فصل: قال صاحب المنار في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال صاحب المنار في الآيات السابقة:

{وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا}.
حَادِثَةُ مَكْرِ النِّسْوَةِ بِامْرَأَةِ الْعَزِيزِ وَمُرَاوَدَةِ يُوسُفَ:
هَذِهِ الْآيَاتُ السِّتُّ فِي حَادِثَةِ النِّسْوَةِ مِنْ كِبَارِ بُيُوتَاتِ مِصْرَ، اللَّائِي مَكَرْنَ بِامْرَأَةِ الْعَزِيزِ لِتَجْمَعَهُنَّ بِهَذَا الشَّابِّ الَّذِي فَتَنَهَا جَمَالُهُ، وَأَذَلَّهَا عَفَافُهُ وَكَمَالُهُ، حَتَّى رَاوَدَتْهُ عَنْ نَفْسِهِ وَهُوَ فَتَاهَا، وَدَعَتْهُ إِلَى نَفْسِهَا فَرَدَّهَا وَأَبَاهَا، خَشْيَةً وَطَاعَةً لِلَّهِ، وَحِفْظًا لِأَمَانَةِ السَّيِّدِ الْمُحْسِنِ إِلَيْهِ، أَنْ يَخُونَهُ فِي أَعَزِّ شَيْءٍ لَدَيْهِ، لَعَلَّهُ يَصْبُو إِلَيْهِنَّ، وَيَجْذِبُهُ مِنْ جَمَالِهِنَّ الطَّارِئِ الْمُفَاجِئِ لَهُ، مَا لَمْ يَجْذِبْهُ مِنْ جَمَالِهَا الَّذِي أَلِفَهُ قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَ أَشُدَّهُ، وَكَانَ نَظَرُهُ إِلَيْهَا نَظَرَ الرَّقِيقِ إِلَى سَيِّدَتِهِ، أَوِ الْوَلَدِ إِلَى وَالِدَتِهِ، وَقَدْ جَاءَتْ فِي السُّورَةِ بِأَبْدَعِ صُورَةٍ مِنَ الْإِيجَازِ وَالْبَلَاغَةِ، وَأَعْلَى تَعْبِيرٍ مِنَ الْأَدَبِ وَالنَّزَاهَةِ، وَهُوَ: {وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ} النِّسْوَةُ: جَمْعُ قِلَّةٍ لِلْمَرْأَةِ مِنْ غَيْرِ مَادَّةِ لَفْظِهَا، وَلَمْ يُبَيِّنْ لَنَا التَّنْزِيلُ عَدَدَهُنَّ وَلَا أَسْمَاءَهُنَّ وَلَا صِفَاتِهِنَّ؛ لِأَنَّ الْفَائِدَةَ فِي الْعِبْرَةِ مَحْصُورَةٌ فِي أَنَّ عَمَلَهُنَّ عَمَلُ جَمَاعَةٍ قَلِيلَةٍ يُعْهَدُ فِي الْعُرْفِ ائْتِمَارُهُنَّ وَاتِّفَاقُهُنَّ عَلَى الِاشْتِرَاكِ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَكْرِ الْمُنْكَرِ، فِي مَدِينَةٍ كَبِيرَةٍ كَعَاصِمَةِ مِصْرَ، الَّتِي بَلَغَتْ مُنْتَهَى فِتَنِ الْحَضَارَةِ، وَمَا تَقْتَضِيهِ مِنَ التَّمَتُّعِ بِالشَّهَوَاتِ وَالزِّينَةِ، وَلَفْظُ النِّسْوَةِ مُفْرَدٌ مُذَكَّرٌ فَيَجُوزُ تَذْكِيرُ ضَمِيرِهِ لِلَفْظِهِ وَتَأْنِيثِهِ لِمَعْنَاهُ.
وَمِنْ غَرِيبِ فِتْنَةِ الرِّوَايَاتِ الْبَاطِلَةِ، أَنْ يَدَّعِيَ بَعْضُهُمْ أَنَّ اللَّوَاتِي أَجَبْنَ دَعْوَتَهَا الْآتِيَةَ مِنْهُنَّ كُنَّ أَرْبَعِينَ امْرَأَةً، وَهُوَ مَرْدُودٌ بِالتَّعْبِيرِ عَنِ الْعَاذِلَاتِ كُلِّهِنَّ بِجَمْعِ الْقِلَّةِ، وَكَذَا مَا عُلِمَ بِقَرِينَةِ الْحَالِ وَالْمَقَالِ مِنْ أَنَّهُنَّ مِنْ بُيُوتَاتِ كِبَارِ الدَّوْلَةِ، فَإِنَّ نِسَاءَ الْبُيُوتِ الدُّنْيَا وَكَذَا الْوُسْطَى لَا يَتَسَامَيْنَ- بَعْدَ الْإِنْكَارِ عَلَى امْرَأَةِ الْعَزِيزِ كَبِيرِ وُزَرَاءِ الْمَلِكِ- إِلَى الْوُصُولِ إِلَيْهَا بِالْمَكْرِ وَالْحِيلَةِ، لِمُشَارَكَتِهَا فِي فِتْنَتِهَا بَلْ نِعْمَتِهَا، أَوْ سَلْبِ عَشِيقِهَا مِنْهَا، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ مَا يَأْتِي مِنْ عَاقِبَةِ حَادِثِهِنَّ، وَكَانَ مِنَ الطَّبِيعِيِّ الْمَعْهُودِ أَنْ يَعْرِفْنَ نَبَأَهَا مَعَهُ، وَيَكُونَ حَدِيثَهُنَّ الشَّاغِلَ لَهُنَّ فِي مَجَالِسِهِنَّ الْخَاصَّةِ، وَكَانَ خُلَاصَتُهُ الْوَجِيزَةُ الْمُؤَدِّيَةُ لِمُرَادِهِنَّ مِنْهُ مَا حَكَاهُ التَّنْزِيلُ عَنْهُنَّ وَهُوَ قَوْلُهُنَّ: {امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ} هَذَا خَبَرٌ يُرَادُ بِهِ لَازِمُهُ، وَهُوَ التَّعَجُّبُ وَالْإِنْكَارُ الصُّورِيُّ مِنَ النَّوَاحِي أَوِ الْجِهَاتِ الْأَرْبَعِ:
(1) كَوْنُ الْمُتَحَدَّثِ عَنْهَا امْرَأَةَ عَزِيزِ مِصْرَ وَزِيرِ الْمَلِكِ الْأَكْبَرِ فِي عُلُوِّ مَرْكَزِهَا.
