فصل: قال الشنقيطي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الشنقيطي:

قوله تعالى: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصَّادِقِينَ فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ}.
يفهم من هذه الآية لزوم الحكم بالقرينة الواضحة الدالة على صدق أحد الخصمين، وكذب الآخر. لأن ذكر الله لهذه القصة في معرض تسليم الاستدلال بتلك القرينة على براءة يوسف يدل على أن الحكم بمثل ذلك حق وصواب. لأن كون القميص مشقوقًا من جهة دبره دليل واضح على أنه هارب عنها، وهي تنوشه من خلفه، ولكنه تعالى بين في موضع آخر أن محل العمل بالقرينة ما لم تعارضها قرينة أقوى منها، فإن عارضتها قرينة أقوى منها أبطلتها، وذلك في قوله تعالى: {وَجَاءُوا على قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} [يوسف: 18]. لأن أولاد يعقوب لما جعلوا يوسف في غيابة الجب، جعلوا على قميصه دم سخلة. ليكون وجود الدم على قميصه قرينة على صدقهم في دعواهم أنه أكله الذئب.
ولا شك أن الدم قرينة على افتراس الذئب له، ولكن يعقوب ابطل قرينتهم هذه بقرينة أقوى منها، وهي عدم شق القميص، فقال: سبحان الله! متى كان الذئب حليمًا كيسًا يقتل يوسف ولا يشق قميصه. ولذا صرح بتكذيبه لهم في قوله: {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ والله المستعان على مَا تَصِفُونَ} [يوسف: 18].
وهذه الآيات المذكورة أصل في الحكم بالقرائن.
ومن أمثلة الحكم بالقرينة: الرجل يتزوج المرأة من غير أن يراها سابقًا. فتزفها إليه ولائد لا يثبت بشهادتهن أن هذه هي فلانة التي وقع عليها العقد. فيجوز له جماعها من غير احتياج إلى بينة تشهد على عينها أنها هي التي وقع العقد عليها. اعتمادًا على قرينة النكاح.
وكالرجل ينزل ضيفًا عند قوم، فتأتيه الوليدة أو الغلام بالطعام. فيجوز له الأكل من غير احتياج إلى ما يثبت مالك الطعام له في الأكل، اعتمادًا على القرينة.
وكقول مالك، ومن وافقه: إن من شم في فيه ريح الخمر يحد حد الشارب، اعتمادًا على القرينة، لأن وجود ريحها في فيه قرينة على أنه شربها، وكمسائل اللوث وغير ذلك.
وقد قدمنا في سورة المائدة صحة الاحتجاج بمثل هذه القرائن، وأوضحنا بالأدلة القرآنية. أن التحقيق أن شرع من قبلنا الثابت بشرعنا شرع لنا، إلا بدليل على النسخ غاية الإيضاح- والعلم عند الله تعالى.
وقال القرطبي- في تفسير قوله تعالى: {وَجَاءُوا على قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ} [يوسف: 18].
استدل الفقهاء بهذه الآية في أعمال الأمارات في مسائل من الفقه، كالقسامة وغيرها.
وأجمعوا على ان يعقوب عليه السلام استدل على كذبهم بصحة القميص.
وهكذا يجب على الناظر أن يلحظ الأمارات والعلامات إذا تعارضت، فما ترجح منها قضى بجانب الترجيح، وهي قوة التهمة، ولا خلاف في الحكم بها، قاله ابن العربي. اه كلام القرطبي.
واختلف العلماء في الشاهد في قوله: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا}.
فقال بعض العلماء: هو صبي في المهد، وممن قال ذلك ابن عباس، والضحاك، وسعيد بن جبير.
وعن ابن عباس أيضًا- أنه رجل ذو لحية، ونحوه الحسن.
وعن زيد بن أسلم- أنه ابن عم لها كان حكيمًا، ونحوه عن قتادة وعكرمة.
وعن مجاهد- أنه ليس بأنس ولا جان، هو خلق من خلق الله.
قال مقيده- عفا الله عنه:
قول مجاهد هذا يرده قوله تعالى: {من أهلها}، لأنه صريح في أنه إنسي من أهل المرأة. وأظهر الأقوال: أنه صبي، لما رواه أحمد، وابن جرير، والبيهقي في الدلائل، عن ابن عباس رضي الله عنهما، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: «تكلم أربعة وهم صغار: ابن ماشطة فرعون، وشاهد يوسف، وصاحب جريج، وعيسى ابن مريم» اه.
قوله تعالى: {إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ}.
هذه الآية الكريمة إذا ضمت، لها آية أخرى حصل بذلك بيان أن كيد النساء أعظم من كيد الشيطان، والآية المذكورة هي قوله: {إِنَّ كَيْدَ الشيطان كَانَ ضَعِيفًا} [النساء: 76] لأن قوله في النساء: {إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} [يوسف: 28]، وقوله في الشيطان: {إِنَّ كَيْدَ الشيطان كَانَ ضَعِيفًا} [النساء: 76] يدل على أن كيدهن أعظم من كيده.
قال القرطبي: قال مقاتل عن يحيى بن أبي كثير، عن ابي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن كيد النساء أعظم من كيد الشيطان. لأن الله تعالى يقول: {إِنَّ كَيْدَ الشيطان كَانَ ضَعِيفًا}. وقال إن: {إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ}» اه.
وقال الأديب الحسن بن أيه الحسني الشنقيطي:
ما استعظم الإله كيدهنه ** إلا لأنهن هن هنه.

