فصل: قال نظام الدين النيسابوري في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال نظام الدين النيسابوري في الآيات السابقة:

{الر تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (1)} إلى قوله تعالى: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (20)}
التفسير:
قال في الكشاف: {تلك} إشارة إلى: {آيات} السورة و: {الكتاب المبين} السورة أي تلك الآيات التي أنزلت إليها في هذه السورة آيات السورة الظاهر أمرها في إعجاز العرب وتبكيتهم، أو التي بين لمن تدبرها أنها من عند الله لا من عند البشر، أو الواضحة التي لا يشتبه على العرب معانيها لنزولها بلسانهم، أو قد أبين فيها ما سألت اليهود عنه من قصة يوسف، فقد روي أن علماء اليهود قالوا لكبراء المشركين: سلوا محمدًا لم انتقل آل يعقوب من الشام إلى مصر وعن قصة يوسف.
أقول: مدار هذه التفاسير على أن أبان لازم ومتعد يقال: أبان الشيء وأبان هو بنفسه: {إنا أنزلناه} أي هذا الكتاب الذي فيه قصة يوسف يعني هذه السورة في حال كونه: {قرآنًا عربيًا} والقرآن اسم جنس يقع على كله وعلى بعضه. وقوله: {قرآنًا عربيًا} يسمى حالًا موطئة لأن المراد وصفه بالعربية. احتج الجبائي بإنزال القرآن وبكونه عربيًا وآيات على أن أنه محدث لأن هذه من أوصاف المحدثات. وأجيب بأنه لا نزاع في حدوث الألفاظ وإنما النزاع في الكلام النفس ومعنى: {لعلكم تعقلون} إرادة أن تفهموه وتحيطوا بمعانيه ولا يلتبس عليكم لأنه بلغتكم. قال الجبائي: فيه دليل على أنه أراد من المكلفين كلهم أن يعقلوا توحيده وأمر دينه. وأجيب بأن الآية لا تدل إلا على أنه أنزل هذه السورة وأراد منهم معرفة كيفية هذه القصة، ولا دلالة فيه على أنه أراد من الكل الإيمان العمل الصالح. قال أهل اللغة: القصص اشتقاقه من قص أثره إذا اتبعه لأن الذي يقص الحديث يتبع ما حفظ منه شيئًا فشيئًا، ومثله التلاوة لأنه يتلو أي يتبع ما حفظ منه آية بعد آية، ثم إن كان القصص مصدرًا بمعنى الاقتصاص فيكون: {أحسن} مثله لإضافته إلى المصدر، ويكون المفعول أي المقصوص محذوفًا وهو الوحي لدلالة: {أوحينا} عليه، أو يكون هذا القرآن مفعوله ومفعول: {أوحينا} محذوفًا كأنه قيل: نحن نقص عليك أحسن الاقتصاص هذا القرآن بإيحائنا إياه إليك. وعلى هذا فالحسن يرجع إلى المنطق لا إلى القصة. وحسن المنطق كونه على أبدع طريق وأعجب أسلوب لأن هذه الحكاية مقتصة في كتب الأولين وفي كتب التواريخ ولم يبلغ شيء منه إلى حد الإعجاز، وإن أريد بالقصص المقصوص كما يراد بالنبأ والخبر المنبأ والمخبر، فالحسن يرجع إلى القصة ولاسيما فيما يرجع إلى صلاح حال المكلف في الدارين، ووجه حسنها اشتمالها على الغرائب والعجائب والنكت والعبر وأن الصبر مفتاح الفرج، وأن ما قضى الله كائن لا محالة لا يردّه كيد كائد ولا حسد حاسد. ويروى أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ملوا فقالوا: يا رسول الله لو حدثتنا. فأنزل الله عز وجل: {الله نزل أحسن الحديث كتابًا متشابهًا} [الزمر: 23] ثم إنهم ملوا فقالوا: يا رسول الله لو قصصت علينا فأنزل الله: {نحن نقص عليك أحسن القصص} كل ذلك يؤمرون بالقرآن: {وإن كنت} هي المخففة من الثقيلة بدليل اللام الفارقة.
والمعنى وإن الشأن كنت أنت من قبل إيحائنا إليك: {لمن الغافلين} عن هذ القصة أو عن الدين والشريعة: {إذ قال} بدل اشتمال من أحسن القصص لأن الوقت مشتمل على القصص فإذًا قص وقته فقد قص المقصوص أو منصوب بإضمار اذكر.
