فصل: قال صاحب المنار في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال صاحب المنار في الآيات السابقة:

{لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ}.
هَذَا شُرُوعٌ فِي الْقِصَّةِ بَعْدَ مُقَدِّمَتَيْنِ، أُولَاهُمَا فِي صِفَةِ الْقُرْآنِ وَكَوْنِهِ تَنْزِيلًا مِنَ اللهِ دَالًّا عَلَى رِسَالَةِ مَنْ أَنْزَلَ عَلَيْهِ، وَكَوْنِهِ عَرَبِيًّا تَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ عَلَى الْعَرَبِ الَّذِينَ يَعْقِلُونَهُ، وَكَوْنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَانَ مِنْ قَبْلِهِ غَافِلًا عَمَّا جَاءَهُ فِيهِ لَا يَدْرِي مِنْهُ شَيْئًا، وَنَتِيجَةُ هَاتَيْنِ الْقَضِيَّتَيْنِ تَأْتِي بَعْدَ تَمَامِ الْقِصَّةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ} 102 إِلَخْ.
وَالْمُقَدِّمَةُ الثَّانِيَةُ: رُؤْيَا يُوسُفَ وَمَا فَهِمَهُ مِنْهَا أَبُوهُ فَهْمًا إِجْمَالِيًّا كُلِّيًّا كَمَا بَيَّنَّاهُ آنِفًا، وَبَنَى عَلَيْهِ أَنْ حَذَّرَهُ وَأَنْذَرَهُ مَا يُسْتَهْدَفُ لَهُ قِبَلَهُ مِنْ كَيْدِ إِخْوَتِهِ، وَبَشَّرَهُ بِحُسْنِ عَاقِبَتِهِ، وَنَتِيجَةِ هَاتَيْنِ الْقَضِيَّتَيْنِ مَا قَالَهُ لِأَبِيهِ بَعْدَ دُخُولِهِمْ عَلَيْهِ وَسُجُودِهِمْ لَهُ: {يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا} 100 إِلَخْ.
فَمِثْلُ هَذَا التَّرْتِيبِ الْمَنْطِقِيِّ الْعَقْلِيِّ الْبَدِيعِ يَتَوَقَّفُ نَظْمُهُ وَسَرْدُهُ عَلَى سَبْقِ الْعِلْمِ بِالْقِصَّةِ وَتَتَبُّعِ حَوَادِثِهَا وَالْإِحَاطَةِ بِدَقَائِقِهَا، ثُمَّ عَلَى وَضْعِ تَرْتِيبٍ يُنَسَّقُ عَلَيْهِ الْكَلَامُ كَالْقِصَصِ الْفَنِّيَّةِ الْمُتَكَلَّفَةِ، ثُمَّ تُوضَعُ لَهُ الْمُقَدِّمَةُ وَالْخَاتِمَةُ فِي الْغَايَةِ الَّتِي أُلِّفَتِ الْقِصَّةُ لِأَجْلِهَا، فَتَجْعَلُ الْأُولَى بَرَاعَةَ مَطْلَعٍ، وَالْآخِرَةَ بَرَاعَةَ مَقْطَعٍ، فَقُلْ لِمَنْ جَهِلَ سِيرَةَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَتَارِيخَهُ: إِنَّ مُحَمَّدًا لَمْ يَكُنْ قَارِئًا وَلَا كَاتِبًا، وَلَا خَطِيبًا وَلَا شَاعِرًا، وَلَا مُؤَرِّخًا، وَلَا رَاوِيًا، وَلَا حَافِظًا لِلشِّعْرِ وَلَا نَاثِرًا، بَلْ كَانَ كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى غَافِلًا عَنْ هَذِهِ الْقِصَّةِ وَكُلِّ مَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ، وَكَانَتْ تَنْزِلُ عَلَيْهِ السُّورَةُ الْقَصِيرَةُ فَيُعَجِّلُ بِقِرَاءَتِهَا لِئَلَّا يَنْسَى مِنْهَا شَيْئًا، فَنُهِيَ عَنْ ذَلِكَ عِنْدَمَا عَرَضَ لَهُ فِي أَثْنَاءِ نُزُولِ سُورَةِ الْقِيَامَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} 75: 16- 19 وَبِقَوْلِهِ: {وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} 20: 114 وَقَوْلِهِ: {سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى} 87: 6 وَقَوْلِهِ: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} 15: 9
فَلَمَّا ضَمِنَ رَبُّهُ لَهُ أَمْنَ ضَيَاعِ شَيْءٍ مِنْهُ بِعَدَمِ حِفْظِهِ عِنْدَ تَلَقِّيهِ، أَوْ نِسْيَانِهِ بَعْدَهُ، زَالَ خَوْفُهُ، وَتَرَكَ الِاسْتِعْجَالَ بِقِرَاءَتِهِ.
