فصل: من لطائف وفوائد المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



انتهى. وكونُ الهاء للسكتِ يَرُدُّه ضمُّ الهاءِ، ولو كانت للسكت لَسَكَنَتْ وقد يقال: إنه أَجْراها مُجْرى هاء الضمير، وأَجْرى الوصلَ مُجْرى الوقف في إثباتها. قال الشيخ: وإجماعُ القَّراء على ضمِّ الهاء في الوصل دليلٌ على أنها ليسَتْ هاءَ السكت؛ إذ لو كانت هاءَ السكت وكان من إجراء الوصلِ مُجْرى الوقفِ لم يضمَّ الهاء. قلت: وهاء السكت تُحَرَّك بحركةِ هاءِ الضمير إجراءً لها مُجْراها، وقد حَقَّقْتُ هذا في الأنعام، وقد قالوا ذلك في قول المتنبي أيضًا:
واحَرَّ قلباه مِمِّنْ قَلْبُه شَبِمُ **........................

فإنه رُوِي بضمِّ الهاء في قلبها وجعلوها هاءَ سكتٍ. ويمكن أن يكون أَكْبَرْنَ بمعنى حِضْنَ ولا تكون الهاءُ للسَّكْت، بل تُجْعل ضميرَ المصدرِ المدلولِ عليه بفعله أي: أَكْبَرْنَ الإِكبار، وأنشدوا على أن الإِكبارَ بمعنى الحيض قولَه:
يأتي النساءَ على أَطْهارِهِنَّ ولا ** يأتي النساءَ إذا أَكْبَرْن إكبارا

قال الطبري: البيت مصنوعٌ.
قوله: {حَاشَ للَّهِ} {حاشى} عَدَّها النحويون من الأدوات المترددةِ بين الحرفية والفعلية فإنْ جَرَّتْ فهي حرفٌ، وإنْ نَصَبَتْ فهي فعلٌ، وهي من أدواتِ الاستثناء ولم يَعْرف سيبويه فعليَّتها وعَرَفَها غيرُه، وحَكَوا عن العرب غَفَر اللَّه لي ولِمنْ سمع دعائي حاشى الشيطانَ وابنَ الأصبغ بالنصب، وأنشدوا:
حشى رَهْطَ النبيِّ فإنَّ منهمْ ** بُحورًا لا تكدِّرُها الدِّلاءُ

بنصب رَهْط. وحشى لغةٌ في حاشى كما سيأتي. وقال الزمخشري: حاشى كلمةٌ تفيد التنزيه في باب الاستثناء تقول: أساءَ القومُ حاشى زيدٍ قال:
حاشى أبي ثوبانَ إنَّ بهِ ** ضِنًّا عنِ المَلْحاة والشَّتْم

وهي حرفٌ من حروف الجر فوُضِعَتْ موضعَ التنزيه والبراءة، فمعنى حاشى اللَّهِ: براءة اللَّهِ وتنزيه اللَّه، وهي قراءة ابن مسعود. قال الشيخ: وما ذكر أنها تفيد التنزيهَ في باب الاستثناء غير معروف عند النحويين، لا فرقَ بين قولك: قام القومُ إلا زيدًا وقام القوم حاشى زيدٍ، ولَمَّا مَثَّل بقوله: أساء القومُ حاشى زيدٍ وفَهِم هو من هذا التمثيلِ براءةَ زيدٍ من الإِساءة جعل ذلك مستفادًا منها في كل موضعٍ، وأمَّا ما أنشده مِنْ قوله: حاشا أبي ثوبان، فهكذا ينشده ابن عطية وأكثرُ النحاة، وهو بيتٌ ركَّبوا فيه صدرَ بيتٍ على عجز آخَرَ وَهْمًا من بيتين، وهما:
حاشى أبي ثَوْبان إنَّ أبا ** ثَوْبانَ ليس ببُكْمَةٍ فَدْمِ

عمرَو بنَ عبدِ اللَّه إنَّ به ** ضِنًّا عن المَلْحاةِ والشَّتْمِ

قلت: قوله إنَّ المعنى الذي ذكره الزمخشري لا يعرفه النحاة لم ينكروه وإنما لم يذكروه في كتبهم؛ لأنهم غالبُ فنهم في صناعة الألفاظ دون المعاني، ولمَّا ذكروا مع أدواتِ الاستثناء ليس ولا يكون وغير لم يذكروا معانيهَا، إذ مرادُهم مساواتُها ل إلا في الإِخراج وذلك لا يمنعُ من زيادةِ معنى في تلك الأدوات.
وزعم المبرد وغيره كابن عطية أنها تتعيَّنُ فعليَّتُها إذا وقع بعدها حرفُ جر كالآية الكريمة، قالوا لأن حرفَ الجرِّ لا يدخل على مثله إلا تأكيدًا كقوله:
......................... ** ولا لِلِما بهم أبدًا دواءُ

وقول الآخر:
فأَصْبَحْنَ لا يَسْأَلْنني عن بما به **..........................

فتعيَّن أن تكونَ فعلًا، فاعلُه ضمير يوسف أي: حاشى يوسف، و{للَّه} جارٌّ ومجرورٌ متعلقٌ بالفعل قبله، واللامُ تفيد العلةَ أي: حاشى يوسفَ أن يقارِفَ ما رَمَتْه به لطاعة اللَّه ولمكانه منه أو لترفيع اللَّه أن يرمى بما رَمَتْه به، أي: جانَبَ المعصيةَ لأجل اللَّه.
وأجاب الناسُ عن ذلك بأنَّ حاشى في الآية الكريمة ليست حرفًا ولا فعلًا، وإنما هي اسمُ مصدرٍ بدلٌ من اللفظة بفعله كأنه قيل: تنزيهًا للَّه وبراءةً له، وإنما لم يُنَوَّنْ مراعاةً لأصله الذي نُقِل منه وهو الحرف، ألا تراهم قالوا: مِنْ عن يمينه فجعلوا عن اسمًا ولم يُعْربوه، وقالوا مِنْ عليه فلم يُثْبتوا ألفه مع المضمر، بل أَبْقَوا عن على بنائه، وقلبوا ألف على مع المضمر، مراعاةً لأصلها، كذا أجاب الزمخشري، وتابعه الشيخُ ولم يَعْزُ له الجواب. وفيه نظر.
أمَّا قوله: مراعاة لأصله فيقتضي أنه نُقِل من الحرفية إلى الاسمية، وليس ذلك إلا في جانب الأعلام، يعني أنهم يُسَمُّون الشخصَ بالحرف، ولهم في ذلك مذهبان: الإِعرابُ والحكاية، أمَّا أنَّهم ينقلون الحرف إلى الاسم، أي: يجعلونه اسمًا فهذا غيرُ معروفٍ. وأمَّا استشهادُه بعن وعلى فلا يفيده ذلك؛ لأنَّ عن حالَ كونِها اسمًا إنما بُنيت لشبهها بالحرفِ في الوضع على حرفين لا أنها باقيةٌ على بنائها.
وأمَّا قَلْبُ ألفِ على مع الضمير فلا دلالة فيه لأنَّا عَهدنا ذلك فيما هو ثابتُ الاسمية بالاتفاق كلدى.
والأَوْلى أن يقال: الذي يظهر في الجواب عن قراءةِ العامة أنها اسمُ منصوبٌ كما تقدَّم تقريره، ويدلُّ عليه قراءة أبي السمَّال {حاشًا للَّه} منصوبًا، ولكنهم أَبْدلوا التنوين ألفًا كما يبدلونه في الوقف، ثم إنهم أَجْروا الوصل مجرى الوقف كما فعلوا ذلك في مواضعَ كثيرةٍ تقدَّم منها جملةٌ وسيمر بك مثلها.
وقيل في الجواب عن ذلك: بل بُنيت {حاشا} في حال اسميتها لشبهها ب {حاشا} في حال حرفيَّتها لفظًا ومعنى، كما بُنِيَتْ عن وعلى لما ذكرنا.
وقال بعضُهم: إنَّ اللامَ زائدةٌ. وهذا ضعيفٌ جدًا بابُه الشعرُ. واسْتَدَلَّ المبرد وأتباعُه على فعليتها بمجيء المضارعِ منها. قال النابغة الذبياني:
ولا أرى فاعِلًا في الناسِ يُشْبِهُهُ ** ولا أُحاشي من الأقوامِ مِنْ أَحَدِ

قالوا: وتَصَرُّفُ الكلمةِ من الماضي إلى المستقبل دليلُ فعليَّتها لا محالةَ.
وقد أجاب الجمهور عن ذلك: بأنَّ ذلك مأخوذٌ من لفظِ الحرفِ كما قالوا: سَوَّفْتُ بزيد ولَوْلَيْت له، أي: قلت له: سوف أفعلُ. وقلت له: لو كان ولو كان، وهذا من ذلك، وهو محتمل.
وممَّن رَجَّح جانبَ الفعلية أبو علي الفارسي قال: لا تَخْلو {حاش} في قوله: {حاش للَّه} من أن تكونَ الحرفَ الجارَّ في الاستثناء، أو تكون فعلًا على فاعَل، ولا يجوز أن تكونَ الحرفَ الجارَّ لأنه لا يدخل على مثله، ولأن الحروفَ لا يُحْذَفُ منها إذ لم يكن فيها تضعيف، فثبت أنه فاعَل مِن الحشا الذي يُراد به الناحية، والمعنى: أنه صار في حَشًا، أي في ناحية، وفاعل {حاش} يوسف والتقدير: بَعُدَ من هذا الأمرِ للَّه، أي: لخوفِه.
قوله: حرفُ الجر لا يدخل على مثله مُسَلَّم، ولكن ليس هو هنا حرفَ جر كما تقدَّم تقريرُه. وقوله: لا يُحْذف من الحرفِ إلا إذا كان مضعفًا ممنوع، ويدلُّ له قولهم مُنْ في منذ إذا جُرَّ بها، فحذفوا عينها ولا تضعيفَ. قالوا: ويدلُّ على أنَّ أصلَها منذ بالنون تصغيرُها على مُنَيْذ وهذا مقرَّر في بابه.
وقرأ أبو عمرو وحده {حاشى} بألفين: ألفٍ بعد الحاء، وألف بعد الشين في كلمتي هذه السورة وصلًا، وبحذفها وقفًا إتباعًا للرسم كما سننبِّه عليه. والباقون بحذف الألفِ الأخيرةِ وصلًا ووقفًا.
فأمَّا قراءةُ أبي عمروٍ فإنه جاء فيها بالكلمة على أصلها. وأمَّا الباقون فإنهم اتَّبعوا في ذلك الرسمَ ولمَّا طال اللفظ حَسُن تخفيفُه بالحذف ولاسيما على قول مَنْ يَدَّعي فعليَّتَها، كالفارسي.
قال الفارسي: وأمَّا حذفُ الألف فعلى لم يَكُ ولا أَدْرِ وأصاب الناسَ جُهْدٌ، ولَوْ تَرَ أهلَ مكة، وقوله:
وصَّانيَ العجَّاجُ فيما وَصَّني

في شعر رؤبة، يريد: لم يكن، ولا أدري، ولو ترى، ووصَّاني. وقال أبو عبيد: رأيتُها في الذي يقال: إنه الإِمام مصحف عثمان رضي اللَّه عنه: {حاش للَّه} بغير ألف، والأخرى مثلُها. وحكى الكسائي أنها رآها في مصحف عبد اللَّه كذلك، قالوا: فعلى ما قال أبو عبيد والكسائي تُرَجَّح هذه القراءةُ، ولأنَّ عليها ستةً من السبعة، ونقل الفراء أن الإِتمامَ لغةُ بعض العرب، والحذفُ لغة أهل الحجاز قال: ومِنْ العرب من يقول: حشى زيد أراد حشى لزيد. فقد نقل الفراءُ أن اللغاتِ الثلاثَ مسموعةٌ، ولكنَّ لغةَ الحجازِ مُرَجَّحَةٌ عندهم.
وقرأ الأعمش في طائفة {حشى للَّه} بحذف الألفين وقد تقدَّم أن الفراء حكاها لغةً عن بعض العرب، وعليه قوله:
حشى رَهْطِ النبيِّ **................................

البيت. وقرأ أُبَي وعبد اللَّه: {حاشى اللَّهِ} بجرِّ الجلالة، وفيها وجهان، أحدهما: أن تكونَ اسمًا مضافًا للجلالة نحو: سبحان اللَّه وهو اختيارُ الزمخشري. الثاني: أنه حرفُ استثناء جُرَّ به ما بعده، وإليه ذهب الفارسي، وفي جَعْلِهِ {حاشى} حرفَ جرٍّ مُرادًا به الاستثناءُ نظرٌ، إذ لم يتقدَّم في الكلام شيءٌ يستثنى منه الاسمُ المعظَّم بخلافِ قام القومُ حاشى زيد.
واعلمْ أنَّ النحويين لمَّا ذكروا هذا الحرفَ جعلوه من المتردد بين الفعلية والحرفية، عند مَنْ أثبتَ فعليَّتَه، وجعله في ذلك كخلا وعدا، عند مَنْ أثبت حرفيَّة عدا، وكان ينبغي أن يذكروه من المتردد بين الاسميةِ والفعلية والحرفية، كما فعلوا ذلك في على فقالوا: يكون حرف جر في عليك، واسمًا في قوله: مِنْ عليه، وفعلًا في قوله:
عَلاَ زيدُنا يومَ النَّقا **...............................

وإن كان فيه نظرٌ ذكرتُه مستوفىً في غير هذا المكان، ملخصُه أن على حالَ كونها فعلًا غير على حال كونها غيرَ فعل، بدليل أنَّ ألف الفعلية منقلبة عن واو، ويدخلها التصريف والاشتقاق دون ذَيْنَكَ. وقد يتعلَّق مَنْ ينتصر للفارسي بهذا فيقول: لو كانت {حاشى} في قراءة العامَّة اسمًا لذكر ذلك النحويون عند تردُّدِها بين الحرفية والفعلية، فلمَّا لم يذكروه دَلَّ على عدمِ اسميتها.
وقرأ الحسن {حاشْ} بسكون الشين وصلًا ووقفًا كأنه أجرى الوصلَ مجرى الوقف. ونقل ابن عطية عن الحسن أنه قرأ: {حاشى الإِله} قال: محذوفًا مِنْ حاشى يعني أنه قرأ بحذف الألف الأخيرة، ويدلُّ على ذلك ما صرَّح به صاحب اللوامح فإنه قال: بحذف الألف ثم قال: وهذا يدلُّ على أنه حرفُ جرٍ يَجُرُّ ما بعده، فأما {الإِله} فكَّه عن الإِدغامِ، وهو مصدرٌ أقيم مُقام المفعول، ومعناه المعبود، وحُذِفت الألف من {حاشى} للتخفيف.
قال الشيخ: وهذا الذي قاله ابن عطية وصاحبُ اللوامح من أنَّ الألف في {حاشى} في قراءة الحسن محذوفةُ الألف لا يتعيَّنُ، إلا إنْ نَقَل عنه أنه يقف في هذه القراءةِ بسكون الشين، فإن لم يُنْقَلْ عنه في ذلك شيءٌ فاحتمل أن تكونَ الألفُ حُذِفت لالتقاء الساكنين؛ إذا الأصلُ: حاشى الإِله ثم نَقَل فحذف الهمزة وحَرَّك اللام بحركتها، ولم يَعْتَدَّ بهذا التحريك لأنه عارض، كما تنحذف في يَخْشى الإِله، ولو اعتدَّ بالحركة لم تُحْذف الألف.
قلت: الظاهر أن الحسنَ يقف في هذه القراءة بسكون الشين، ويُسْتأنس له بأنه سكَّن الشين في الرواية الأخرى عنه، فلمَّا جِيءَ بشيءٍ يُحْتَمَلُ ينبغي أن يُحْمَلَ على ما صُرِّح به. وقول صاحب اللوامح: وهذا يدلُّ على أنه حرف جر يُجَرُّ به ما بعده لا يصحُّ لِما تقدم مِنْ أنه لو كان حرف جر لكان مستثنى به ولم يتقدَّمْ ما يستثنى منه بمجروره.
واعلمْ أنَّ اللامَ الداخلةَ على الجلالة متعلقة بمحذوف على سبيل البيان، كهي في سقيًا لك ورعيًا لزيد عند الجمهور، وأمَّا عند المبرد والفارسي فإنها متعلقة بنفس {حاشى} لأنها فعلٌ صريحٌ عندهما، وقد تقدم أن بعضَهم ادعى زيادتَها.
قوله: {مَا هذا بَشَرًا} العامَّة على إعمال {ما} على اللغة الحجازية، وهي اللغة الفصحى، ولغةُ تميم الإِهمالُ، وقد تقدَّم تحقيق هذا أول البقرة وما أنشدتُه عليه من قوله:
وأنا النذيرُ بحَرَّةٍ مُسْوَدَّةٍ **...........................

البيتين. ونقل ابن عطية أنه لم يَقْرأ أحد إلا بلغة الحجاز. وقال الزمخشري: ومَنْ قرأ على سليقته من بني تميم قرأ {بشرٌ} بالرفع وهي قراءةُ ابن مسعود. قلت: فادِّعاء ابن عطية أنه لم يُقرأ به غير مُسَلَّم.
وقرأ العامَّة {بَشَرًا} بفتح الباء على أنها كلمة واحدة. وقرأ الحسن وأبو الحويرث الحنفي {بشرى} بكسر الباء، وهي باء الجر دخلت على شِرى فهما كلمتان جار ومجرور، وفيها تأويلات، أحدُهما: ما هذا بمشترى، فوضع المصدرَ موضع المفعول به كضَرْب الأمير. الثاني: ما هذا بمُباعٍ، فهو أيضًا مصدر واقع موقع المفعول به إلا أن المعنى يختلف.
الثالث: ما هذا بثمن، يَعْنِين أنه أَرْفَعُ مِنْ أنْ يجرى عليه شيءٌ من هذه الأشياء.
وروى عبد الوارث عن أبي عمرو كقراءة الحسن وأبي الحويرث إلا أنه قرأ عنه {إلا مَلِك} بكسر اللام واحد الملوك، نَفَوا عنه ذُلَّ المماليك وأثبتوا له عِزَّ الملوك.
وذكر ابن عطية كسرَ اللام عن الحسن وأبي الحويرث. وقال أبو البقاء: وعلى هذا قرئ: {مَلِك} بكسر اللام كأنه فهم أنَّ مَنْ قرأ بكسر الياء قرأ بكسر اللام أيضًا للمناسبة بين المعنيين، ولم يذكر الزمخشريُّ هذه القراءةَ مع كسر الباء البتة، بل يُفهم من كلامِه أنه لم يَطَّلع عليها فإنه قال: وقرئ، ما هذا بشرى أي ما هو بعبدٍ مملوكٍ لئيم، إنْ هذا إلا مَلَك كريم، تقول: {هذا بشرى} أي: حاصلٌ بشرى بمعنى يشترى، وتقول: هذا لك بشرى أم بِكِرا؟ والقراءةُ هي الأَوْلى لموافقتها المصحف ومطابقة {بشر} ل {ملك}.
قوله: لموافقتها المصحفَ يعني أنَّ الرسم {بشرًا} بالألف لا بالياء، ولو كان المعنى على بشرى لَرُسِمَ بالياء. وقوله: ومطابقة دليلُ على أنه لم يَطَّلِعْ على كسر اللام عن مَنْ قرأ بكسر الباء. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

من لطائف القشيري في الآية:
قال عليه الرحمة:
{وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (30)}
إنَّ الهوى لا ينكتم، ولا تكون المحبة إلا وأبيح لها لسان عذول، فلما تحققت محبتها ليوسف بسطت النِّسوةُ فيها لسانَ الملامة.
ولما كانت أحسن منهن قيمةً- فقد كُنَّ من جملة خَدَمِها- كانت أسرعَ إلى الملامة.
{فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآَتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا}
أرادتْ أن يغلب عليهن استحقاقُ الملامة، وتَنْفِيَ عن نفسها أن تكون لها أهلًا، ففعلت بهن ما عَمِلَتْ، فلمَّا رأينه تَغَيَّرْنَ وتحيَّرْنَ ونطقن بخلاف التمييز، فقلن: {مَا هَذَا بَشَرًا}: وقد كان بشرًا، وقلن: {إنْ هَذَا إلاَّ مَلِكٌ كَرِيمٌ}: ولم يكن مَلَكًا. اهـ.

.تفسير الآيات (32- 34):

قوله تعالى: {قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آَمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونَنْ مِنَ الصَّاغِرِينَ (32) قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ (33) فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (34)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
فكأنه قيل: فما قالت لهن امرأة العزيز؟ فقيل: {قالت فذلكن} أي الفتى العالي الرتبة جدًا: {الذي لمتنني فيه}.