فصل: (سورة يوسف: الآيات 5- 6)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقرئ: {إنى رأي} ت، بتحريك الياء. و{أحد عشر}: بسكون العين، تخفيفا لتوالى المتحركات فيما هو في حتم اسم واحد، وكذا إلى تسعة عشر، إلا اثنى عشر، لئلا يلتقى ساكنا، ورأيت من الرؤيا، لا من الرؤية، لأنَّ ما ذكره معلوم أنه منام، لأنّ الشمس والقمر لو اجتمعا مع الكواكب ساجدة ليوسف في حال اليقظة، لكانت آية عظيمة ليعقوب عليه السلام، ولما خفيت عليه وعلى الناس. فإن قلت: ما أسماء تلك الكواكب؟ قلت: روى جابر أنّ يهوديًا جاء إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال: يا محمد، أخبرنى عن النجوم التي رآهنّ يوسف، فسكت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: فنزل جبريل عليه السلام فأخبره بذلك، فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم لليهودي «إن أخبرتك هل تسلم»؟ قال: نعم. قال: «جريان، والطارق، والذيال، وقابس، وعمودان، والفليق، والمصبح، والضروح، والفرغ. ووثاب، وذو الكتفين.
رآها يوسف والشمس والقمر نزلن من السماء وسجدن له»
فقال. اليهودي: إي واللّه، إنها لأسماؤها. وقيل: الشمس والقمر أبواه. وقيل: أبوه وخالته: والكواكب. إخوته. وعن وهب أنّ يوسف رأى وهو ابن سبع سنين أنّ إحدى عشرة عصا طوالا كانت مركوزة في الأرض كهيئة الدارة، وإذا عصا صغير تثب عليها حتى اقتلعتها وغلبتها، فوصف ذلك لأبيه فقال: إياك أن تذكر هذا لإخوتك، ثم رأى وهو ابن ثنتى عشرة سنة الشمس والقمر والكواكب تسجد له، فقصها على أبيه فقال له: لا تقصها عليهم، فيبغوا لك الغوائل. وقيل: كان بين رؤيا يوسف ومصير إخوته إليه أربعون سنة. وقيل: ثمانون. فإن قلت لم أخر الشمس والقمر؟ قلت: أخرهما ليعطفهما على الكواكب على طريق الاختصاص، بيانًا لفضلهما واستبدادهما بالمزية على عيرهما من الطوالع، كما أخر جبريل وميكائيل عن الملائكة، ثم عطفهما عليها لذلك، ويجوز أن تكون الواو بمعنى مع، أي: رأيت الكواكب مع الشمس والقمر. فإن قلت: ما معنى تكرار رأيت قلت: ليس بتكرار، إنما هو كلام مستأنف على تقدير سؤال وقع جوابًا له، كأن يعقوب عليه السلام قال له عند قوله: {إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا} كيف رأيتها سائلا عن حال رؤيتها؟ فقال: {رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ}. فإن قلت. فلم أجريت مجرى العقلاء في رأيتهم لي ساجدين؟ قلت: لأنه لما وصفها بما هو خاص بالعقلاء وهو السجود. أجرى عليها حكمهم، كأنها عاقلة، وهذا كثير شائع في كلامهم، أن يلابس الشيء الشيء من بعض الوجوه، فيعطى حكما من أحكامه إظهارًا لأثر الملابسة والمقاربة.

.[سورة يوسف: الآيات 5- 6]

