فصل: التفسير المأثور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ} أَيْ وَاللهِ لَئِنِ اخْتَطَفَهُ الذِّئْبُ مِنْ بَيْنِنَا وَأَكَلَهُ وَالْحَالُ أَنَّنَا جَمَاعَةٌ شَدِيدَةُ الْقُوَى تُعَصَّبُ بِنَا الْأُمُورُ، وَتُكْفَى بِبَأْسِنَا الْخُطُوبُ: {إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ} وَخَائِبُونَ فِي اعْتِصَابِنَا، أَوْ لَهَالِكُونَ لَا يَصِحُّ أَنْ نُعَدَّ مِنَ الْأَحْيَاءِ الَّذِينَ يُعْتَدُّ بِهِمْ وَيُرْكَنُ إِلَيْهِمْ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ جَوَابٌ لِلْقَسَمِ أَغْنَى عَنْ جَوَابِ الشَّرْطِ.
أَجَابُوهُ عَمَّا يَخَافُهُ بِمَا يَرْجُونَ أَنْ يُطَمْئِنَهُ، وَأَمَّا حُزْنُهُ فَلَا جَوَابَ عَنْهُ لِأَنَّهُ فِي حَدِّ ذَاتِهِ لابد مِنْهُ وَلَيْسَ فِي اسْتِطَاعَتِهِمْ مَنْعُهُ؛ إِذْ هُوَ لَازِمٌ لِفِرَاقِهِ لَهُ وَلَوْ فِرَاقًا قَلِيلًا فِيهِ مَنْفَعَةٌ لِيُوسُفَ فِي صِحَّتِهِ، بِتَرْوِيضِ جِسْمِهِ فِي ضُحَى الشَّمْسِ وَهُبُوبِ الرِّيَاحِ وَحَرَكَةِ الْأَعْضَاءِ فِي زَمَنٍ قَصِيرٍ، يَعُودُ بَعْدَهُ فَيَزُولُ حُزْنُهُ وَيَكُونُ سُرُورُهُ مُضَاعَفًا لَوْ صَدَقُوا.
{فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ قَالُوا يَاأَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ}.
هَذِهِ الْآيَاتُ الْأَرْبَعُ فِي بَيَانِ مَا نَفَّذُوا بِهِ عَزْمَهُمْ بِالْفِعْلِ، وَمَا اعْتَذَرُوا بِهِ لِأَبِيهِمْ مِنْ كَذِبٍ، وَمَا قَابَلَهُمْ مِنْ تَكْذِيبٍ وَصَبْرٍ، وَاسْتِعَانَةٍ بِاللهِ عَزَّ وَجَلَّ، قَالَ: {فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ} فِي الْغَدِ مِنْ لَيْلَتِهِمُ الَّتِي اسْتَنْزَلُوا فِيهَا أَبَاهُ عَنْ إِمْسَاكِهِ عِنْدَهُ: {وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ} أَيْ أَزْمَعُوهُ وَعَزَمُوا عَلَيْهِ عَزْمًا إِجْمَاعِيًّا لَا تَرَدُّدَ فِيهِ بَعْدَ مَا كَانَ مِنِ اخْتِلَافِهِمْ قَبْلُ فِي قَتْلِهِ أَوْ تَغْرِيبِهِ، وَجَوَابُ: {لَمَّا} مَحْذُوفٌ لِلْعِلْمِ بِهِ مِمَّا قَبْلَهُ وَمِمَّا بَعْدَهُ، وَتَقْدِيرُهُ: نَفَّذُوهُ بِأَنْ أَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ ذَلِكَ الْجُبِّ بِالْفِعْلِ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ عِنْدَ إِلْقَائِهِ فِيهِ وَحْيًا إِلْهَامِيًّا عَلِمَ أَنَّهُ مِنَّا، مَضْمُونُهُ: وَرَبِّكَ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا مَعَكَ، إِذْ يُظْهِرُكَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَيُذِلُّهُمْ لَكَ وَيَجْعَلُ رُؤْيَاكَ حَقًّا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ يَوْمَئِذٍ بِمَا آتَاكَ اللهُ، أَوِ الْآنَ بِمَا يُؤْتِيكَ فِي عَاقِبَةِ هَذِهِ الْفِعْلَةِ الَّتِي فَعَلُوهَا بِكَ، أَوْ بِهَذَا الْوَحْيِ فِي الْجُبِّ وَهُوَ الْمَرْتَبَةُ الْأَوْلَى مِنْ مَرَاتِبِ التَّكْلِيمِ الْإِلَهِيِّ لِلْأَنْبِيَاءِ بَعْدَ التَّمْهِيدِ لَهُ بِالرُّؤْيَا الصَّادِقَةِ. وَقَدْ هَوَّنَ اللهُ تَعَالَى عَلَى يُوسُفَ مُصِيبَتَهُ بِهِ فَعَلِمَ أَنَّهَا مُصِيبَةٌ فِي الظَّاهِرِ نِعْمَةٌ فِي الْبَاطِنِ، وَقَدْ نَقَلُوا عَنِ السُّدِّيِّ أَنَّ إِخْوَةَ يُوسُفَ طَغَوْا فِي الْقَسْوَةِ عَلَيْهِ وَالتَّنْكِيلِ بِهِ، فَقَالُوا وَفَعَلُوا مَا لَا يَصْدُرُ مِثْلُهُ إِلَّا عَنْ رِعَاعِ النَّاسِ وَأَرَاذِلِ الْمُجْرِمِينَ الظَّالِمِينَ، وَمَا هِيَ إِلَّا الْإِسْرَائِيلِيَّاتُ الْمُنَفِّرَةُ مِنَ الْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ.
{وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ} أَيْ جَاءُوهُ فِي وَقْتِ الْعِشَاءِ إِذْ خَالَطَ سَوَادُ اللَّيْلِ بَقِيَّةَ بَيَاضِ النَّهَارِ فَمَحَاهُ، حَالَ كَوْنِهِمْ يَبْكُونَ لِيُقْنِعُوهُ بِمَا يَبْغُونَ وَقَدْ بَيَّنَهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: {قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ} أَيْ ذَهَبْنَا مِنْ مَكَانِ اجْتِمَاعِنَا إِلَى السِّبَاقِ يَتَكَلَّفُ كُلٌّ مِنَّا أَنْ يَسْبِقَ غَيْرَهُ، فَالِاسْتِبَاقُ تَكَلُّفُ السَّبْقِ وَهُوَ الْغَرَضُ مِنَ الْمُسَابَقَة، وَالتَّسَابُقُ بِصِيغَتَيِ الْمُشَارَكَةِ الَّتِي يُقْصَدُ بِهَا الْغَلَبُ، وَقَدْ يُقْصَدُ لِذَاتِهِ أَوَ لِغَرَضٍ آخَرَ فِي السَّبْقِ. وَمِنْهُ: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} فَهَذَا يُقْصَدُ بِهِ السَّبْقُ لِذَاتِهِ لَا لِلْغَلَبِ، وَقَوْلُهُ الْآتِي فِي هَذِهِ السُّورَةِ: {وَاسْتَبَقَا الْبَابَ} 25 كَانَ يَقْصِدُ بِهِ يُوسُفُ الْخُرُوجَ مِنَ الدَّارِ هَرَبًا مِنْ حَيْثُ تَقْصِدُ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ بِاتِّبَاعِهِ إِرْجَاعَهُ، وَصِيغَةُ الْمُشَارَكَةِ لَا تُؤَدِّي هَذَا الْمَعْنَى. وَلَمْ يَفْطَنِ الزَّمَخْشَرِيُّ- عَلَّامَةُ اللُّغَةِ- وَمَنْ تَبِعَهُ لِهَذَا الْفَرْقِ الدَّقِيقِ.
{وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا} مِنْ فَضْلِ الثِّيَابِ وَمَاعُونِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ مَثَلًا يَحْفَظُهُ، إِذْ لَا يَسْتَطِيعُ مُجَارَاتَنَا فِي اسْتِبَاقِنَا الَّذِي تُرْهَقُ بِهِ قُوَانَا: {فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ} إِذْ أَوْغَلْنَا فِي الْبُعْدِ عَنْهُ فَلَمْ نَسْمَعْ صُرَاخَهُ وَاسْتِغَاثَتَهُ: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا} أَيْ بِمُصَدِّقٍ لَنَا فِي قَوْلِنَا هَذَا، لِاتِّهَامِكَ إِيَّانَا بِكَرَاهَةِ يُوسُفَ وَحَسَدِنَا لَهُ عَلَى تَفْضِيلِكَ إِيَّاهُ عَلَيْنَا فِي الْحُبِّ وَالْعَطْفِ وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ فِي الْأَمْرِ الْوَاقِعِ أَوْ نَفْسِ الْأَمْرِ، أَوْ وَلَوْ كُنَّا عِنْدَكَ مِنْ أَهْلِ الثِّقَةِ وَالصِّدْقِ مَا صَدَّقْتَنَا فِي هَذَا الْخَبَرِ لِشِدَّةِ وَجْدِكَ بِيُوسُفَ.
{وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ} الْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ الْفَذَّةِ فِي بَلَاغَتِهَا، أَنَّهُمْ جَاءُوا بِقَمِيصِهِ مُلَطَّخًا ظَاهِرُهُ بِدَمٍ غَيْرِ دَمِ يُوسُفَ، يَدَّعُونَ أَنَّهُ دَمُهُ لِيَشْهَدَ لَهُمْ بِصِدْقِهِمْ فَكَانَ دَلِيلًا عَلَى كَذِبِهِمْ، فَنَكَّرَ الدَّمَ وَوَصَفَهُ بِاسْمِ الْكَذِبِ مُبَالَغَةً فِي ظُهُورِ كَذِبِهِمْ فِي دَعْوَى أَنَّهُ دَمُهُ حَتَّى كَأَنَّهُ هُوَ الْكَذِبُ بِعَيْنِهِ، فَالْعَرَبُ تَضَعُ الْمَصْدَرَ مَوْضِعَ الصِّفَةِ لِلْمُبَالَغَةِ كَمَا يَقُولُونَ: شَاهِدٌ عَدْلٌ، وَمِنْهُ، فَهُنَّ بِهِ جُودٌ وَأَنْتُمْ بِهِ بُخْلٌ، وَقَالَ: {عَلَى قَمِيصِهِ} لِيُصَوِّرَ لِلْقَارِئِ وَالسَّامِعِ أَنَّهُ مَوْضُوعٌ عَلَى ظَاهِرِهِ وَضْعًا مُتَكَلَّفًا، وَلَوْ كَانَ مِنْ أَثَرِ افْتِرَاسِ الذِّئْبِ لَهُ لَكَانَ الْقَمِيصُ مُمَزَّقًا وَالدَّمُ مُتَغَلْغِلًا فِي كُلِّ قِطْعَةٍ مِنْهُ، وَلِهَذَا كُلِّهِ لَمْ يُصَدِّقْهُمْ: {قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا} هَذَا إِضْرَابٌ عَنْ تَكْذِيبٍ صَرِيحٍ تَقْدِيرُهُ: إِنَّ الذِّئْبَ لَمْ يَأْكُلْهُ، بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ الْأَمَّارَةُ بِالسُّوءِ أَمْرًا إِمْرًا، وَكَيْدًا نُكْرًا، وَزَيَّنَتْهُ فِي قُلُوبِكُمْ فَطَوَّعَتْهُ لَكُمْ حَتَّى اقْتَرَفْتُمُوهُ، أَيْ هَذَا أَمْرُكُمْ. وَأَمَّا أَمْرِي مَعَكُمْ وَمَعَ رَبِّي: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} أَوْ فَصَبْرِي صَبْرٌ جَمِيلٌ لَا يُشَوِّهُ جَمَالَهُ جَزَعُ الْيَائِسِينَ مِنْ رَوْحِ اللهِ، الْقَانِطِينَ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ، وَلَا الشَّكْوَى إِلَى غَيْرِ اللهِ: {وَاللهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} مِنْ هَذِهِ الْمُصِيبَةِ، لَا أَسْتَعِينُ عَلَى احْتِمَالِهَا غَيْرَهُ أَحَدًا مِنْكُمْ وَلَا مِنْ غَيْرِكُمْ.
هَذَا هُوَ الْفَصْلُ الْأَوَّلُ مِنْ قِصَّةِ يُوسُفَ، وَهُوَ صَفْوَةُ الْحَقِّ مِنْ أَحْسَنِ الْقَصَصِ بِمَا فِيهِ مِنَ الدِّقَّةِ وَالْعِبْرَةِ، وَقَدْ شَوَّهَهُ رُوَاةُ الْأَسَاطِيرِ وَالْمُفْتَرِيَاتِ الْإِسْرَائِيلِيَّةِ بِمَا ظَنُّوا أَنَّهُ مِنْ أَخْبَارِ التَّوْرَاةِ وَمَا هُوَ مِنْهَا، وَمَنْ شَاءَ فَلْيَقْرَأْ هَذَا الْفَصْلَ مِنْ قِصَّةِ يُوسُفَ فِي سِفْرِ التَّكْوِينِ لِيَرَى الْفَرْقَ الْبَعِيدَ بَيْنَ كَلَامِ اللهِ وَكَلَامِ الْبَشَرِ، وَلِيَعْلَمَ الْمَغْرُورُ بِمَا نَقَلَهُ الْمُفَسِّرُونَ مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ فِيهَا كَالسُّدِّيِّ الْكَبِيرِ الَّذِي هُوَ أَقَلُّ كَذِبًا وَأَكْثَرُ إِتْقَانًا لِأَسَاطِيرِهِ مِنَ السُّدِّيِّ الصَّغِيرِ، أَنَّ كُلَّ مَا فِيهَا مِنَ الزِّيَادَةِ لَا أَصْلَ لَهُ عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَلَا هُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ نَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم فَهُوَ كَذِبٌ صُرَاحٌ. اهـ.