و{يوسف} ليس عربيًا على الأصح إذ لا سبب فيه بعد التعريف إلا العجمة فهو اسم عبراني، ومن ظن أنه من آسف يؤسف بناء على أنه قرئ بكسر السين وبفتحها فيوجد فيه وزن الفعل أيضًا فقد أخطأ، لأن القراءة المشهورة تأباه ولن يكون الاسم عربيًا تارة وأعجميًا أخرى. وهذا الخلاف روي في يونس أيضًا.
عن النبي صلى الله عليه وسلم: «الكريم بن الكريم بن الكريم بن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحق بن إبراهيم» قال النحويون: التاء في: {يا أبت} عوض من ياء الإضافة وهي للتأنيث لأنها قد تقلب هاء في الوقف. ويجوز إلحاق التاء بالمذكر نحو حمامة ذكر والكسرة فيه لمناسبة الياء التي هي بدل منها. والفتحة إما فتحة الياء فيمن يفتحها أو الفتحة الباقية بعد حذف الألف من ياء يا أبتا: {إني رأيت} هو من الرؤيا التي تختص بالمنام لا من الرؤية التي تشمل اليقظة بدليل قول يعقوب له: {ولا تقصص رؤياك} ولأن ذلك لو كان في اليقظة لكانت آية عظيمة ولم تخف على أحد. من قرأ: {أحد عشر} بسكون العين فلكراهة توالي المتحركات فيما هو في حكم كلمة، وكذا الى تسعة عشر إلا اثني عشر لئلا يلتقي ساكنان. قال في الكشاف: روى جابر أن يهوديًا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد أخبرني عن النجوم التي رآهن يوسف. فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل جبريل فأخبره بذلك فقال النبي صلى الله عليه وسلم لليهودي: إن أخبرتك هل تسلم؟ قال: نعم. قال: جربان والطارق والذيال وقابس وعمودان والفليق والمصبح والضروح والفرغ ووثاب وذو الكتفين. رآها يوسف والشمس والقمر نزلن من السماء وسجدن له. فقال اليهودي: إي والله إنها لأسماؤها. وأقول: إن أكثر هذه الأسماء ليست مما اشتهر عند أهل الهيئة، فإن صح الخبر فهي من العلوم التي تفرد بها الأنبياء. وإفراد الشمس والقمر من الكواكب بعد ذكرها دليل على شرفهما كقوله: {وملائكته وجبريل وميكائيل} [البقرة: 98] وإنما كرر الفعل لطول الكلام أو على تقدير سؤال كأنه قيل له: كيف رأيتها؟ فقال: رأيتهم لي ساجدين. والظاهر أن هذه السجدة كانت بمعنى وضع الجبهة إذ لا مانع من حملها على الحقيقة لكنها كانت على وجه التواضع.
وإنما أجريت الكواكب مجرى العقلاء في عود الضمير إليها لأن السجود من شأن العقلاء كقوله للأصنام: {وتراهم ينظرون إليك} [الأعراف: 198] وعند الفلاسفة هم أحياء ناطقة فلا حاجة إلى العذر. عبر أبوه رؤياه بأن إخوته سيسجدون له وهم أحد عشر، وكذا أبواه وهما الشمس والقمر. وقيل: هما أبوه وخالته لأن أمه لم تدخل مصر وتوفيت قبل ذلك. وعن وهب أن يوسف رأى- وهو ابن سبع سنين- أن إحدى عشرة عصًا طوالًا كانت مركوزة في الأرض كهيئة الدارة التي حول القمر وهي الهالة، وإذا عصا صغيرة وثبت عليها حتى اقتلعها وغلبتها فوصف ذلك لأبيه فقال: إياك أن تذكر هذا لإخوتك. ثم رأى- وهو ابن اثنتي عشرة سنة- الشمس والقمر والكواكب تسجد له فقصها على أبيه فقال له: لا تقصها عليهم فيبغوا لك الغوائل. وقيل: كان بين رؤيا يوسف ومسير إخوته إليه أربعون سنة. وقيل ثمانون. قال علماء التعبير: إن الرؤيا الردية يظهر أثرها عن قريب كيلا يبقى المؤمن في الغم والحزن، والرؤيا الجيدة يبطئ أثرها لتكون بهجة المؤمن أدوم. قوله: {فيكيدوا} منصوب بإضمار أن جوابًا للنهي. واللام في: {لك} لتأكيد الصلة مثل نصحتك ونصحت لك. وقال في الكشاف: ضمن الكيد معنى الاحتيال ليفيد معى الفعلين فيكون أبلغ في التخويف. وقيل: متعلق