وَهَذِهِ السُّورَةُ الطَّوِيلَةُ نَزَلَتْ عَلَيْهِ دُفْعَةً وَاحِدَةً كَأَكْثَرِ السُّوَرِ الْمَكِّيَّةِ حَتَّى الطَّوَالِ مِنْهَا كَسُورَةِ الْأَنْعَامِ، فَلَمْ يَكُنْ يَدْرِي مِنْ هَذَا التَّرْتِيبِ وَالنَّسَقِ لَهَا وَلَا مِنْ مَوْضُوعِهَا شَيْئًا قَبْلَ وَحْيِهَا، وَلَا يُحِيطُ بِهِ إِلَّا أَنْ يُكْمِلَ لَهُ تَلَقِّيَهَا عَنِ الرُّوحِ الْأَمِينِ- عَلَيْهِمَا السَّلَامُ- وَلَكِنَّ الْعَجَبَ أَنْ يَغْفَلَ عَنْهُ أَوْ يَجْهَلَهُ أَحَدٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ، فُرْسَانُ الْبَلَاغَةِ الْفَنِّيَّةِ، وَالْآنَ قَدْ بَيَّنْتُهُ لِقَارِئِ هَذَا التَّفْسِيرِ لِيَفْطِنَ لِدَلَالَةِ السُّورَةِ بِنَظْمِهَا وَبَلَاغَتِهَا عَلَى إِعْجَازِ الْقُرْآنِ اللَّفْظِيِّ، وَبِمَا فِيهَا مِنَ التَّشْرِيعِ وَعِلْمِ الْغَيْبِ عَلَى إِعْجَازِهِ الْمَعْنَوِيِّ، وَبِالْإِعْجَازَيْنِ كِلَيْهِمَا عَلَى نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَرِسَالَتِهِ، أَشْرَعُ فِي تَفْسِيرِ الْقِصَّةِ مُتَبَرِّئًا مِنْ حَوْلِي وَقُوَّتِي إِلَى حَوْلِ اللهِ وَقُوَّتِهِ، وَهِيَ: لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ أَيْ لَقَدْ كَانَ فِي قِصَّةِ يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ لِأَبِيهِ أَنْوَاعٌ مِنَ الدَّلَائِلِ عَلَى أَنْوَاعٍ مِنْ قُدْرَةِ اللهِ وَحِكْمَتِهِ، وَتَوْفِيقِ أَقْدَارِهِ وَلُطْفِهِ بِمَنِ اصْطَفَى مِنْ عِبَادِهِ، وَتَرْبِيَتِهِ لَهُمْ، وَحُسْنِ عِنَايَتِهِ بِهِمْ، لِلسَّائِلِينَ عَنْهَا، مِنَ الرَّاغِبِينَ فِي مَعْرِفَةِ الْحَقَائِقِ وَالِاعْتِبَارِ بِهَا، لِأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ يَعْقِلُونَ الْآيَاتِ وَيَسْتَفِيدُونَ مِنْهَا، وَمَنْ فَاتَهُ الْعِلْمُ بِشَيْءٍ أَوْ بِحِكْمَتِهِ أَوْ بِوَجْهِ الْعِبْرَةِ فِيهِ سَأَلَ عَنْهُ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ بِهِ مِنْهُ، فَإِنَّ لِلظَّوَاهِرِ غَايَاتٍ لَا تُعْلَمُ حَقَائِقُهَا إِلَّا مِنْهَا، فَإِخْوَةُ يُوسُفَ لَوْ لَمْ يَحْسُدُوهُ لَمَا أَلْقَوْهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ، وَلَوْ لَمْ يُلْقُوهُ لَمَا وَصَلَ إِلَى عَزِيزِ مِصْرَ، وَلَوْ لَمْ يَعْتَقِدِ الْعَزِيزُ بِفِرَاسَتِهِ وَأَمَانَتِهِ وَصِدْقِهِ لَمَا أَمِنَهُ عَلَى بَيْتِهِ وَرِزْقِهِ وَأَهْلِهِ، وَلَوْ لَمْ تُرَاوِدْهُ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ عَنْ نَفْسِهِ وَيَسْتَعْصِمُ لِمَا ظَهَرَتْ نَزَاهَتُهُ وَعُرِفَ أَمْرُهَا، وَلَوْ لَمْ تَخِبْ فِي كَيْدِهَا وَكَيْدِ صَوَاحِبِهَا مِنَ النِّسْوَةِ لَمَا أُلْقِيَ فِي السِّجْنِ لِإِخْفَاءِ هَذَا الْأَمْرِ، وَلَوْ لَمْ يُسْجَنْ لَمَا عَرَفَهُ سَاقِي مَلِكِ مِصْرَ وَعَرَفَ بَرَاعَتَهُ وَصِدْقَهُ فِي تَعْبِيرِ الرُّؤْيَا، وَلَوْ لَمْ يَعْلَمِ السَّاقِي مِنْهُ هَذَا لَمَا عَرَفَهُ مَلِكُ مِصْرَ وَآمَنَ بِهِ وَلَهُ وَجَعَلَهُ عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ، وَلَوْ لَمْ يَتَبَوَّأْ هَذَا الْمَنْصِبَ لَمَا أَمْكَنَهُ أَنْ يُنْقِذَ أَبَوَيْهِ وَإِخْوَتَهُ وَأَهْلَهُمْ أَجْمَعِينَ مِنَ الْمَخْمَصَةِ، وَيَأْتِي بِهِمْ إِلَى مِصْرَ فَيُشَارِكُوهُ فِي رِيَاسَتِهِ وَمَجْدِهِ، بَلْ لَمَا تَمَّ قَوْلُ أَبِيهِ لَهُ: {وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ} 6 فَمَا مِنْ حَلَقَةٍ مِنْ هَذِهِ السِّلْسِلَةِ إِلَّا وَكَانَ ظَاهِرُهَا مُحْرِقًا، وَبَاطِنُهَا مُشْرِقًا، وَبِدَايَتُهَا شَرًّا وَخُسْرًا، وَعَاقِبَتُهَا خَيْرًا وَفَوْزًا، وَصَدَقَ قَوْلُ اللهِ- عَزَّ وَجَلَّ-: {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} 7: 128.
فَهَذِهِ أَنْوَاعٌ مِنْ آيَاتِ اللهِ فِي الْقِصَّةِ لِلسَّائِلِينَ عَنْ وَقَائِعِهَا الْحِسِّيَّةِ الظَّاهِرَةِ، وَمَا هُوَ أَعْلَى مِنْهَا مِنْ عُلُومِهَا وَحِكَمِهَا الْبَاطِنَةِ، كَعِلْمِ يَعْقُوبَ بِتَأْوِيلِ رُؤْيَا يُوسُفَ وَعِلْمِهِ بِكَذِبِهِمْ بِدَعْوَى أَكْلِ الذِّئْبِ لَهُ، وَمِنْ شَهَادَةِ اللهِ بِالْعِلْمِ بِقَوْلِهِ: {وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ} 68، الْآيَةَ، وَمِنْ شَمِّهِ لِرِيحِ يُوسُفَ مُنْذُ فَصَلَتِ الْعِيرُ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ قَاصِدَةً أَرْضَ كَنْعَانَ. وَمِنْ عِلْمِ يُوسُفَ بِتَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ، وَمِنْ رُؤْيَتِهِ لِبُرْهَانِ رَبِّهِ، وَمِنْ كَيْدِ اللهِ لَهُ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ بِشَرْعِ الْمَلِكِ، ثُمَّ مِنْ عِلْمِهِ بِأَنَّ إِلْقَاءَ قَمِيصِهِ عَلَى أَبِيهِ يُعِيدُهُ بَصِيرًا بَعْدَ عَمَى سِنِينٍ كَثِيرَةٍ، فِي الْقِصَّةِ مَجَالٌ لِسُؤَالِ السَّائِلِينَ عَنْ كُلِّ هَذِهِ الْمَعَانِي مِنَ الْعِلْمِ الرُّوحَانِيِّ، وَهِيَ أَخْفَى مِمَّا قَبْلَهَا، وَأَحَقُّ بِالسُّؤَالِ عَنْهَا.