{قالَ يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (5) وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (6)}
عرف يعقوب عليه السلام دلالة الرؤيا على أن يوسف يبلغه اللّه مبلغًا من الحكمة، ويصطفيه للنبوّة، وينعم عليه بشرف الدارين، كما فعل بآبائه، فخاف عليه حسد الإخوة وبغيهم.
والرؤيا بمعنى الرؤية، إلا أنها مختصة بما كان منها في المنام دون اليقظة، فرق بينهما بحرفى التأنيث كما قيل: القربة والقربى. وقرئ: {روياك} بقلب الهمزة واوًا. وسمع الكسائي: رُيَّاك ورِيَّاك، بالإدغام وضم الراء وكسرها، وهي ضعيفة، لأنّ الواو في تقدير الهمزة فلا يقوى إدغامها كما لم يقو الإدغام في قولهم اتزر من الإزار، واتجر من الأجر {فَيَكِيدُوا} منصوب بإضمار أن والمعنى: إن قصصتها عليهم كادوك: فإن قلت: هلا قيل: فيكيدوك، كما قيل: فكيدوني؟ قلت: ضمن معنى فعل يتعدى باللام، ليفيد معنى فعل الكيد، مع إفادة معنى الفعل المضمن، فيكون آكد وأبلغ في التخويف، وذلك نحو: فيحتالوا لك. ألا ترى إلى تأكيده بالمصدر {عَدُوٌّ مُبِينٌ} ظاهر العداوة لما فعل بآدم وحواء، ولقوله: {لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} فهو يحمل على الكيد والمكر وكل شرّ، ليورّط من يحمله، ولا يؤمن أن يحملهم على مثله {وَكَذلِكَ} ومثل ذلك الاجتباء {يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ} يعنى وكما اجتباك لمثل هذه الرؤيا العظيمة الدالة على شرف وعز وكبرياء شأن، كذلك يجتبيك ربك لأمور عظام.
وقوله: {وَيُعَلِّمُكَ} كلام مبتدأ غير داخل في حكم التشبيه، كأنه قيل: وهو يعلمك ويتمّ نعمته عليك. والاجتباء. الاصطفاء، افتعال من جبيت الشيء إذا حصلته لنفسك، وجبيت الماء في الحوض: جمعته. والأحاديث: الرؤيا: لأنّ الرؤيا إمّا حديث نفس أو ملك أو شيطان.
وتأويلها. عبارتها وتفسيرها، وكان يوسف عليه السلام أعبر الناس للرؤيا، وأصحهم عبارة لها. ويجوز أن يراد بتأويل الأحاديث معاني كتب اللّه وسنن الأنبياء، وما غمض واشتبه على الناس من أغراضها ومقاصدها، يفسرها لهم ويشرحها ويدلهم على مودعات حكمها. وسميت أحاديث، لأنه يحدث بها عن اللّه ورسله، فيقال: قال اللّه وقال الرسول كذا وكذا. ألا ترى إلى قوله تعالى: {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ}، {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ} وهو اسم جمع للحديث وليس بجمع أحدوثة. ومعنى إتمام النعمة عليهم أنه وصل لهم نعمة الدنيا بنعمة الآخرة، بأن جعلهم أنبياء في الدنيا وملوكا. ونقلهم عنها إلى الدرجات العلا في الجنة. وقيل: أتمها على إبراهيم بالخلة، والإنجاء من النار، ومن ذبح الولد.
وعلى إسحاق بإنجائه من الذبح، وفدائه بذبح عظيم، وبإخراج يعقوب والأسباط من صلبه. وقيل: علم يعقوب أنّ يوسف يكون نبيًا وإخوته أنبياء استدلالا بضوء الكواكب، فلذلك قال: {وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ} وقيل: لما بلغت الرؤيا إخوة يوسف حسدوه وقالوا: ما رضى أن سجد له إخوته حتى سجد له أبواه. وقيل: كان يعقوب مؤثرا له بزيادة المحبة والشفقة لصغره، ولما يرى فيه من المخايل. وكان إخوته يحسدونه، فلما رأى الرؤيا ضاعف له المحبة، فكان يضمه كل ساعة إلى صدره ولا يصبر عنه، فتبالغ فيهم الحسد. وقيل: لما قص رؤياه على يعقوب قال: هذا أمر مشتت يجمع اللّه لك بعد دهر طويل. وآل يعقوب: أهله وهم نسله وغيرهم. وأصل آل: أهل، بدليل تصغيره على أُهَيل، إلا أنه لا يستعمل إلا فيمن له خطر. يقال: آل النبي، وآل الملك. ولا يقال: آل الحائك، ولا آل الحجام، ولكن أهلهما. وأراد بالأبوين: الجد، وأبا الجد، لأنهما في حكم الأب في الأصالة. ومن ثم يقولون: ابن فلان، وإن كان بينه وبين فلان عدّة. {وإِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ} عطف بيان لأبويك {إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ} يعلم من يحق له الاجتباء {حَكِيمٌ} لا يتم نعمته إلا على من يستحقها.