.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ (16) قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ (17)} أخرج ابن المنذر عن الشعبي رضي الله عنه قال: جاءت امرأة إلى شريح رضي الله عنه تخاصم في شيء، فجعلت تبكي، فقالوا: يا أبا أمية، أما تراها تبكي؟ فقال: قد جاء اخوة يوسف أباهم عشاء يبكون.
وأخرج أبو الشيخ عن ابن جريج رضي الله عنه في قوله: {وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين} قال: نزلت على كلام العرب. كقولك لا تصدق بالصدق ولو كنت صادقًا.
{وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (18)} أخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: {وجاؤوا على قميصه بدم كذب} قال: كان دم سخلة.
وأخرج ابن جرير عن مجاهد رضي الله عنه في قوله: {بدم كذب} قال: كان ذلك الدم كذبًا لم يكن دم يوسف، كان دم سخلة.
وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة رضي الله عنه في الآية قال: أخذوا ظبيًا فذبحوه فلطخوا به القميص، فجعل يعقوب عليه السلام يقلب القميص فيقول: ما أرى أثر أثر ناب ولا ظفر، إن هذا السبع رحيم. فعرف أنهم كذبوه.
وأخرج الفريابي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس رضي الله عنهما: {وجاؤوا على قميصه بدم كذب} قال: لما أتي يعقوب بقميص يوسف عليه السلام فلم ير فيه خرقًا، قال: كذبتم، لو كان كما تقولون أكله الذئب لخرق القميص.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ عن الحسن رضي الله عنه قال: لما جيء بقميص يوسف عليه السلام إلى يعقوب عليه السلام، جعل يقلبه فيرى أثر الدم ولا يرى فيه شقًا ولا خرقًا، فقال: يا بني، والله ما كنت أعهد الذئب حليمًا إذا أكل ابني وأبقى قميصه.
وأخرج ابن جرير عن الشعبي رضي الله عنه قال: ذبحوا جديًا ولطخوه بدمه، فلما نظر يعقوب إلى القميص صحيحًا، عرف أن القوم كذبوه فقال لهم: ان كان هذا الذئب لحليمًا حيث رحم القميص ولم يرحم ابني.
وأخرج ابن جرير عن قتادة رضي الله عنه قال: لما أتوا نبي الله يعقوب بقميصه قال: ما أرى أثر سبع ولا طعن ولا خرق.
وأخرج ابو عبد الله محمد بن إبراهيم الجرجاني في أماليه، عن ربيعة رضي الله عنه قال: لما أتى يعقوب عليه السلام فقيل: إن يوسف عليه السلام أكله الذئب. دعا الذئب فقال: أكلت قرة عيني وثمرة فؤادي. قال: لم أفعل. قال: فمن أين جئت، ومن أين تريد؟ قال: جئت من أرض مصر، وأريد أرض جرجان. قال: فما يعنيك بها؟ قال: سمعت الأنبياء عليهم الصلاة والسلام قبلك يقولون: من زار حميمًا أو قريبًا، كتب الله له بكل خطوة ألف حسنة وحط عنه ألف سيئة يرفع له ألف درجة. فدعا بنيه فقال: اكتبوا هذا الحديث، فأبى أن يحدثهم. فقال: ما لك لا تحدثهم؟ فقال: إنهم عصاة.
وأخرج أبو الشيخ عن مبارك قال: سئل ابن سيرين عن رجل رأى في المنام أنه يستاك، كلما أخرج السواك رأى عليه دمًا. قال: اتق الله ولا تكذب. وقرأ: {وجاؤوا على قميصه بدم كذب}.
وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: {بل سوّلت لكم أنفسكم أمرًا} قال: أمرتكم أنفسكم.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة رضي الله عنه في قوله: {بل سوّلت لكم أنفسكم أمرًا} يقول: بل زينت لكم أنفسكم أمرًا: {فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون} أي على ما تكذبون.
وأخرج ابن أبي الدنيا في كتاب الصبر، وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن حيان بن أبي حيلة رضي الله عنه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله: {فصبر جميل} قال: لا شكوى فيه من بث ولم يصبر.
وأخرج عبد الرزاق والفريابي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن مجاهد رضي الله عنه في قوله: {فصبر جميل} قال ليس فيه جزع.
وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن رضي الله عنه قال: الصبر الجميل، الذي ليس فيه شكوى إلا إلى الله.
وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر عن الثوري، عن بعض الصحابة قال: يقال ثلاثة من الصبر: أن لا تحدث بما يوجعك، ولا بمصيبتك، ولا تركي نفسك. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال السمين:
{وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ (16)}
قوله تعالى: {عِشَاءً}: يجوز فيه وجهان، أحدهما: وهو الذي لا ينبغي أن يُقال غيرُه أنه ظرف زمان، أي: جاؤوه في هذا الوقت و{يبكون} جملة حالية، أي: جاؤوه باكين. والثاني: أن يكون {عشاء} جمع عاشٍ كقائم وقيام. قال أبو البقاء: ويُقرأ بضم العين، والأصل: عُشاة مثل غازٍ وغُزاة، فَحُذِفَتْ الهاءُ وزِيْدت الألف عوضًا منها، ثم قُلبت الألفُ همزةً، وفيه كلامٌ قد ذُكر في آل عمران عند قوله: {أَوْ كَانُواْ غُزًّى} [الآية: 156]، ويجوز أن يكون جمعَ فاعِل على فُعال، كما جُمع فعيل على فُعال لقُرْب ما بين الكسر والضم، ويجوز أن يكون كنُؤام ورُباب وهو شاذٌّ. قلت: وهذه القراءة قراءةُ الحسن البصري، وهي من العِشْوة والعُشْوَة وهي الظلام.
وقرأ الحسن أيضًا: {عُشَا} على وزن دُجَى نحو: غازٍ وغُزاة، ثم حُذف منه تاءُ التأنيث، وهذا كما حذفوا تاء التأنيث مِنْ {مَأْلُكة}، فقالوا: مَأْلُك، وعلى هذه الأوجهِ يكون منصوبًا على الحال، وقرأ الحسن أيضًا {عُشِيًّا} مصغَّرًا.
وقوله تعالى: {نَسْتَبِقُ}: نَتَسابق، والافتعال والتفاعل يشتركان نحو قولهم: نَنْتَضِل ونتناضَلُ، ونَرْتمي ونترامى. و{نَسْتبق} في محل نصب على الحال. و{تَرَكْنا} حال مِنْ {نَسْتبق} و{قد} معه مضمرةٌ عند بعضهم.
قوله: {وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} جملة حالية، أي: ما أنت مصدقًا لنا في كل حال حتى في حال صِدْقِنا لِما غَلَبَ على ظنِّك في تُهْمتنا ببغضِ يوسفَ وكراهتنا له.
قوله تعالى: {على قَمِيصِهِ}: في محل نصبٍ على الحال من {الدم}. قال أبو البقاء: لأنَّ التقدير: جاؤوا بدمٍ كذبٍ على قميصه، يعني أنه لو تأخَّر لكان صفةً للنكرة. وهذا الوجهُ قد ردَّه الزمخشري فقال: فإن قلت: هل يجوز أن تكون حالًا متقدمة؟ قلت: لا، لأنَّ حال المجرور لا تتقدَّم عليه. وهذا الذي رَدَّ به الزمخشريُّ أحدُ قولَي النحاة، وقد صحَّح جماعةٌ جوازَه وأنشدوا:
.................... ** فَلَنْ يذهبوا فَرْغًا بقَتْلِ حِبال

وقولَ الآخر:
لَئِنْ كان بَرْدُ الماءِ هَيْمانَ صادِيًا ** إليَّ حبيبًا إنَّها لحبيبُ

وقول الآخر:
غافلًا تَعْرِضُ المنيَّةُ لِلْمَرْ ** ءِ فيدعى ولاتَ حينَ إباءُ

وقال الحوفي: إنَّ على قميصه متعلقٌ ب {جاؤوا}، وفيه نظر؛ لأن مجيئَهم لا يصحُّ أن يكونَ على القميص.
