فصل: قال الخطيب الشربيني في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{وَجَاءوا على قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ} أي ذي كذب بمعنى مكذوب فيه، ويجوز أن يكون وصفًا بالمصدر للمبالغة وقرئ بالنصب على الحال من الواو أي جاؤوا كاذبين و: {كَذَّبَ} بالدال غير المعجمة أي كدر أو طري. وقيل: أصله البياض الخارج على أظفار الأحداث فشبه به الدم اللاصق على القميص، وعلى قميصه في موضع النصب على الظرف أي فوق قميصه أو على الحال من الدم إن جوز تقديمها على المجرور. روي: أنه لما سمع بخبر يوسف صاح وسأل عن قميصه فأخذه وألقاه على وجهه وبكى حتى خضب وجهه بدم القميص وقال: ما رأيت كاليوم ذئبًا أحلم من هذا أكل ابني ولم يمزق عليه قميصه. ولذلك: {قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا} أي سهلت لكم أنفسكم وهونت في أعينكم أمرًا عظيمًا من السول وهو الاسترخاء. {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} أي فأمري صبر جميل، أو فصبر جميل أجمل، وفي الحديث: «الصبر الجميل الذي لا شكوى فيه إلى الخلق»: {والله المستعان على مَا تَصِفُونَ} على احتمال ما تصفونه من إهلاك يوسف وهذه الجريمة كانت قبل استنبائهم إن صح.
{وَجَاءتْ سَيَّارَةٌ} رفقة يسيرون من مدين إلى مصر فنزلوا قريبًا من الجب وكان ذلك بعد ثلاث من إلقائه فيه. {فَأَرْسَلُواْ وَارِدَهُمْ} الذي يرد الماء ويستقي لهم وكان مالك بن ذعر الخزاعي. {فأدلى دَلْوَهُ} فأرسلها في الجب ليملأها فتدلى بها يوسف فلما رآه. {قَالَ يَا بُشْرىً هذا غُلاَمٌ} نادى البشرى بشارة لنفسه أو لقومه كأنه قال تعالى فهذا أوانك. وقيل هو اسم لصاحب له ناداه ليعينه على إخراجه. وقرأ غير الكوفيين {يا بشراي} بالإِضافة، وأمال فتحة الراء حمزة والكسائي. وقرأ ورش بين اللفظين وقرئ: {يَا بُشْرى} بالإِدغام وهو لغة و{بشراي} بالسكون على قصد الوقف. {وَأَسَرُّوهُ} أي الوارد وأصحابه من سائر الرفقة. وقيل أخفوا أمره وقالوا لهم دفعه إلينا أهل الماء لنبيعه لهم بمصر. وقيل الضمير لإخوة يوسف وذلك أن يهوذا كان يأتيه كل يوم بالطعام فأتاه يومئذ فلم يجده فيها فأخبر إخوته فأتوا الرفقة وقالوا: هذا غلامنا أبق منا فاشتروه، فسكت يوسف مخافة أن يقتلوه. {بضاعة} نصب على الحال أي أخفوه متاعًا للتجارة، واشتقاقه من البضع فإنه ما بضع من المال للتجارة. {والله عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} لم يخف عليه أسرارهم أو صنيع إخوة يوسف بأبيهم وأخيهم.
{وَشَرَوْهُ} وباعوه، وفي مرجع الضمير الوجهان أو اشتروه من اخوته. {بِثَمَنٍ بَخْسٍ} مبخوس لزيفه أو نقصانه. {دراهم} بدل من الثمن. {مَّعْدُودَةً} قليلة فإنهم يزنون ما بلغ الأوقية ويعدون ما دونها. قيل كان عشرين درهمًا وقيل كان اثنين وعشرين درهمًا. {وَكَانُواْ فِيهِ} في يوسف. {مِنَ الزهدين} الراغبين عنه والضمير في: {وَكَانُواْ} إن كان للإِخوة فظاهر وإن كان للرفقة وكانوا بائعين فزهدهم فيه، لأنهم التقطوه والملتقط للشيء متهاون به خائف من انتزاعه مستعجل في بيعه، وإن كانوا مبتاعين فلأنهم اعتقدوا أنه آبق وفيه متعلق بالزاهدين إن جعل اللام للتعريف، وإن جعل بمعنى الذي فهو متعلق بمحذوف بينه الزاهدين لأن متعلق الصلة لا يتقدم على الموصول.
{وَقَالَ الذي اشتراه مِن مّصْرَ} وهو العزيز الذي كان على خزائن مصر واسمه قطفير أو إطفير، وكان الملك يومئذ ريان بن الوليد العمليقي وقد آمن بيوسف عليه السلام ومات في حياته. وقيل كان فرعون موسى عاش أربعمائة سنة بدليل قوله تعالى: {وَلَقَدْ جَاءكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بالبينات} والمشهور أنه من أولاد فرعون يوسف. والآية من قبيل خطاب الأولاد بأحوال الآباء. روي: أنه اشتراه العزيز وهو ابن سبع عشرة سنة ولبث في منزله ثلاث عشرة سنة واستوزره الريان وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة وتوفي وهو ابن مائة وعشرين سنة. واختلف فيما اشتراه به من جعل شراءه به غير الأول: عشرون دينارًا وزوجا نعل وثوبان أبيضان. وقيل ملؤه فضة وقيل ذهبًا. {لاِمْرَأَتِهِ} راعيل أو زليخا. {أَكْرِمِى مَثْوَاهُ} اجعلي مقامه عندنا كريمًا أي حسنًا والمعنى أحسني تعهده. {عسى أَن يَنفَعَنَا} في ضياعنا وأموالنا ونستظهر به في مصالحنا. {أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا} نتبناه وكان عقيمًا لما تفرس فيه من الرشد، ولذلك قيل: أفرس الناس ثلاثة عزيز مصر، وابنة شعيب التي قالت: {يا أبت استجره} وأبو بكر حين استخلف عمر رضي الله تعالى عنهما. {وكذلك مَكَّنَّا لِيُوسُفَ في الأرض} وكما مكنا محبته في قلب العزيز أو كما مكناه في منزله أو كما أنجيناه وعطفنا عليه العزيز مكنا له فيها. {وَلِنُعَلّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأحاديث} عطف على مضمر تقديره ليتصرف فيها بالعدل ولنعلمه أي كان القصد في إنجائه وتمكينه إلى أن يقيم العدل ويدبر أمور الناس، ويعلم معاني كتب الله تعالى وأحكامه فينفذها، أو تعبير المنامات المنبهة على الحوادث الكائنة ليستعد لها ويشتغل بتدبيرها قبل أن تحل كما فعل لسنيه. {والله غَالِبٌ على أَمْرِهِ} لا يرده شيء ولا ينازعه فيما يشاء أو على أمر يوسف أراد به إخوته شيئًا وأراد الله غيره فلم يكن إلا ما أراده. {ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ} أن الأمر كله بيده، أو لطائف صنعه وخفايا لطفه.
{وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ} منتهى اشتداد جسمه وقوته وهو سن الوقوف ما بين الثلاثين والأربعين، وقيل سن الشباب ومبدؤه بلوغ الحلم. {آتَيْنَاهُ حُكْمًا} حكمة وهو العلم المؤيد بالعمل، أو حكمًا بين الناس. {وَعِلْمًا} يعني علم تأويل الأحاديث. {وَكَذَلِكَ نَجْزِى المحسنين} تنبيه على أنه تعالى إنما آتاه ذلك جزاء على إحسانه في عمله وإتقانه في عنفوان أمره.
{وَرَاوَدَتْهُ التي هُوَ في بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ} طلبت منه وتمحلت أن يواقعها، من راد يرود إذا جاء وذهب لطلب شيء ومنه الرائد. {وَغَلَّقَتِ الأبواب} قيل كانت سبعة والتشديد للتكثير أو للمبالغة في الإِيثاق. {وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ} أي أقبل وبادر، أو تهيأت والكلمة على الوجهين اسم فعل بني على الفتح كأين واللام للتبيين كالتي في سقيا لك. وقرأ ابن كثير بالضم وفتح الهاء تشبيهًا له بحيث، ونافع وابن عامر بالفتح وكسر الهاء كعيط. وقرأ هشام كذلك إلا أنه يهمز. وقد روي عنه ضم التاء وهو لغة فيه. وقرئ: {هَيْتَ} كجير و{هئت} كجئت من هاء يهيئ إذا تهيأ وقرئ {هيئت} وعلى هذا فاللام من صلته. {قَالَ مَعَاذَ الله} أعوذ بالله معاذًا. {إِنَّهُ} إن الشأن. {رَبّى أَحْسَنَ مَثْوَاىَّ} سيدي قطفير أحسن تعهدي إذ قال لك في: {أَكْرِمِى مَثْوَاهُ} فما جزاؤه أن أخونه في أهله. وقيل الضمير لله تعالى أي إنه خالقي أحسن منزلتي بأن عطف على قلبه فلا أعصيه. {إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظالمون} المجازون الحسن بالسيء. وقيل الزناة فإن الزنا ظلم على الزاني والمزني بأهله.
{وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا} وقصدت مخالطته وقصد مخالطتها، والهم بالشيء قصده والعزم عليه ومنه الهمام وهو الذي إذا هم بالشيء أمضاه، والمراد بهمه عليه الصلاة والسلام ميل الطبع ومنازعة الشهوة لا القصد الاختياري، وذلك مما لا يدخل تحت التكليف بل الحقيق بالمدح والأجر الجزيل من الله من يكف نفسه عن الفعل عند قيام هذا الهم، أو مشارفة الهم كقولك قتلته لو لم أخف الله. {لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبّهِ} في قبح الزنا وسوء مغبته لخالطها لشبق الغلمة وكثرة المغالبة، ولا يجوز أن يجعل: {وَهَمَّ بِهَا} جواب: {لَوْلاَ} فإنها في حكم أدوات الشرط فلا يتقدم عليها جوابها، بل الجواب محذوف يدل عليه. وقيل رأى جبريل عليه الصلاة والسلام. وقيل تمثل له يعقوب عاضًا على أنامله. وقيل قطفير. وقيل نودي يا يوسف أنت مكتوب في الأنبياء وتعمل عمل السفهاء. {كذلك} أي مثل التثبيت ثبتناه، أو الأمر مثل ذلك. {لِنَصْرِفَ عَنْهُ السوء} خيانة السيد. {والفحشاء} الزنا. {إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المخلصين} الذين أخلصهم الله لطاعته. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر ويعقوب بالكسر في كل القرآن إذا كان في أوله الألف واللام أي الذين أخلصوا دينهم لله.
{واستبقا الباب} أي تسابقا إلى الباب، فحذف الجار أو ضمن الفعل معنى الابتدار. وذلك أن يوسف فرَّ منها ليخرج وأسرعت وراءه لتمنعه الخروج. {وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ} اجتذبته من ورائه فانقد قميصه والقد الشق طولًا والقط الشق عرضًا. {وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا} وصادفا زوجها. {لدى الباب قَالَتْ مَا جَزَاء مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءا إِلا أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} إيهامًا بأنها فرت منه تبرئة لساحتها عند زوجها وتغييره على يوسف وإغراءه به انتقامًا منه، و: {مَا} نافية أو استفهامية بمعنى أي شيء جزاءه إلا السجن.
{قَالَ هي رَاوَدَتْنِى عَن نَّفْسِى} طالبتني بالمؤاتاة، وإنما قال ذلك دفعًا لما عرضته له من السجن أو العذاب الأليم، ولو لم تكذب عليه لما قاله. {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مّنْ أَهْلِهَا} قيل ابن عم لها. وقيل ابن خال لها صبيًا في المهد. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «تكلم أربعة صغارًا ابن ماشطة فرعون، وشاهد يوسف وصاحب جريج، وعيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام» وإنما ألقى الله الشهادة على لسان أهلها لتكون ألزم عليها. {إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكاذبين} لأنه يدل على أنها قدت قميصه من قدامه بالدفع عن نفسها، أو أنه أسرع خلفها فتعثر بذيله فانقد جيبه.
{وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصادقين} لأنه يدل على أنها تبعته فاجتذبت ثوبه فقدته. والشرطية محكية على إرادة القول أو على أن فعل الشهادة من القول، وتسميتها شهادة لأنها أدت مؤداها والجمع بين إن وكان على تأويل أن يعلم أنه كان ونحوه ونظيره قولك: إن أحسنت إلى اليوم فقد أحسنت إليك من قبل، فإن معناه أن تمنن علي بإحسانك أمنن عليك بإحساني لك السابق. وقرئ: {مِن قَبْلُ}، و{مِنْ دُبُرٍ} بالضم لأنهما قطعا عن الإِضافة كقبل وبعد، وبالفتح كأنهما جعلا علمين للجهتين فمنعا الصرف وبسكون العين.
{فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ} إن قولك: {مَا جَزَاء مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءا} أو إن السوء أو إن هذا الأمر. {مِن كَيْدِكُنَّ} من حيلتكن والخطاب لها ولأمثالها أو لسائر النساء. {إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} فإن كيد النساء ألطف وأعلق بالقلب وأشد تأثيرًا في النفس ولأنهن يواجهن به الرجال والشيطان يوسوس به مسارقة.