.[سورة يوسف: آية 7]

{لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ (7)}
{فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ} أي في قصتهم وحديثهم آياتٌ علامات ودلائل على قدرة اللّه وحكمته في كل شيء {لِلسَّائِلِينَ} لمن سأل عن قصتهم وعرفها. وقيل آيات على نبوّة محمد صلى اللّه عليه وسلم للذين سألوه من اليهود عنها، فأخبرهم بالصحة من غير سماع من أحد ولا قراءة كتاب.
وقرئ: {آية} وفي بعض المصاحف: {عبرة}. وقيل: إنما قص اللّه تعالى على النبي عليه الصلاة والسلام خبر يوسف وبغى إخوته عليه، لما رأى من بغى قومه عليه ليتأسى به. وقيل أساميهم: يهوذا: وروبيل، وشمعون، ولاوى، وربالون، ويشجر، ودينة، ودان، ونفتالى، وجاد، وآشر: السبعة الأولون كانوا من ليا بنت خالة يعقوب، والأربعة الآخرون من سريتين: زلفة، وبلهة: فلما توفيت ليا تزوج أختها راحيل، فولدت له بنيامين ويوسف.

.[سورة يوسف: آية 8]

{إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (8)}
{لَيُوسُفُ} اللام للابتداء. وفيها تأكيد وتحقيق لمضمون الجملة. أرادوا أنّ زيادة محبته لهما أمر ثابت لا شبهة فيه {وَأَخُوهُ} هو بنيامين. وإنما قالوا أخوه وهم جميعًا إخوته، لأنّ أمّهما كانت واحدة. وقيل {أَحَبُّ} في الاثنين، لأن أفعل من لا يفرّق فيه بين الواحد وما فوقه، ولا بين المذكر والمؤنث إذا كان معه من ولابد من الفرق مع لام التعريف، وإذا أضيف جاز الأمران. والواو في {وَنَحْنُ عُصْبَةٌ} واو الحال. يعنى: أنه يفضلهما في المحبة علينا، وهما اثنان صغيران لا كفاية فيهما ولا منفعة، ونحن جماعة عشرة رجال كفأة نقوم بمرافقه، فنحن أحقّ بزيادة المحبة منهما، لفضلنا بالكثرة والمنفعة عليهما {إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} أي في ذهاب عن طريق الصواب في ذلك. والعصبة والعصابة: العشرة فصاعدًا. وقيل: إلى الأربعين، سموا بذلك لأنهم جماعة تعصب بهم الأمور ويستكفون النوائب. وروى النزال بن سبرة عن علىّ رضى اللّه عنه: ونحن عصبة، بالنصب. وقيل: معناه ونحن نجتمع عصبة. وعن ابن الأنبارى هذا كما تقول العرب، إنما العامري عمته، أي يتعهد عمته.

.[سورة يوسف: آية 9]

{اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صالِحِينَ (9)}
{اقْتُلُوا يُوسُفَ} من جملة ما حكى بعد قوله: إذ قالوا، كأنهم أطبقوا على ذلك إلا من قال: {لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ} وقيل: الآمر بالقتل شمعون، وقيل: دان، والباقين كانوا راضين، فجعلوا آمرين {أَرْضًا} أرضًا منكورة مجهولة بعيدة من العمران، وهو معنى تنكيرها وإخلائها من الوصف، ولإبهامها من هذا الوجه نصبت نصب الظروف المبهمة {يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ} يقبل عليكم إقبالة واحدة لا يلتفت عنكم إلى غيركم. والمراد: سلامة محبته لهم ممن يشاركهم فيها وينازعهم إياها، فكان ذكر الوجه لتصوير معنى إقباله عليهم، لأنّ الرجل إذا أقبل على الشيء أقبل بوجهه. ويجوز أن يراد بالوجه الذات، كما قال تعالى: {وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ} وقيل {يَخْلُ لَكُمْ} يفرغ لكم من الشغل بيوسف مِنْ بَعْدِهِ من بعد يوسف، أي من بعد كفايته بالقتل أو التغريب، أو يرجع الضمير إلى مصدر اقتلوا أو اطرحوا {قَوْمًا صالِحِينَ} تائبين إلى اللّه مما جنيتم عليه.
أو يصلح ما بينكم وبين أبيكم بعذر تمهدونه. أو تصلح دنياكم وتنتظم أموركم بعده بخلوّ وجه أبيكم. {وتَكُونُوا} إمّا مجزوم عطفًا على {يَخْلُ لَكُمْ} أو منصوب بإضمار أن والواو بمعنى مع، كقوله: {وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ}.

