فصل: قال الدكتور وهبة الزحيلي في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وكان ردّ يوسف على هذا الاتهام الجريء له، قوله: {هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي}. ففى هذه الكلمات القليلة المستغنية بصدقها عن كل قول، دفع يوسف التهمة الظالمة التي رمى بها.. وهكذا شأن أصحاب الحقّ، يجدون في الكلمة المرسلة على طبيعتها من غير حلف أو توكيد، ما يغنى عن كل قول.. وليس كذلك شأن أصحاب الزور والبهتان.. إنهم يكثرون من الثرثرة واللغو، ويبالغون في الأيمان الكاذبة الفاجرة، ليداروا هذا الباطل الذي يجرونه على ألسنتهم، وليبعثوا فيه شيئا من الحرارة والحياة!- قوله تعالى: {وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها}. هو جملة حاليّة، جاءت مصدقة لقول يوسف: {هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي}. أي قال هذا القول الذي صدّقه الحال، والذي استدل به العزيز على صدق يوسف وكذبها..
وقد اختلف المفسرون في هذا الشاهد الذي شهد.. فقالوا إنه طفل، أنطقه اللّه، وقالوا إنه رجل من أهل العلم.. وقالوا، وقالوا! والذي نراه- واللّه أعلم- أن هذا الشاهد هو العزيز نفسه، وأنه إذ نظر إلى يوسف، فرأى قميصه ممزقا، أدار بينه وبين نفسه حديثا عن هذا القميص:
لم مزّق؟ ومن مزّقه؟ ولم كان ممزقا من خلف لا من أمام؟ وهل لذلك من دلالة؟.. ثم أسلم نفسه لتفكير عميق، وفى رأسه تدور الأفكار، وتموج الخواطر.. يقلّب الأمر على جميع وجوهه، ويعرضه على كل احتمالاته.. ثم ينتهى به الرأى إلى تلك الحقيقة التي هي فيصل الأمر، ومقطع الرأى: {إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ}. هذا ما أمسك به العزيز من الخواطر الكثيرة، والآراء المتدافعة التي كانت تتوارد عليه.. وقد أمسك أولا بالخاطر الذي يبرئ زوجه، ويدين يوسف، فذلك هو الذي كان يرجوه، ويودّ لو أن هذه الفاجعة قد أقامت له الدليل عليه! {إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ...}.
وإذ استراح العزيز إلى هذا الرأى، تلّفت إلى يوسف، وأخذه بعينيه، ونظر إلى القميص، فرآه قد قدّ من دبر! {فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ}.
وهكذا برئت ساحة يوسف- وهو البريء دائما- وأقبل العزيز على المرأة، لا ليدينها في شخصها، بل ليجعل هذه التهمة قسمة مشاعة في بنات جنسها جميعا.. {إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ} أيتها النساء {إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} إنّ فيكنّ المكر والدهاء، وسعة الحيلة في هذا المجال.. وإذن فلا يستغرب منك هذا، بل ولا ينكر منك، فما أنت إلّا واحدة من بنات جنسك!! فلا عليك! {يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ}.
{يوسف} منادى، أي يا يوسف، والمنادى له هو العزيز، يحذّره- وإن ظهرت براءته عنده- من أن يحوم حول هذا الحمى! ثم يلتفت إلى المرأة يطلب إليها أن تستغفر لهذا الذنب، وأن تطلب الصفح عن هذه الخطيئة التي كادت تقع فيها..!
