهم: متى كان الذئب حليمًا، يأكل يوسف ولا يخرق قميصه؟- قص هذا القصص ابن عباس وغيره، وأجمعوا على أنه استدل على كذبهم لصحة القميص- واستند الفقهاء إلى هذا في إعمال الأمارات في مسائل كالقسامة بها- في قول مالك- إلى غير ذلك.
قال الشافعي: كان في القميص ثلاث آيات: دلالته على كذبهم وشهادته في قده، ورد بصر يعقوب به. وروي أنهم ذهبوا فأخذوا ذئبًا فلطخوا فاه بالدم وساقوه وقالوا ليعقوب، هذا أكل يوسف، فدعاه يعقوب فأقعى وتكلم بتكذيبهم.
ووصف الدم ب: {كذب} إما على معنى بدم ذي كذب، وإما أن يكون بمعنى مكذوب عليه، كما قد جاء المعقول بدل العقل في قول الشاعر:
الكامل:
حتى إذا لم يتركوا لعظامه ** لحمًا ولا لفؤادِهِ معقولا

فكذلك يجيء التكذيب مكان المكذوب.
قال القاضي أبو محمد: هذا كلام الطبري، ولا شاهد له فيه عندي، لأن نفي المعقول يقتضي نفي العقل، ولا يحتاج إلى بدل، وإنما الدم الكذب عندي وصف بالمصدر على جهة المبالغة.
وقرأ الحسن: {بدم كذب} بدال غير معجمة، ومعناه الطري ونحوه، وليست هذه القراءة قوية.
ثم قال لهم يعقوب لما بان كذبهم: {بل سولت لكم أنفسكم أمرًا} أي رضيت وجعلت سولًا ومرادًا. {أمرًا} أي صنعًا قبيحًا بيوسف. وقوله: {فصبر جميل} رفع إما على حذف الابتداء وإما على حذف الخبر: إما على تقدير: فشأني صبر جميل، وإما على تقدير فصبر جميل أمثل. وذكر أن الأشهب وعيسى بن عمر قرأ بالنصب: {فصبرًا جميلًا} على إضمار فعل، وكذلك هي في مصحف أبيّ ومصحف أنس بن مالك- وهي قراءة ضعيفة عند سيبويه ولا يصلح النصب في مثل هذا إلا مع الأمر، ولذا يحسن النصب في قول الشاعر الرجز:
صبرا جميلًا فكلانا مبتلى

وينشد أيضًا بالرفع ويروى {صبر جميل}، على نداء الجمل المذكور في قوله: الرجز:
شكى إليّ جملي طول السرى ** يا جملي ليس إليّ المشتكى

صبر جميل فكلانا مبتلى

وإنما تصح قراءة النصب على أن تقدر يعقوب عليه السلام رجع إلى مخاطبة نفسه أثناء مخاطبة بنيه.
وجميل الصبر ألا تقع شكوى إلى بشر، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «من بث لم يصبر صبرًا جميلًا».
وقوله: {والله المستعان على ما تصفون} تسليم لأمر الله تعالى وتوكل عليه، والتقدير على احتمال ما تصفون. اهـ.

.قال القرطبي:

{وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ (16)} فيه مسألتان:
الأولى:
قوله تعالى: {وجاءوا أَبَاهُمْ عِشَاءً} أي ليلًا، وهو ظرف يكون في موضع الحال؛ وإنما جاؤوا عشاء ليكونوا أقدر على الاعتذار في الظلمة؛ ولذا قيل: لا تطلب الحاجة بالليل، فإن الحياء في العينين، ولا تعتذر بالنهار من ذنب فتتلجلج في الاعتذار؛ فروي أن يعقوب عليه السلام لما سمع بكاءهم قال: ما بكم؟ أجرى في الغنم شيء؟ قالوا: لا.
قال: فأين يوسف؟ قالوا: ذهبنا نستبق فأكله الذئب؛ فبكى وصاح وقال: أين قميصه؟ على ما يأتي بيانه (إن شاء الله).
وقال السديّ وابن حبّان: إنه لما قالوا أكله الذئب خر مغشيًا عليه، فأفاضوا عليه الماء فلم يتحرك، ونادوه فلم يجب؛ قال وهب: ولقد وضع يهوذا يده على مخارج نَفس يعقوب فلم يحسّ بنَفس، ولم يتحرّك له عِرق؛ فقال لهم يهوذا: ويل لنا من ديّان يوم الدّين! ضيّعنا أخانا، وقتلنا أبانا، فلم يفق يعقوب إلا ببرد السّحر، فأفاق ورأسه في حجر روبيل؛ فقال: يا روبيل! ألم آتمنك على ولدي؟ ألم أعهد إليك عهدًا؟ فقال: يا أبت! كُفَّ عنّي بكاءك أخبرك؛ فكفّ يعقوب بكاءه فقال: يا أبت {إنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ}.
الثانية:
قال علماؤنا: هذه الآية دليل على أن بكاء المرء لا يدلّ على صدق مقاله، لاحتمال أن يكون تصنّعًا؛ فمن الخلق من يقدر على ذلك، ومنهم من لا يقدر.
وقد قيل: إن الدمع المصنوع لا يخفى؛ كما قال حكيم:
إذا اشتبكت دموعٌ في خُدودٍ ** تَبَيَّنَ مَنْ بَكَى مِمَّنْ تَبَاكَى

{قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ (17)}
فيه سبع مسائل:
الأولى:
قوله تعالى: {نَسْتَبِقُ} نفتعل، من المسابقة.
وقيل: أي نَنْتَضِل؛ وكذا في قراءة عبد الله: {إنَّا ذَهَبْنَا نَنْتَضِل} وهو نوع من المسابقة؛ قاله الزجاج.
وقال الأزهريّ: النِّضال في السِّهام، والرِّهان في الخيل، والمسابقة تجمعهما.
قال القُشيريّ أبو نصر: {نَسْتَبِقُ} أي في الرّمي، أو على الفرس؛ أو على الأقدام؛ والغرض من المسابقة على الأقدام تدريب النفس على العَدْو، لأنه الآلة في قتال العدوّ، ودفع الذئب عن الأغنام.
وقال السدّي وابن حبّان: {نَسْتَبِقُ} نشتد جريًا لنرى أينُّا أسبق.
قال ابن العربي: المسابقة شِرْعة في الشَّريعة، وخَصْلة بديعة، وعَون على الحرب؛ وقد فعلها صلى الله عليه وسلم بنفسه وبخيله، وسابق عائشة رضي الله عنها على قدميه فسبقها؛ فلما كبر رسول الله صلى الله عليه وسلم سابقها فسبقته؛ فقال لها: «هذه بتلك».
قلت: وسابق سَلَمة بن الأكوع رجلًا لما رجعوا من ذي قَرَد إلى المدينة فسبقه سَلَمة؛ خرجه مسلم.
الثانية:
وروى مالك عن نافع عن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سابق بين الخيل التي قد أُضْمِرت (من الْحَفْيَاء) وكان أمدها ثَنِيَّة الوداع، وسابق بين الخيل التي لم تُضمَّر من الثَّنِيَّة إلى مسجد بني زُرَيق، وأن عبد الله بن عمر كان ممن سابق بها؛ وهذا الحديث مع صحته في هذا الباب تضمن ثلاثة شروط؛ فلا تجوز المسابقة بدونها، وهي: أن المسافة لابد أن تكون معلومة.
الثاني أن تكون الخيل متساوية الأحوال.
الثالث ألا يسابق المضمَّر مع غير المضمَّر في أمد واحد وغاية واحدة.
والخيل التي يجب أن تَضمَّر ويسابق عليها، وتقام هذه السنّة فيها هي الخيل المعدّة لجهاد العدوّ لا لقتال المسلمين في الفتن.
الثالثة:
وأما المسابقة بالنّصال والإبل؛ فروى مسلم عن عبد الله بن عمرو قال: سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلنا منزِلًا فمِنَّا من يصلِح خِباءه، ومنا من يَنْتِضل، وذكر الحديث.
وخرّج النسائيّ عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا سَبَق إلا في نَصْل أو خُفّ أو حافر» وثبت ذكر النّصل من حديث ابن أبي ذئب عن نافع بن أبي نافع عن أبي هريرة، ذكره النسائي؛ وبه يقول فقهاء الحجاز والعراق.
وروى البخاريّ عن أنس قال: كان للنبي صلى الله عليه وسلم ناقة تسمى العَضْباء لا تُسبَق قال حُمَيد: أو لا تكاد تُسَبق فجاء أعرابي على قعود فسبقها، فشق ذلك على المسلمين حتى عرفه؛ فقال: «حقّ على الله ألا يرتفع شيء من الدنيا إلا وضعه».
الرابعة:
أجمع المسلمون على أن السَّبَق لا يجوز على وجه الرهان إلا في الخفّ والحافر والنّصل؛ قال الشافعي: ما عدا هذه الثلاثة فالسَّبَق فيها قِمار.
وقد زاد أبو البَخْتَرِيّ القاضي في حديث الخفّ والحافر والنّصل أو جَناح وهي لفظة وضعها للرشيد، فترك العلماء حديثه لذلك ولغيره من موضوعاته؛ فلا يكتب العلماء حديثه بحال.
وقد رُوي عن مالك أنه قال: لا سَبَق إلا في الخيل والرمي، لأنه قوّة على أهل الحرب؛ قال: وسَبَق الخيل أحبّ إلينا من سَبَق الرمي.
وظاهر الحديث يسوّي بين السّبق على النُّجُب والسَّبق على الخيل.
وقد منع بعض العلماء الرّهان في كل شيء إلا في الخيل؛ لأنها التي كانت عادة العرب المراهنة عليها.
ورُوي عن عطاء أن المراهنة في كل شيء جائزة؛ وقد تُؤُوِّل قوله؛ لأن حمله على العموم (في كل شيء) يؤدّي إلى إجازة القمار، وهو محرّم باتفاق.
الخامسة:
لا يجوز السَّبَق في الخيل والإبل إلا في غاية معلومة وأمد معلوم، كما ذكرنا، وكذلك الرمي لا يجوز السَّبَق فيه إلا بغاية معلومة ورَشْق معلوم، ونوع من الإصابة؛ مشترط خَسْقا أو إصابة بغير شرط.
والأسباق ثلاثة: سَبَق يعطيه الوالي أو الرجل غير الوالي من ماله متطوّعًا فيجعل للسابق شيئًا معلومًا؛ فمن سبق أخذه.
وسَبَق يخرجه أحد المتسابقين دون صاحبه، فإن سَبَقه صاحبه أخذه، وإن سَبَق هو صاحبه أخذه؛ وحسن أن يمضيه في الوجه الذي أخرجه له، ولا يرجع إلى ماله؛ وهذا مما لا خلاف فيه.