.[سورة يوسف: آية 10]

{قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (10)}
{قائِلٌ مِنْهُمْ} هو يهوذا، وكان أحسنهم فيه رأيا. وهو الذي قال، فلن أبرح الأرض.
قال لهم: القتل عظيم {أَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ} وهي غوره وما غاب منه عن عين الناظر وأظلم من أسفله. قال المنخل:
وَإنْ أنَا يَوْمًا غَيَّبَتْنِى غَيَابَتِى ** فَسِيرُوا بِسَيْرِى في الْعَشِيرَةِ وَالأَهْلِ

أراد غيابة حفرته التي يدفن فيها. وقرئ: {غيابات}، على الجمع. و{غيابات}، بالتشديد. وقرأ الجحدري: {غيبة}. و{الجب}: البئر لم تطو، لأن الأرض تجبّ جبًا لا غير {يَلْتَقِطْهُ} يأخذه بعض السيارة بعض الأقوام الذين يسيرون في الطريق. وقرئ: {تلتقطه}. بالتاء على المعنى، لأنّ بعض السيارة سيارة، كقوله:
كَمَا شَرِقَتْ صَدْرُ الْقَنَاةِ مِنَ الدَّمِ

ومنه: ذهبت بعض أصابعه إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ إن كنتم على أن تفعلوا ما يحصل به غرضكم، فهذا هو الرأى.

.[سورة يوسف: الآيات 11- 12]

{قالُوا يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ (11) أَرْسِلْهُ مَعَنا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (12)}
{ما لَكَ لا تَأْمَنَّا} قرئ بإظهار النونين، وبالإدغام بإشمام وبغير إشمام. و: {تيمنا} بكسر التاء مع الإدغام. والمعنى: لم تخافنا عليه ونحن نريد له الخير ونحبه ونشفق عليه؟ وما وجد منا في بابه ما يدل على خلاف النصيحة والمقة وأرادوا بذلك لما عزموا على كيد يوسف استنزاله عن رأيه وعاد به في حفظه منهم. وفيه دليل على أنه أحسّ منهم بما أوجب أن لا يأمنهم عليه {يَرْتَعْ} نتسع في أكل الفواكه وغيرها. وأصل الرتعة: الخصب والسعة. وقرئ: {نرتع} من ارتعى يرتعى. وقرئ: {يرتع ويلعب}، بالياء، و{يرتع} من أرتع ماشيته. وقرأ العلاء بن سيابة: {يرتع} بكسر العين، {ويلعب} بالرفع على الابتداء. فإن قلت: كيف استجاز لهم يعقوب عليه السلام اللعب؟ قلت: كان لعبهم الاستباق والانتضال، ليضروا أنفسهم بما يحتاج إليه لقتال العدوّ لا للهو، بدليل قوله: {إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ} وإنما سموه لعبًا لأنه في صورته.

.[سورة يوسف: آية 13]

{قالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ (13)}
{لَيَحْزُنُنِي} اللام لام الابتداء، كقوله: {إِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ} ودخولها أحد ما ذكره سيبويه من سببى المضارعة. اعتذر إليهم بشيئين، أحدهما: أنّ ذهابهم به ومفارقته إياه مما يحزنه، لأنه كان لا يصبر عنه ساعة. والثاني: خوفه عليه من عدوة الذئب إذا غفلوا عنه برعيهم ولعبهم، أو قلّ به اهتمامهم ولم تصدق بحفظه عنايتهم. وقيل: رأى في النوم أنّ الذئب قد شدّ على يوسف فكان يحذره، فمن ثم قال ذلك فلقنهم العلة، وفي أمثالهم: البلاء موكل بالمنطق. وقرئ: {الذِّئْبُ} بالهمزة على الأصل وبالتخفيف. وقيل: اشتقاقه من تذاءبت الريح إذا أتت من كل جهة.

.[سورة يوسف: آية 14]

{قالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخاسِرُونَ (14)}
القسم محذوف تقديره: واللّه {لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ} واللام موطئة للقسم. وقوله: {إِنَّا إِذًا لَخاسِرُونَ} جواب للقسم مجزئ عن جزاء الشرط، والواو في {وَنَحْنُ عُصْبَةٌ} واو الحال: حلفوا له لئن كان ما خافه من خطفة الذئب أخاهم من بينهم- وحالهم أنهم عشرة رجال، بمثلهم تعصب الأمور وتكفى الخطوب- إنهم إذًا لقوم خاسرون، أي هالكون ضعفا وخورًا وعجزًا.
أو مستحقون أن يهلكوا لأنه لا غناء عندهم ولا جدوى في حياتهم. أو مستحقون لأن يدعى عليهم بالخسارة والدّمار، وأن يقال: خسرهم اللّه ودمّرهم حين أكل الذئب بعضهم وهم حاضرون.
وقيل: إن لم نقدر على حفظ بعضنا فقد هلكت مواشينا إذا وخسرناها. فإن قلت: قد اعتذر إليهم بعذرين، فلم أجابوا عن أحدهما دون الآخر؟ قلت: هو الذي كان يغيظهم ويذيقهم الأمرّين فأعاروه آذانًا صما ولم يعبئوا به.

.[سورة يوسف: آية 15]

{فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (15)}
{أَنْ يَجْعَلُوهُ} مفعول أَجْمَعُوا من قولك: أجمع الأمر وأزمعه {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ}.
وقرئ: {في غيابات الجب}: قيل هو بئر بيت المقدس. وقيل: بأرض الأردنّ. وقيل: بين مصر ومدين. وقيل: على ثلاثة فراسخ من منزل يعقوب. وجواب (لما) محذوف. ومعناه: فعلوا به ما فعلوا من الأذى، فقد روى أنهم لما برزوا به إلى البرّية أظهروا له العداوة وأخذوا يهنونه ويضربونه، وكلما استغاث بواحد منهم لم يغثه إلا بالإهانة والضرب، حتى كادوا يقتلونه. فجعل يصيح: يا أبتاه، لو تعلم ما يصنع بابنك أولاد الإماء، فقال يهوذا: أما أعطيتمونى موثقًا ألا تقتلوه فلما أرادوا إلقاءه في الجب تعلق بثيابهم فنزعوها من يده، فتعلق بحائط البئر فربطوا يديه ونزعوا قميصه، فقال: يا إخوتاه، ردّوا علىّ قميصي أتوارى به، وإنما نزعوه ليلطخوه بالدم ويحتالوا به على أبيهم، فقالوا له: ادع الشمس والقمر والأحد عشر كوكبا تؤنسك، ودلوه في البئر، فلما بلغ نصفها ألقوه ليموت، وكان في البئر ماء فسقط فيه، ثم أوى إلى صخرة فقام عليها وهو يبكى، فنادوه فظنّ أنها رحمة أدركتهم، فأجابهم فأرادوا أن يرضخوه ليقتلوه فمنعهم يهوذا، وكان الفقر والهرم. وفيه أيضًا: الأمر: المصارين يجتمع فيها الفرث. قال الشاعر:
فلا تهد الأمر وما يليه ** ولا تهدن معروق العظام

وقال أبو زيد: لقيت منه الأمرين، بنون الجمع: وهي الدواهي. اهـ.
(ع) يهوذا يأتيه بالطعام. ويروى أن إبراهيم عليه السلام حين ألقى في النار وجرّد عن ثيابه أتاه جبريل بقميص من حرير الجنة فألبسه إياه، فدفعه إبراهيم إلى إسحاق، وإسحاق إلى يعقوب، فجعله يعقوب في تميمة علقها في عنق يوسف، فجاء جبريل فأخرجه وألبسه إياه {وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ} قيل أُوحى إليه في الصغر كما أُوحى إلى يحيى وعيسى: وقيل كان إذ ذاك مدركا. وعن الحسن: كان له سبع عشرة سنة {لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ} هذا وإنما أُوحى اليه ليؤنس في الظلمة والوحشة، ويبشر بما يؤول إليه أَمره. ومعناه: لتتخلصن مما أَنت فيه، ولتحدّثن إخوتك بما فعلوا بك {وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} أنك يوسف لعلوّ شأنك وكبرياء سلطانك، وبعد حالك عن أَوهامهم، ولطول العهد المبدّل للهيئات والأشكال، وذلك أنهم حين دخلوا عليه ممتارين فعرفهم وهم له منكرون، دعا بالصواع فوضعه على يده، ثم نقره فطنّ فقال: إنه ليخبرني هذا الجام أَنه كان لكم أَخ من أَبيكم يقال له يوسف، وكان يدنيه دونكم، وأَنكم انطلقتم به وأَلقيتموه في غيابة الجب، وقلتم لأبيكم: أَكله الذئب، وبعتموه بثمن بخس. ويجوز أَن يتعلق {وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} بقوله: {وَأَوْحَيْنا} على أَنا آنسناه بالوحي وأزلنا عن قلبه الوحشة، وهم لا يشعرون ذلك ويحسبون أنه مرهق مستوحش لا أَنيس له. وقرئ: {لننبئنهم} بالنون على أَنه وعيد لهم. وقوله: {وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} متعلق بأوحينا لا غير.