فصل: قال الخازن:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



أبلغ أمير المؤمنين ** أخا العراق إذا أتينا

أن العراق وأهله ** عنق إليك فهيت هيتا

ومن ذلك على اللغة الأخرى قول طرفة: الخفيف:
ليس قومي بالأبعدين إذا ما ** قال داع من العشيرة هيت

ومن ذلك أيضًا قول الشاعر: الرجز:
قد رابني أن الكرى قد أسكتا ** ولو غدا يعني بنا لهيتا

أسكت: دخل في سكوت، و{هيت} معناه: قال: هيت، كما قالوا: أقف إذا قال: أف أف، ومنه سبح وكبر ودعدع إذ قال: داع داع.
والتاء على هذه اللغات كلها مبنية فهي في حال الرفع كقبل وبعد، وفي الكسر على الباب لالتقاء الساكنين، وفي حال النصب ككيف ونحوها؛ قال أبو عبيدة: و: {هيت} لا تثنى ولا تجمع، تقول العرب: {هيت لك}، وهيت لكما، وهيت لكم.
وقرأ هشام ابن عامر: {هِئتُ}، بكسر الهاء والهمز، ضم التاء وهي قراءة علي بن أبي طالب، وأبي وائل، وأبي رجاء ويحيى، ورويت عن أبي عمرو، وهذا يحتمل أن يكون من هاء الرجل يهيء إذا أحسن هيئته- على مثال جاء يجيء- ويحتمل أن يكون بمعنى تهيأت، كما يقال: فئت وتفيأت بمعنى واحد، قال الله عز وجل: {يتفيؤا ظلاله} [النحل: 48] وقال: {حتى تفيء إلى أمر الله} [الحجرات: 9].
وقرأ ابن أبي إسحاق- أيضًا-: {هِيْت} بتسهيل الهمزة من هذه القراءة المتقدمة. وقرأ ابن عباس- أيضًا-: {هيت لك}. وقرأ الحلواني عن هشام: {هِئتِ} بكسر الهاء والهمز وفتح التاء قال أبو علي: ظاهر أن هذه القراءة وهم، لأنه كان ينبغي أن تقول: هئتَ لي، وسياق الآيات يخالف هذا. وحكى النحاس: أنه يقرأ: {هِيْتِ} بكسر الهاء وسكون الياء وكسر التاء. و: {معاذَ} نصب على المصدر ومعنى الكلام أعوذ بالله.
ثم قال: {إنه ربي} فيحتمل أن يعود الضمير في: {إنه} على الله عز وجل، ويحتمل أن يريد العزيز سيده، أي فلا يصلح لي أن أخونه وقد أكرم مثواي وائتمنني، قال مجاهد، والسدي: {ربي} معناه سيدي، وقاله ابن إسحاق.
قال القاضي أبو محمد: وإذا حفظ الآدمي لإحسانه فهو عمل زاك، وأحرى أن يحفظ ربه.
ويحتمل أن يكون الضمير للأمر والشأن، ثم يبتدئ: {ربي أحسن مثواي}.
والضمير في قوله: {إنه لا يفلح} مراد به الأمر والشأن فقط، وحكى بعض المفسرين: أن يوسف عليه الصلاة والسلام- لما قال: معاذ الله ثم دافع الأمر باحتجاج وملاينة، امتحنه الله تعالى بالهم بما هم به، ولو قال لا حول ولا قوة إلا بالله، ودافع بعنف وتغيير- لم يهم بشيء من المكروه.
وقرأ الجحدري: {مثواي} وقرأها كذلك أبو طفيل وروي عن النبي عليه السلام: {فمن تبع هداي}. اهـ.