وَقِيلَ عَنِ الْمُرَادِ بِالسَّائِلِينَ: جَمَاعَةٌ مِنَ الْيَهُودِ جَاءُوا مَكَّةَ وَسَأَلُوا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سُؤَالَ امْتِحَانٍ عَنْ نَبِيٍّ كَانَ بِالشَّامِ أُخْرِجَ ابْنُهُ إِلَى مِصْرَ فَبَكَى عَلَيْهِ حَتَّى عَمِيَ؟ فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِ سُورَةَ يُوسُفَ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَمَا فِي التَّوْرَاةِ، وَرُوِيَ أَنَّ بَعْضَهُمْ لَقَّنُوا بَعْضَ أَهْلِ مَكَّةَ أَنْ يَسْأَلُوهُ عَنْ قِصَّةِ يُوسُفَ. وَرُوِيَ أَنَّ بَعْضَهُمْ سَأَلُوهُ عَنْ أَسْمَاءِ الْكَوَاكِبِ الْأَحَدَ عَشَرَ الَّتِي رَآهَا يُوسُفُ فِي مَنَامِهِ وَلَمْ يَكُنْ يَعْرِفُهَا، فَنَزَلَ عَلَيْهِ جِبْرِيلُ فَلَقَّنَهُ إِيَّاهَا فَجَاءَتْ مُوَافِقَةً لِمَا فِي التَّوْرَاةِ، وَذَكَرُوا هَذِهِ الْأَسْمَاءَ فِي تَفَاسِيرِهِمْ، فَالْمُرَادُ بِالْآيَاتِ عَلَى هَذَا دَلَائِلُ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَلَا يَصِحُّ مِنْ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ شَيْءٌ بَلْ هِيَ مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ، وَلَيْسَ فِي التَّوْرَاةِ ذِكْرٌ لِأَسْمَاءِ هَذِهِ الْكَوَاكِبِ، وَقِصَّةُ يُوسُفَ فِي الْقُرْآنِ مُوَافِقَةٌ لِجُمْلَةِ مَا فِي سِفْرِ التَّكْوِينِ وَمُخَالِفَةٌ لَهُ فِي بَعْضِ دَقَائِقِهَا، وَسَنَذْكُرُ مِنْ ذَلِكَ غَيْرَ مَا ذَكَرْنَا آنِفًا.
{إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا} أَيْ إِنَّ فِي قِصَّتِهِمْ لَآيَاتٍ فِي الْوَقْتِ الَّذِي ابْتَدَءُوا فِيهِ بِقَوْلِهِمْ جَازِمِينَ مُقْسِمِينَ: لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ الشَّقِيقُ لَهُ وَاسْمُهُ (بِنْيَامِينَ)، {أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا} كُلِّنَا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ أَيْ يُفَضِّلُهُمَا عَلَيْنَا بِمَزِيدِ الْمَحَبَّةِ عَلَى صِغَرِهِمَا وَقِلَّةِ غِنَائِهِمَا، وَالْحَالُ أَنَّنَا نَحْنُ عُصْبَةُ عَشَرَةِ رِجَالٍ أَقْوِيَاءَ أَشِدَّاءَ مُعْتَصِبُونَ، نَقُومُ لَهُ بِكُلِّ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ أَسْبَابِ الرِّزْقِ وَالْحِمَايَةِ وَالْكِفَايَةِ {إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} إِنَّهُ لَفِي تِيهٍ مِنَ الْمُحَابَاةِ لَهُمَا ضَلَّ فِيهِ طَرِيقَ الْعَدْلِ وَالْمُسَاوَاةِ ضَلَالًا بَيِّنًا لَا يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ، إِذْ يُفَضِّلُ غُلَامَيْنِ ضَعِيفَيْنِ مِنْ وَلَدِهِ لَا يَقُومَانِ لَهُ بِخِدْمَةٍ نَافِعَةٍ، عَلَى الْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ وَالْكَسْبِ وَالنَّجْدَةِ.
وَهَذَا الْحُكْمُ مِنْهُمْ عَلَى أَبِيهِمْ جَهْلٌ مُبِينٌ وَخَطَأٌ كَبِيرٌ، لَعَلَّ سَبَبَهُ اتِّهَامُهُمْ إِيَّاهُ بِإِفْرَاطِهِ فِي حُبِّ أُمِّهِمَا مِنْ قَبْلُ، فَيَكُونُ مَثَارُهُ الْأَوَّلُ اخْتِلَافَ الْأُمَّهَاتِ بِتَعَدُّدِ الزَّوْجَاتِ وَلاسيما الْإِمَاءُ مِنْهُنَّ، وَهُوَ الَّذِي أَضَلَّهُمْ عَنْ غَرِيزَةِ الْوَالِدَيْنِ فِي زِيَادَةِ الْعَطْفِ عَلَى صِغَارِ الْأَوْلَادِ وَضِعَافِهِمْ، وَكَانَا أَصْغَرَ أَوْلَادِهِ، فَقَدْ سُئِلَ وَالِدٌ بَلِيغٌ: أَيُّ وَلَدِكَ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: صَغِيرُهُمْ حَتَّى يَكْبُرَ، وَغَائِبُهُمْ حَتَّى يَحْضُرَ، وَمَرِيضُهُمْ حَتَّى يُشْفَى، وَفَقِيرُهُمْ حَتَّى يُغْنَى وَأَشُكُّ فِي هَذِهِ الْأَخِيرَةِ.
