فصل: (سورة يوسف: الآيات 16- 17)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.[سورة يوسف: الآيات 16- 17]

{وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ (16) قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ (17)}
وعن الحسن: عشيا، على تصغير عشىّ. يقال: لقيته عشيا وعشيانًا، وأصيلا وأصيلانًا ورواه ابن جنى: عشى، بضم العين والقصر. وقال عشوا من البكاء. وروى أَن امرأَة حاكمت إلى شريح فبكت، فقال له الشعبي: يا أبا أمية، أما تراها تبكى؟ فقال: قد جاء إخوة يوسف يبكون وهم ظلمة: ولا ينبغي لأحد أن يقضى إلا بما أمر أن يقضى به من السنة المرضية. وروى أَنه لما سمع صوتهم فزع وقال: ما لكم يا بنىّ؟ هل أَصابكم في غنمكم شيء؟ قالوا: لا. قال: فما لكم وأين يوسف؟ {قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ} أَي نتسابق، والافتعال والتفاعل يشتركان كالانتضال والتناضل: والارتماء والترامي، وغير ذلك. والمعنى. نتسابق في العدو أو في الرمي.
وجاء في التفسير: ننتضل {بِمُؤْمِنٍ لَنا} بمصدّق لنا {وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ} ولو كنا عندك من أهل الصدق والثقة، لشدّة محبتك ليوسف، فكيف وأنت سيئ الظن بنا، غير واثق بقولنا؟

.[سورة يوسف: آية 18]

{وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ (18)}
{بِدَمٍ كَذِبٍ} ذى كذب. أو وصف بالمصدر مبالغة، كأنه نفس الكذب وعينه، كما يقال للكذاب: هو الكذب بعينه، والزور بذاته. ونحوه:
فَهُنَّ بِهِ جُودٌ وَأنْتُمْ بِهِ بُخْلُ

وقرئ، {كذبًا}. نصبًا على الحال، بمعنى: جاءوا به كاذبين، ويجوز أن يكون مفعولا له.
وقرأت عائشة رضى اللّه عنها: {كدب} بالدال غير المعجمة، أي كدر. وقيل: طرى، وقال ابن جنى: أصله من الكدب، وهو الفوف البياض الذي يخرج على أظفار الأحداث. كأنه دم قد أثر في قميصه. روى أنهم ذبحوا سخلة ولطخوه بدمها، وزلّ عنهم أن يمزقوه.
وروى أنّ يعقوب لما سمع بخبر يوسف صاح بأعلى صوته وقال: أين القميص؟ فأخذه وألقاه على وجهه وبكى حتى خضب وجهه بدم القميص وقال: تا للّه ما رأيت كاليوم ذنبا أحلم من هذا، أكل ابني ولم يمزق عليه قميصه. وقيل كان في قميص يوسف ثلاث آيات: كان دليلا ليعقوب على كذبهم، وألقاه على وجهه فارتد بصيرًا، ودليلا على براءة يوسف حين قدّ من دبر. فإن قلت: {عَلى قَمِيصِهِ} ما محله؟ قلت: محله النصب على الظرف، كأنه قيل: وجاءوا فوق قميصه بدم كما تقول: جاء على جماله بأحمال. فإن قلت: هل يجوز أن تكون حالا متقدمة؟ قلت: لا، لأنّ حال المجرور لا تتقدم عليه {سَوَّلَتْ} سهلت من السول وهو الاسترخاء، أي: سهلت {لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا} عظيما ارتكبتموه من يوسف وهوّنته في أعينكم: استدل على فعلهم به بما كان يعرف من حسدهم وبسلامة القميص. أو أُوحى إليه بأنهم قصدوه {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} خبر أو مبتدأ، لكونه موصوفا أي فأمرى صبر جميل، أو فصبر جميل أمثل. وفي قراءة أبىّ: {فصبرًا جميلا}. والصبر الجميل جاء في الحديث المرفوع «أنه الذي لا شكوى فيه إلى الخلق» ألا ترى إلى قوله: {إنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ}.
وقيل: لا أعايشكم على كآبة الوجه، بل أكون لكم كما كنت. وقيل: سقط حاجبا يعقوب على عينيه فكان يرفعهما بعصابة، فقيل له: ما هذا؟ فقال: طول الزمان وكثرة الأحزان. فأوحى اللّه تعالى إليه: يا يعقوب أتشكوني؟ قال: يا رب. خطيئة فاغفرها لي {وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ} أي أستعينه عَلى احتمال ما تَصِفُونَ من هلاك يوسف والصبر على الرزء فيه.