اهـ.

.قال الشعراوي:

{قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي}
وتأتي كلمة {شاهد} في القرآن بمعانٍ متعددة.
فهي مرَّة تكون بمعنى حضر، مثل قول الحق سبحانه: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ المؤمنين} [النور: 2].
وتأتي مرَّة بمعنى علم، مثل قوله سبحانه: {وَمَا شَهِدْنَا إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا} [يوسف: 81].
وتأتي {شهد} بمعنى حكم وقضى أي: رجَّح كلامًا على كلام لاستنباط حق في أحد الاتجاهين. والشاهد في هذه الحالة وَثّق القرآنُ أن قرابته من ناحية المحكوم عليه، وهو امرأة العزيز، فلو كان من طرف المحكوم له لَرُدَّتْ شهادته.
وهكذا صار الموقف رباعيًا: امرأة العزيز، ويوسف، وعزيز مصر، والشاهد، وحملت الآية نصف قول الشاهد: {إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ} [يوسف: 26].
لأن معنى هذا والواقع لم يكن كذلك أن يوسف عليه السلام وهو مَنْ أقبل عليها؛ تدلَّى منه ثوبه على الأرض، فتعثر فيه، فتمزَّق القميص. ويتابع الله قول الشاهد: {وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ..}.
أي: أن قميص يوسف عليه السلام إن كان قُدَّ من الخلف؛ فيوسف صادق، وامرأة العزيز كاذبة.
ونلحظ أن الشاهد هنا قال هذا الرأي قبل أن يشاهد القميص؛ بل وضع في كلماته الأساس الذي سينظر به إلى الأمر، وهو إطار دليل الإثبات.
وهذا ما تشرحه الآية التالية، فيقول سبحانه: {فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ...}.
وقول الحق سبحانه عن الشاهد القاضى: {فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ...} [يوسف: 28]، يدلُّ على أنه رتّب الحكم قبل أن يرى القميص، وقرر المبدأ أولًا في غيبة رؤية القميص، ثم رآه بعدها، وهكذا جعل الحيثية الغائبة هي الحكم في القضية الشاغلة.
لذلك تابع قوله بما يدين امرأة العزيز: {قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} [يوسف: 28].
والكيد كما نعلم هو الاحتيال على إيقاع السوء بخفاء، ويقوم به مَنْ لا يملك القدرة على المواجهة، وكَيْد المرأة عظيم؛ لأن ضعفها أعظم.
وتعود آيات السورة بعد ذلك إلى موقف عزيز مصر، فيقول الحق سبحانه ما جاء على لسان الزوج: {يُوسُفُ أَعْرِضْ...}.
وبهذا القول من الزوج أنهى الحقُّ سبحانه هذا الموقف الرُّباعي عند هذا الحد، الذي جعل عزيز مصر يُقِرُّ أن امرأته قد أخطأت، ويطلب من يوسف أن يعرض عن هذا الأمر لِيَكتمه.
وهذا يبين لنا سياسة بعض أهل الجاه مع بيوتهم، وهو أمر نشاهده في عصرنا أيضًا؛ فنجد الرجل ذا الجاه وهو يتأبَّى أن يرى أهله في خطيئة، ويتأبى أكثر من ذلك فيرفض أن يرى الغيرُ أهله في مثل هذه القضية، ويحاول كتمان الأمر في نفسه؛ فيكفيه ما حدث له من مهانة الموقف، ولا يريد أن يشمتَ به خصومه أو أعداؤه.
وهنا مَلْحظ يجب أن نتوقف عنده، وهو قضية الإيمان، وهي لا تزال متغلغلة حتى في المنحرفين والمتسترين على المنحرفين، فعزيز مصر يقول ليوسف: {أَعْرِضْ عَنْ هذا...} [يوسف: 29].
ويقول لزوجته: {واستغفري لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الخاطئين} [يوسف: 29].
وهو في قوله هذا يُقِرُّ بأن ذنبًا قد وقع؛ وهو لن يُقِرَّ بذلك إلا إذا كان قد عرف عن الله منهجًا سماويًا، وهو في موقف لاَ يسعه فيه إلا أن يطلب منها أن تستغفر الله.
وبعد أن كان المشهد رباعيًا: فيه يوسف، وامرأة العزيز، والعزيز نفسه، ثم الشاهد الذي فحص القضية وحكم فيها، ينتقل بنا الحق سبحانه إلى موقف أوسع؛ وهو دائرة المجتمع الذي وقعتْ فيه القضية.
وهذا يدل على أن القصور لا أسرار لها؛ لأن لأسرار القصور عيونًا تتعسس عليها، وألسنة تتكلم بها؛ حتى لا يظن ظان أنه يستطيع أن يحمي نفسه من الجريمة؛ لأن هناك مَنْ سوف يكشفها مهما بلغتْ قدرة صاحبها على التستُّر والكتمان.
وقد تلصص البعض من خدم القصر؛ إلى أن صارت الحكاية على ألسنة النسوة. اهـ.