{يُوسُفَ} حذف منه حرف النداء لقربه وتفطنه للحديث. {أَعْرِضْ عَنْ هذا} اكتمه ولا تذكره. {واستغفرى لِذَنبِكِ} يا راعيل. {إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الخاطئين} من القوم المذنبين من خطئ إذا أذنب متعمدًا والتذكير للتغليب. اهـ.

.قال الخطيب الشربيني في الآيات السابقة:

سورة يوسف عليه السلام:
مكية كلها.
مائة وإحدى عشرة آية.
وعدد كلماتها ألف وتسعمائة وست وتسعون كلمة.
وعدد حروفها سبعة آلاف ومائة وستة وسبعون حرفًا.
{بسم الله} الذي وسع كل شيء قدرة وعلمًا: {الرحمن} لجميع خلقه المبين لهم طريق الهدى: {الرحيم} الذي خص حزبه بالإبعاد عن مواطن الردى وقوله تعالى: {الر} تقدّم الكلام على أوائل السور أوّل سورة البقرة، وقرأ ورش بالإمالة بين بين، وأبو عمرو وابن عامر وشعبة وحمزة والكسائي بالإمالة محضة، والباقون بالفتح، واختلف في سبب نزول هذه السورة فعن سعيد بن جبير أنه قال: لما أنزل القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان يتلوه على قومه فقالوا: يا رسول الله لوقصصت علينا، فنزلت هذه السورة، فتلاها عليهم فقالوا: يا رسول الله لو حدثتنا فنزل: {الله نزل أحسن الحديث كتابًا متشابهًا مثاني} فقالوا: لو ذكرتنا فنزل: {ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله} [الحديد]، وعن ابن عباس أنه قال: سألت اليهود النبيّ صلى الله عليه وسلم فقالوا: حدّثنا عن أمر يعقوب وولده وشأن يوسف، فنزلت هذه السورة، وقوله تعالى: {تلك} إشارة إلى آيات هذه السورة، أي: تلك الآيات التي أنزلت إليك في هذه السورة المسماة بالر هي: {آيات الكتاب}، أي: القرآن: {المبين}، أي: المبين فيه الهدى والرشد والحلال والحرام المظهر للحق من الباطل الذي ثبت فيه قصص الأوّلين والآخرين، وشرحت فيه أحوال المتقدّمين.
{إنا أنزلناه}، أي: الكتاب: {قرآنًا عربيًا}، أي: بلغة العرب لكي يعلموا معانيه ويفهموا ما فيه. روي أنّ علماء اليهود قالوا لكبراء المشركين اسألوا محمدًا لم انتقل آل يعقوب من الشام إلى مصر؟ وعن كيفية قصة يوسف، فأنزل الله تعالى هذه الآية، وذكر فيها أنه تعالى عبّر عن هذه القصة بألفاظ عربية ليتمكنوا من فهمها، والتقدير أنا أنزلنا هذا الكتاب الذي فيه قصة يوسف حال كونه قرآنًا عربيًا، وسمي بعض القرآن قرآنًا؛ لأن القرآن اسم جنس يقع على الكل والبعض: {لعلكم} يا أهل مكة: {تعقلون}، أي: إرادة أن تفهموا أو تحيطوا بمعانيه، ولا يلتبس عليكم: {ولو جعلناه قرآنا أعجميًا لقالوا لولا فصلت آياته} [يوسف]. واختلف العلماء هل في القرآن شيء بغير العربية؟ فقال أبو عبيدة: من زعم أنّ في القرآن لسانًا غير العربية فقد أعظم على الله القول واحتج بهذه الآية: {إنا أنزلناه قرآنًا عربيًا} وروي عن ابن عباس ومجاهد وعكرمة أنّ فيه من غير لسان العرب من سجيل ومشكاة وأليم وإستبرق، وجمع بعض المفسرين بين القولين بأنّ هذه الألفاظ لما تكلمت بها العرب ودارت على ألسنتهم صارت عربية فصيحة وإن كانت غير عربية في الأصل لكنهم لما تكلموا بها نسبت إليهم وصارت لهم لغة وهو جمع حسن.
{نحن نقص عليك أحسن القصص}، أي: أحسن الاقتصاص؛ لأنه اقتص على أبدع الأساليب، والقصص اتباع الخبر بعضه بعضًا، وأصله في اللغة من قص الأثر إذا اتبعه، وإنما سميت الحكاية قصة؛ لأنّ الذي يقص الحديث يذكر تلك القصة شيئًا فشيئًا، والمعنى: أنا نبين لك يا محمد أخبار الأمم السالفة والقرون الماضية أحسن البيان، أو قصة يوسف عليه السلام خاصة، وسماها أحسن القصص لما فيها من العبر والحكم والنكت والفوائد التي تصلح للدين والدنيا وما فيها من سير الملوك والمماليك والغلمان ومكر النساء والصبر على إيذاء الأعداء وحسن التجاوز عنهم بعد اللقاء وغير ذلك. قال خالد بن معدان في سورة يوسف ومريم: يتفكه فيهما أهل الجنة في الجنة. وقال ابن عطاء: لا يسمع سورة يوسف محزون إلا استراح إليها: {بما}، أي: بسبب ما: {أوحينا}، أي: بإيحائنا: {إليك} يا محمد: {هذا القرآن} الذي قالوا فيه أنه مفترى، فنحن نتابع القصص القصة بعد القصة حتى لا يشك شاك ولا يمتري ممتر أنه من عند الله: {وإن كنت من قبله}، أي: إيحائنا إليك أو هذا القرآن: {لمن الغافلين}، أي: عن قصة يوسف وإخوته؛ لأنه صلى الله عليه وسلم إنما علم ذلك بالوحي، وقيل لمن الغافلين عن الدين والشريعة، وإن هي المخففة من الثقيلة، واللام هي الفارقة بينها وبين النافية وقوله تعالى: {إذ قال يوسف لأبيه} بدل من: {أحسن القصص} أو منصوب بإضمار اذكر، ويوسف اسم عبري، وقيل: عربي، وردّ بأنه لو كان عربيًا لصرف، وسئل أبو الحسن الأقطع عن يوسف فقال: الأسف في اللغة الحزن، والأسيف العبد، واجتمعا في يوسف فسمي به، وعن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم» وقوله: {يا أبت} أصله يا أبي فعوض عن الياء تاء التأنيث لتناسبهما في الزيادة، ولذلك قلبها ابن كثير وابن عامر هاء في الوقف، ووقف الباقون بالتاء كالرسم، وفي الوصل بالتاء للجميع، وفتح التاء في الوصل ابن عامر، وكسرها الباقون: {إني رأيت أحد عشر كوكبًا والشمسم والقمر} قال أهل التفسير: رأى يوسف عليه الصلاة والسلام في منامه، وكان ابن اثنتي عشرة، سنة، وقيل: سبع عشرة، وقيل: سبع سنين ليلة الجمعة، وكانت ليلة القدر كأنّ أحد عشر كوكبًا نزلت من السماء ومعها الشمس والقمر، فسجدوا له وفسروا الكواكب بإخوته، وكانوا أحد عشر يستضاء بهم كما يستضاء بالنجوم، والشمس والقمر بأبيه وأمّه بجعل الشمس للأمّ؛ لأنها مؤنثة والقمر للأب؛ لأنه مذكر. والذي رواه البيضاوي تبعًا للكشاف عن جابر من أنّ يهوديًا قال للنبيّ صلى الله عليه وسلم أخبرني عن النجوم التي رآهن يوسف فأخبره بأسمائها فقال اليهودي:، أي: والله إنها لأسماؤها. قال ابن الجوزي: إنه موضوع، وقوله: {رأيتهم لي ساجدين} استئناف لبيان حالهم التي رآهم عليها فلا تكرار؛ لأنّ الرؤية الأولى تدل على أنه شاهد الكواكب والشمس والقمر والثانية تدل على أنه شاهد كونها ساجدة له.
وقال بعضهم: إنه لما قال: إني رأيت أحد عشر كوكبًا والشمس والقمر قيل له: كيف رأيت؟ قال: رأيتهم لي ساجدين. وقال آخرون: يجوز أن يكون أحدهما من الرؤية والآخر من الرؤيا، وهذا القائل لم يبين أنّ أيهما يحمل على الرؤية وأيهما يحمل على الرؤيا؟ قال الرازي: فذكر قولًا مجملًا غير مبين. فإن قيل: قوله: رأيتهم وقوله: ساجدين لا يليق إلا بالعقلاء والكواكب جمادات فكيف جاءت اللفظة المخصوصة بالعقلاء في حق الجمادات؟