.[سورة يوسف: آية 19]

{وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ فَأَدْلى دَلْوَهُ قالَ يا بُشْرى هذا غُلامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ (19)}
{وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ} رفقة تسير من قبل مدين إلى مصر، وذلك بعد ثلاثة أيام من إلقاء يوسف في الجب، فأخطئوا الطريق فنزلوا قريبًا منه، وكان الجب في قفرة بعيدة من العمران لم يكن إلا للرعاة. وقيل: كان ماؤها ملحًا. فعذب حين ألقى فيه يوسف {فَأَرْسَلُوا} رجلا يقال له مالك ابن ذعر الخزاعي، ليطلب لهم الماء. والوارد: الذي يرد الماء ليستقى للقوم {يا بُشْرى} نادى البشرى، كأنه يقول: تعالى، فهذا من آونتك. وقرئ: {يا بشراي}، على إضافتها إلى نفسه. وفي قراءة الحسن وغيره: {يا بشرى}، بالياء مكان الألف، جعلت الياء بمنزلة الكسرة قبل ياء الإضافة، وهي لغة للعرب مشهورة سمعت أهل السروات يقولون في دعائهم: يا سيدي ومولىّ. وعن نافع: {يا بشراى} بالسكون، وليس بالوجه لما فيه من التقاء الساكنين على غير حدّه، إلا أن يقصد الوقف. وقيل: لما أدلى دلوه أي أرسلها في الجب تعلق يوسف بالحبل، فلما خرج إذا هو بغلام أحسن ما يكون، فقال: يا بشراى {هذا غُلامٌ} وقيل: ذهب به، فلما دنا من أصحابه صاح بذلك يبشرهم به {وَأَسَرُّوهُ} الضمير للوارد وأصحابه: أخفوه من الرفقة. وقيل: أخفوا أمره ووجدانهم له في الجب، وقالوا لهم: دفعه إلينا أهل الماء لنبيعه لهم بمصر. وعن ابن عباس أنّ الضمير لإخوة يوسف، وأنهم قالوا للرفقة هذا غلام لنا قد أبق فاشتروه منا، وسكت يوسف مخافة أن يقتلوه. و{بِضاعَةً} نصب على الحال، أي: أخفوه متاعا للتجارة. والبضاعة: ما بضع من المال للتجارة، أي قطع {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ} لم يخف عليه أسرارهم، وهو وعيد لهم حيث استبضعوا ما ليس لهم. أو: واللّه عليم بما يعمل إخوة يوسف بأبيهم وأخيهم من سوء الصنيع.

.[سورة يوسف: آية 20]

{وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (20)}
{وَشَرَوْهُ} وباعوه {بِثَمَنٍ بَخْسٍ} مبخوس ناقص عن القيامة نقصانًا ظاهرًا، أو زيف ناقص العيار {دَراهِمَ} لا دنانير {مَعْدُودَةٍ} قليلة تعدّ عدًّا ولا توزن، لأنهم كانوا لا يزنون إلا ما بلغ الأوقيه وهي الأربعون، ويعدّون ما دونها. وقيل للقليلة معدودة، لأنّ الكثيرة يمتنع من عدّها لكثرتها. وعن ابن عباس: كانت عشرين درهمًا. وعن السدى: اثنين وعشرين {وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ} ممن يرغب عما في يده فيبيعه بما طف من الثمن لأنهم التقطوه، والملتقط للشيء متهاون به لا يبالى بم باعه، ولأنه يخاف أن يعرض له مستحق ينتزعه من يده فيبيعه من أوّل مساوم بأوكس الثمن. ويجوز أن يكون معنى: {وَشَرَوْهُ} واشتروه، يعنى الرفقة من إخوته {وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ} لأنهم اعتقدوا أنه آبق فخافوا أن يخطروا بما لهم فيه.
ويروى أنّ إخوته اتبعوهم يقولون لهم: استوثقوا منه لا يأبق. وقوله: {فِيهِ} ليس من صلة {الزَّاهِدِينَ} لأنّ الصلة لا تتقدّم على الموصول. ألا تراك لا تقول: وكانوا زيدا من الضاربين، وإنما هو بيان، كأنه قيل: في أي شيء زهدوا؟ فقال: زهدوا فيه.