(2) كَوْنُهَا تُهِينُ نَفْسَهَا وَتُحَقِّرُ مَرْكَزَهَا بِأَنْ تَكُونَ مُرَاوِدَةً لِرَجُلٍ عَنْ نَفْسِهِ، وَشَأْنُ مِثْلِهَا- إِنْ سَخَتْ بِعِفَّتِهَا- أَنْ تَكُونَ مُرَاوَدَةً عَنْ نَفْسِهَا لَا مُرَاوِدَةً لِغَيْرِهَا كَمَا تَقَدَّمَ.
(3) أَنَّ الَّذِي تُرَاوِدُهُ عَنْ نَفْسِهِ هُوَ فَتَاهَا وَرَقِيقُهَا.
(4) أَنَّهَا بَعْدَ أَنِ افْتُضِحَ أَمْرُهَا وَعَرَفَ بِهِ سَيِّدُهَا وَزَوْجُهَا، وَعَامَلَهَا بِالْحِلْمِ، وَأَمَرَهَا بِاسْتِغْفَارِ رَبِّهَا، لَا تَزَالُ مُصِرَّةً عَلَى ذَنْبِهَا، مُسْتَمِرَّةً عَلَى مُرَاوَدَتِهَا، وَهُوَ مَا أَفَادَهُ قَوْلُهُنَّ: {تُرَاوِدُ} وَهُوَ فِعْلُ الْمُضَارِعِ الدَّالُّ عَلَى الِاسْتِمْرَارِ {قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا} أَيْ قَدِ اخْتَرَقَ حُبُّهُ شَغَافَ قَلْبِهَا أَيْ غِلَافَهُ الْمُحِيطَ بِهِ، وَغَاصَ فِي سُوَيْدَائِهِ، فَمَلَكَ عَلَيْهَا أَمْرَهَا، حَتَّى إِنَّهَا لَا تُبَالِي مَا يَكُونُ مِنْ عَاقِبَةِ تَهَتُّكِهَا، وَاللَّائِقُ بِمَقَامِهَا الْكِتْمَانُ وَمُكَابَرَةُ الْوِجْدَانِ {إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} أَيْ إِنَّا لَنَرَاهَا بِأَعْيُنِ بَصَائِرِنَا وَحُكْمِ رَأْيِنَا غَائِصَةً فِي غَمْرَةٍ مِنَ الضَّلَالِ الْبَيِّنِ الظَّاهِرِ الْبَعِيدِ عَنْ مَحَجَّةِ الْهُدَى وَالصَّوَابِ.
وَهُنَّ مَا قُلْنَ هَذَا إِنْكَارًا لِلْمُنْكَرِ وَكُرْهًا لِلرَّذِيلَةِ، وَلَا حُبًّا فِي الْمَعْرُوفِ وَنَصْرًا لِلْفَضِيلَةِ، وَإِنَّمَا قُلْنَهُ مَكْرًا وَحِيلَةً، لِيَصِلَ إِلَيْهَا فَيَحْمِلُهَا عَلَى دَعْوَتِهِنَّ، وَإِرَاءَتِهِنَّ بِأَعْيُنِ أَبْصَارِهِنَّ، مَا يُبْطِلُ مَا يَدَّعِينَ رُؤْيَتَهُ بِأَعْيُنِ بَصَائِرِهِنَّ، فَيَعْذُرُونَهَا فِيمَا عَذَلْنَهَا عَلَيْهِ، فَهُوَ مَكْرٌ لَا رَأْيٌ.
{فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ} وَكَانَ مِنَ الْمُتَوَقَّعِ أَنْ تَسْمَعَهُ لِمَا اعْتِيدَ بَيْنَ هَذِهِ الْبُيُوتِ، مِنَ التَّوَاصُلِ بِالزِّيَارَاتِ، وَاخْتِلَافِ الْخَدَمِ مِنْ كُلٍّ مِنْهَا إِلَى الْآخَرِ، وَهُنَّ مَا قُلْنَهُ إِلَّا لِتَسْمَعَهُ، فَإِنْ لَمْ يَصِلْ إِلَيْهَا عَفْوًا، احْتَلْنَ فِي إِيصَالِهِ قَصْدًا، فَكَانَ مَا أَرَدْنَهُ: {أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا} أَيْ دَعَتْهُنَّ إِلَى الطَّعَامِ فِي دَارِهَا، وَمَكَرَتْ بِهِنَّ كَمَا مَكَرْنَ بِهَا، بِأَنْ أَعَدَّتْ وَهَيَّأَتْ لَهُنَّ مَا يَتَّكِئْنَ عَلَيْهِ إِذَا جَلَسْنَ مِنَ الْكَرَاسِيِّ وَالْأَرَائِكِ وَهُوَ الْمُعْتَادُ فِي دُورِ الْكُبَرَاءِ، قَالَ تَعَالَى فِي صِفَةِ الْجَنَّةِ: {مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ} 18: 31 وَكَانَ ذَلِكَ فِي حُجْرَةِ مَائِدَةِ الطَّعَامِ، وَأَعْطَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا لِيَقْطَعْنَ بِهِ مَا يَأْكُلْنَ مِنْ لَحْمٍ أَوْ فَاكِهَةٍ، وَرُوِيَ عَنْ بَعْضِ مُفَسِّرِي السَّلَفِ تَفْسِيرُ الْمُتَّكَأِ بِالطَّعَامِ الَّذِي يُتَّكَأُ عَلَيْهِ، أَيْ يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ لِأَجْلِ قَطْعِهِ كَالْجَامِدِ وَالشَّدِيدِ الْقَوَامِ، دُونَ الرَّخْوِ كَالْمَوْزِ النَّاضِجِ مِنَ الْفَاكِهَةِ وَالْحَسَاءِ مِنَ الطَّعَامِ، وَالِاتِّكَاءُ عَلَى الشَّيْءِ هُوَ التَّمَكُّنُ بِالْجُلُوسِ عَلَيْهِ أَوِ الِاعْتِمَادُ عَلَيْهِ بِالْيَدِ أَوِ الْيَدَيْنِ، قَالَ فِي الْمِصْبَاحِ الْمُنِيرِ: وَتَوَكَّأَ عَلَى عَصَاهُ اعْتَمَدَ عَلَيْهَا، وَاتَّكَأَ جَلَسَ مُتَمَكِّنًا، وَفِي التَّنْزِيلِ: {وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ} 43: 34 أَيْ يَجْلِسُونَ. وَقَالَ: {وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً} 31 أَيْ مَجْلِسًا يَجْلِسْنَ عَلَيْهِ. قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: وَالْعَامَّةُ لَا تَعْرِفُ الِاتِّكَاءَ إِلَّا الْمَيْلَ فِي الْقُعُودِ مُعْتَمِدًا عَلَى أَحَدِ الشِّقَّيْنِ، وَهُوَ يُسْتَعْمَلُ فِي الْمَعْنَيَيْنِ جَمِيعًا، يُقَالُ: اتَّكَأَ إِذَا أَسْنَدَ ظَهْرَهُ أَوْ جَنْبَهُ إِلَى شَيْءٍ مُعْتَمِدًا عَلَيْهِ، وَكُلُّ مَنِ اعْتَمَدَ عَلَى شَيْءٍ فَقَدِ اتَّكَأَ عَلَيْهِ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ.
تَفْسِيرُ الْمُتَّكَأِ هُنَا بِالْأُتْرُجِّ أَوِ الْأُتْرُنْجِ لِأَنَّهُ لَا يُقْطَعُ إِلَّا بِالِاتِّكَاءِ عَلَيْهِ، وَفِي السُّنَّةِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم مَا كَانَ يَأْكُلُ وَهُوَ مُتَّكِئٌ {وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ} أَيْ أَمَرَتْ يُوسُفَ بِالْخُرُوجِ عَلَيْهِنَّ، وَكَانَ فِي حُجْرَةٍ أَوْ مَخْدَعٍ فِي دَاخِلِ حُجْرَةِ الطَّعَامِ الَّتِي كُنَّ فِيهَا مَحْجُوبًا عَنْهُنَّ، وَلَوْ كَانَ فِي مَكَانٍ خَارِجٍ عَنْهَا لَقَالَتِ: ادْخُلْ عَلَيْهِنَّ، فَعُلِمَ مِنْ هَذَا أَنَّهَا تَعَمَّدَتْ أَنْ يَفْجَأَهُنَّ وَهُنَّ مَشْغُولَاتٌ بِمَا يَقْطَعْنَهُ وَيَأْكُلْنَهُ، عَالِمَةً بِمَا يَكُونُ لِهَذِهِ الْفُجَاءَةِ مِنْ تَأْثِيرِ الدَّهْشَةِ، وَهُوَ مَا حَكَاهُ التَّنْزِيلُ عَنْهُنَّ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ} أَيْ أَعْظَمْنَهُ وَدُهِشْنَ لِذَلِكَ الْحُسْنِ الرَّائِعِ، وَالْجَمَالِ الْبَارِعِ، وَغِبْنَ عَنْ شُعُورِهِنَّ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ بَدَلًا مِنْ تَقْطِيعِ مَا يَأْكُلْنَ، ذُهُولًا عَمَّا يَعْمَلْنَ، بِأَنِ اسْتَمَرَّتْ حَرَكَةُ السَّكَاكِينِ الْإِرَادِيَّةُ بَعْدَ فَقْدِ الْإِرَادَةِ عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ قَبْلَ فَقْدِهَا، وَلَكِنَّهَا وَقَعَتْ عَلَى أَكُفِّ شَمَائِلِهِنَّ، وَقَدْ سَقَطَ مِنْهَا مَا كَانَ فِيهَا مِنِ اسْتِرْخَائِهَا بِذُهُولِ تِلْكَ الدَّهْشَةِ فَقَطَعَتْهَا أَيْ جَرَحَتْهَا، وَلَوْلَا اسْتِرْخَاؤُهَا لَأَبَانَتْهَا، وَالظَّاهِرُ أَنَّ مُضَيِّفَتَهُنَّ تَعَمَّدَتْ جَعْلَهَا مَشْحُوذَةً فَوْقَ الْمَعْهُودِ فِي سَكَاكِينِ الطَّعَامِ مُبَالَغَةً فِي مَكْرِهَا بِهِنَّ؛ لِتَقُومَ لَهَا الْحُجَّةُ عَلَيْهِنَّ بِمَا لَا يَسْتَطِعْنَ إِنْكَارَهُ، وَاخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي هَذَا الْقَطْعِ، هَلْ كَانَ قَطْعُ إِبَانَةٍ انْفَصَلَتْ بِهِ الْكَفُّ مِنَ الْمِعْصَمِ أَوِ الْأَصَابِعُ مِنَ الْكَفِّ؟ أَمْ قَطْعُ جَرْحٍ أُطْلِقَ فِيهِ لَفْظُ بَدْءِ الشَّيْءِ عَلَى غَايَتِهِ مِنْ بَابِ الْمُبَالَغَةِ، وَهُوَ مَا يُسَمِّيهِ عُلَمَاءُ الْبَيَانِ بِالْمَجَازِ الْمُرْسَلِ؟
الْأَكْثَرُونَ عَلَى الثَّانِي، وَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ إِلَى الْيَوْمِ بِالْإِرْثِ عَنْ قُدَمَاءِ الْعَرَبِ فِيمَنْ يُحَاوِلُ قَطْعَ شَيْءٍ فَتُصِيبُ السِّكِّينُ يَدَهُ فَتَجْرَحُهَا، يَقُولُ: كُنْتُ أَقْطَعُ اللَّحْمَ أَوِ الْحَبْلَ (مَثَلًا) فَقَطَعْتُ يَدِي، كَأَنَّهُ يَقُولُ: كَادَ مَا أَرَدْتُهُ مِنْ قَطْعِ اللَّحْمِ يَكُونُ بِيَدِي مِمَّا أَخْطَأْتُ، وَلَا يُقَالُ فِيمَنْ جَرَحَ عُضْوًا مِنْهُ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ كَالطَّبِيبِ قَاصِدًا جَرْحَهُ إِنَّهُ قَطَعَهُ إِلَّا إِذَا بَالَغَ فِيهِ، يُقَالُ: أَرَادَ أَنْ يَجْرَحَ رِجْلَهُ لِيُخْرِجَ مِنْهَا شَظِيَّةً نَشِبَتْ فِيهَا فَقَطَعَهَا، يُرِيدُ أَنَّهُ بَالَغَ فَكَادَ يَقْطَعُهَا، وَقَدْ أَشَارَ الزَّمَخْشَرِيُّ إِلَى مِثْلِ هَذَا الْقَيْدِ فِي اسْتِعْمَالِ الْقَطْعِ بِمَعْنَى الْجَرْحِ فَقَالَ: (كَمَا تَقُولُ: كُنْتُ أَقْطَعُ اللَّحْمَ فَقَطَعْتُ يَدِي) يُرِيدُ فَأَخْطَأْتُ فَجَرَحْتُهَا حَتَّى كِدْتُ أَقْطَعُهَا {وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا} أَيْ قُلْنَ هَذَا تَعَجُّبًا وَتَنْزِيهًا لِلَّهِ تَعَالَى أَنْ يَكُونَ خَلَقَ هَذَا الشَّخْصَ الْعَجِيبَ فِي جَمَالِهِ وَعِفَّتِهِ مِنْ نَوْعِ الْبَشَرِ، وَهُوَ مَا لَمْ يُعْهَدُ لَهُ فِي النَّاسِ مِثْلٌ، إِنَّهُ لَيْسَ بَشَرًا مِثْلَنَا {إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ} أَيْ مَا هَذَا إِلَّا مَلَكٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ الرُّوحَانِيِّينَ تَمَثَّلَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ الْبَدِيعِيَّةِ الَّتِي تُدْهِشُ الْأَبْصَارَ وَتَخْلِبُ الْأَلْبَابَ (كَمَا كَانَ يُصَوِّرُ لَهُمْ صُنَّاعُهُمُ الرَّسَّامُونَ وَالنَّحَّاتُونَ أَرْوَاحَ الْمَلَائِكَةِ وَالْآلِهَةَ بِالصُّوَرِ وَالتَّمَاثِيلِ لِتَكْرِيمِهَا وَعِبَادَتِهَا) وَأَحْسَنُ كَلِمَةٍ رُوِيَتْ فِي الْآيَةِ عَنْ مُفَسِّرِي السَّلَفِ قَوْلُ ابْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ الْمَدَنِيِّ: أَعْطَتْهُنَّ أُتْرُنْجًا وَعَسَلًا فَكُنَّ يُحَزِّزْنَ الْأُتْرُنْجَ بِالسِّكِّينِ وَيَأْكُلْنَهُ بِالْعَسَلِ، فَلَمَّا قِيلَ لَهُ: اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ، خَرَجَ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَعْظَمْنَهُ وَتَهَيَّمْنَ بِهِ حَتَّى جَعَلْنَ يُحَزِّزْنَ أَيْدِيَهُنَّ بِالسِّكِّينِ وَفِيهَا الْأُتْرُنْجُ، وَلَا يَعْقِلْنَ وَلَا يَحْسَبْنَ إِلَّا أَنَّهُنَّ يُحَزِّزْنَ الْأُتْرُنْجَ، قَدْ ذَهَبَتْ عُقُولُهُنَّ مِمَّا رَأَيْنَ {وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا} مَا هَكَذَا يَكُونُ الْبَشَرُ، مَا هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ. انْتَهَى. فَفُسِّرَ قَطْعُ الْأَيْدِي بِحَزِّهَا، وَالْحَزُّ أَقَلُّ مَا يُحْدِثُهُ السِّكِّينُ كَالْقَرْضِ فِي الْخَشَبَةِ، وَهُنَا يَتَسَاءَلُ الْمُتَسَائِلُونَ: مَاذَا قَالَتْ لَهُنَّ، وَقَدْ غَلَبَ مَكْرُهَا مَكْرَهُنَّ؟ وَصَارَ حَالُهَا وَحَالُهُنَّ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
أَبْصَرَهُ عَاذِلِي عَلَيْهِ ** وَلَمْ يَكُنْ قَبْلَهَا رَآهُ

فَقَالَ لِي لَوْ عَشِقْتَ هَذَا ** مَا لَامَكَ النَّاسُ فِي هَوَاهُ

فَظَلَّ مِنْ حَيْثُ لَيْسَ يَدْرِي ** يَأْمُرُ بِالْعِشْقِ مَنْ نَهَاهُ

{قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ} أَيْ حِينَئِذٍ قَالَتْ لَهُنَّ مَا يُعْلَمُ شَرْحُهُ مِنْ قَرِينَةِ الْحَالِ، لِمَا جَاءَ فِي التَّنْزِيلِ مِنْ إِيجَازٍ وَإِجْمَالٍ: إِذَا كَانَ الْأَمْرُ مَا رَأَيْتُنَّ بِأَعْيُنِكُنَّ، وَمَا أَكْبَرْتُنَّ فِي أَنْفُسِكُنَّ، وَمَا فَعَلْتُنَّ بِأَيْدِيكُنَّ، وَمَا قُلْتُنَّ بِأَلْسِنَتِكُنَّ، فَذَلِكُنَّ هُوَ الْأَمْرُ الْبَعِيدُ الْغَايَةِ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ، وَأَسْرَفْتُنَّ فِي عَذْلِي عَلَيْهِ، إِذْ قُلْتُنَّ مِنْ قَبْلُ مَا قُلْتُنَّ، فَالْمُشَارُ إِلَيْهِ بِكَافِ الْبُعْدِ هُوَ أَمْرُ لَوْمِهِنَّ لَهَا، أَوْ يُوسُفُ الْبَعِيدُ فِي حَقِيقَتِهِ الْبَدِيعُ فِي صُورَتِهِ عَمَّا تُصَوِّرْنَهُ بِهِ، فَمَا هُوَ عِبْرَانِيٌّ أَوْ كَنْعَانِيٌّ مَمْلُوكٌ، وَخَادِمٌ صُعْلُوكٌ، قَدْ شَغَفَ مَوْلَاتَهُ الْمَالِكَةَ لِرِقِّهِ حُبًّا وَغَرَامًا، فَهِيَ تُرَاوِدُهُ عَنْ نَفْسِهِ ضَلَالًا مِنْهَا وَهَيَامًا، بَلْ هُوَ أَكْبَرُ مِنْ ذَلِكَ وَأَعْظَمُ، هُوَ مَلَكٌ رُوحَانِيٌّ، تَجَلَّى فِي شَكْلٍ إِنْسَانِيٍّ، أُوتِيَ مِنْ رَوْعَةِ الْجَمَالِ مَا خَلَبَ أَلْبَابَكُنَّ فِي الْوَهْلَةِ الْأُولَى مِنْ ظُهُورِهِ لَكُنَّ، فَمَا قَوْلُكُنَّ فِي أَمْرِي مَعَهُ وَافْتِتَانِي بِهِ، وَإِنَّمَا تَرَعْرَعَ فِي دَارِي، وَبَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى بَيْنَ سَمْعِي وَبَصَرِي، فَأَنَا أُشَاهِدُهُ فِي قُعُودِهِ وَقِيَامِهِ، وَيَقَظَتِهِ وَمَنَامِهِ، وَطَعَامِهِ وَشَرَابِهِ، وَحَرَكَتِهِ وَسُكُونِهِ، وَأَخْلُو بِهِ فِي لَيْلِي وَنَهَارِي، فَأَرَاهُ بَشَرًا سَوِيًّا، إِنْسِيًّا لَا جِنِّيًّا، وَجَسَدًا لَا مَلَكًا رُوحَانِيًّا، فَأَتَرَاءَى لَهُ فِي زِينَتِي، وَأَعْرِضُ عَلَى نَظَرِهِ مَا ظَهَرَ وَمَا خَفِيَ مِنْ مَحَاسِنِي، فَيُعْرِضُ عَنْهَا احْتِقَارًا، فَأَتَصَبَّاهُ بِكُلِّ مَا أَمْلِكُ مِنْ كَلَامٍ عَذْبٍ يَخْلُبُ اللُّبَّ، وَلِينِ قَوْلٍ وَخُشُوعِ صَوْتٍ يُرَقِّقُ الْقَلْبَ، فَلَا يَصْبُو إِلَيَّ، وَأَمُدُّ عَيْنَيَّ إِلَى مَحَاسِنِهِ فِيهِمَا كُلُّ مَا يُكِنُّهُ قَلْبِي مِنْ صَبَابَةٍ وَشَوْقٍ وَخَلَاعَةٍ، مَعَ فُتُورِ جَفْنٍ، وَانْكِسَارِ طَرْفٍ، وَطُولِ تَرْنِيقٍ وَتَحْدِيقٍ، فَلَا يَرْفَعُ إِلَيَّ طَرْفًا، وَلَا يَمِيلُ نَحْوِي عَطْفًا، بَلْ تَتَجَلَّى فِيهِ الرُّوحُ الْمَلَكِيَّةُ بِأَظْهَرِ مَجَالِيهَا، وَالْعِبَادَةُ الْإِلَهِيَّةِ بِأَكْمَلِ مَعَانِيهَا، أَمِثْلُ هَذَا الْمَلَكِ الْقَاهِرِ يُسَمَّى عَبْدًا طَائِعًا، وَمِثْلُ هَذِهِ الْمَرْأَةِ الْمَقْهُورَةِ تُسَمَّى سَيِّدَةً مَالِكَةً، تَأْمُرُ بَلْ تَسِيرُ فَتُطَاعُ، وَيُنْكَرُ عَلَيْهَا أَنْ تُرَاوِدَ فَتُرَدُّ، ثُمَّ تُرِيدُ إِظْهَارَ سُلْطَانِهَا فَتَعْجِزُ؟ لَقَدِ انْكَشَفَ الْقِنَاعُ، فَلَا أَمْرَ لِمَنْ لَا يُطَاعُ، {وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ} أَيِ اسْتَمْسَكَ بِعُرْوَةِ عِصْمَتِهِ الَّتِي وَرِثَهَا عَمَّنْ نَشَئُوا عَلَيْهَا، كَأَنَّهُ يَطْلُبُ مَزِيدَ الْكَمَالِ مِنْهَا.
هَهُنَا أَقُولُ: وَاللهِ مَا عَجَبِي مِنْ يُوسُفَ أَنْ رَاوَدَتْهُ مَوْلَاتُهُ فَاسْتَعْصَمَ، وَأَنْ قَالَتْ لَهُ: {هَيْتَ لَكَ} فَقَالَ: (أَعُوذُ بِاللهِ) فَكَمْ قَالَ هَذَا مَنْ لَيْسَ لَهُ مَقَامُهُ فِي مَعْرِفَتِهِ بِاللهِ وَمُرَاقَبَتِهِ لِلَّهِ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا رَاوَدَ أَعْرَابِيَّةً فِي لَيْلَةٍ لَيْلَاءَ، وَقَالَ: إِنَّهُ لَا يَرَانَا غَيْرُ كَوَاكِبِ هَذِهِ السَّمَاءِ، فَقَالَتْ: وَأَيْنَ مُكَوْكِبُهَا؟
وَإِنَّمَا عَجَبِي بَلْ إِعْجَابِي بِيُوسُفَ عليه السلام أَنَّ نَظَرَهُ إِلَى اللهِ أَوْ نَظَرَ اللهِ إِلَيْهِ لَمْ يَدَعْ فِي قَلْبِهِ الْبَشَرِيِّ مَكَانًا خَالِيًا لِنَظَرَاتِ هَذِهِ الْعَاشِقَةِ الَّتِي شَغَفَهَا حُبًّا، لِتُصِيبَهَا لَهُ قَبْلَ أَنْ يَخُونَهَا صَبْرُهَا فَتُنَفِّرُهُ بِمُصَارَحَتِهَا، وَإِنَّ مِنْ أَقْوَى غَرَائِزِ الْبَشَرِ حُبُّ الْإِنْسَانِ لِمَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ يُحِبُّهُ، وَإِنْ كَانَ مَشْغُولَ الْقَلْبِ عَنْهُ بِحُبِّ مَنْ لَا يُحِبُّهُ، كَمَا قِيلَ:
وَنَظْرَةُ الْمَحْبُوبِ لِلْمُحِبِّ ** وَاللهِ عَنْ إِنْسَانِ عَيْنُ الْقَلْبِ

وَأَمَّا الْخَالِي فَلَا يَكَادُ يَسْلَمُ مِنْ تَأْثِيرِ التَّحَبُّبِ فِي اسْتِمَالَتِهِ كَمَا قَالَتْ عُلَيَّةُ بِنْتُ الْمَهْدِيِّ الْعَبَّاسِيِّ:
تَحَبَّبْ فَإِنَّ الْحُبَّ دَاعِيَةُ الْحُبِّ

فَالْحُبُّ أَقْوَى غَرَائِزِ الْبَشَرِ، وَأَكْبَرُ مَا يَفْتِنُ الرِّجَالَ بِالنِّسَاءِ وَالنِّسَاءَ بِالرِّجَالِ، وَإِنَّ مِنَ الْحُبِّ لَصَادِقًا وَكَاذِبًا، وَإِنَّ مِنَ الْعِشْقِ لَعُذْرِيًّا عَفِيفًا، وَشَهْوِيًّا فَاسِقًا، وَإِنَّ مَفَاسِدَهُ فِي الْحَضَارَةِ لِكَبِيرَةٌ، وَإِنَّ فِتْنَتَهُ لِعَظِيمَةٌ، وَسَنَعْقِدُ لَهُ فَصْلًا فِي بَابِ الْعِبْرَةِ بِالْقِصَّةِ فِي إِجْمَالِ تَفْسِيرِ السُّورَةِ.
{وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ} بِهِ، أُقْسِمُ لَكُنَّ آكَدَ الْأَيْمَانِ، وَلِتَسْمَعَ ذَلِكَ مِنْهُ الْأُذُنَانِ {لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونَنْ مِنَ الصَّاغِرِينَ} أَيِ الْأَذِلَّةِ الْمَقْهُورِينَ، تَعْنِي أَنَّ زَوْجَهَا الْعَزِيزَ يُعَاقِبُهُ بِمَا تُرِيدُ مِنْ إِلْقَائِهِ فِي السِّجْنِ وَهُوَ الْمُدَبِّرُ لَهُ الْمُتَوَلِّي لِأَمْرِهِ، وَمَنْ جَعَلَهُ كَغَيْرِهِ مِنَ الْعَبِيدِ بَعْدَ تَكْرِيمِ مَثْوَاهُ وَجَعْلِهِ كَوَلَدِهِ، وَهَذَا أَشَدُّ مِمَّا أَنْذَرَتْهُ أَوَّلًا إِذْ قَالَتْ لِزَوْجِهَا عِنْدَ الْتِقَائِهِمَا بِهِ لَدَى الْبَابِ: {مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} هُنَالِكَ أَنْذَرَتْهُ أَحَدَ الْعِقَابَيْنِ: سِجْنٌ غَيْرُ مُؤَكَّدٍ، أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ نَكِرَةٌ غَيْرُ مُعَرَّفٍ، قَدْ يَكُونُ ذَلِكَ السِّجْنُ الْمُطْلَقُ بِأَخَفِّ صُوَرِهِ وَأَقَلِّهَا، وَالْعَذَابُ الْمُنْكَرُ بِأَهْوَنِ أَنْوَاعِهِ وَأَلْطَفِهَا، فَذَاكَ بِحَبْسِهِ فِي حُجْرَةٍ مِنَ الدَّارِ، وَهَذَا بِلَطْمَةٍ يَحْتَدِمُ بِهَا مَا فِي خَدَّيْهِ مِنَ الِاحْمِرَارِ، وَهُنَا أَنْذَرَتْهُ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا، وَأَكَّدَتِ السِّجْنَ بِالْقَسَمِ وَبِنُونِ التَّوْكِيدِ الثَّقِيلَةِ، وَفَسَّرَتِ الْعَذَابَ بِالصَّغَارِ الَّذِي تَأْبَاهُ الْأَنْفُسُ الْكَبِيرَةُ، وَاكْتَفَتْ فِيهِ بِالنُّونِ الْخَفِيفَةِ، وَهُوَ أَشَقُّ عَلَى مِثْلِ يُوسُفَ مِنَ الْعَذَابِ الْأَلِيمِ بِالْأَعْمَالِ الشَّاقَّةِ؛ لِأَنَّهَا أَهْوَنُ عَلَى كِرَامِ النَّاسِ مِنَ الْهَوَانِ وَالصَّغَارِ بِاحْتِقَارِ النَّفْسِ، وَفِعْلُهُ صَغِرَ كَتَعِبَ، وَأَمَّا صَغُرَ كَضَخُمَ فَهُوَ خَاصٌّ بِصِغَرِ الْجِسْمِ، وَمِنَ الْأَوَّلِ قَوْلُهُ تَعَالَى:
حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ 9: 29.
وَفِي هَذَا التَّهْدِيدِ مِنْ ثِقَةِ هَذِهِ الْمَرْأَةِ بِسُلْطَانِهَا عَلَى زَوْجِهَا الْوَزِيرِ الْكَبِيرِ عَلَى عِلْمِهِ بِأَمْرِهَا، وَاسْتِعْظَامِهِ لِكَيْدِهَا، مَا حَقُّهُ أَنْ يُخِيفَ يُوسُفَ مِنْ تَنْفِيذِ إِرَادَتِهَا، وَيُثْبِتُ عِنْدَهُ عَدَمَ غِيرَتِهِ عَلَيْهَا، كَمَا هُوَ شَأْنُ كَثِيرٍ مِنَ الْوُزَرَاءِ الْمُتْرَفِينَ، وَلاسيما الْعَاجِزِينَ عَنْ إِحْصَانِ أَزْوَاجِهِنَّ، وَالْمَحْرُومِينَ مِنْ نِعْمَةِ الْأَوْلَادِ مِنْهُنَّ، وَمَاذَا فَعَلَ يُوسُفُ وَمَا قَالَ وَقَدْ عَلِمَ أَنَّ هَذِهِ الْمَرْأَةَ الْمَاكِرَةَ قَدْ عِيلَ صَبْرُهَا، وَهُتِكَتْ سِتْرُهَا، وَكَاشَفَتْ نِسْوَةَ كِبَارِ بَلَدِهَا بِمَا تُسِرُّ وَمَا تُعْلِنُ مِنْ أَمْرِهَا؟ وَرَأَى أَنَّهُنَّ تَوَاطَأْنَ مَعَهَا عَلَى كَيْدِهَا، وَرَاوَدْنَهُ عَنْ نَفْسِهِ كَمَا رَاوَدَتْهُ عَنْ نَفْسِهِ، وَهُوَ تَوَاطُؤٌ لَا قِبَلَ لِرَجُلٍ بِهِ، إِلَّا بِمَعُونَةِ رَبِّهِ وَحِفْظِهِ.
{قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} أَيْ قَالَ: أَيْ رَبِّي، الْغَالِبُ عَلَى أَمْرِي، الْعَالِمُ بِسِرِّي وَجَهْرِي، إِنَّ الْحَبْسَ وَالِاعْتِقَالَ فِي السِّجْنِ مَعَ الْمُجْرِمِينَ حَيْثُ شَظَفُ الْعَيْشِ أَحَبُّ إِلَى نَفْسِي، وَآثَرُ عِنْدِي عَلَى مَا يَدْعُونِي إِلَيْهِ هَؤُلَاءِ النِّسْوَةُ مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ بِهِنَّ فِي تَرَفِ هَذِهِ الْقُصُورِ وَزِينَتِهَا، وَالِاشْتِغَالِ بِحُبِّهِنَّ عَنْ حُبِّكَ، وَبِقُرْبِهِنَّ عَنْ قُرْبِكَ، وَبِمُغَازَلَتِهِنَّ عَنْ مُنَاجَاتِكَ، وَإِنَّمَا يُفَسَّرُ وَيُشْرَحُ هَذَا بِمَا يُعْلَمُ مِنْ سِيَاقِ الْقُرْآنِ، وَمِنْ طِبَاعِ الرِّجَالِ وَالنِّسْوَانِ، وَمِنَ التَّارِيخِ الْعَامِّ، وَالسُّنَنِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ وَالْأَخْلَاقِ وَالْعَادَاتِ، وَسِيرَةِ الصَّالِحِينَ وَالْأَنْبِيَاءِ، دُونَ حَاجَةٍ إِلَى مَا لَا سَنَدَ لَهُ وَلَا دَلِيلَ عَلَيْهِ مِنَ الرِّوَايَاتِ وَدَسَائِسِ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ، وَمِنْهُ أَنَّهُ لَيْسَ فِي السِّجْنِ إِلَّا الِاعْتِبَارُ بِأَحْكَامِ الْمُلُوكِ وَأَعْوَانِهِمْ مِنَ الْوُزَرَاءِ وَالْقُضَاةِ عَلَى مَنْ يَسْخَطُونَ عَلَيْهِمْ بِحَقٍّ أَوْ بِغَيْرِ حَقٍّ، مِمَّا يَزِيدُنِي إِيمَانًا بِقَضَائِكَ، وَصَبْرًا عَلَى بَلَائِكَ، وَشُكْرًا لِنَعْمَائِكَ، وَعِلْمًا بِشُئُونِ خَلْقِكَ، وَيَفْتَحُ لِي بَابَ الدَّعْوَةِ إِلَى مَعْرِفَتِكَ وَتَوْحِيدِكَ، وَالِاسْتِعْدَادِ لِإِقَامَةِ الْحَقِّ، وَنَصْبِ مِيزَانِ الْعَدْلِ، فِيمَا عَسَى أَنْ تُخَوِّلَنِي مِنَ الْأَمْرِ، إِذَا مَكَّنْتَ لِي كَمَا وَعَدْتَنِي فِي الْأَرْضِ.
هَذَا مَا يَتَبَادَرُ إِلَى الْفَهْمِ مِنْ تَوْجِيهِ التَّفْضِيلِ فِي الْحُبِّ، تَدُلُّ عَلَيْهِ حَالَةُ يُوسُفَ وَسَابِقُ قِصَّتِهِ وَلَاحِقُهَا بِغَيْرِ تَكَلُّفٍ وَلَا تَحَكُّمٍ، كَمَا هُوَ دَأْبُنَا فِي كُلِّ مَا تُفَسَّرُ بِهِ هَذِهِ الْقِصَّةُ وَغَيْرُهَا، وَهُوَ يَصْدُقُ فِي جَعْلِ اسْمِ التَّفْضِيلِ هُنَا لَا مَفْهُومَ لَهُ أَوْ عَلَى غَيْرِ بَابِهِ كَمَا يُقَالُ، فَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ مَا يَدْعُونِي إِلَيْهِ مَحْبُوبٌ عِنْدِي وَالسِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْهُ، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ أَنَّ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ إِذَا تَعَارَضَا وَكَانَ لابد مِنْ أَحَدِهِمَا، فَالسِّجْنُ آثَرُ وَأَوْلَى بِالتَّرْجِيحِ؛ لِأَنَّ مَا فِيهِ مِنَ الْمَشَقَّةِ لَهُ فَائِدَةٌ عَاجِلَةٌ، وَعَاقِبَةٌ صَالِحَةٌ، وَأَمَّا مُجَاهَدَةُ هَؤُلَاءِ النِّسْوَةِ مَعَ الْمُكْثِ مَعَهُنَّ، فَهُوَ أَشَقُّ عَلَى الْمُؤْمِنِ الْعَارِفِ بِرَبِّهِ، وَلَيْسَ لَهُ مِنَ الْفَائِدَةِ وَالْعَاقِبَةِ مَا لِلسِّجْنِ، فَهُوَ- أَيِ اسْمُ التَّفْضِيلِ- مِنْ قَبِيلِ قَوْلِ الْمُحَدِّثِينَ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ الضَّعِيفَةِ:
هُوَ أَصَحُّ مَا فِي هَذَا الْبَابِ، يَعْنُونَ: أَقْوَى مَا فِيهِ وَإِنْ كَانَتْ كُلُّهَا غَيْرَ صَحِيحَةٍ، بَلْ هُوَ كَقَوْلِهِ الْآتِي: {أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} 39.