وقال الزمخشري: فإن قلتَ {على قميصه} ما محلُّه؟ قلت: محلُّه النصبُ على الظرف، كأنه قيل: وجاؤوا فوق قميصه بدم، كما تقول: جاء على جِماله بأَحْمال. قال الشيخ: ولا يساعد المعنى على نصب على على الظرف بمعنى فوق، لأنَّ العامل فيه إذ ذاك {جاؤوا}، وليس الفوقُ ظرفًا لهم، بل يستحيل أن يكونَ ظرفًا لهم. وهذا الردُّ هو الذي رَدَدْت به على الحوفي قولَه إنَّ {على} متعلقةٌ ب {جاؤوا}. ثم قال الشيخ: وأمَّا المثال الذي ذكره الزمخشري وهو جاء على جِماله بأَحْمال فيمكن أن يكونَ ظرفًا للجائي لأنه تمكَّن الظرف فيه باعتبار تبدُّلِه مِنْ جملٍ إلى جمل، وتكون بأَحْمال في موضع الحال، أي: مضمومًا بأحمال.
وقرأ العامَّةُ: {كَذِب} بالذال المعجمة، وهو من الوصف بالمصادر فيمكن أن يكونَ على سبيل المبالغة نحو: رجلٌ عَدْلٌ أو على حَذْفِ مضافٍ، أي: ذي كذب، نَسَبَ فِعْلَ فاعله إليه. وقرأ زيد بن علي {كَذِبًا} فاحتمل أن يكون مفعولًا من أجله واحتمل أن يكونَ مصدرًا في موضع الحال، وهو قليلٌ أعني مجيءَ الحالِ من النكرة.
وقرأ عائشة والحسن: {كَدِب} بالدال المهملة. وقال صاحبُ اللوامح: معناه: ذي كَدِب، أي: أثر؛ لأنَّ الكَدِبَ هو بياضٌ يَخْرُجُ في أظافير الشباب ويؤثِّر فيها، فهو كالنقش، ويسمى ذلك البياضُ الفُوْف فيكون هذا استعارةً لتأثيره في القميص كتأثير ذلك في الأظافير. وقيل: هو الدمُ الكَدِر. وقيل: الطريُّ. وقيل: اليابس.
قوله: {بَلْ سَوَّلَتْ} قبل هذه الجملةِ جملةٌ محذوفة تقديره: لم يأكلْه الذئب، بل سَوَّلَتْ.
وسوَّلت، أي: زيَّنَتْ وسَهَّلَتْ.
قوله: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} يجوز أن يكونَ مبتدأً وخبره محذوفٌ، أي: صبر جميل أَمْثَلُ بي. ويجوز أن يكون خبرًا محذوفَ المبتدأ، أي: أمري صبرٌ جميل. وهل يجب حَذْفُ مبتدأ هذا الخبر أو خبر هذا المبتدأ؟ وضابطُه أن يكونَ مصدرًا في الأصل بدلًا مِن اللفظ بفعله، وعبارة بعضِهم تقتضي الوجوبَ، وعبارة آخرين الجواز. ومن التصريح بخبر هذا النوعِ. ولكنه في ضرورة شعر قولُه:
فقالَتْ على اسمِ اللَّهِ أَمْرُك طاعةٌ ** وإن كنتُ قد كُلِّفْتُ ما لم أُعَوَّدِ

وقولُ الشاعر:
يَشْكو إليَّ جَمَلي طولَ السُّرى ** صَبْرٌ جميلٌ فكِلانا مبتلى

يحتمل أن يكونَ مبتدأً أو خبرًا كما تقدَّم.
وقرأ أُبَيّ وعيسى بن عمر: {فصبرًا جميلًا} نصبًا، ورُويت عن الكسائي، وكذلك هي في مصحف أنس بن مالك، وتخريجها على المصدر الخبري، أي: أصبرُ أنا صبرًا، وهذه قراءة ضعيفة إن خُرِّجَتْ هذا التخريجَ، فإن سيبويه لا ينقاس ذلك عنده إلا في الطلب، فالأَوْلى أن يُجعل التقدير: إنَّ يعقوب رَجَعَ وأَمَر نفسَه فكأنه قال: اصبري يا نفسُ صبرًا. ورُوري البيتُ أيضًا بالرفع والنصب على ما تقدَّم، والأمر فيه ظاهر. اهـ.