بالمصدر الذي بعده. ثم إنه وصل بهذه النصيحة شيئًا ن تعبير رؤياه فقال: {وكذلك} أي ومثل اجتبائك لهذه الرؤيا الشريفة: {يجتبيك ربك} لأمور عظام. والاجتباء افتعال من جبيت الشيء إذا حصلته لنفسك، وجبيت الماء في الحوض جمعته، وخصص الحسن الاجتباء بالنبوة. قال في الكشاف: {ويعلمك} كلام مبتدأ غير داخل في حكم التشبيه كأنه قيل: وهو يعلمك ويتم نعمته عليك. أقول: ولعل إدخاله في حكم التشبيه ليس بضائر. وفي. وجوه منها: أنه تأويل أحاديث الناس فيما يرونه في منامهم، سمى التعبير تأويلًا لأنه يؤول أمره إلى ما رآه في المنام أو يؤول أمر ما رآه في المنام إلى ذلك. والأحاديث اسم جمع للحديث وليس بجمع أحدوثة لأنها التي يتحدث بها الناس. ومنها أنه تبيين معاني كتب الله وسنن الأنبياء لأن المفسر والمحدّث يحدّثان عن الله ورسوله فيقولان: قال الله كذا وقال الرسول كذا. ومنها أن الحديث بمعنى الحادث والمراد كيفية الاستدلال بالحادث على القديم سبحانه. وأما إتمام النعمة فيمن فسر الاجتباء بالنبوة فسر الإتمام بالسعادات الدنيوية والأخروية من المال والجاه والعلوم والأخلاق الفاضلة، ومن فسر ذلك بالدرجات العالية فسر هذا بالنبوة لأن التمام المطلق في حق البشر ليس إلا بالنبوة، ولأن إتمام النعمة عليه مشبه بإتمامها على إبراهيم وإسحق، ومن المعلوم أن الامتياز بينهما وبين أقرانهما لم يكن إلا بالنبوة وقد يفسر إتمام النعمة على إبراهيم بالخلة والإنجاء من النار ومن ذبح الولد، وعلى إسحق بإنجائه من الذبح وفدائه بذبح عظيم وبإخراج يعقوب والأسباط من صلبه، ويكون وجه التشبيه إنجاءه من السجن والمحن كإنجائهما من النار والذبح.
والمراد بآل يعقوب نسله قيل: علم يعقوب أن يوسف وإخوته أنبياء استدلالًا بضوء الكواكب. واعترض بما فرط منهم في حق يوسف. وأجيب بأن ذلك قبل النبوة. وقيل: إتمام النعمة وصل نعمة الدنيا بنعم الآخرة وذلك أنه جعلهم ملوكًا وأنبياء و: {إبراهيم وإسحاق} عطف بيان لأبويك لأن أبا الجد في حكم الأب: {إن ربك عليم} بمن يستحق الاجتباء: {حكيم} لا يضع الشي إلا في موضعه فلا يجعل الرسالة إلا في نفس قدسية وجوهر مشرق. قيل: حكم يعقوب بوقوع هذه الأمور دليل على جزمه بها فكيف خاف بعدها على يوسف حتى قال: {وأخاف أن يأكله الذئب}؟ والجواب لعل جزمه بذلك كان مشروطًا بعدم كيد إخوته، ولعل قوله: {أخاف أن يأكله الذئب} كيلا يتهاونوا في حفظه فإن للوسائط والأسباب مدخلًا عظيمًا في وجود الأشياء وحصولها: {لقد كان في يوسف وإخوته} أي في قصتهم وحديثهم: {آيات للسائلين} لمن سأل عن تلك القصة وعرفها، أو آيات على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم للذين سألوه من اليهود عنها فأخبرهم بها من غير سماع العلم. وفيه أنه صلى الله عليه وسلم يجب أن يصبر على بغي قومه إلى أن يظهر أمره كما فعل يوسف. يروى أن أسامي إخوته: يهوذا وروبيل وشمعون ولاوي وربالون ويشجر ودينة- وهؤلاء من ليا بنت خالة يعقوب- ودان ونفتالي وجاد وآشر- وهم من سريتين زلفة وبلهة- فلما توفيت ليا تزوج أختها راحيل فولدت له بنيامين ويوسف. {إذ قالوا} ظرف لكان أو منصوب بإضمار اذكر: {ليوسف} في لام الابتداء تحقيق لمضمون الجملة. {وأخوه} أي لأبيه وأمه عنوا بنيامين: {أحب} إذا كان أفعل التفضيل مستعملًا بمن لم يتصرف فيه: {ونحن عصبة} الواو للحال والعصبة العشرة فصاعدًا لأن الأمور تعصب بكفايتهم أي إنه يفضلهما في المحبة علينا وهما ابنان صغيران. لا كفاية فيهما