وليس من الحتم اللازم أن تكون هذه المرأة مؤمنة باللّه، حتى تستغفر لذنبها- كما يقول بذلك المفسرون- بل يجوز- وهو الغالب- أن تكون وثنية، تطلب الصفح والمغفرة من وثنها الذي تعبده، أو من الكاهن الذي يقوم على خدمة هذا الوثن!- وفي قوله تعالى: {إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ} بدلا من قوله: إنك كنت من الخاطئات، ليخفف على نفسها وقع هذه التهمة التي واجهها بها، فلا يجعل تلك الخطيئة مقصورة على بنات جنسها وحدهن، بل يشاركهن الرجال فيها، وهو منهم.. فلا عليها إذن أن تستغفر لذنبها هذا، الذي كان الناس- من نساء ورجال- معرّضين له.. فإذا كنت قد أخطأت فما أكثر الخاطئين قبل الخاطئات!..
وقد رأينا من قبل كيف أنه لم يواجهها بالتهمة في شخصها، بل واجهها بها في بنات جنسها: {إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ}.
وقد اتهم بعض المفسرين {العزيز} بأنه كان ناقصا في رجولته، ولم يكن له أرب في النساء، لأنه استقبل فعلة امرأته بهذا الاستخفاف والبرود!..
وهذا تعليل غير صحيح.. إذ المعروف أن من كان في رجولتهم شيء من النقص، داروه بتلك الغيرة الزائدة، المجاوزة لكل حدّ!..
ولعل أقرب تعليل لموقف (العزيز) هذا، هو أنه كان ينظر إلى يوسف نظرته إلى ابنه، وأن ما كان من امرأته لم يكن إلا نزوة طائشة، أعمتها عن أن تنظر إلى يوسف نظرة الأم إلى ولدها، وأنها سرعان ما تعود إلى رشدها وتصحح نظرتها إليه..
والذي جعلنا نميل إلى القول بأن الشاهد الذي شهد بإدانة امرأة العزيز، هو العزيز نفسه- الذي جعلنا نميل إلى هذا القول، هو ما يشهد به واقع الحال، وهو أن (العزيز) وهو صاحب هذا المقام في قومه، ما كان له أن يفضح نفسه وأهله على الملأ، وأن يستدعى من يحتكم إليه، في أمر شهده هو بنفسه، واطلع عليه من غير أن يدله عليه أحد! وإنه لمن السفاهة والحمق، بل والعجز، أن يعرّض العزيز مكانته، وشرفه وشرف أهله لهذه الفضيحة على الملأ.. فيصبح، وإذا هو وزوجه على ألسنة الناس، يطلقون فيهما قالة السوء، ويولدون من هذا الحدث أحداثا تنمو وتتضخم على الأيام! فكان من الحكمة إذا أن يتدبر (العزيز) أمره بنفسه، وأن يحصر الأمر في أضيق حدوده، وأن يحسمه هذا الحسم الرشيد، في غير صخب وضجيج.. فكان حكمه هكذا:
ـ {يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا}.
ـ {وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ}.
لفتة إلى يوسف، ولفتة إليها..
ثم انتهى الأمر عند هذا الحد.. ولكن إلى حين..!
فلقد دبّر العزيز في نفسه أمرا.. ولكن بعد أن تنتهى هذه العاصفة.. فتحيّن ليوسف فرصة يدفع به إلى السجن بها.. ولكن من غير أن يكون لامرأته- في ظاهر الأمر- شأن يتعلق بها في أمر يوسف وسجنه.. من قريب أو من بعيد! على ما سنرى في أحداث القصة.. بعد.. اهـ.