.قال الخازن:

{وراودته التي هو في بيتها عن نفسه} يعني أن امرأة العزيز طلبت من يوسف الفعل القبيح ودعته إلى نفسها ليواقعها: {وغلقت الأبواب} أي أطبقتها وكانت سبعة لأن مثل هذا لفعل لا يكون إلا في ستر وخفية أو أنها أغقلتها لشدة خوفها: {وقالت هيت لك} أي هلم وأقبل، قال أبو عبيدة: كان الكسائي يقول هي لغة لأهل حوران رفعت إلى الحجاز معناها تعال، وقال عكرمة أيضًا بالحوارنية: هلم، وقال مجاهد وغيره: هي لغة عربية وهي كلمة حث وإقبال على الشيء وقيل هي بالعبرانية وأصلها هيتالج أي تعال فعربت فقيل هيت لك فمن قال إنها بغير لغة العرب يقول إن العرب وافقت أصحاب هذه اللغة فتكلمت بها على وفق لغات غيرهم كما وافقت لغة العرب الروم في القسطاس ولغة العرب الفرس في التنور ولغة العرب الترك في الغساق ولغة العرب الحبشة في ناشئة الليل وبالجملة فإن العرب إذا تكلمت بكلمة صارت لغة لها وقرئ {هئت لك} بكسر الهاء مع الهمزة ومعناها تهيأت لك: {قال} يعني يوسف: {معاذ الله} أي أعوذ بالله وأعتصم به وألجأ إليه فيما دعوتني إليه: {إنه ربي} يعني أن العزيز قطفير سيدي: {أحسن مثواي} أي أكرم منزلتي فلا أخونه وقيل إن الهاء في إنه ربي راجعة إلى الله تعالى والمعنى يقول إن الله ربي أحسن مثواي يعني أنه آواني ومن بلاء الجب نجاني: {إنه لا يفلح الظالمون} يعني إن فعلت هذا الفعل فأنا ظالم ولا يفلح الظالمون، وقيل: معناه أنه لا يسعد الزناة. اهـ.

.قال أبو حيان:

{وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ}
المراودة الطلب برفق ولين القول، والرود التأني يقال: أرودني أمهلني، والريادة طلب النكاح.
ومشى رويدًا أي برفق أغلق الباب وأصفده وأقفله بمعنى.
وقال الفرزدق:
ما زلت أغلق أبوابًا وأفتحها ** حتى أتيت أبا عمرو بن عمار

هيت اسم فعل بمعنى أسرع.
{وراودته التي هو في بيتها عن نفسه وغلقت الأبواب وقالت هيت لك قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون ولقد همت به وهمّ بها لولا أن رأى برهان ربه كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين}: المراودة: المطالبة برفق، من راد يرود إذا ذهب وجاء، وهي مفاعلة من واحد نحو: داويت المريض، وكنى به عن طلب النكاح والمخادعة لأجله.
كان المعنى وخادعته عن نفسه، ولذلك عداه بعن.
وقال التي هو في بيتها، ولم يصرح باسمها، ولا بامرأة العزيز، سترًا على الحرم.
والعرب تضيف البيوت إلى النساء فتقول: ربة البيت، وصاحبة البيت قال الشاعر:
يا ربة البيت قومي غير صاغرة