وَمِنْ فَوَائِدِ الْقِصَّةِ: وُجُوبُ عِنَايَةِ الْوَالِدَيْنِ بِمُدَارَاةِ الْأَوْلَادِ وَتَرْبِيَتِهِمْ عَلَى الْمَحَبَّةِ وَالْعَدْلِ، وَاتِّقَاءِ وُقُوعِ التَّحَاسُدِ وَالتَّبَاغُضِ بَيْنَهُمْ، وَمِنْهُ اجْتِنَابُ تَفْضِيلِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ بِمَا يَعُدُّهُ الْمَفْضُولُ إِهَانَةً لَهُ وَمُحَابَاةً لِأَخِيهِ بِالْهَوَى، وَقَدْ نَهَى عَنْهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مُطْلَقًا، وَمِنْهُ سُلُوكُ سَبِيلِ الْحِكْمَةِ فِي تَفْضِيلِ مَنْ فَضَّلَ اللهُ تَعَالَى بِالْمَوَاهِبِ الْفِطْرِيَّةِ كَمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَالتَّقْوَى وَالْعِلْمِ وَالذَّكَاءِ. وَمَا كَانَ يَعْقُوبُ بِالَّذِي يَخْفَى عَلَيْهِ هَذَا، وَمَا نَهَى يُوسُفَ عَنْ قَصِّ رُؤْيَاهُ عَلَيْهِمْ إِلَّا مِنْ عِلْمِهِ بِمَا يَجِبُ فِيهِ. وَلَكِنْ مَا يَفْعَلُ الْإِنْسَانُ بِغَرِيزَتِهِ وَقَلْبِهِ وَرُوحِهِ؟ أَيَسْتَطِيعُ أَنْ يَحُولَ دُونَ سُلْطَانِهَا عَلَى جَوَارِحِهِ؟ كَلَّا.
دَلَائِلُ الْعِشْقِ لَا تَخْفَى عَلَى أَحَدٍ ** كَحَامِلِ الْمِسْكِ لَا يَخْلُو مِنَ الْعَبَقِ

{اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا} أَيِ اقْتُلُوهُ قَتْلًا لَا مَطْمَعَ بَعْدَهُ وَلَا أَمَلَ فِي لِقَائِهِ، أَوِ انْبُذُوهُ كَالشَّيْءِ اللُّقَا الَّذِي لَا قِيمَةَ لَهُ فِي أَرْضٍ مَجْهُولَةٍ بَعِيدَةٍ عَنْ مَسَاكِنِنَا أَوْ عَنِ الْعُمْرَانِ، بِحَيْثُ لَا يَهْتَدِي إِلَى الْعَوْدَةِ إِلَى أَبِيهِ سَبِيلًا إِنْ هُوَ سَلِمَ فِيهَا مِنَ الْهَلَاكِ: {يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ} فَيَكُنْ كُلُّ تَوَجُّهِهِ إِلَيْكُمْ، وَكُلُّ إِقْبَالِهِ عَلَيْكُمْ، بِخُلُوِّ الدِّيَارِ مِمَّنْ يَشْغَلُهُ عَنْكُمْ أَوْ يُشَارِكُكُمْ فِي عَطْفِهِ وَحُبِّهِ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مِنْ فَرَائِدِ دُرَرِ الْكَلَامِ الْبَلِيغِ، بِتَصْوِيرِهَا حَصْرَ الْحُبِّ وَتَوَجُّهَ الْإِقْبَالِ وَالْعَطْفِ بِصُورَةِ الضَّرُورِيَّاتِ الَّتِي لَا اخْتِيَارَ لِلرَّأْيِ وَلَا لِلْإِرَادَةِ فِيهَا، لَا مِنْ ظَاهِرِ الْحِسِّ، وَلَا مِنْ وِجْدَانِ النَّفْسِ، بَعْدَ وُقُوعِ هَذِهِ الْجِنَايَةِ الَّتِي تَقْتَضِي إِعْرَاضَ الْوَجْهِ، وَأَعْرَاضَ الْكَرَاهَةِ وَالْمَقْتِ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ أَيْ مِنْ بَعْدِ يُوسُفَ، أَوْ بَعْدَ قَتْلِهِ أَوْ تَغْرِيبِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ تَائِبِينَ إِلَى اللهِ مِنْ هَذِهِ الْجَرِيمَةِ، مُصْلِحِينَ لِأَعْمَالِكُمْ بِمَا يُكَفِّرُ إِثْمَهَا، وَعَدَمِ التَّصَدِّي لِمِثْلِهَا، فَيَرْضَى عَنْكُمْ أَبُوكُمْ وَيَرْضَى رَبُّكُمْ، هَكَذَا يُزَيِّنُ الشَّيْطَانُ لِلْمُؤْمِنِ الْمُتَدَيِّنِ مَعْصِيَةَ اللهِ تَعَالَى وَلَا يَزَالُ يَنْزَغُ لَهُ وَيُسَوِّلُ، وَيَعِدُ وَيُمَنِّي وَيُؤَوِّلُ، حَتَّى يُرَجِّحَ دَاعِيَ الْإِيمَانِ، أَوْ يُجِيبَ دَاعِيَ الشَّيْطَانِ، وَهَذَا الَّذِي غَلَبَ عَلَى إِخْوَةِ يُوسُفَ فَكَانَ، وَلَكِنْ بَعْدَ رَأْفَةٍ مُخَفَّفَةٍ لِحُكْمِ الِانْتِقَامِ، وَهُوَ مُقْتَضَى الْحِكْمَةِ الَّتِي أَرَادَهَا اللهُ.
{قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ}.
{قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ} أَبْهَمَهُ الْقُرْآنُ لِأَنَّ تَعْيِينَهُ بِتَسْمِيَتِهِ لَا فَائِدَةَ مِنْهَا فِي عِبْرَةٍ وَلَا حِكْمَةٍ، وَإِنَّمَا الْفَائِدَةُ فِي وَصْفِهِ بِأَنَّهُ مِنْهُمْ، وَهِيَ أَنَّهُمْ لَمْ يَجْمَعُوا عَلَى جِنَايَةِ قَتْلِهِ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: إِنَّهُ يَهُوذَا، وَفِي سِفْرِ التَّكْوِينِ: أَنَّهُ رَأُوبِينُ {لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ} الْجُبُّ الْبِئْرُ غَيْرُ الْمَطْوِيَّةِ، أَيْ غَيْرُ الْمَبْنِيَّةِ مِنْ دَاخِلِهَا بِالْحِجَارَةِ وَهُوَ مُذَكَّرٌ، وَالْبِئْرُ مُؤَنَّثَةٌ وَتُسَمَّى الْمَطْوِيَّةُ مِنْهَا طَوِيًّا، وَغَيَابَتُهُ بِالْفَتْحِ مَا يَغِيبُ عَنْ رُؤْيَةِ الْبَصَرِ مِنْ قَعْرِهِ، أَوْ حُفْرَةٌ بِجَانِبِهِ تَكُونُ فَوْقَ سَطْحِ الْمَاءِ يَدْخُلُهَا مَنْ يُدْلِي فِيهِ لِإِخْرَاجِ شَيْءٍ وَقَعَ فِيهِ أَوْ إِصْلَاحُ خَلَلٍ عَرَضَ لَهُ، وَعُلِمَ مِنَ التَّعْرِيفِ أَنَّهُ جُبٌّ مَعْرُوفٌ كَانَ هُنَالِكَ حَيْثُ يَرْعَوْنَ، وَجَوَابُ أَلْقُوُهُ: {يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ} وَهُمْ جَمَاعَةُ الْمُسَافِرِينَ الَّذِينَ يَسِيرُونَ فِي الْأَرْضِ يَقْطَعُونَ الْأَرْضَ مِنْ مَكَانٍ إِلَى آخَرَ لِأَجْلِ التِّجَارَةِ، فَيَأْخُذُوهُ إِلَى حَيْثُ سَارُوا مِنَ الْأَقْطَارِ الْبَعِيدَةِ فَيَتِمُّ لَكُمُ الشَّقُّ الثَّانِي مَا اقْتَرَحْتُمْ وَهُوَ إِبْعَادُهُ عَنْ أَبِيهِ: {إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ} مَا هُوَ الصَّوَابُ الْمَقْصُودُ لَكُمْ بِالذَّاتِ فَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ، وَجِنَايَةُ قَتْلِهِ غَيْرُ مَقْصُودَةٍ لِذَاتِهَا، فَعَلَامَ إِسْخَاطُ اللهِ بِاقْتِرَافِهَا وَالْغَرَضُ يَتِمُّ بِمَا دُونَهَا؟ وَفِي سِفْرِ التَّكْوِينِ أَنَّ رَأُوبِينَ مَكَرَ بِهِمْ إِذْ كَانَ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَهُ مِنَ الْجُبِّ وَيُرْجِعَهُ إِلَى أَبِيهِ، وَأَنَّهُمْ وَضَعُوهُ فِي الْبِئْرِ وَكَانَتْ فَارِغَةً لَا مَاءَ فِيهَا، فَمَرَّتْ سَيَّارَةٌ مِنْ تُجَّارِ الْإِسْمَاعِيلِيِّينَ (الْعَرَبِ)- مُسَافِرَةٌ إِلَى مِصْرَ، فَاقْتَرَحَ عَلَيْهِمْ يَهُوذَا إِخْرَاجَهُ وَبَيْعَهُ لَهُمْ، إِذْ لَا فَائِدَةَ لَهُمْ مِنْ قَتْلِهِ وَهُوَ مِنْ لَحْمِهِمْ وَدَمِهِمْ فَفَعَلُوا، فَهَذَا مَا دَارَ بَيْنَهُمْ وَأَجْمَعُوهُ مِنْ أَمْرِهِمْ.
{قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ}.
هَذَا بَيَانٌ مُسْتَأْنَفٌ لِمَا كَادُوا بِهِ أَبَاهُمْ بَعْدَ ائْتِمَارِهِمْ بِيُوسُفَ لِيُرْسِلَهُ مَعَهُمْ وَهُوَ الْحَقُّ، وَفِي سِفْرِ التَّكْوِينِ أَنَّ أَبَاهُمْ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَهُ إِلَيْهِمْ بَعْدَ ذِهَابِهِمْ.
{قَالُوا يَا أَبَانَا مَالَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ} يَعْنُونَ: أَيُّ شَيْءٍ عَرَضَ لَكَ مِنَ الشُّبْهَةِ فِي أَمَانَتِنَا فَجَعَلَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ؟ وَكَانُوا قَدْ شَعَرُوا مِنْهُ بِهَذَا بَعْدَ مَا كَانَ مِنْ رُؤْيَا يُوسُفَ، وَيَظْهَرُ أَنَّهُمْ قَدْ عَلِمُوا بِهَا، كَمَا أَنَّهُ شَعَرَ مِنْهُمْ بِالتَّنَكُّرِ لَهُ عَلَى حَدِّ قَوْلِ الشَّاعِرِ:
كَادَ الْمُرِيبُ بِأَنْ يَقُولَ خُذُونِي

{وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ} أَيْ وَالْحَالُ إِنَّا لَنَخُصَّهُ بِالنُّصْحِ الْخَالِصِ مِنْ شَائِبَةِ التَّفْرِيطِ أَوِ التَّقْصِيرِ، أَكَّدُوا هَذِهِ الدَّعْوَى بِالْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ الْمُصَدَّرَةِ بِـ: {إِنَّ} وَتَقْدِيمِ: {لَهُ} عَلَى خَبَرِهَا وَاقْتِرَانِهِ بِاللَّامِ، وَلَوْلَا شُعُورُهُمْ بِارْتِيَابِهِ فِيهِمْ لَمَا احْتَاجُوا إِلَى كُلِّ هَذَا التَّأْكِيدِ،: {أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ} أَيْ أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدَاةَ غَدٍ إِذْ نَخْرُجُ كَعَادَتِنَا إِلَى مَرَاعِينَا فِي الصَّحْرَاءِ يَرْتَعْ مَعَنَا وَيَلْعَبْ.
وَقُرِئَ فِي الْمُتَوَاتِرِ أَيْضًا: {نَرْتَعْ وَنَلْعَبْ}. بِنُونِ الْجَمَاعَةِ، وَهِيَ مَفْهُومَةٌ مِنْ قِرَاءَةِ الْيَاءِ؛ فَإِنَّ الْمُرَادَ مِنْ خُرُوجِهِ مَعَهُمْ مُشَارَكَتُهُ إِيَّاهُمْ فِي رِيَاضَتِهِمْ وَأُنْسِهِمْ وَسُرُورِهِمْ بِحُرِّيَّةِ الْأَكْلِ وَاللَّعِبِ وَالرُّتُوعِ، وَهُوَ أَكْلُ مَا يَطِيبُ لَهُمْ مِنَ الْفَاكِهَةِ وَالْبُقُولِ، وَأَصْلُهُ رَتَعَ الْمَاشِيَةُ حَيْثُ تَشَاءُ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي الْكَشَّافِ: {نَرْتَعْ} نَتَّسِعْ فِي أَكْلِ الْفَوَاكِهِ وَغَيْرِهَا، وَأَصْلُ الرَّتْعَةِ الْخِصْبُ وَالسِّعَةِ، اهـ.
وَأَمَّا لَعِبُ أَهْلِ الْبَادِيَةِ فَأَكْثَرَهُ السِّبَاقُ وَالصِّرَاعُ وَالرَّمْيُ بِالْعِصِيِّ وَالسِّهَامِ إِنْ وُجِدَتْ.
وَسَيَأْتِي أَنَّ لَعِبَهُمْ كَانَ الِاسْتِبَاقَ بِالْعَدْوِ عَلَى الْأَرْجُلِ: {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} مَا دَامَ مَعَنَا نَقِيهِ مِنْ كُلِّ سُوءٍ وَأَذًى، أَكَّدُوا هَذَا الْوَعْدَ كَسَابِقِهِ مُبَالَغَةً فِي الْكَيْدِ.