.[سورة يوسف: آية 21]

{وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ لامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْواهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (21)}
{الَّذِي اشْتَراهُ} قيل هو قطفير أو أطفير، وهو العزيز الذي كان على خزائن مصر، والملك يومئذ الريان بن الوليد رجل من العماليق، وقد آمن بيوسف ومات في حياة يوسف، فملك بعده قابوس بن مصعب، فدعاه يوسف إلى الإسلام فأبى، واشتراه العزيز وهو ابن سبع عشرة سنة، وقام في منزله ثلاث عشرة سنة، واستوزره ريان بن الوليد وهو ابن ثلاثين سنة، وآتاه اللّه العلم والحكمة وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة، وتوفى وهو ابن مائة وعشرين سنة. وقيل: كان الملك في أيامه فرعون موسى، عاش أربعمائة سنة بدليل قوله: {وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ} وقيل: فرعون موسى من أولاد فرعون يوسف. وقيل: اشتراه العزيز بعشرين دينارًا وزوجي نعل وثوبين أبيضين. وقيل: أدخلوه السوق يعرضونه فترافعوا في ثمنه، حتى بلغ ثمنه وزنه مسكا وورقا وحريرًا، فابتاعه قطفير بذلك المبلغ {أَكْرِمِي مَثْواهُ} اجعلي منزله ومقامه عندنا كريمًا، أي حسنًا مرضيًا، بدليل قوله: {إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ} والمراد تفقديه بالإحسان وتعهديه بحسن الملكة، حتى تكون نفسه طيبة في صحبتنا، ساكنة في كنفنا. ويقال للرجل: كيف أبو مثواك وأم مثواك لمن ينزل به من رجل أو امرأة، يراد: هل تطيب نفسك بثوائك عنده، وهل يراعى حق نزولك به. واللام في {لِامْرَأَتِهِ} متعلقة بقال، لا باشتراه {عَسى أَنْ يَنْفَعَنا} لعله إذا تدرّب وراض الأمور وفهم مجاريها، نستظهر به على بعض ما نحن بسبيله، فينفعنا فيه بكفايته وأمانته. أو نتبناه ونقيمه مقام الولد، وكان قطفير عقيما لا يولد له، وقد تفرس فيه الرشد فقال ذلك. وقيل: أفرس الناس ثلاثة: العزيز حين تفرس في يوسف، فقال لامرأته: {أَكْرِمِي مَثْواهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا} والمرأة التي أتت موسى وقالت لأبيها: {يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ} وأبو بكر حين استخلف عمر رضي اللّه عنهما. وروى أنه سأله عن نفسه، فأخبره بنسبه فعرفه وَكَذلِكَ الإشارة إلى ما تقدّم من إنجائه وعطف قلب العزيز عليه، والكاف منصوب تقديره: ومثل ذلك الإنجاء والعطف مَكَّنَّا له، أي: كما أنجيناه وعطفنا عليه العزيز، كذلك مكنا له في أرض مصر وجعلناه ملكا يتصرف فيها بأمره ونهيه {وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ} كان ذلك الإنجاء والتمكين لأنّ غرضنا ليس إلا ما تحمد عاقبته من علم وعمل {وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ} على أمر نفسه: لا يمنع عما يشاء ولا ينازع ما يريد ويقضى. أو على أمر يوسف يدبره لا يكله إلى غيره، قد أراد إخوته به ما أرادوا، ولم يكن إلا ما أراد اللّه ودبره {وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} أن الأمر كله بيد اللّه.

.[سورة يوسف: آية 22]

{وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (22)}
قيل في الأشدّ: ثماني عشرة، وعشرون، وثلاث وثلاثون، وأربعون. وقيل: أقصاه ثنتان وستون حُكْمًا حكمة وهو العلم بالعمل واجتناب ما يجهل فيه. وقيل: حكما بين الناس وفقها {وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} تنبيه على أنه كان محسنًا في عمله، متقيًا في عنفوان أمره، وأنّ اللّه آتاه الحكم والعلم جزاء على إحسانه.
وعن الحسن: من أحسن عبادة ربه في شبيبته آتاه اللّه الحكمة في اكتهاله.