.قال الدكتور وهبة الزحيلي في الآيات السابقة:

{وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ قالَ مَعاذَ اللَّهِ}

.الإعراب:

هَيْتَ لَكَ اسم لهلمّ، ولذلك كانت مبنية، وكان الأصل أن تبنى على السكون، إلا أنه لم يمكن أن تبنى على السكون لأنهم لا يجمعون بين ساكنين وهما الياء والتاء. ومنهم من بناها على الفتح لأنه أخف الحركات. ومنهم من بناها على الكسر لأنه الأصل في التحريك لالتقاء الساكنين، ومنهم من بناها على الضم لحصول الغرض من زوال التقاء الساكنين.
ومن قرأ: {هيئت لك} بالهمز فمعناه: تهيأت لك، وتكون التاء مضمومة لأنها تاء المتكلم.
مَعاذَ اللَّهِ منصوب على المصدر، يقال: عاذ يعوذ معاذا وعوذا وعياذا.
{رَبِّي} في موضع نصب على البدل من هاء إِنَّهُ وهي اسم إن.
{أَحْسَنَ مَثْوايَ} فعل ومفعول، ومن قرأ {أحسن} فهو خبر إنّ، أي إن ربي أحسن مثواي.
إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الهاء ضمير الشأن والحديث. وجملة لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ جملة فعلية خبر إن.
{لَوْلا أَنْ رَأى}.. لَوْلا حرف يمتنع له الشيء لوجود غيره. وأَنْ رَأى في موضع رفع لأنه مبتدأ. ولا يجوز إظهار خبره بعد لَوْلا لطول الكلام بجوابها، وقد حذف خبر المبتدأ هنا والجواب معا، والتقدير: لولا رؤية برهان ربه موجودة لهمّ بها. ولا يجوز أن يكون وَهَمَّ بِها جواب لَوْلا لأن جواب لَوْلا لا يتقدم عليه.
{كَذلِكَ لِنَصْرِفَ} الكاف من كَذلِكَ يجوز أن تكون رفعا، بأن تكون خبر مبتدأ محذوف، التقدير: البراهين كذلك، ويجوز أن تكون نعتا لمصدر محذوف، أي أريناه البراهين رؤية كذلك.