وغلقت الأبواب هو تضعيف تكثير بالنسبة إلى وقوع الفعل بكل باب باب.
قيل: وكانت سبعة أبواب هيت اسم فعل بمعنى أسرع.
ولك للتبيين أي: لك أقول، أمرته بأن يسرع إليها.
وزعم الكسائي والفراء أنها لغة حورانية وقعت إلى أهل الحجاز فتكلموا بها ومعناها: تعال، وقاله عكرمة.
وقال أبو زيد: هي عبرانية.
هيتلخ أي تعاله فأعربه القرآن، وقال ابن عباس والحسن: بالسريانية، وقال السدي: بالقبطية هلمّ لك، وقال مجاهد وغيره: عربية تدعوه بها إلى نفسها، وهي كلمة حث وإقبال انتهى.
ولا يبعد اتفاق اللغات في لفظ، فقد وجد ذلك في كلام العرب مع لغات غيرهم.
وقال الجوهري: هوت وهيت به صاح به فدعاه، ولا يبعد أن يكون مشتقًا من اسم الفعل، كما اشتقوا من الجمل نحو سبح وحمدك.
ولما كان اسم فعل لم يبرز فيه الضمير، بل يدل على رتبة الضمير بما يتصل باللام من الخطاب نحو: هيت لك، وهيت لك، وهيت لكما، وهيت لكم، وهيت لكن.
وقرأ نافع، وابن ذكوان، والأعرج، وشيبة، وأبو جعفر: {هيت} بكسر الهاء بعدها ياء ساكنة وفتح التاء، والحلواني عن هشام كذلك إلا أنه همز وعلى، وأبو وائل، وأبو رجاء، ويحيى، وعكرمة، ومجاهد، وقتادة، وطلحة، والمقري، وابن عباس، وأبو عامر في رواية عنهما، وأبو عمرو في رواية وهشام في رواية كذلك، إلا أنهم ضموا التاء.
وزيد بن عليّ وابن أبي إسحاق كذلك، إلا أنهما سهلا الهمزة.
وذكر النحاس: أنه قرئ بكسر الهاء بعدها ياء ساكنة، وكسر التاء.
وقرأ ابن كثير وأهل مكة: بفتح الهاء وسكون الياء وضم التاء، وباقي السبعة أبو عمرو، والكوفيون، وابن مسعود، والحسن، والبصريون، كذلك، إلا أنهم فتحوا التاء.
وابن عباس وأبو الأسود، وابن أبي إسحاق، وابن محيصن، وعيسى البصرة كذلك.
وعن ابن عباس: هييت مثل حييت، فهذه تسع قراءات هي فيها اسم فعل، إلا قراءة ابن عباس الأخيرة فإنها فعل مبني للمفعول مسهل الهمزة من هيأت الشيء، وإلا من ضم التاء وكسر الهاء سواء همز أم لم يهمز، فإنه يحتمل أن يكون اسم فعل كحالها عند فتح التاء أو كسرها، ويحتمل أن يكون فعلًا واقعًا ضمير المتكلم من هاء الرجل يهيئ إذا أحسن هيئته على مثال: جاء يجيء، أو بمعنى تهيأت.
يقال: هيت وتهيأت بمعنى واحد.
فإذا كان فعلًا تعلقت اللام به، وفي هذه الكلمة لغات أخر.
وانتصب معاذ الله على المصدر أي: عياذًا بالله من فعل السوء، والضمير في إنه الأصح أنه يعود على الله تعالى أي: إن الله ربي أحسن مثواي إذ نجاني من الجب، وأقامني في أحسن مقام.
وإما أن يكون ضمير الشأن وغني بربه سيده العزيز فلا يصلح لي أن أخونه، وقد أكرم مثواي وائتمنني قاله: مجاهد، والسدي، وابن إسحاق.
ويبعد جدًا، إذ لا يطلق نبي كريم على مخلوق أنه ربه، ولا بمعنى السيد، لأنه لم يكن في الحقيقة مملوكًا له.
إنه لا يفلح الظالمون أي المجازون الإحسان بالسوء.
وقيل: الزناة، وقيل: الخائنون.
وقرأ أبو الطفيل والجحدري {مثويّ} كما قرأ {يا بشريّ} وما أحسن هذا التنصل من الوقوع في السوء.
استعاذ أولًا بالله الذي بيده العصمة وملكوت كل شيء، ثم نبه على أنّ إحسان الله أو إحسان العزيز الذي سبق منه لا يناسب أن يجازى بالإساءة، ثم نفى الفلاح عن الظالمين وهو الظفر والفوز بالبغية فلا يناسب أن أكون ظالمًا أضع الشيء غير موضعه، وأتعدى ما حده الله تعالى لي. اهـ.