ولا منفعة ونحن جماعة نكفي مهماته ونقوم بمصالحه: {إن إبانا لفي ضلال مبين} أرادوا ضلالًا خاصًا وهو البعد عن طريق الصلاح وحسن المعاشرة مع الأولاد، ولم يعلموا أن المحبة أمر يتعلق بالقلب وليس لله فيه تكليف، ولعل يعقوب تفرس في يوسف ما أوجب اختصاصه بمزيد البر. ومن جملة أقوالهم أنهم قالوا لما تشاوروا في أمره: {اقتلوا يوسف} قيل: الآمر بالقتل شمعون أو دان ورضي به الباقون فجعلوا جميعًا آمرين. والظاهر أنه قال بعضه بذلك بدليل أنه لم يقع القتل ولقولهم: {أو اطرحوه} فكان بعضهم أشار إلى القتل وبعضهم إلى الطرح ومهما صدر أمر من بعض القوم صح إسناده إليه كقوله: {وإذ قتلتم نفسا} [البقرة: 72] وانتصب: {أرضًا} على الظرف كالظروف المبهمة أي أرضًا مجهولة بعيدة عن العمارة: {يخل لكم وجه أبيكم} تخلص محبته لكم سليمة عن التنازل فيها وكان ذرك الوجه تصويرًا لإقباله عليهم بالكلية، ويجوز أن يراد بالوجه ذاته أو المراد يفرغ لكم من الشغل بيوسف: {وتكونوا} مجزوم لأنه معطوف على جواب الأمر: {من بعده} من بعد قتله أو إطراحه أو من بعد يوسف إذا قتل أو غرب: {قومًا صالحين} تائبين إلى الله أو إلى أبيه لعذر تمهدونه مما جنيتم عليه، أو المراد صلاح دنياهم وانتظام أمورهم وتفرغهم لمهماتهم بعد يوسف بفراغ البال: {قال قائل منهم} هو يهوذا وكان أحسنهم فيه رأيًا وأدبًا وهو الذي قال: {فلن أبرح الأرض} [يوسف: 80]: {لا تقتلوا يوسف} لأن القتل عظيم ولاسيما قتل الأخ وخاصة إذا كان القاتل والمقتول من أولاد الأنبياء: {وألقوه في غيابت الجب} سمى البئر جبًا لأنها قطعت قطعًا ولم يحصل فيها شيء سوى القطع للأرض، والغيابة غور البئر وما غاب منها عن عين الناظر وأظلم من أسفلها. ومن قرأ على الجمع فلأن للجب أقطارًا ونواحي: {يلتقطه بعض السيارة} أي الرفقة السائرة قال ابن عباس: أي المارة، والالتقاط تناول الشيء من الطريق ونحوه يستعمل في الإنسان وغيره ومنه اللقيط للمنبوذ: {إن كنتم فاعلين} إن لم يكن من فعل هذا الأمر بد فهذا هو الرأي. ثم إن يعقوب كان خائفًا على يوسف من كيدهم وكان يظهر أمارات ذلك على صحائف أعماله وأقواله فلذلك قالوا: {ما لك لا تأمنا على يوسف وإنا له لناصحون} ما وجد منا في بابه سوى النصح والإشفاق على الإطلاق: {أرسله معنا غدًا يرتع ويلعب} من قرأ بالجزم فمن الرتعة كالأمنة وهي الخصب والسعة، ومن قرأ بالكسر فعلى حذف الياء من يرتعي مستعارًا من ارتعاء الإبل والماشية. واللعب ترك ما ينفع إلى ما لا ينفع. فمن قرأ بالياء فلا إشكال لأن الصبي لا تكليف عليه، ومن قرأ بالنون قال كان لعبهم الاستباق والانتضال بدليل قوله: {إنا ذهبنا نستبق} سمي لعبًا لأنه في صورته، أو اللعب قد يطلق على استعمال المباحات لأجل انشراح الصدر قال صلى الله عليه وسلم لجابر: «فهلا تزوجت بكرًا تلاعبها وتلاعبك». {قال إني ليحزنني} لام الابتداء للتأكيد أو لتخصيص المضارع بالحال: {وأخاف أن يأكله الذئب} أصله الهمز ولهذا قال بعضهم: إنه مشتق من تذأبت الريح إذا أتت من كل جهة. قيل: كان أرضهم مذأبة فلذلك قال: {أخاف}. وقيل: رأى في النوم أن الذئب قد شد على يوسف وكان يحذره فلقنهم العذر كما جاء في أمثالهم البلاء موكل بالمنطق. قوله: {إنا إذًا} جواب للقسم ساد مسد جواب الشرط، حلفوا له أن كان ما خافه وحالهم أنهم رجال كفاة وحماة فهم إذ ذاك خاسرون عاجزون أو مستحقون للدعاء عليهم بالخسار، أو المراد إن لم نقدر على حفظ بعضنا فقد هلكت مواشينا وخسرناها.
كان يعقوب قد اعتذر إليهم بأمرين: أحدهما أن ذهابهم به مما يحزنه لأنه كان لا يصبر عنه ساعة، والثاني خوفه عليه من الذئب فلم يجيبوا عن الأول لأنه هو الذي كان يغيظهم فلم يعبئوا بذلك الكلام فخصوا الجواب بالثاني، وههنا إضمار والتقدير فأذن لهم وأرسله معهم: {فلما ذهبوا به وأجمعوا} عزموا على: {أن يجعلوه في غيابت الجب} قيل: هو بئر ببيت المقدس. وقيل: بأرض الأردن. وقيل: بين مصر ومدين: وقيل: على ثلاثة فراسخ من منزل يعقوبٍ. ثم إن كان جواب لما محذوفًا ففي الآية إضمار آخر كما تقدم في الوقوف. قال السدي: إن يوسف عليه السلام لما برز مع إخوته أظهروا له العداوة وأخذوا يهينونه ويضربونه وكلما استغاث بواحد منهم لم يغثه إلا بالإهانة حتى كادوا يقتلونه، فجعل يصيح يا أبتاه لو تعلم ما يصنع بابنك أولاد الإماء. فقال يهوذا أما أعطيتموني موثقًا أن لا تقتلوه، فلما أرادوا إلقاءه في الجب تعلق بثيابهم فنزعوها من يده فتعلق بحائط البئر فربطوا يديه ونزعوا قميصه ليلطخواه بالدم ويحتالوا به على أبيهم. فقال: يا إخوتاه ردّوا عليّ قميصي أتوارى به فقالوا له: ادع الشمس والقمر والأحد عشر كوكبًا حتى ينقذوك ودلوه في البئر، فلما بلغ نصفها ألقوه ليموت وكان في البئر ماء فسقط فيه ثم أوى إلى صخرة فقام عليها وهو يبكي فنادوه فظن أنها رحمة أدركتهم فأجابهم فأرادوا أن يرضخوه ليقتلوه فمنعهم يهوذا وكان يهوذا يأتيه بالطعام. وروي أنه عليه السلام لما ألقي في الجب قال: يا شاهدًا غير غائب، ويا قريبًا غير بعيد، ويا غالبًا غير مغلوب، اجعل لي من أمري فرجًا ومخرجًا. وحكي أن إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار جرد عن ثيابه فأتاه جبرائيل بقميص من حرير الجنة فألبسه إياه فدفعه إبراهيم إلى إسحاق وإسحق إلى يعقوب فجعله يعقوب في تميمة علقها في عنق يوسف فجاء جبرائيل فأخرجه وألبسه إياه: {وأوحينا إليه} في صغر السن كما أوحي إلى يحيى وعيسى. وقيل: كان إذ ذاك بالغًا وعن الحسن كان له سبع عشر سنة: {لتنبئنهم} لتحدثن إخوتك بما فعلوا بك: {وهم لا يشعرون} أنك يوسف لعلو شأنك وبعد حالك عن أوهامهم ولطول العهد المنسي المغير للهئيات والأشكال.. يروى أنهم حين دخلوا عليه ممتارين فعرفهم وهم له منكرون دعا بالصواع فوضعه على يده ثم نقره فطن فقال: إنه ليخبرني هذا الجام أنه كان لكم أخ من أبيكم ويقال له يوسف وكان يدنيه دونكم وإنكم انطلقتم به وألقيتموه في غيابة الجب وقلتم لأبيه أكله الذئب وبعتموه بثمن بخس.