.البلاغة:

{فَصَدَقَتْ} و{فَكَذَبَتْ} و{الصَّادِقِينَ} و{الْكاذِبِينَ} بين كلّ طباق.
{مِنَ الْخاطِئِينَ} من باب تغليب الذكور على الإناث.

.المفردات اللغوية:

{وَراوَدَتْهُ} طلبت منه زليخا مواقعتها برفق ولين ومخادعة، ومنه قوله: {سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ} [يوسف: 61] أي نحتال عليه ونخدعه عن إرادته، ليرسل أخاه بنيامين معنا، ومنه الرائد: الذاهب لطلب شيء.
والمراد من آية {وَراوَدَتْهُ} تحايلت لمواقعته إياها، ولم تجد منه قبولا. {وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ} أحكمت إغلاق أبواب البيت، قيل: كانت سبعة، والتشديد: للتكثير أو للمبالغة في الإيثاق. {هَيْتَ لَكَ} أي هلمّ وأقبل وبادر، أو تهيأت، وهي لغة عرب حوران والكلمة: اسم فعل مبني على الفتح، ولام لَكَ للتبيين، كالتي في (سقيا لك).
{قالَ مَعاذَ اللَّهِ} أعوذ باللّه وأتحصن من الجهل والفسق. {إِنَّهُ رَبِّي} إن الذي اشتراني سيدي قطفير، أو إن الشأن {أَحْسَنَ مَثْوايَ} مقامي، أي أحسن تعهدي، إذ قال لك: {أَكْرِمِي مَثْواهُ} فلا أخونه في أهله. وقيل: إن الضمير للّه تعالى، أي إنه الذي خلقني وأحسن منزلتي بأن عطف عليّ قلب سيدي، فلا أعصيه. {إِنَّهُ} أي الشأن {لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} المجازون الحسن بالسيء، وقيل: الزناة، فإن الزنى ظلم على الزاني والمزني بأهله.
{هَمَّتْ بِهِ} قصدت منه الجماع ومخالطته أو أن تبطش به لعصيانه أمرها، والهم بالشيء:
قصده والعزم عليه ومنه الهمام: وهو الذي إذا همّ بشيء أمضاه. {وَهَمَّ بِها لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ} أي لولا وجود النبوة، أو مراقبة اللّه تعالى وطاعته ورؤية ربه متجليا عليه، لقصد مخالطتها، والمفهوم من لَوْلا أنه لم يقصد ذلك أصلا، لوجود خشية اللّه في قلبه لأن لَوْلا حرف امتناع لوجود، فعند ما تقول: لولا إتيان ضيف إلى البارحة لجئت إليك، تعني تعذر المجيء لصاحبك بسبب مجيء ضيف يزورك، فالضيف مانع من حصول المجيء، وكذلك هنا: لولا برهان النبوة ومراقبة اللّه لهمّ بها.
كَذلِكَ أي مثل ذلك التثبيت ثبتناه وأريناه البرهان. {لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ} الخيانة {وَالْفَحْشاءَ} الزنى {إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ} المختارين الذين اجتباهم اللّه واختارهم لطاعته وعلى قراءة كسر اللام {الْمُخْلَصِينَ} يكون المراد: المخلصين في الطاعة.
{وَاسْتَبَقَا الْبابَ} أي تسابقا إلى الباب، فحذف الجار، أو ضمن الفعل معنى الابتدار، أي أسرع كل منهما نحو الباب، وذلك أن يوسف فرّ منها ليخرج، وأسرعت وراءه لتمنعه الخروج، فمبادرته كانت للفرار، ومبادرتها كانت للتشبّث فيه، فأمسكت ثوبه وجذبته إليها. {وَقَدَّتْ} شقت {قميصه من دبر} أي من الخلف والقد: الشق طولا. {وَأَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ} وجدا زوجها وصادفاه عند الباب. {قالَتْ ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا} أي نزهت نفسها، وأو همت زوجها أنها فرّت منه تبرئه لساحتها عنده وإغراء به للانتقام من يوسف. وما نافية أو استفهامية، والمعنى: أي شيء جزاؤه إلا السجن أي الحبس. {أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ} مؤلم بأن يضرب.
وتعبير {وَاسْتَبَقَا الْبابَ} من اختصار القرآن المعجز، الذي يجمع المعاني الكثيرة في الألفاظ القليلة.
{قالَ هِيَ راوَدَتْنِي} قال يوسف: هي طالبتني بالمواتاة، دفاعا عن نفسه لما عرضت له من السجن أو العذاب، ولو لم تكذب عليه لما قال ذلك. {وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها} قيل: ابن عمها، أو ابن خالها، وكان صبيا في المهد، أنطقه اللّه تعالى.
{مِنْ قُبُلٍ} من قدام أو أمام. {مِنْ دُبُرٍ} من خلف. {فَلَمَّا رَأى} زوجها {قالَ إِنَّهُ} أي إن قولك: {ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا} {مِنْ كَيْدِكُنَّ} أي من حيلتكن أيها النساء، والخطاب لها ولأمثالها، أو لسائر النساء. {إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} أي إن كيد النساء ألصق وأعلق بالقلب، وأشد تأثيرا في النفس، ولا قدرة للرجال عليه ولا يفطنون لحيلهن.
{يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا} أي ثم قال زوجها: يا يوسف أعرض عن هذا الأمر، ولا تذكره واكتمه لئلا يشيع الخبر بين الناس. {وَاسْتَغْفِرِي} يا زليخا. {إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ} أي الاثمين المذنبين، ولكن شاع الخبر واشتهر. والتذكير للتغليب.

.المناسبة:

بعد أن ذكر اللّه تعالى ما أكرم به يوسف من المكارم المادية بالإقامة في قصر عزيز مصر، والمعنوية من النبوة أو العلم والحكمة، ذكر هنا محنته مع امرأة العزيز، والتزامه العفة والنزاهة والطهارة، حتى إنه آثر دخول السجن على ارتكاب الفاحشة، والتخلص من افتتان النساء به.

.التفسير والبيان:

كان يوسف عليه السّلام في غاية الحسن والجمال، وقد أوصى عزيز مصر امرأته بإكرامه وحسن تعهده، فأحبته حبا شديدا لجماله وحسنه وبهائه، فحملها ذلك على أن تجملت له، ودعته لمخالطتها، وتمحلت لمواقعته إياها، وأحكمت إغلاق الأبواب عليه قيل: كانت سبعة، وقالت: هيت لك، أي هلمّ أقبل وبادر، وتهيأت لك، وزيدت كلمة لَكَ لبيان المخاطب، مثل: سقيا لك ورعيا لك. وهذا أسلوب في غاية الاحتشام.
فامتنع من ذلك أشد الامتناع، وقال: أعوذ باللّه معاذا، وألتجئ إليه وأعتصم به مما تريدين مني، فهو يعيذني أن أكون من الجاهلين إِنَّهُ (الضمير للشأن والحديث) ربي أي سيدي ومالكي (قطفير) أَحْسَنَ مَثْوايَ أي منزلي ومقامي وأحسن إلي، حين قال لك: أكرمي مثواه فلا أقابله بالخيانة، وإتيان الفاحشة في أهله، إنه لا يفلح الظالمون الذين يجازون الإحسان بالإساءة، أو لا يظفر الظالمون بمطالبهم، ومنهم الخائنون المجازون الإحسان بالسوء.
ولقد همّت بالانتقام منه والتنكيل به، لعصيانه أمرها، وعدم نزوله عند رغبتها، ومخالفته مرادها، وهي سيدته وهو عبدها، أو همت بمخالطته.
{وَهَمَّ بِها لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ} كثر كلام الناس وتعليقاتهم حول معنى هذه الآية، والأمر فيها سهل يسير، لا يصح تفسير كلمة {وَهَمَّ بِها} وحدها دون بقية الجملة، وإذا فسرت الجملة مع بعضها، تبين أنه لم يهمّ بها قط لأن رؤية برهان ربه قد منعه من ذلك، بدليل أن لَوْلا حرف امتناع لوجود وجوابها محذوف دائما، وتقديره: لولا أن رأى برهان ربه لهمّ بها ولخالطها لأن قوله: وَهَمَّ بِها يدل عليه، كقولك: (هممت بقتله لولا أني خفت اللّه) معناه: (لولا أني خفت اللّه لقتلته) ففي الكلام تقديم وتأخير، أي لولا أن رأى برهان ربه لهم بها.
ثم إن المراد بالهم: خطرات حديث النفس، والميل إلى المخالفة بحكم الطبيعة البشرية، وهذا لا مؤاخذة فيه شرعا، فلا يقال: كيف جاز على نبي اللّه أن يكون منه هم بالمعصية وقصد إليها؟ ودليل رفع المؤاخذة على الهم الذي هو مرتبة دون العزم والحزم ما أورده البغوي من حديث عبد الرزاق والصحيحين عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم: «يقول اللّه تعالى: إذا همّ عبدي بحسنة، فاكتبوها له حسنة، فإن عملها، فاكتبوها له بعشر أمثالها، وإن همّ بسيئة فلم يعملها فاكتبوها حسنة، فإنما تركها من جرائي، فإن عملها فاكتبوها بمثلها».
والبرهان الذي رآه: هو برهان اللّه المأخوذ على المكلفين من وجوب اجتناب المحارم، أو هو حجة اللّه تعالى في تحريم الزنى، والعلم بما على الزاني من العقاب.
وقيل: هو تطهير نفوس الأنبياء عليهم السلام عن الأخلاق الذميمة، وقيل: هو النبوة المانعة من ارتكاب الفواحش، وجائز أن يراد كل هذه المعاني لأنها متقاربة غير متعارضة، تحقق هدفا واحدا وهو طاعة اللّه عز وجل.
والخلاصة: لم يرتكب يوسف عليه السّلام المعصية قط، ولولا حفظ اللّه ورعايته وعصمته لهمّ بها. وللعلماء في الآية تفسيران:
الأول: إنه لم يهمّ بها لرؤية برهان ربه، فهو الذي منعه من الهمّ.
والثاني: إنه همّ بمقتضى الطبيعة البشرية، ثم تنبه للمانع من وقوع المعصية، ورأى برهان اللّه وتذكره، مثل قوله تعالى: {وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا} [الإسراء: 74].
وبه تبين وجود الفارق بين الهمين: همها به وهمه، فهي قد همت بالانتقام منه والتنكيل به، شفاء لغيظها، أو همت بمخالطته، فكان همها المعصية، وهو همّ عزم وتصميم. وهو قد همّ بالدفاع عن نفسه، والتخلص منها، حين رأى بوادر الإقدام عليه، ولكنه رأى برهان ربه وعصمته التي جعلته يهم بالفرار من هذا المأزق، فكان همه النجاة منها وهو مجرد حديث نفس وخاطر، وما هم بالسوء بها لما رأى برهان ربه لعصمة الأنبياء، قال تعالى: {كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ} لذا أتبعه بقوله: {وَاسْتَبَقَا الْبابَ} أي فبادر إلى الباب هربا، وبادرت هي إلى الباب صدا له عن الهرب. وأراد اللّه صرف السوء عنه فقال: {كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ} أي مثل ذلك التثبيت على العفة أمام دواعي الفتنة والإغراء ثبتناه، وكما أريناه برهانا صرفه عما كان فيه، كذلك نقيه السوء والفحشاء في جميع أموره. والسوء: المنكر والمعصية وخيانة السيد، والفحشاء: الزنى والفجور.