.قال ابن تيمية:

قَوْلُ يُوسُفَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قَالَتْ لَهُ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ: {هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} الْمُرَادُ بِرَبِّهِ فِي أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ هُنَا سَيِّدُهُ وَهُوَ زَوْجُهَا الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ الَّذِي قَالَ لِامْرَأَتِهِ: {أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا} قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}. فَلَمَّا وَصَّى بِهِ امْرَأَتَهُ فَقَالَ لَهَا: {أَكْرِمِي مَثْوَاهُ} قَالَ يُوسُفُ: {إنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ} وَلِهَذَا قَالَ: {إنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} وَالضَّمِيرُ فِي: {إنَّهُ} مَعْلُومٌ بَيْنَهُمَا وَهُوَ سَيِّدُهَا.
وَأَمَّا قَوْله تعالى: {لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} فَهَذَا خَبَرٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّهُ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ وَرَبُّهُ هُوَ اللَّهُ كَمَا قَالَ لِصَاحِبَيْ السِّجْنِ: {ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} وَقَوْلُهُ: {رَبِّيَ} مِثْلَ قَوْلِهِ لِصَاحِبِ الرُّؤْيَا: {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} قَالَ تَعَالَى: {فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ} قِيلَ أُنْسِيَ يُوسُفُ ذِكْرَ رَبِّهِ لَمَّا قَالَ: {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ}. وَقِيلَ: بَلْ الشَّيْطَانُ أَنْسَى الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا ذِكْرَ رَبِّهِ وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ فَإِنَّهُ مُطَابِقٌ لِقَوْلِهِ: {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} قَالَ تَعَالَى: {فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ} وَالضَّمِيرُ يَعُودُ إلَى الْقَرِيبِ إذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ دَلِيلٌ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ؛ وَلِأَنَّ يُوسُفَ لَمْ يَنْسَ ذِكْرَ رَبِّهِ؛ بَلْ كَانَ ذَاكِرًا لِرَبِّهِ. وَقَدْ دَعَاهُمَا قَبْلَ تَعْبِيرِ الرُّؤْيَا إلَى الْإِيمَانِ بِرَبِّهِ وَقَالَ لَهُمَا: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إنِ الْحُكْمُ إلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إلَّا إيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}. وَقَالَ لَهُمَا قَبْلَ ذَلِكَ: {لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ} أَيْ فِي الرُّؤْيَا: {إلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا} يَعْنِي التَّأْوِيلَ: {ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ} فَبِذَا يَذْكُرُ رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فَإِنَّ هَذَا مِمَّا عَلَّمَهُ رَبُّهُ؛ لِأَنَّهُ تَرَكَ مِلَّةَ قَوْمٍ مُشْرِكِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَإِنْ كَانُوا مُقِرِّينَ بِالصَّانِعِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ آبَائِهِ أَئِمَّةَ الْمُؤْمِنِينَ- الَّذِينَ جَعَلَهُمْ اللَّهُ أَئِمَّةً يَدْعُونَ بِأَمْرِهِ- إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ؛ فَذَكَرَ رَبَّهُ ثُمَّ دَعَاهُمَا إلَى الْإِيمَانِ بِرَبِّهِ. ثُمَّ بَعْدَ هَذَا عَبَرَ الرُّؤْيَا فَقَالَ: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا} الْآيَةُ ثُمَّ لَمَّا قَضَى تَأْوِيلَ الرُّؤْيَا: {وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} فَكَيْفَ يَكُونُ قَدْ أَنْسَى الشَّيْطَانُ يُوسُفَ ذِكْرَ رَبِّهِ؟ وَإِنَّمَا أَنْسَى الشَّيْطَانُ النَّاجِيَ ذِكْرَ رَبِّهِ أَيْ الذِّكْرَ الْمُضَافَ إلَى رَبِّهِ وَالْمَنْسُوبَ إلَيْهِ وَهُوَ أَنْ يَذْكُرَ عِنْدَهُ يُوسُفَ. وَاَلَّذِينَ قَالُوا ذَلِكَ الْقَوْلَ قَالُوا: كَانَ الْأَوْلَى أَنْ يَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَلَا يَقُولَ اُذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّك. فَلَمَّا نَسِيَ أَنْ يَتَوَكَّلَ عَلَى رَبِّهِ جُوزِيَ بِلُبْثِهِ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ. فَيُقَالُ: لَيْسَ فِي قَوْلِهِ: {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} مَا يُنَاقِضُ التَّوَكُّلَ؛ بَلْ قَدْ قَالَ يُوسُفُ: {إنِ الْحُكْمُ إلَّا لِلَّهِ} كَمَا أَنَّ قَوْلَ أَبِيهِ: {لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ} لَمْ يُنَاقِضْ تَوَكُّلَهُ؛ بَلْ قَالَ: {وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إنِ الْحُكْمُ إلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ}. وأَيْضًا فَيُوسُفُ قَدْ شَهِدَ اللَّهُ لَهُ أَنَّهُ مِنْ عِبَادِهِ الْمُخْلِصِينَ وَالْمُخْلِصُ لَا يَكُونُ مُخْلِصًا مَعَ تَوَكُّلِهِ عَلَى غَيْرِ اللَّهِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ شِرْكٌ وَيُوسُفُ لَمْ يَكُنْ مُشْرِكًا لَا فِي عِبَادَتِهِ وَلَا تَوَكُّلِهِ بَلْ قَدْ تَوَكَّلَ عَلَى رَبِّهِ فِي فِعْلِ نَفْسِهِ بِقَوْلِهِ: {وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ} فَكَيْفَ لَا يَتَوَكَّلُ عَلَيْهِ فِي أَفْعَالِ عِبَادِهِ. وَقَوْلُهُ: {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} مِثْلُ قَوْلِهِ لِرَبِّهِ: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} فَلَمَّا سَأَلَ الْوِلَايَةَ لِلْمَصْلَحَةِ الدِّينِيَّةِ لَمْ يَكُنْ هَذَا مُنَاقِضًا لِلتَّوَكُّلِ وَلَا هُوَ مِنْ سُؤَالِ الْإِمَارَةِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ فَكَيْفَ يَكُونُ قَوْلُهُ لِلْفَتَى: {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} مُنَاقِضًا لِلتَّوَكُّلِ وَلَيْسَ فِيهِ إلَّا مُجَرَّدُ إخْبَارِ الْمَلِكِ بِهِ؛ لِيَعْلَمَ حَالَهُ لِيَتَبَيَّنَ الْحَقُّ وَيُوسُفُ كَانَ مَنْ أَثْبَتِ النَّاسِ. وَلِهَذَا بَعْدَ أَنْ طُلِبَ: {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ} قَالَ: {ارْجِعْ إلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ} فَيُوسُفُ يَذْكُرُ رَبَّهُ فِي هَذِهِ الْحَالِ كَمَا ذَكَرَهُ فِي تِلْكَ. وَيَقُولُ: {ارْجِعْ إلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ} فَلَمْ يَكُنْ فِي قَوْلِهِ لَهُ: {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} تَرْكٌ لِوَاجِبِ وَلَا فِعْلٌ لِمُحَرَّمِ حَتَّى يُعَاقِبَهُ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ بِلُبْثِهِ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ وَكَانَ الْقَوْمُ قَدْ عَزَمُوا عَلَى حَبْسِهِ إلَى حِينِ قَبِلَ هَذَا ظُلْمًا لَهُ مَعَ عِلْمِهِمْ بِبَرَاءَتِهِ مِنْ الذَّنْبِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ} وَلُبْثُهُ فِي السَّجْنِ كَانَ كَرَامَةً مِنْ اللَّهِ فِي حَقِّهِ؛ لِيَتِمَّ بِذَلِكَ صَبْرُهُ وَتَقْوَاهُ فَإِنَّهُ بِالصَّبْرِ وَالتَّقْوَى نَالَ مَا نَالَ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} وَلَوْ لَمْ يَصْبِرْ وَيَتَّقِ بَلْ أَطَاعَهُمْ فِيمَا طَلَبُوا مِنْهُ جَزَعًا مِنْ السَّجْنِ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ هَذَا الصَّبْرُ وَالتَّقْوَى وَفَاتَهُ الْأَفْضَلُ بِاتِّفَاقِ النَّاسِ. لَكِنْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ هَلْ يُمْكِنُ الْإِكْرَاهُ عَلَى الْفَاحِشَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ: قِيلَ لَا يُمْكِنُ كَقَوْلِ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِمَا قَالُوا: لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ يَمْنَعُ الِانْتِشَارَ. وَالثَّانِي: يُمْكِنُ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَابْنِ عَقِيلٍ وَغَيْرِهِ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد؛ لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ لَا يُنَافِي الِانْتِشَارَ فَإِنَّ الْإِكْرَاهَ لَا يُنَافِي كَوْنَ الْفِعْلِ اخْتِيَارًا بَلْ الْمُكْرَهُ يَخْتَارُ دَفْعَ أَعْظَمِ الشَّرَّيْنِ بِالْتِزَامِ أَدْنَاهُمَا. وَأَيْضًا: فَالِانْتِشَارُ بِلَا فِعْلٍ مِنْهُ؛ بَلْ قَدْ يُقَيَّدُ وَيُضْجَعُ فَتُبَاشِرُهُ الْمَرْأَةُ فَتَنْتَشِرُ شَهْوَتُهُ فَتَسْتَدْخِلُ ذَكَرَهُ. فَعَلَى قَوْلِ الْأَوَّلِينَ لَمْ يَكُنْ يَحِلُّ لَهُ مَا طَلَبَتْ مِنْهُ بِحَالِ وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي فَقَدْ يُقَالُ الْحَبْسُ لَيْسَ بِإِكْرَاهِ يُبِيحُ الزِّنَا؛ بِخِلَافِ مَا لَوْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُمْ يَقْتُلُونَهُ أَوْ يُتْلِفُونَ بَعْضَ أَعْضَائِهِ فَالنِّزَاعُ إنَّمَا هُوَ فِي هَذَا وَهُمْ لَمْ يَبْلُغُوا بِهِ إلَى هَذَا الْحَدِّ وَإِنْ قِيلَ كَانَ يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ لِأَجْلِ الْإِكْرَاهِ لَكِنْ يَفُوتُهُ الْأَفْضَلُ. وَأَيْضًا: فَالْإِكْرَاهُ إنَّمَا يَحْصُلُ أَوَّلَ مَرَّةٍ ثُمَّ يُبَاشِرُ وَتَبْقَى لَهُ شَهْوَةٌ وَإِرَادَةٌ فِي الْفَاحِشَةِ. وَمَنْ قَالَ: الزِّنَا لَا يُتَصَوَّرُ فِيهِ الْإِكْرَاهُ يَقُولُ: فَرَّقَ بَيْنَ مَا لَا فِعْلَ لَهُ- كَالْمُقَيَّدِ- وَبَيْنَ مَنْ لَهُ فِعْلٌ كَمَا أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا أُضْجِعَتْ وَقُيِّدَتْ حَتَّى فُعِلَ بِهَا الْفَاحِشَةُ لَمْ تَأْثَمْ بِالِاتِّفَاقِ وَإِنْ أُكْرِهَتْ حَتَّى زَنَتْ فَفِيهِ قَوْلَانِ هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد؛ لَكِنَّ الْجُمْهُورَ يَقُولُونَ لَا تَأْثَمُ وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ قَوْله تعالى: {وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ} وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ: فِعْلُ الْمَرْأَةِ لَا يَحْتَاجُ إلَى انْتِشَارٍ فَإِنَّمَا هُوَ كَالْإِكْرَاهِ عَلَى شُرْبِ الْخَمْرِ؛ بِخِلَافِ فِعْلِ الرَّجُلِ وَبَسْطُ هَذَا لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ.