فصل: التفسير المأثور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



هذه الدعوة السافرة الجاهرة الغليظة لا تكون أول دعوة من المرأة. إنما تكون في الدعوة الأخيرة. وقد لا تكون أبدًا إذا لم تضطر إليها المرأة اضطرارًا. والفتى يعيش معها وفتوته تتكامل، وأنوثتها هي كذلك تكمل وتنضج، فلابد كانت هناك إغراءات شتى خفيفة لطيفة، قبل هذه المفاجأة الغليظة العنيفة.
{قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون}.. {معاذ الله}..
أعيذ نفسي بالله أن أفعل.
{إنه ربي أحسن مثواي}..
وأكرمني بأن نجاني من الجب وجعل في هذه الدار مثواي الطيب الآمن.
{إنه لا يفلح الظالمون}.. الذين يتجاوزون حدود الله، فيرتكبون ما تدعينني اللحظة إليه.
والنص هنا صريح وقاطع في أن رد يوسف المباشر على المراودة السافرة كان هو التأبي، المصحوب بتذكر نعمة الله عليه، وبتذكر حدوده وجزاء من يتجاوزون هذه الحدود. فلم تكن هناك استجابة في أول الموقف لما دعته إليه دعوة غليظة جاهزة بعد تغليق الأبواب، وبعد الهتاف باللفظ الصريح الذي يتجمل القرآن في حكايته وروايته: {وقالت هيت لك}.
{ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه}!
لقد حصر جميع المفسرين القدامى والمحدثين نظرهم في تلك الواقعة الأخيرة. فأما الذين ساروا وراء الإسرائيليات فقد رووا أساطير كثيرة يصورون فيها يوسف هائج الغريزة مندفعًا شبقًا، والله يدافعه ببراهين كثيرة فلا يندفع! صورت له هيئة أبيه يعقوب في سقف المخدع عاضًا على أصبعه بفمه! وصورت له لوحات كتبت عليها آيات من القرآن أي نعم من القرآن! تنهى عن مثل هذا المنكر، وهو لا يرعوي! حتى أرسل الله جبريل يقول له: أدرك عبدي، فجاء فضربه في صدره.. إلى آخر هذه التصورات الأسطورية التي سار وراءها بعض الرواة وهي واضحة التلفيق والاختراع!
وأما جمهور المفسرين فسار على أنها همت به هم الفعل، وهم بها هم النفس، ثم تجلى له برهان ربه فترك. وأنكر المرحوم الشيخ رشيد رضا في تفسير المنار على الجمهور هذا الرأي. وقال: إنها إنما همت بضربه نتيجة إبائه وإهانته لها وهي السيدة الآمرة، وهم هو برد الاعتداء؛ ولكنه آثر الهرب فلحقت به وقدت قميصه من دبر.. وتفسير الهم بأنه هم الضرب ورد الضرب مسألة لا دليل عليها في العبارة، فهي مجرد رأي لمحاولة البعد بيوسف عن هم الفعل أو هم الميل إليه في تلك الواقعة. وفيه تكلف وإبعاد عن مدلول النص.
أما الذي خطر لي وأنا أراجع النصوص هنا، وأراجع الظروف التي عاش فيها يوسف، في داخل القصر مع هذه المرأة الناضجة فترة من الزمن طويلة، وقبل أن يؤتى الحكم والعلم وبعدما أوتيهما..
الذي خطر لي أن قوله تعالى: {ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه}..
هو نهاية موقف طويل من الإغراء، بعدما أبى يوسف في أول الأمر واستعصم.. وهو تصوير واقعي صادق لحالة النفس البشرية الصالحة في المقاومة والضعف؛ ثم الاعتصام بالله في النهاية والنجاة.. ولكن السياق القرآني لم يفصل في تلك المشاعر البشرية المتداخلة المتعارضة المتغالبة؛ لأن المنهج القرآني لا يريد أن يجعل من هذه اللحظة معرضًا يستغرق أكثر من مساحته المناسبة في محيط القصة، وفي محيط الحياة البشرية المتكاملة كذلك.
فذكر طرفي الموقف بين الاعتصام في أوله والاعتصام في نهايته، مع الإلمام بلحظة الضعف بينهما، ليكتمل الصدق والواقعية والجو النظيف جميعًا.
هذا ما خطر لنا ونحن نواجه النصوص، ونتصور الظروف. وهو أقرب إلى الطبيعة البشرية وإلى العصمة النبوية. وما كان يوسف سوى بشر. نعم إنه بشر مختار. ومن ثم لم يتجاوز همه الميل النفسي في لحظة من اللحظات. فلما أن رأى برهان ربه الذي نبض في ضميره وقلبه، بعد لحظة الضعف الطارئة، عاد إلى الاعتصام والتأبي.
{كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين}..
{واستبقا الباب}..
فهو قد آثر التخلص بعد أن استفاق.. وهي عدت خلفه لتمسك به، وهي ما تزال في هياجها الحيواني.
{وقدت قميصه من دبر}..
نتيجة جذبها له لترده عن الباب..
وتقع المفاجأة: {وألفيا سيدها لدى الباب}..
وهنا تتبدى المرأة المكتملة، فتجد الجواب حاضرًا على السؤال الذي يهتف به المنظر المريب. إنها تتهم الفتى: {قالت ما جزاء من أراد بأهلك سوءًا}..
ولكنها امرأة تعشق، فهي تخشى عليه، فتشير بالعقاب المأمون.
{إلا أن يسجن أو عذاب أليم}!
ويجهر يوسف بالحقيقة في وجه الاتهام الباطل: {قال هي راودتني عن نفسي}!
وهنا يذكر السياق أن أحد أهلها حسم بشهادته في هذا النزاع: {وشهد شاهد من أهلها إن كان قميصه قُدّ من قُبل فصدقت وهو من الكاذبين وإن كان قميصه قُدّ من دُبر فكذبت وهو من الصادقين}..
فأين ومتى أدلى هذا الشاهد بشهادته هذه؟ هل كان مع زوجها (سيدها بتعبير أهل مصر) وشهد الواقعة؟ أم أن زوجها استدعاه وعرض عليه الأمر، كما يقع في مثل هذه الأحوال أن يستدعي الرجل كبيرًا من أسرة المرأة ويطلعه على ما رأى، وبخاصة تلك الطبقة الباردة الدم المائعة القيم!
هذا وذلك جائز. وهو لا يغير من الأمر شيئًا. وقد سمي قوله هذا شهادة، لأنه لما سئل رأيه في الموقف والنزاع المعروض من الجانبين ولكل منها ومن يوسف قول سميت فتواه هذه شهادة، لأنها تساعد على تحقيق النزاع والوصول إلى الحق فيه.. فإن كان قميصه قد من قبل فذلك إذن من أثر مدافعتها له وهو يريد الاعتداء عليها فهي صادقة وهو كاذب. وإن كان قميصه قد من دبر فهو إذن من أثر تملصه منها وتعقبها هي له حتى الباب، فهي كاذبة وهو صادق.. وقدم الفرض الأول لأنه إن صح يقتضي صدقها وكذبه، فهي السيدة وهو فتى، فمن باب اللياقة أن يذكر الفرض الأول! والأمر لا يخرج عن أن يكون قرينة.
{فلما رأى قميصه قدّ من دُبر}..
تبين له حسب الشهادة المبنية على منطق الواقع أنها هي التي راودت، وهي التي دبرت الاتهام.. وهنا تبدو لنا صورة من الطبقة الراقية في الجاهلية قبل آلاف السنين وكأنها هي هي اليوم شاخصة. رخاوة في مواجهة الفضائح الجنسية؛ وميل إلى كتمانها عن المجتمع، وهذا هو المهم كله: {قال إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم يوسف أعرض عن هذا واستغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين}!
هكذا. إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم.. فهي اللباقة في مواجهة الحادث الذي يثير الدم في العروق. والتلطف في مجابهة السيدة بنسبة الأمر إلى الجنس كله، فيما يشبه الثناء. فإنه لا يسوء المرأة أن يقال لها: إن كيدكن عظيم! فهو دلالة في حسها على أنها أنثى كاملة مستوفية لمقدرة الأنثى على الكيد العظيم!
والتفاتة إلى يوسف البرئ: {يوسف أعرض عن هذا}.. فأهملْه ولا تُعِرْه اهتمامًا ولا تتحدث به.. وهذا هو المهم.. محافظة على الظواهر! وعظة إلى المرأة التي راودت فتاها عن نفسه، وضبطت متلبسة بمساورته وتمزيق قميصه: {واستغفري لذنبك إنك من الخاطئين}.. إنها الطبقة الأرستقراطية، من رجال الحاشية، في كل جاهلية. قريب من قريب!
ويسدل الستار على المشهد وما فيه.. وقد صور السياق تلك اللحظة بكل ملابساتها وانفعالاتها ولكن دون أن ينشئ منها معرضًا للنزوة الحيوانية الجاهرة، ولا مستنقعًا للوحل الجنسي المقبوح!
ولم يحل السيد بين المرأة وفتاها. ومضت الأمور في طريقها. فهكذا تمضي الأمور في القصور! ولكن للقصور جدرانًا، وفيها خدم وحشم. وما يجري في القصور لا يمكن أن يظل مستورًا. وبخاصة في الوسط الأرستقراطي، الذي ليس لنسائه من هم إلا الحديث عما يجري في محيطهن. وإلا تداول هذه الفضائح ولوكها على الألسن في المجالس والسهرات والزيارات: {وقال نسوة في المدينة امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه قد شغفها حبًا إنا لنراها في ضلال مبين}..
وهو كلام أشبه بما تقوله النسوة في كل بيئة جاهلية عن مثل هذه الشؤون. ولأول مرة نعرف أن المرأة هي امرأة العزيز، وأن الرجل الذي اشتراه من مصر هو عزيز مصر أي كبير وزرائها ليعلن هذا مع إعلان الفضيحة العامة بانتشار الخبر في المدينة: {امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه}..
ثم بيان لحالها معه: {قد شغفها حبًا}..
فهي مفتونة به، بلغ حبه شغاف قلبها ومزقه، وشغاف القلب غشاؤه الرقيق: {إنا لنراها في ضلال مبين}..
وهي السيدة الكبيرة زوجة الكبير، تفتتن بفتاها العبراني المشترى. أم لعلهن يتحدثن عن اشتهارها بهذه الفتنة وانكشافها وظهور أمرها، وهو وحده المنتقد في عرف هذه الأوساط لا الفعلة في ذاتها لو ظلت وراء الأستار؟!
وهنا كذلك يقع ما لا يمكن وقوعه إلا في مثل هذه الأوساط. ويكشف السياق عن مشهد من صنع تلك المرأة الجريئة، التي تعرف كيف تواجه نساء طبقتها بمكر كمكرهن وكيد من كيدهن: {فلما سمعت بمكرهن أرسلت إليهن وأعتدت لهن متكأ وآتت كل واحدة منهن سكينًا وقالت اخرج عليهن فلما رأينه أكبرنه وقطعن أيديهن وقلن حاش لله ما هذا بشرًا إن هذا إلا ملك كريم قالت فذلكن الذي لُمْتُنَّني فيه ولقد راودته عن نفسه فاستعصم ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكونًا من الصاغرين}..
لقد أقامت لهن مأدبة في قصرها. وندرك من هذا أنهن كن من نساء الطبقة الراقية. فهن اللواتي يدعين إلى المآدب في القصور. وهن اللواتي يؤخذن بهذه الوسائل الناعمة المظهر. ويبدو أنهن كن يأكلن وهن متكئات على الوسائد والحشايا على عادة الشرق في ذلك الزمان. فأعدت لهن هذا المتكأ. وآتت كل واحدة منهن سكينًا تستعملها في الطعام ويؤخذ من هذا أن الحضارة المادية في مصر كانت قد بلغت شأوًا بعيدًا، وأن الترف في القصور كان عظيمًا. فإن استعمال السكاكين في الأكل قبل هذه الآلاف من السنين له قيمته في تصوير الترف والحضارة المادية. وبينما هن منشغلات بتقطيع اللحم أو تقشير الفاكهة، فاجأتهن بيوسف: {وقالت اخرج عليهن}..
{فلما رأينه أكبرنه}..
بهتن لطلعته، ودهشن.
{وقطعن أيديهن}..
وجرحن أيديهن بالسكاكين للدهشة المفاجئة.
{وقلن حاش لله}..
وهي كلمة تنزيه تقال في هذا الموضع تعبيرًا عن الدهشة بصنع الله..
{ما هذا بشرًا إن هذا إلا ملك كريم}..
وهذه التعبيرات دليل كما قلنا في تقديم السورة على تسرب شيء من ديانات التوحيد في ذلك الزمان.
ورأت المرأة أنها انتصرت على نساء طبقتها، وأنهن لقين من طلعة يوسف الدهش والإعجاب والذهول. فقالت قولة المرأة المنتصرة، التي لا تستحي أمام النساء من بنات جنسها وطبقتها؛ والتي تفخر عليهن بأن هذا في متناول يدها؛ وإن كان قد استعصى قياده مرة فهي تملك هذا القياد مرة أخرى: {قالت فذلكن الذي لمتنني فيه}..
فانظرن ماذا لقيتن منه من البهر والدهش والإعجاب!
{ولقد راودته عن نفسه فاستعصم}..
ولقد بهرني مثلكن فراودته عن نفسه فطلب الاعتصام تريد أن تقول: إنه عانى في الاعتصام والتحرز من دعوتها وفتنتها! ثم تظهر سيطرتها عليه أمامهن في تبجح المرأة من ذلك الوسط، لا ترى بأسًا من الجهر بنزاوتها الأنثوية جاهرة مكشوفة في معرض النساء: {ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكونًا من الصاغرين}!
فهو الإصرار والتبجح والتهديد والإغراء الجديد في ظل التهديد.
ويسمع يوسف هذا القول في مجتمع النساء المبهورات، المبديات لمفاتنهن في مثل هذه المناسبات. ونفهم من السياق أنهن كن نساء مفتونات فاتنات في مواجهته وفي التعليق على هذا القول من ربة الدار؛ فإذا هو يناجي ربه: {قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه}.
ولم يقل: ما تدعوني إليه. فهن جميعًا كن مشتركات في الدعوة. سواء بالقول أم بالحركات واللفتات.. وإذا هو يستنجد ربه أن يصرف عنه محاولاتهن لإيقاعه في حبائلهن، خيفة أن يضعف في لحظة أمام الإغراء الدائم، فيقع فيما يخشاه على نفسه، ويدعو الله أن ينقذه منه: {وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين}.. وهي دعوة الإنسان العارف ببشريته. الذي لا يغتر بعصمته؛ فيريد مزيدًا من عناية الله وحياطته، يعاونه على ما يعترضه من فتنة وكيد وإغراء.
{فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن إنه هو السميع العليم}..
وهذا الصرف قد يكون بإدخال اليأس في نفوسهن من استجابته لهن، بعد هذه التجربة؛ أو بزيادة انصرافه عن الإغراء حتى لا يحس في نفسه أثرًا منه. أو بهما جميعًا.
{إنه هو السميع العليم} الذي يسمع ويعلم، يسمع الكيد ويسمع الدعاء، ويعلم ما وراء الكيد وما وراء الدعاء. وهكذا اجتاز يوسف محنته الثانية، بلطف الله ورعايته. وانتهت بهذه النجاة الحلقة الثانية من قصته المثيرة. اهـ.

.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآَيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (35)}
أخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ، عن عكرمة رضي الله عنه قال: سألت ابن عباس رضي الله عنهما عن قوله: {ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات}. قال: ما سألني عنها أحد قبلك. من الآيات: قد القميص، وأثرها في جسده، وأثر السكين، وقالت امرأة العزيز: إن أنت لم تسجنه ليصدقنه الناس.
وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم، عن عكرمة رضي الله عنه قال: من الآيات: شق في القميص، وخمش في الوجه.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر، عن مجاهد رضي الله عنه في قوله: {ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات...} قال: قدَّ القميص من دبر.
وأخرج أبو الشيخ عن ابن زيد رضي الله عنه في قوله: {من بعد ما رأوا الآيات} قال: من الآيات كلام الصبي.
وأخرج ابن جرير عن قتادة رضي الله عنه قال: الآيات، جَزَّهن أيديهن، وقدّ القميص.