.[سورة يوسف: آية 23]

{وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ قالَ مَعاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23)}
المراودة: مفاعلة، من راد يرود إذا جاء وذهب، كأن المعنى: خادعته عن نفسه، أي: فعلت ما يفعل المخادع لصاحبه عن الشيء الذي لا يريد أن يخرجه من يده، يحتال أن يغلبه عليه ويأخذه منه، وهي عبارة عن التحمل لمواقعته إياها {وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ} قيل: كانت سبعة.
وقرئ: {هَيْتَ} بفتح الهاء وكسرها مع فتح التاء، وبناؤه كبناء أين، وعيط. و{هيت} كجير وهيت كحيث. و{هئت} بمعنى تهيأت. يقال: هاء يهيء، كجاء يجيء: إذا تهيأ. و{هيئت لك}. واللام من صلة الفعل. وأما في الأصوات فللبيان كأنه قيل: لك أقول هذا، كما تقول: هلم لك {مَعاذَ اللَّهِ} أعوذ باللّه معاذًا {إِنَّهُ} إن الشأن والحديث {رَبِّي} سيدي ومالكى، يريد قطفير {أَحْسَنَ مَثْوايَ} حين قال لك أكرمى مثواه، فما جزاؤه أن أخلفه في أهله سوء الخلافة وأخونه فيهم {إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} الذين يجازون الحسن بالسيئ. وقيل: أراد الزناة لأنهم ظالمون أنفسهم.
وقيل: أراد اللّه تعالى، لأنه مسبب الأسباب.

.[سورة يوسف: آية 24]

{وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24)}
همّ بالأمر إذا قصده وعزم عليه. قال:
هَمَمْتُ وَلَمْ أفْعَلْ وَكِدْتُ وَلَيْتَنِى ** تَرَكْتُ عَلَى عُثْمانَ تَبْكى حَلَائِلُهْ

ومنه قولك: لا أفعل ذلك ولا كيدًا ولا هما. أي ولا أكاد أن أفعله كيدًا، ولا أهم بفعله همًا، حكاه سيبويه، ومنه: الهمام وهو الذي إذا همّ بأمر أمضاه ولم ينكل عنه. وقوله: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ} معناه. ولقد همت بمخالطته وَهَمَّ بِها {وهمّ} بمخالطتها {لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ} جوابه محذوف، تقديره: لولا أن رأى برهان ربه لخالطها، فحذف، لأنّ قوله: {وَهَمَّ بِها} يدل عليه، كقولك: هممت بقتله لولا أنى خفت اللّه، معناه لولا أنى خفت اللّه. فإن قلت: كيف جاز على نبىّ اللّه أن يكون منه هم بالمعصية وقصد إليها؟ قلت: المراد أنّ نفسه مالت إلى المخالطة ونازعت إليها عن شهوة الشباب وقرمه ميلا يشبه الهم به والقصد إليه، وكما تقتضيه صورة تلك الحال التي تكاد تذهب بالعقول والعزائم، وهو يكسر ما به ويردّه بالنظر في برهان اللّه المأخوذ على المكلفين من وجوب اجتناب المحارم، ولو لم يكن ذلك الميل الشديد المسمى همًا لشدّته لما كان صاحبه ممدوحا عند اللّه بالامتناع، لأن استعظام الصبر على الابتلاء، على حسب عظم الابتلاء وشدته. ولو كان همه كهمها عن عزيمة، لما مدحه اللّه بأنه من عباده المخلصين. ويجوز أن يريد بقوله: {وَهَمَّ بِها} وشارف أن يهم بها، كما يقول الرجل: قتلته لو لم أخف اللّه، يريد مشارفة القتل ومشافهته. كأنه شرع فيه فإن قلت: قوله: {وَهَمَّ بِها} داخل تحت حكم القسم في قوله وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ أم هو خارج منه؟ قلت: الأمران جائزان، ومن حق القارئ إذا قدّر خروجه من حكم القسم وجعله كلاما برأسه أن يقف على قوله: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ} ويبتدئ قوله: {وَهَمَّ بِها لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ} وفيه أيضا إشعار بالفرق بين الهمين. فإن قلت: لم جعلت جواب لولا محذوفًا يدل عليه هم بها، وهلا جعلته هو الجواب مقدما؟ قلت: لأن لولا لا يتقدم عليها جوابها، من قبل أنه في حكم الشرط، وللشرط صدر الكلام وهو مع ما في حيزه من الجملتين مثل كلمة واحدة، ولا يجوز تقديم بعض الكلمة على بعض.