والسَّبق الثالث اختلف فيه؛ وهو أن يخرج كل واحد منهما شيئًا مثل ما يخرجه صاحبه، فأيهما سَبَق أحرز سبَقه وسبَق صاحبه؛ وهذا الوجه لا يجوز حتى يُدخِلا بينهما محلِّلًا لا يأمنا أن يسبقهما؛ فإن سبق المحلِّل أحرز السَّبَقين جميعًا وأخذهما وحده، وإن سبق أحد المتسابقين أحرز سبَقه وأخذ سبَق صاحبه، ولا شيء للمحلِّل فيه، ولا شيء عليه.
وإن سبق الثاني منهما الثالث كان كمن لم يسبق واحد منهما.
وقال أبو علي بن خيران من أصحاب الشافعي: وحكم الفرس المحلل أن يكون مجهولًا جريه؛ وسمي محلِّلًا لأنه يحّلل السّبَق للمتسابقين أوْلَهُ.
واتفق العلماء على أنه إن لم يكن بينهما محلِّل واشترط كل واحد من المتسابقين أنه إن سبق أخذ سبَقه وسبَق صاحبه أنه قمار، ولا يجوز.
وفي سنن أبي داود عن أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «من أدخل فرسًا بين فرسين وهو لا يأمن أن يَسبق فليس بقِمار ومن أدخله وهو يأمن أن يَسبق فهو قِمار» وفي الموطأ عن سعيد بن المسيب قال: ليس برِهان الخيل بأس إذا دخل فيها محلِّل، فإن سبق أخذ السبق، وإن سُبق لم يكن عليه شيء؛ وبهذا قال الشافعي وجمهور أهل العلم.
واختلف في ذلك قول مالك؛ فقال مرة لا يجب المحلِّل في الخيل، ولا نأخذ فيه بقول سعيد، ثم قال: لا يجوز إلا بالمحلل؛ وهو الأجود من قوله.
السادسة:
ولا يحمل على الخيل والإبل في المسابقة إلا محتلم، ولو ركبها أربابها كان أولى؛ وقد روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: لا يركب الخيل في السباق إلا أربابها.
وقال الشافعي: وأقل السَبق أن يسبق بالهادي أو بعضه، أو بالكَفَل أو بعضه.
والسبق من الرماة على هذا النحو عنده؛ وقول محمد بن الحسن في هذا الباب نحو قول الشافعي.
السابعة:
روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سابق أبا بكر وعمر رضي الله عنهما، فسبق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصلَّى أبو بكر وثَلَّث عمر؛ ومعنى وصلّى أبو بكر: يعني أن رأس فرسه كان عند صَلاَ فرس رسول الله صلى الله عليه وسلم، والصَّلَوَان موضع العَجُز.
قوله تعالى: {وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا} أي عند ثيابنا وأقمشتنا حارسًا لها.
{فَأَكَلَهُ الذئب} وذلك أنهم لما سمعوا أباهم يقول: {وأخاف أن يأكله الذئب} أخذوا ذلك من فيه فتحرّموا به؛ لأنه كان أظهر المخاوف عليه.
{وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا} أي بمصدق.
{وَلَوْ كُنَّا} أي وإن كنا؛ قاله المبرد وابن إسحق.
{صَادِقِينَ} في قولنا؛ ولم يصدقهم يعقوب لمِا ظهر له منهم من قوّة التّهمة وكثرة الأدلة على خلاف ما قالوه على ما يأتي بيانه.
وقيل: {ولو كنا صادِقِين} أي ولو كنا عندك من أهل الثقة والصدق ما صدقتنا، ولاتّهمتنا في هذه القضية، لشدة محبتك في يوسف؛ قال معناه الطبريّ والزجاج وغيرهما.
قوله تعالى: {وَجَاءُوا على قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ}.
فيه ثلاث مسائل:
الأولى:
قوله تعالى: {بِدَمٍ كَذِبٍ} قال مجاهد: كان دم سخلة أو جَدْي ذبحوه.
وقال قتادة: كان دم ظبية؛ أي جاءوا على قميصه بدم مكذوب فيه، فوصف الدم بالمصدر، فصار تقديره: بدم ذي كذب؛ مثل: {واسأل الْقَرْيَةَ} والفاعل والمفعول قد يسميان بالمصدر؛ يقال: هذا ضَرْبُ الأمير، أي مضروبه؛ وماء سَكْب أي مسكوب، وماء غَوْر أي غائر، ورجل عَدْل أي عادل. وقرأ الحسن وعائشة: {بِدَمٍ كدِبٍ} بالدّال غير المعجمة، أي بدم طرِيّ؛ يقال للدّم الطريّ الكدب. وحكى أنه المتغير؛ قاله الشعبي. والكدب أيضًا البياض الذي يخرج في أظفار الأحداث؛ فيجوز أن يكون شبه الدّم في القميص بالبياض الذي يخرج في الظّفْر من جهة اختلاف اللوْنَيْن.
الثانية:
قال علماؤنا رحمة الله عليهم: لما أرادوا أن يجعلوا الدم علامة على صدقهم قرن الله بهذه العلامة علامة تعارضها، وهي سلامة القميص من التَّنْيِيبِ؛ إذ لا يمكن افتراس الذئب ليوسف وهو لابس القميص ويسلم القميص من التخريق؛ ولما تأمل يعقوب عليه السلام القميص فلم يجد فيه خَرْقًا ولا أثرًا استدل بذلك على كذبهم، وقال لهم: متى كان هذا الذئب حكيمًا يأكل يوسف ولا يخرق القميص! قاله ابن عباس وغيره؛ روى إسرائيل عن سِماك بن حرب عن عِكرمة عن ابن عباس قال: كان الدم دم سَخْلة.
وروى سفيان عن سِماك عن عِكرمة عن ابن عباس قال: لما نظر إليه قال كذبتم؛ لو كان الذئب أكله لخرق القميص.