فصل: تفسير الآيات (37- 38):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.تفسير الآيات (37- 38):

قوله تعالى: {قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (37) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آَبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (38)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
فلما رآهما بصيرين بالأمور: {قال} إشارة إلى أنه يعرف ذلك وأدق منه، ليقبلا نصحه فيما هو أهم المهم لكل أحد،- وهو ما خلق العباد له من الاجتماع على الله- لتفريغهما للفهم لكلامه والقبول لكل ما يلقيه لاحتياجهما إلى إفتائهما، مؤكدًا ما وصفاه به من الإحسان بما اتبعه من وصف نفسه بالعلم، انتهازًا لفرصة النصيحة عند هذا الإذعان بأعظم ما يكون النصح به من الأمر بالإخلاص في عبادة الخالق والإعراض عن الشرك، فعلى كل ذي علم إذا احتاج إلى سؤاله أحد أن يقدم على جوابه نصحه بما هو الأهم له، ويصف له نفسه بما يرغبه في قبول علمه إن كان الحال محتاجًا إلى ذلك، ولا يكون ذلك من باب التزكية بل من الإرشاد إلى الإئتمام به بما يقرب إلى الله فيكون له مثل أجره: {لا يأتيكما} أي في اليقظة: {طعام} وبين أنه خاص بهما دون أهل السجن بقوله: {ترزقانه} بناه للمفعول تعميمًا: {إلاّ نبأتكما} أي أخبرتكما إخبارًا جليلًا عظيمًا: {بتأويله} أي به وبما يؤل ويرجع إليه أمره.
ولما كان البيان في جميع الوقت الذي بينه وبين الطعام الذي قبله، نزع الخافض فقال: {قبل أن يأتيكما} أي أخبرتكما بأنه يأتيكما طعام كذا، فيكون سببًا لكذا، فإن المسبب الناشئ عن السبب هو المال.
ولما وصف نفسه من العلم بما يدعو كل ذي همة إلى السعي في الأسباب التي حصل له ذلك بها ليصير مثله أو يقرب منه، وكان محل أن يقال: من علمك ذلك؟ قال مرشدًا إلى الله داعيًا إليه أحسن دعاء بما تميل إليه النفوس من الطمع في الفضل: {ذلكما} أي الأمر العظيم؛ ونبه على غزارة علمه بالتبعيض في قوله: {مما علمني ربي} أي الموجد لي والمربي لي والمحسن إليّ، ولم أقله عن تكهن ولا تنجم، فكأنه قيل: ما لغيرك لا يعلّمه مثل ما علمك؟ فقال معللًا له مطمعًا كل من فعل فعله في فضل الله، مؤكدًا إعلامًا بأن ذلك أمر عظيم يحق لمثله أن يفعل: {إني تركت ملة قوم} أي وإن كانوا أقوياء على محاولة ما يريدون، فلذلك قدروا على أذاي وسجني بعد رؤية الآيات الشاهدة لي، ونبه على أن ذلك لا يقدم عليه إلاّ من لا يحسب العاقبة بوجه، فقال: {لا يؤمنون} أي يجددون الإيمان لما لهم من العراقة في الكفر: {بالله} أي الملك الأعظم الذي لا يخفى أمره على ذي لب من أهل مصر وغيرهم؛ ثم لوح إلى التحذير من يوم الجزاء الذي لا يغنى فيه أحد عن أحد، منبهًا على أن الكفر به هو القاطع عن العلم وعن كل خير، فقال مؤكدًا تأكيدًا عظيمًا، إشارة إلى أن أمرهم ينبغي أن ينكره كل من يسمعه، ولا يصدقه، لما على الآخرة من الدلائل الواضحة جدًا الموجبة لئلا يكذب به أحد: {وهم بالآخرة} أي الدار التي لابد من الجمع إليها، لأنها محط الحكمة: {هم} أي بضمائرهم كما هم بظواهرهم، وفي تكرير الضمير تنبيه على أن هؤلاء اختصوا بهذا الجهل، وأن غيرهم وقفوا على الهدى: {كافرون} أي عريقون في التغطية لها، فلذلك أظلمت قلوبهم فكانوا صورًا لا معاني لها؛ والملة: مذهب جماعة يحمي بعضها لبعض في الديانة، وأصله من المليلة، وهي حمى تلحق الإنسان- قاله الرماني.