وَفِي التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: {أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا نَرْتَعْ وَنَلْعَبْ} قَالَ: نَسْعَى وَنَنْشَطْ وَنَلْهُو، وَعَنِ ابْنِ زَيْدٍ: {يَرْتَعِي} بِالْيَاءِ وَكَسْرِ الْعَيْنِ قَالَ: يَرْعَى غَنَمَهُ وَيَنْظُرُ وَيَعْقِلُ وَيَعْرِفُ مَا يَعْرِفُ الرَّجُلُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ هَارُونَ قَالَ: كَانَ أَبُو عَمْرٍو يَقْرَأُ: {نَرْتَعْ وَنَلْعَبْ} بِالنُّونِ. فَقُلْتُ لِأَبِي عَمْرٍو: كَيْفَ يَقُولُونَ: {نَرْتَعْ وَنَلْعَبْ} وَهُمْ أَنْبِيَاءُ؟ قَالَ: لَمْ يَكُونُوا يَوْمَئِذٍ أَنْبِيَاءَ. قَدْ تَوَسَّعَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَعَدُّوهَا مُشْكِلَةً لِظَنِّهِمْ أَنَّ اللَّعِبَ غَيْرُ جَائِزٍ وُقُوعُهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ. وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ مِنَ اللَّعِبِ مَا هُوَ نَافِعٌ فَهُوَ مُبَاحٌ أَوْ مُسْتَحَبٌّ، وَمِنْهُ مُلَاعَبَةُ الرَّجُلِ لِزَوْجِهِ وَمُلَاعَبَتُهَا لَهُ كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ، وَأَنَّ إِخْوَةَ يُوسُفَ لَمْ يَكُونُوا أَنْبِيَاءَ يَوْمَئِذٍ وَلَا بَعْدَهُ كَمَا حَقَّقْنَاهُ فِي مَحَلِّهِ، وَأَنَّ مِنَ التَّنَطُّعِ وَالْغَفْلَةِ اسْتِشْكَالَ اللَّعِبِ الْمُبَاحِ فِي نَفْسِهِ مِمَّنْ شَهِدَ اللهُ عَلَيْهِمْ بِالْكَيْدِ لِأَخِيهِمْ وَالِائْتِمَارِ بِقَتْلِهِ وَتَعَمُّدِ إِيذَائِهِ، وَفَجِيعَةِ أَبِيهِمْ بِهِ وَكَذِبِهِمْ عَلَيْهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ كَبَائِرِ الْمَعَاصِي!
{قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ} أَيْ قَالَ أَبُوهُمْ جَوَابًا لَهُمْ: إِنِّي لَيَحْزُنُنِي ذَهَابُكُمْ بِهِ بِمُجَرَّدِ وُقُوعِهِ، وَالْحُزْنُ أَلَمُ النَّفْسِ مِنْ فَقْدِ مَحْبُوبٍ أَوْ وُقُوعِ مَكْرُوهٍ، وَفِعْلُهُ مِنْ بَابِ قَفَلَ فِي لُغَةِ قُرَيْشٍ، وَتُعَدِّيهِ تَمِيمٌ بِالْهَمْزَةِ وَاللَّامِ فِي قَوْلِهِ: لَيَحْزُنُنِي لِلِابْتِدَاءِ: {وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ} وَالْخَوْفُ أَلَمُ النَّفْسِ مِمَّا يُتَوَقَّعُ مِنْ مَكْرُوهٍ قَبْلَ أَنْ يَقَعَ: {وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ} أَيْ فِي حَالِ غَفْلَةٍ مِنْكُمْ عَنْهُ وَاشْتِغَالٍ عَنْ مُرَاقَبَتِهِ وَحِفْظِهِ بِلَعِبِكُمْ، قِيلَ: لَوْ لَمْ يَذْكُرْ خَوْفَهُ هَذَا لَهُمْ لَمَا خَطَرَ بِبَالِهِمْ أَنْ يَقَعَ، وَلَعَلَّهُ قَالَهُ مِنْ بَابِ الِاحْتِيَاطِ أَوِ الِاعْتِذَارِ بِالظَّوَاهِرِ، وَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ حُسْنَ عَاقِبَتِهِ فِي الْبَاطِنِ، عَلَى أَنَّ عِلْمَهُ هَذَا كَانَ مُجْمَلًا مِنْهُمَا وَمُقَيَّدًا بِالْأَقْدَارِ الْمَجْهُولَةِ كَمَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ.