فصل: التفسير المأثور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



بُدِئَتْ هَذِهِ الْقِصَّةُ بِبَيَانِ إِيتَاءِ اللهِ الْحُكْمَ وَالْعِلْمَ لِيُوسُفَ عِنْدَ اسْتِكْمَالِ سِنِّ الشَّبَابِ وَبُلُوغِ الْأَشُدِّ، وَأَنَّ هَذَا الْعَطَاءَ جَزَاءٌ مِنْهُ- سُبْحَانَهُ- لَهُ عَلَى إِحْسَانِهِ فِي سِيرَتِهِ مُنْذُ سِنِّ التَّمْيِيزِ لَمْ يَكُنْ مُسِيئًا فِي شَيْءٍ قَطُّ، وَخُتِمَتْ بِشَهَادَتِهِ تَعَالَى بِمَا كَانَ مِنِ اقْتِنَاعِ الْعَزِيزِ بِبَرَاءَتِهِ مِنَ الْخَطِيئَةِ وَالْتِيَاثِ امْرَأَتِهِ بِهَا وَحْدَهَا. قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ} أَيْ رُشْدَهُ وَكَمَالَ قُوَّتِهِ وَشِدَّتِهِ بِاسْتِكْمَالِ نُمُوِّهِ الْبَدَنِيِّ وَالْعَقْلِ {آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا} أَيْ وَهَبْنَاهُ حُكْمًا إِلْهَامِيًّا وَعَقْلِيًّا بِمَا يَعْرِضُ لَهُ أَوْ عَلَيْهِ مِنَ النَّوَازِلِ وَالْمُشْكِلَاتِ مَقْرُونًا بِالْحَقِّ وَالصَّوَابِ، وَعِلْمًا لَدُنِّيًّا وَفِكْرِيًّا بِحَقَائِقِ مَا يَعْنِيهِ مِنَ الْأُمُورِ، وَهَذِهِ السِّنُّ فِي عُرْفِ الْأَطِبَّاءِ تَتِمُّ فِي خَمْسٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَلِأَهْلِ اللُّغَةِ وَرُوَاةِ التَّفْسِيرِ فِيهَا أَقْوَالٌ: فَعَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّهَا خَمْسٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا ثَلَاثٌ وَثَلَاثُونَ سَنَةً، وَلَعَلَّهُ أَخَذَهُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي كَمَالِ الْبِنْيَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً} 46: 15 فَجَعَلَهَا دَرَجَتَيْنِ: بُلُوغَ الْأَشُدِّ، وَبُلُوغَ الْأَرْبَعِينَ وَهِيَ سِنُّ الِاسْتِوَاءِ. كَمَا قَالَ فِي مُوسَى: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} 28: 140 فَالْأَوَّلُ مَبْدَأُ اسْتِكْمَالِ النُّمُوِّ الْعَضَلِيِّ وَالْعَصَبِيِّ وَالثَّانِي مُسْتَوَاهُ، وَبِهِ يَتِمُّ الِاسْتِعْدَادُ لِلنُّبُوَّةِ وَوَحْيِ الرِّسَالَةِ. وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ عُلَمَاءِ النَّفْسِ وَالِاجْتِمَاعِ أَنَّ الْإِنْسَانَ يَظْهَرُ اسْتِعْدَادُهُ الْعَقْلِيُّ وَالْعِلْمِيُّ بِالتَّدْرِيجِ، حَتَّى إِذَا بَلَغَ خَمْسًا وَثَلَاثِينَ سَنَةً لَا يَظْهَرُ فِيهِ شَيْءٌ جَدِيدٌ مِنَ الْعِلْمِ الْكَسْبِيِّ غَيْرُ مَا يَظْهَرُ مِنْ بَدْءِ سِنِّ التَّمْيِيزِ إِلَى هَذِهِ السِّنِّ، وَإِنَّمَا يُكْمِلُ مَا كَانَ ظَهَرَ مِنْهُ إِذَا هُوَ ظَلَّ مُزَاوِلًا لَهُ وَمُشْتَغِلًا بِتَكْمِيلِهِ، وَقَدْ بَيَّنَا ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} 10: 16 وَفَصَّلْنَاهُ فِي كِتَابِ (الْوَحْيِ الْمُحَمَّدِيِّ) وَقَدْ ظَهَرَ حُكْمُ يُوسُفَ وَعِلْمُهُ بَعْدَ بُلُوغِ أَشُدِّهِ فِي مِصْرَ كَمَا يَأْتِي تَفْصِيلُهُ فِي مَوَاضِعِهِ {وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} أَيْ وَكَذَلِكَ شَأْنُنَا وَسُنَّتُنَا فِي جَزَاءِ الْمُتَحَلِّينَ بِصِفَةِ الْإِحْسَانِ، الثَّابِتِينَ عَلَيْهِ بِالْأَعْمَالِ، الَّذِينَ لَمْ يُدَنِّسُوا فِطْرَتَهُمْ وَلَمْ يَدُسُّوا أَنْفُسَهُمْ بِالْإِسَاءَةِ فِي أَعْمَالِهِمْ، نُؤْتِيهِمْ نَصِيبًا مِنَ الْحُكْمِ بِالْحَقِّ وَالْعَدْلِ، وَالْعِلْمِ الَّذِي يُزَيِّنُهُ، وَيُظْهِرُهُ الْقَوْلُ الْفَصْلُ، فَيَكُونُ لِكُلِّ مُحْسِنٍ حَظُّهُ مِنَ الْحُكْمِ الصَّحِيحِ وَالْعِلْمِ النَّافِعِ بِقَدْرِ إِحْسَانِهِ، وَبِمَا يَكُونُ لَهُ مِنْ حُسْنِ التَّأْثِيرِ فِي صَفَاءِ عَقْلِهِ، وَجَوْدَةِ فَهْمِهِ وَفِقْهِهِ، غَيْرَ مَا يَسْتَفِيدُهُ بِالْكَسْبِ مِنْ غَيْرِهِ، لَا يُؤْتَى مِثْلُهُ الْمُسِيئُونَ بِاتِّبَاعِ أَهْوَائِهِمْ وَطَاعَةِ شَهَوَاتِهِمْ. (وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ: وَهَذَا وَإِنْ كَانَ مَخْرَجُ ظَاهِرِهِ عَلَى كُلِّ مُحْسِنٍ فَالْمُرَادُ بِهِ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ لَهُ- عَزَّ وَجَلَّ-: كَمَا فَعَلْتُ هَذَا بِيُوسُفَ مِنْ بَعْدِ مَا لَقِيَ مِنْ إِخْوَتِهِ مَا لَقِيَ..... فَكَذَلِكَ أَفْعَلُ بِكَ فَأُنَجِّيكَ مِنْ مُشْرِكِي قَوْمِكَ الَّذِينَ يَقْصِدُونَكَ بِالْعَدَاوَةِ، وَأُمَكِّنُ لَكَ فِي الْأَرْضِ) إِلَخْ. وَأَقُولُ: لَا شَكَّ أَنَّ هَذِهِ السُّنَّةَ فِي جَزَاءِ الْمُحْسِنِينَ عَامَّةٌ، وَلِكُلِّ مُحْسِنٍ مِنْهَا بِقَدْرِ إِحْسَانِهِ. وَإِذَنْ يَكُونُ حَظُّ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم أَعْظَمُ مِنْ حَظِّ يُوسُفَ وَغَيْرِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ- عَلَيْهِمُ السَّلَامُ-. اهـ.

.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا}
أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم، عن محمد بن إسحق رضي الله عنه قال: الذي اشتراه ظيفر بن روحب، وكان اسم امرأته راعيل بنت رعائيل.
وأخرج ابن إسحق وابن جرير وأبو الشيخ، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما باع يوسف صاحبه الذي باعه من العزيز- واسمه مالك بن ذعر- قال حين باعه: من أنت؟- وكان مالك من مدين- فذكر له يوسف من هو وابن من هو، فعرفه فقال: لو كنت أخبرتني لم أبعك. ادع لي، فدعا له يوسف فقال: بارك الله لك في أهلك. قال: فحملت امرأته اثني عشر بطنًا، في كل بطن غلامان.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: {أكرمي مثواه} قال منزلته.
وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن قتادة مثله.
وأخرج سعيد بن منصور وابن سعد وابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وأبو الشيخ والحاكم وصححه، عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: أفرس الناس ثلاثة: العزيز حين تفرس في يوسف فقال لامرأته: أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدًا، والمرأة التي أتت موسى فقالت لأبيها: يا أبت، استأجره، وأبو بكر حين استخلف عمر.
وأخرج عبد الرزاق وأبو الشيخ، عن قتادة رضي الله عنه قال: بلغنا أن العزيز كان يلي عملًا من أعمال الملك. وقال الكلبي: كان خبازه وصاحب شرابه وصاحب دوائه وصاحب السجن.
وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ، عن مجاهد رضي الله عنه في قوله: {ولنعلمه من تأويل الأحاديث} قال عبارة الرؤيا.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله: {والله غالب على أمره} قال فعال.
وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد: {والله غالب على أمره} قال لغة عربية.
وأخرج أبو الشيخ، عن الضحاك رضي الله عنه: {والله غالب على أمره} قال: لما يريد أن يبلغ يوسف.
{وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آَتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (22)}
أخرج سعيد بن منصور وابن جرير وابن أبي حاتم وابن الأنباري في كتاب الأضداد، والطبراني في الأوسط، وابن مردويه، عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: {ولما بلغ أشده} قال: ثلاثًا وثلاثين سنة.
وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة رضي الله عنه في قوله: {بلغ أشده} قال: خمسًا وعشرين سنة.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن السدي رضي الله عنه في قوله: {بلغ أشده} قال: ثلاثين سنة.
وأخرج ابن جرير عن الضحاك رضي الله عنه: {ولما بلغ أشده} قال: عشرين سنة.
وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير رضي الله عنه في قوله: {بلغ أشده} قال عشر سنين.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ربيعة في قوله: {بلغ أشده} قال: الحلم.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن الشعبي رضي الله عنه قال: لأشد الحلم، إذا كتبت له الحسنات وكتبت عليه السيئات.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن مجاهد رضي الله عنه في قوله: {آتيناه حكمًا وعلمًا} قال: هو الفقه والعلم والعقل قبل النبوة.
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما: {وكذلك نجزي المحسنين} يقول المهتدين. اهـ.

.شُبه في قصة يوسف عليه السلام والجواب عنها:

قال الفخر:
قصة يوسف عليه السلام:
وفيها شبه:
الأولى: أنه صبر على الرق ولم يبين الحرية التي فيه وذلك معصية.
الجواب من وجوه:
الأول: فلعله لم يكن نبيا في تلك الحالة، ولما خاف على نفسه القتل جاز ان يصبر على الرق. ومن ذهب إلى هذا الوجه حمل قوله تعالى: {واوحينا إليه لتنبئنهم بأمرهم هذا} على وقت آخر.
الثاني: أن إظهار الحرية أمر يجوز أن يختلف باختلاف الشرائع، فلعله أمر بالسكوت عنه امتحانا، كما امتحن أبويه بنمروذ والذبح الثالث لعله عليه السلام أخبرهم بذلك إلا أنهم لم يلتفتوا إليه.
الشبهة الثانية:
تمسكوا بقوله تعالى حاكيا عن يوسف وامرأة العزيز: {وراودته التي هو في بيتها عن نفسه وغلقت الأبواب وقالت هيت لك قال معاذ الله انه ربى أحسن مثواى إنه لا يفلح الظالمون ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء}.
الجواب:
قال القاضى أبو طاهر الطوسى رحمه الله تعالى: شهد ببراءة يوسف من الذنب كل من له تعلق بتلك الواقعة من زوج وحاكم ونسوة وملك وادعى يوسف ذلك واعترف له خصمه بصدق ما قاله مرتين، وشهد بذلك رب العالمين الذي هو اصدق القائلين، واعترف ابليس فكيف يلتفت إلى قول هؤلاء الحشوية؟! أما شهادة الزوج فقوله تعالى: {انه من كيدكن ان كيدكن عظيم يوسف اعرض عن هذا واستغفرى لذنبك انك كنت من الخاطئين} وأما شهادة الحاكم فقوله: {وشهد شاهد من اهلها ان كان قميصه قد من دبر} واما شهادة النسوة فقولهن {حاش لله ما علمنا عليه من سوء} اما شهادة الملك فقوله: {إنك اليوم لدينا مكين امين} واما ادعاء يوسف عليه السلام ذلك فقوله: {هي راودتني عن نفسي} وقوله: {رب السجن احب إلى مما يدعونني إليه} وقوله: {ذلك ليعلم انى لم أخنه بالغيب} واما اعتراف الخصم فقولها للنسوة {ولقد راودته عن نفسه فاستعصم} وقوله: {الآن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه} واما شهادة رب العالمين فقوله: {كذلك لنصرف منه السوء والفحشاء} واما اعتراف ابليس بذلك فقوله تعالى حكاية عنه: {لاغوينهم اجمعين الا عبادك منهم المخلصين} فبين انه يغوى الكل الا المخلصين ويوسف من المخلصين لقوله تعالى: {انه من عبادنا المخلصين} فأية شبهة تبقى مع هذه الشهادات في براءة (م 4- عصمة الأنبياء) يوسف عن الذنوب.
ثم قال القاضى: وهؤلاء الطاعنون في يوسف ان كانوا من حزب الله فليقبلوا قوله، وان كانوا من حزب الشيطان فيجب ان لا يتركوا قوله: {لأغوينهم اجمعين الا عبادك منهم المخلصين} وإذا ظهرت هذه الجملة فلنذكر معنى الآية فنقول: الهم في اللغة جاء لمعان أربعة:
الأول: العزم على الفعل لقوله تعالى: {إذ هم قوم أن يبسطوا اليكم أيديهم} أي أرادوا ذلك وعزموا عليه.
الثاني: خطور الشيء بالبال قال الله تعالى: {إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا والله وليهما} فانما أراد الله تعالى أن الفشل خطر ببالهم ولو كان المراد هاهنا العزم لما صح أن يكون الله وليا لهم، لان العزم على المعصية معصية ويدل عليه أيضا قول كعب بن زهير:
فكم فيهم من سيد متوسع ** ومن فاعل للخير قد هم أو عزم

الثالث: أن يستعمل بمعنى المقاربة يقولون هم بكذا أي كاد يفعله قال ذو الرمة:
أقول لمسعود بجرعاء مالك ** وقد هم دمعى أن يلج أوائله

والدمع لا يجوز عليها العزم وانما اراد أنه كاد وقارب.
الرابع: الشهوة وميل الطباع لان الانسان قد يقول فيما يشتهيه هذا من همى فتثبت أن الهم مستعمل في هذه المعاني. فان حملناه على العزم ففيه وجهان:
الأول: أن الهم في ظاهر الآية معلق بذاته وذاتها. وذلك غير جائز لان الذوات لاتراد فلابد من ترك هذا الظاهر وتعليق الهم بشئ غير الذات: وإذا ثبت هذا فنقول: ليس تعليقه ببعض الامور أولى من تعليقه بالباقي إلا للدليل فأما همها فكان متعلقا بالفاحشة دون سائر الامور وذلك للنص والاجماع. أما النص فقوله تعالى: {وقال نسوة في المدينة امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه قد شغفها حبا إنا لنراها في ضلال مبين} وقوله: {وراودته التي هو في بيتها عن نفسه} وقوله تعالى حاكيا عنها: {الآن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه وانه لمن الصادقين} وفى موضع آخر {ولقد راودته عن نفسه فاستعصم} وأما الاجماع فهو أن المفسرين اتفقوا على أنها همت بالمعصية والفاحشة. وأما همه فقد دللنا على أنه لا يجوز أن يكون متعلقا بالفاحشة وليس في ظاهر الآية ما يقتضيه فلا جرم علقناه بدفعه إياها عن نفسه كما يقول القائل: لقد كنت هممت بفلان أي بأن أوقع به ضربا. لا يقال: فأى فائدة على هذا التأويل في قوله تعالى: {لولا أن رأى برهان ربه} والدفع لها عن نفسه طاعة لا يصرف البرهان عنه لانا نقول يجوز أن يكون لما هم بدفعها وضربها أرى برهانا على أنه لو قدم على ما هم به أهلكه أهلها وقتلوه، وانها تدعى عليه المراودة على القبيح وتنسبه إلى أنه دعاها إلى نفسه وضربها لامتناعها منه. فأخبره الله تعالى أنه صرف بالبرهان عنه السوء والفحشاء اللذين هما القتل والمراودة وظن القبح واعتقاده فيه. لا يقال: فهذا يقتضى أن يكون جواب لفظة {لولا} متقدما عليها ويكون التقدير لولا أن رأى برهان ربه لهم بقربها، وتقدم جواب {لولا} غير جائز. لانا نقول: لا نسلم أن تقدم جواب {لولا} غير جائز وسيأتى تقريره، سلمنا ذلك ولكن لا حاجة بنا إليه في هذا المقام، لان العزم على الضرب والهم قد وقع إلا أنه انصرف عن فعله بسبب البرهان. وتقدير الكلام: ولقد همت به وهم بدفعها لولا أن رأى برهان ربه لفعل ذلك. والجواب محذوف مضمر.
الوجه الثاني في حمل الهم على العزم أن يحمل الكلام على التقديم والتأخير، والتقدير: ولقد همت به ولولا أن رأى برهان ربه لهم بها ويجرى ذلك مجرى قولك: قد كنت هلكت لولا أن تداركته، وقد استبعد الزجاج. وعلى بن عيسى هذا الجواب من وجهين:
الأول: أنه لا يجوز تقدم جواب لولا.
الثاني: جوابه يكون باللام كقوله: {فلولا أنه كان من المسبحين للبث في بطنه}.
والجواب: انا لا نسلم انه لا يجوز التقديم، والدليل عليه قوله تعالى: {إن كادت لتبدى به لولا أن ربطنا على قلبها} وأيضا فلو لم يجعل التقديم على {لولا} جوابا لها لكان جوابها محذوفا. وإذا دار الأمر بين أن يكون جوابا محذوفا وبين أن يكون متقدما عليها لا شك أن التقديم أولى.
فإن قلت فأى فائدة في قوله: {وهم بها لولا أن رأى برهان ربه} إذا لم يكن هناك هم؟
قلت: الفائدة فيه الاخبار على أن ترك الهم به وإجابتها إلى ملتمسها لم يكن من حيث كان غير راغب في النساء لعجز لكنه ترك ذلك لله وفى الله طلبا لثوابه وهربا من أليم عقابه * * فإن قلت * فما البرهان الذي رآه يوسف عليه السلام؟
قلت: فيه وجوه ثمانية:
الأول: أنه حجة الله في تحريم الزنا والعلم بما على الزانى من العقاب قاله محمد بن كعب.
الثاني: ما آتاه الله من آداب أنبيائه من العفاف وصيانة النفس عن الارجاس.
الثالث: رأى مكتوبا في سقف البيت {ولا تقربوا الزنا انه كان فاحشة وساء سبيلا}.
الرابع: عن الصادق النبوة المانعة من ارتكاب الفواحش.
الخامس: عن زين العابدين كان في ذلك البيت صنم فألقت المرأة ثوبا عليه وقالت استحى منه. فقال يوسف: تستحى من الصنم فأنا أحق أن استحى من الواحد القهار.
السادس: انه سمع قائلا يقول يا ابن يعقوب لا تكن كالطير فإذا زنا ذهب ريشه.
السابع: سمع قائلا يقول: انت مكتوب في الأنبياء وتعمل عمل السفهاء.
الثامن: عن ابن عباس رأى صورة الملك، وقيل: صورة يعقوب عليه السلام عاضا على أنامله.
فإن قلت: لو كان البرهان عبارة عن أنه رأى يعقوب عاضا على أصبعه أو نادته الملائكة بالزجر لاقتضى ذلك الالجاء وصار منافيا للتكليف، ولما استحق يوسف عليه السلام بالبعد عن ذلك الفعل مدحا ولا ثناءا ولا ثوابا.
قلت: أليس إن المعتزلة قالوا في قوله تعالى: {ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله} إن شيئا منها لا يوجب الالجاء، وإذا كان كذلك فكيف يلزم من مشاهدة يعقوب وسماع صوت الملائكة حصول الالجاء.
الشبهة الثالثة:
تمسكوا بقوله تعالى: {وما أبرئ نفسي إن النفس لامارة بالسوء}.