.قال أبو حيان في الآيات:

{وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ}
قد الثوب: شقه.
السيد فيعل من ساد يسود، يطلق على المالك، وعلى رئيس القوم.
وفيعل بناء مختص بالمعتل، وشذ بيئس وصيقل اسم امرأة.
السجن: الحبس.
{واستبقا الباب وقدت قميصه من دبر وألفيا سيدها لدى الباب قالت ما جزاء من أراد بأهلك سوءًا إلا أن يسجن أو عذاب أليم قال هي راودتني عن نفسي وشهد شاهد من أهلها إن كان قميصه قدّ من قبل فصدقت وهو من الكاذبين وإن كان قميصه قدّ من دبر فكذبت وهو من الصادقين فلما رأى قميصه قدّ من دبر قال إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم يوسف أعرض عن هذا واستغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين}: أي واستبق يوسف وامرأة العزيز إلى الباب هذا للخروج والهروب منها، وهذه لمنعه ومراودته.
وأصل استبق أن يتعدى بإلى، فحذف اتساعًا.
وتقدم أنّ الأبواب سبعة، فكان تنفتح له الأبواب بابًا بابًا من غير مفتاح، على ما نقل عن كعب أن فراش القفل كان يتناثر ويسقط، حتى خرج من الأبواب.
ويحتمل أن تكون الأبواب المغلقة ليست على الترتيب بابًا فبابًا، بل تكون في جهات مختلفة كلها منافذ للمكان الذي كانا فيه، فاستبقا إلى باب يخرج منه.
ولا يكون السابع على الترتيب، بل أحدها.
وقدت يحتمل أن يكون معطوفًا على واستبقا، ويحتمل أن يكون حالًا أي: وقد قدّت جذبته من خلفه بأعلى القميص من طوقه، فانخرق إلى أسفله.
والقدّ: القطع والشق، وأكثر استعماله فيما كان طولًا قال:
تقدّ السلوقي المضاعف نسجه ** وتوقد بالصفاح نار الحباحب