وفي القاموس إن المليلة: الحر الكامن في العظم.
وعبر ب: {تركت} موضع تجنبت مثلًا مع كونه لم يلابس تلك الملة قط، تأنيسًا لهما واستدراجًا إلى تركهما؛ ثم اتبع ذلك بما يدل على شرف أصله وقدم فضله بأنه من بيت النبوة ومعدن الفتوة، ليكون ذلك أدعى إلى قبول كلامه وإصابة سهامه وإفضاء مرامه، فقال: {واتبعت} أي بغاية جهدي ورغبتي: {ملة آباءي إبراهيم} خليل الله، وهو جد أبيه: {وإسحاق} ابنه نبي الله وهو جده: {ويعقوب} أبيه إسرائيل: الله.
وهو أبوه حقيقة، وتلك هي الحنيفية السمحة التي هي الميل مع الدليل من غير جمود مع هوى بوجه من الوجوه؛ روى البخاري في التفسير وغيره عن أبي هريرة- رضى الله عنهم- قال: «سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيّ الناس أكرم؟ قال: أكرمهم عند الله أتقاهم، قالوا: ليس عن هذا نسألك.
قال: فأكرم الناس يوسف نبي الله ابن نبي الله ابن نبي الله: ابن خليل الله، قالوا: ليس عن هذا نسألك، قال: فعن معادن العرب تسألوني؟ قالوا: نعم، قال: فخياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا»
فكأنه قيل: ما تلك الملة؟ فقال: {ما كان لنا} أي ما صح وما استقام بوجه من الوجوه، لما عندنا من نور العلم الذي لم يدع عندنا لبسًا بوجه أصلًا: {أن نشرك} أي نجدد في وقت ما شيئًا من إشراك: {بالله} أي الذي له الأمر كله، وأعرق في النفي فقال: {من شيء} أي بما شرعه لنا من الدين القويم كانت ملتنا التوحيد، ومن التأكيد العموم في سياق النفي، ليعم ذلك كل شيء من عاقل ملك أو إنسي أو جنى أو غيره؛ ثم علل ذلك بما يعرف به أنه كما وجب عليهم ذلك وجب على كل أحد فقال: {ذلك} أي كان هذا الانتفاء أو ذلك التشريع- للملة الحنيفية وتسهيلها وجعل الفطر الأولى منقادة لها مقبلة عليها- العلي الشأن العظيم المقدار: {من} أجل: {فضل الله} أي المحيط بالجلال والإكرام: {علينا} خاصة: {وعلى الناس} الذين هم إخواننا في النسب عامة، فنحن وبعض الناس شكرنا الله، فقبلنا ما تفضل به علينا، فلم نشرك به شيئًا؛ والفضل: النفع الزائد على مقدار الواجب، فكل عطاء الله فضل، فإنه لا واجب عليه، فكان لذلك واجبًا على كل أحد إخلاص التوحيد له شكرًا على فضله لما تظافر عليه دليلًا العقل والنقل من أن شكر المنعم واجب: {ولكن أكثر الناس} أي لما لهم من الاضطراب مع الهوى عموا عن هذا الواجب، فهم: {لا يشكرون} فضله بإخلاص العمل له ويشركون به إكراهًا لفطرهم الأولى، فالآية من الاحتباك: ذكر نفي الشرك أولًا يدل على وجوده ثانيًا، وذكر نفي الشكر ثانيًا يدل على حذف إثباته أولًا. اهـ.