والقط: يستعمل فيما كان عرضًا، وقال المفضل بن حرب: رأيت في مصحف قط من دبر أي شق.
قال يعقوب: الشق في الجلد في الصحيح، والثوب الصحيح.
وقال ابن عطية: وقرأت فرقة قط.
وألفيا سيدها أي: وجد أو صادفا زوجها وهو قطفير.
والمرأة تقول لبعلها: سيدي، ولم يضف إليهما، لأن قطفير ليس سيد يوسف على الحقيقة.
ويقال: ألفاه ووارطه وصادفه ووالطه ولاظه، كله بمعنى واحد.
قيل: ألفياه مقبلًا يريد أن يدخل، وقيل: مع ابن عم المرأة.
وفي الكلام حذف تقديره: فرابه أمرهما وقال: ما لكما؟ فلما سأل وقد خافت لومه، أو سبق يوسف بالقول، بادرت أن جاءت بحيلة جمعت فيها بين تبرئة ساحتها من الريبة، وغضبها على يوسف وتخويفه طمعًا في مواقعتها خيفة من مكرها، كرهًا لما آيست أن يواقعها طوعًا ألا ترى إلى قولها: ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن؟ ولم تصرح باسم يوسف، بل أتت بلفظ عام وهو قولها: ما جزاء من أراد، وهو أبلغ في التخويف.
وما الظاهر أنها نافية، ويجوز أن تكون استفهامية أي: أيّ شيء جزاؤه إلا السجن؟ وبدأت بالسجن إبقاء على محبوبها، ثم ترقت إلى العذاب الأليم، قيل: وهو الضرب بالسوط.
وقولها: ما جزاء أي: إن الذنب ثابت متقرر في حقه، وأتت بلفظ بسوء أي: بما يسوء، وليس نصًا في معصية كبرى، إذ يحتمل خطابه لها بما يسوؤها، أو ضربه إياها.
وقوله: إلا أن يسجن أو عذاب، يدل على عظم موقع السجن من ذوي الأقدار حيث قرنته بالعذاب الأليم.
وقرأ زيد بن علي: {أو عذابًا أليمًا} وقدره الكسائي أو يعذب عذابًا أليمًا.
ولما أغرت بيوسف وأظهرت تهمته احتاج إلى إزالة التهمة عن نفسه فقال: هي راودتني عن نفسي، ولم يسبق إلى القول أولًا سترًا عليها، فلما خاف على نفسه وعلى عرضه الطاهر قال: هي، وأتى بضمير الغيبة، إذ كان غلب عليه الحياء أن يشير إليها ويعينها بالإشارة فيقول: هذه راودتني، أو تلك راودتني، لأن في المواجهة بالقبيح ما ليس في الغيبة.
ولما تعارض قولاهما عند العزيز وكان رجلًا فيه إناءة ونصفة، طلب الشاهد من كل منهما، فشهد شاهد من أهلها.
فقال أبو هريرة، وابن عباس، والحسن، وابن جبير، وهلال بن يساف، والضحاك: كان ابن خالتها طفلًا في المهد أنطقه الله تعالى ليكون أدل على الحجة.
وروي في الحديث: «أنه من الصغار الذين تكلموا في المهد» وأسنده الطبري.
وفي صحيح البخاري وصحيح مسلم: «لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة: عيسى بن مريم، وصاحب جريج، وابن السوداء» وقيل: كان ابن عمها الذي كان مع زوجها لدى الباب، ولا ينافي هذا قول قتادة، كان رجلًا حليمًا من أهلها ذا رأي يأخذ الملك برأيه ويستشيره.