.القراءات والوقوف:

قال النيسابوري:

.القراءات:

{إني أراني أعصر} بالفتح في الحرفين: أبو جعفر ونافع، وأبو عمرو وافق ابن كثير في: {أراني} كليهما. الباقون: بسكون ياء المتكلم في الكل: {نبينا} بغير همزة: أوقية والأعشى وحمزة في الوقف. {ترزقانه} مختلسة: الحلواني عن قالون: {نبأتكما} مثل: {أنشأنا}، {ربي إني} بفتح الياء: أبو جعفر ونافع وأبو عمرو: {آبائي} بالفتح: أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر: {إني أرى} بالفتح: أبو جعفر ونافع وأبو عمرو: {رؤياي} بالإمالة: عليّ غير قتيبة. أبو عمرو بالإمالة اللطيفة. والقول في ترك الهمزة مثل ما تقدم: {للرؤيا} ممالة: عليّ، وأبو عمرو بالإمالة اللطيفة. {لعلي أرجع} بفتح الياء: أبو جعفر ونافع وابن كثير غير ابن مجاهد عن ابن ذكوان وأبو عمرو: {دأبا} بفتح الهمزة: حفص. الآخرون بالسكون: {تعصرون} بتاء الخطاب: حمزة وعليّ وخلف والمفضل. الباقون على الغيبة. {ما بال النسوة} بضم النون: الشموني والبرجمي: {نفسي}، {رحم ربي} بالفتح فيهما: أبو جعفر ونافع وأبو عمرو.

.الوقوف:

{فتيان} ط {خمرًا} ج فصلًا بين القضيتين مع اتفاق الجملتين: {الطير منه} ط للعدول عن قول آخر منهما إلى قولهما المضمر أي فقالا. {نبئنا بتأويله} ج لاحتمال التعليل. {المحسنين} o {أن يأتيكما} ط {ربي} ط {كافرون} o {ويعقوب} ط {من شيء} ط {لا يشكرون} o {القهار} o ط {من سلطان} ط {إلا الله} ط {إلا إياه} ط {لا يعلمون} o {خمرًا} ج فصلا بين الجوابين مع اتفاق الجملتين: {من رأسه} ط لأن قوله: {قضى} جواب قولهما كذبنا وما رأينا رؤيا: {تستفتيان} ط لاستئناف حكاية أخرى: {عند ربك} ز {سنين} o ط {يابسات} ط {تعبرون} o {أحلام} ج للنفي مع العطف: {بعالمين} o {فأرسلون} o {ياباسات} لا لتعلق {لعلى}، {يعلمون} o {دأبًا} ج للشرط مع الفاء: {تأكلون} o {تحصنون} o {يعصرون} o {ائتوني به} ج: {أيديهن} ط {عليم} o {عن نفسه} ط {من سوء} ط {الحق} ز لانقطاع النظم واتصال المعنى واتحاد القائل. {الصادقين} o {الخائنين} o {نفسي} ج للحذف أي عن السوء: {ربي} ط {رحيم} o. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا} وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى:
اعلم أن المذكور في هذه الآية ليس بجواب لما سألا عنه فلابد هاهنا من بيان الوجه الذي لأجله عدل عن ذكر الجواب إلى هذا الكلام والعلماء ذكروا فيه وجوهًا: الأول: أنه لما كان جواب أحد السائلين أنه يصلب، ولا شك أنه متى سمع ذلك عظم حزنه وتشتد نفرته عن سماع هذا الكلام، فرأى أن الصلاح أن يقدم قبل ذلك ما يؤثر معه بعلمه وكلامه، حتى إذا جاء بها من بعد ذلك خرج جوابه عن أن يكون بسبب تهمة وعداوة.
الثاني: لعله عليه السلام أراد أن يبين أن درجته في العلم أعلى وأعظم مما اعتقدوا فيه، وذلك لأنهم طلبوا منه علم التعبير، ولا شك أن هذا العلم مبني على الظن والتخمين، فبين لهما أنه لا يمكنه الإخبار عن الغيوب على سبيل القطع واليقين مع عجز كل الخلق عنه، وإذا كان الأمر كذلك فبأن يكون فائقًا على كل الناس في علم التعبير كان أولى، فكان المقصود من ذكر تلك المقدمة تقرير كونه فائقًا في علم التعبير واصلًا فيه إلى ما لم يصل غيره، والثالث: قال السدي: {لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ} في النوم بين ذلك أن علمه بتأويل الرؤيا ليس بمقصور على شيء دون غيره، ولذلك قال: {إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ} الرابع: لعله عليه السلام لما علم أنهما اعتقدا فيه وقبلا قوله: فأورد عليهما ما دل على كونه رسولًا من عند الله تعالى، فإن الاشتغال بإصلاح مهمات الدين أولى من الاشتغال بمهمات الدنيا، والخامس: لعله عليه السلام لما علم أن ذلك الرجل سيصلب اجتهد في أن يدخله في الإسلام حتى لا يموت على الكفر، ولا يستوجب العقاب الشديد: {لّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيّنَةٍ ويحيى مَنْ حَىَّ عَن بَيّنَةٍ} [الأنفال: 42] والسادس: قوله: {لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ} محمول على اليقظة، والمعنى: أنه لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا أخبرتكما أي طعام هو، وأي لون هو، وكم هو، وكيف يكون عاقبته؟ أي إذا أكله الإنسان فهو يفيد الصحة أو السقم، وفيه وجه آخر، قيل: كان الملك إذا أراد قتل إنسان صنع له طعامًا فأرسله إليه، فقال يوسف لا يأتيكما طعام ألا أخبرتكما أن فيه سمًا أم لا، هذا هو المراد من قوله: {لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ} وحاصله راجع إلى أنه ادعى الإخبار عن الغيب، وهو يجري مجرى قوله عيسى عليه السلام،: {وأُنَبّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ في بُيُوتِكُمْ} [آل عمران: 49] فالوجوه الثلاثة الأول لتقرير كونه فائقًا في علم التعبير، والوجوه الثلاثة الآخر لتقرير كونه نبيًا صادقًا من عند الله تعالى.
فإن قيل: كيف يجوز حمل الآية على ادعاء المعجزة مع أنه لم يتقدم ادعاء للنبوة؟
قلنا: إنه وإن لم يذكر ذلك لكن يعلم أنه لابد وأن يقال: إنه كان قد ذكره، وأيضًا ففي قوله: {ذلكما مِمَّا عَلَّمَنِى رَبّى} وفي قوله: {واتبعت مِلَّةَ ءابَاءي} ما يدل على ذلك.
ثم قال تعالى: {ذلكما مِمَّا عَلَّمَنِى رَبّى} أي لست أخبركما على جهة الكهانة والنجوم، وإنما أخبرتكما بوحي من الله وعلم حصل بتعليم الله.
ثم قال: {إِنّى تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بالله وَهُمْ بالاخرة هُمْ كافرون} وفيه مسائل:
المسألة الأولى:
لقائل أن يقول: في قوله: {إِنّى تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بالله} توهم أنه عليه السلام كان في هذه الملة.
فنقول جوابه من وجوه: الأول: أن الترك عبارة عن عدم التعرض للشيء وليس من شرطه أن يكون قد كان خائضًا فيه.
والثاني: وهو الأصح أن يقال إنه عليه السلام كان عبدًا لهم بحسب زعمهم واعتقادهم الفاسد، ولعله قبل ذلك كان لا يظهر التوحيد والإيمان خوفًا منهم على سبيل التقية، ثم إنه أظهره في هذا الوقت، فكان هذا جاريًا مجرى ترك ملة أولئك الكفرة بحسب الظاهر.
المسألة الثانية:
تكرير لفظ: {هُمْ} في قوله: {وَهُمْ بالاخرة هُمْ كافرون} لبيان اختصاصهم بالكفر، ولعل إنكارهم للمعاد كان أشد من إنكارهم للمبدأ، فلأجل مبالغتهم في إنكار المعاد كرر هذا اللفظ للتأكيد.
واعلم أن قوله: {إِنّى تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بالله} إشارة إلى علم المبدأ.
وقوله: {وَهُمْ بالاخرة هُمْ كافرون} إشارة إلى علم المعاد، ومن تأمل في القرآن المجيد وتفكر في كيفية دعوة الأنبياء عليهم السلام علم أن المقصود من إرسال الرسل وإنزال الكتب صرف الخلق إلى الإقرار بالتوحيد وبالمبدأ والمعاد، وإن ما وراء ذلك عبث.
ثم قال تعالى: {واتبعت مِلَّةَ ءابَاءي إبراهيم وإسحاق وَيَعْقُوبَ} وفيه سؤالات:
السؤال الأول: ما الفائدة في ذكر هذا الكلام.
الجواب: أنه عليه السلام لما ادعى النبوة وتحدى بالمعجزة وهو علم الغيب قرن به كونه من أهل بيت النبوة، وأن أباه وجده وجد أبيه كانوا أنبياء الله ورسله، فإن الإنسان متى ادعى حرفة أبيه وجده لم يستبعد ذلك منه، وأيضًا فكما أن درجة إبراهيم عليه السلام وإسحاق ويعقوب كان أمرًا مشهورًا في الدنيا، فإذا ظهر أنه ولدهم عظموه ونظروا إليه بعين الإجلال، فكان انقيادهم له أتم وأثر قلوبهم بكلامه أكمل.
السؤال الثاني: لما كان نبيًا فكيف قال: إني اتبعت ملة آبائي، والنبي لابد وأن يكون مختصًا بشريعة نفسه.
قلنا: لعل مراده التوحيد الذي لم يتغير، وأيضًا لعله كان رسولًا من عند الله، إلا أنه كان على شريعة إبراهيم عليه السلام.
السؤال الثالث: لم قال: {مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بالله مِن شَئ} وحال كل المكلفين كذلك؟
والجواب: ليس المراد بقوله: {مَا كَانَ لَنَا} أنه حرم ذلك عليهم، بل المراد أنه تعالى ظهر آباءه عن الكفر، ونظيره قوله: {مَا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ} [مريم: 35].
السؤال الرابع: ما الفائدة في قوله: {مِن شَئ}.
الجواب: أن أصناف الشرك كثيرة، فمنهم من يعبد الأصنام، ومنهم من يعبد النار، ومنهم من يعبد الكواكب، ومنهم من يعبد العقل والنفس والطبيعة، فقوله: {مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بالله مِن شَئ} رد على كل هؤلاء الطوائف والفرق، وإرشاد إلى الدين الحق، وهو أنه لا موجد إلا الله ولا خالق إلا الله ولا رازق إلا الله.
ثم قال: {ذلك مِن فَضْلِ الله عَلَيْنَا وَعَلَى الناس} وفيه مسألة.
وهي أنه قال: {مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بالله مِن شَئ}.
ثم قال: {ذلك مِن فَضْلِ الله} فقوله: {ذلك} إشارة إلى ما تقدم من عدم الإشراك، فهذا يدل على أن عدم الإشراك وحصول الإيمان من الله.
ثم بين أن الأمر كذلك في حقه بعينه، وفي حق الناس.
ثم بين أن أكثر الناس لا يشكرون، ويجب أن يكون المراد أنهم لا يشكرون الله على نعمة الإيمان، حكي أن واحدًا من أهل السنة دخل على بشر بن المعتمر، وقال: هل تشكر الله على الإيمان أم لا.
فإن قلت: لا، فقد خالفت الإجماع، وإن شكرته فكيف تشكره على ما ليس فعلًا له، فقال له بشر إنا نشكره على أنه تعالى أعطانا القدرة والعقل والآلة، فيجب علينا أن نشكره على إعطاء القدرة والآلة، فأما أن نشكره على الإيمان مع أن الإيمان ليس فعلًا له، فذلك باطل، وصعب الكلام على بشر، فدخل عليهم ثمامة بن الأشرس وقال: إنا لا نشكر الله على الإيمان، بل الله يشكرنا عليه كما قال: {أولئك كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا} [الإسراء: 19] فقال بشر: لما صعب الكلام سهل.
واعلم أن الذين ألزمه ثمامة باطل بنص هذه الآية، وذلك لأنه تعالى بين أن عدم الإشراك من فضل الله، ثم بين أن أكثر الناس لا يشكرون هذه النعمة، وإنما ذكره على سبيل الذم فدل هذا على أنه يجب على كل مؤمن أن يشكر الله تعالى على نعمة الإيمان وحينئذ تقوى الحجة وتكمل الدلالة.
قال القاضي قوله: {ذلك} إن جعلناه إشارة إلى التمسك بالتوحيد فهو من فضل الله تعالى لأنه إنما حصل بألطافه وتسهيله، ويحتمل أن يكون إشارة إلى النبوة.
والجواب: أن ذلك إشارة إلى المذكور السابق، وذاك هو ترك الإشراك فوجب أن يكون ترك الإشراك من فضل الله تعالى، والقاضي يصرفه إلى الألطاف والتسهيل، فكان هذا تركًا للظاهر وأما صرفه إلى النبوة فبعيد، لأن اللفظ الدال على الإشارة يجب صرفه إلى أقرب المذكورات وهو هاهنا عدم الإشراك. اهـ.