فصل: قال الشوكاني:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وإيثار صيغة المضارع لما أنهما بصدد الاستفتاء إلى أن يقضي عليه السلام من الجواب وطره وإسناد القضاء إليه مع أنه من أحوال مآله لأنه في الحقيقة عين ذلك المآل، وقد ظهر في عالم المثال بتلك الصورة، وأما توحيده مع تعدد رؤياهما فوارد على حسب ما وحداه في قولهما: {نبئنا بتأويله} [يوسف: 36] لا لأن الأمر ما اتهما به وسجنا لأجله من سم الملك فإنهما لم يستفتيا فيه ولا فيما هو صورته بلفيما هو صورة لمآله وعاقبته فتأمل. اهـ.
وتعقب بأنه لا مانع من أن يراد بالأمر المآل كما يقتضيه ظاهر إسناد القضاء إليه وإليه ذهب الكثير، وتجعل- في- للسببية مثلها في قوله عليه الصلاة والسلام: «دخلت امرأة النار في هرة» ويكون معنى الاستفتاء فيه الاستفتاء بسببه أي طلب بيان حكم الرؤييين لأجله، وهما إنما طلبا ذلك لتعرف حالهما ومآل أمرهما.
وإن أبيت ذلك فأي مانع من أن يكون الاستفتاء في الأمر مع أن الاستفتاء إنما يكون في الحادثة، وهي هنا الرؤييان لما أن بين الأمر وتلك الحادثة اتحادًا كما ادعاه هو، ووجه به إسناد القضاء إلى الأمر بالمعنى الذي حمله عليه مع أنه من أحوال مآله، وليس له أن يقول بصحة اعتبار العينية في إسناد القضاء وعدم صحة اعتبارها في تعلق الاستفتاء إذ بعد اعتبارالعينية بين شيئين يكون صحة نسبة ما هو من أحوال أحدهما إلى الآخر دون صحة نسبة ما هو من أحوال ذلك الآخر إليه ترجيحًا بلا مرجح، ومنع ذلك مكابرة، ويرجح ما ذهب إليه الكثير أن فيه سلامة من نزع الخف قبل الوصول إلى الماء كما لا يخفى على من تيمم كعبة الإنصاف، وبأن ما ذكره في تعليل عدم صحة تفسير الأمر بما اتهما به وسجنا لأجله لا يخلو عن دغدغة على أن ذلك كان تعريضًا بصاحب الكشاف وهو على ما قال الطيبي: ما عنى بالأمر إلا العاقبة، نعم صدر كلامه ظاهر فيما ذكر والأمر فيه سهل، ولعل وجه الأمر بالتأمل في كلام هذا المحقق مجموع ما ذكرناه فتأمل.
ثم إن هذا الإخبار كما يحتمل أن يكون للرد عليهما حسبما ورد في الأثر يحتمل أن يكون تحقيقًا لتعبيرة وتأكيدًا له، ولا يشكل على الأول أنه لا داعي لجحود الشرابي لأنا نقول على تقدير كذبهما في ذلك يحتمل أن يكون لمراعاة جانب صاحبه الخباز.
وجاء في بعض الآثار أن الذي جحد هو الخباز.
فحينئذ الأمر واضح.
واستدل بذلك على ما هو المشهور من أن الرؤيا تقع كما تعبر، ولذا قيل: المنام على جناج طائر إذا قص وقع.
{وَقَالَ} أي يوسف عليه السلام.
{للَّذي ظَنَّ أَنَّهُ نَاج} أوثر على صيغة المضارع مبالغة في الدلالة على تحقيق النجاة حسبما يفيده قوله: {قضي الأمر} [يوسف: 41] الخ، وهو السر في إيثار ما عليه النظم الكريم على أن يقال: للذي ظنه ناجيًا: {مِّنْهُمَا} أي من صاحبيه، وإنما ذكر بوصف النجاة تمهيدًا لمناط التوصية بالذكر بما يدور عليه الامتياز بينه وبين صاحبه المذكور بوصف الهلاك.
والظانّ هو يوسف عليه السلام لا صاحبه، وإن ذهب إليه بعض السلف لأن التوصية لا تدور على ظنّ الناجي بل على ظنّ يوسف عليه السلام وهو بمعنى اليقين كما في قوله تعالى: {الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم} [البقرة: 46] ونظائره.
ولعل التعبير به من باب إرخاء العنان والتأدب مع الله تعالى، فالتعبير على هذا بالوحي كما ينبئ عنه قوله: {قضي الأمر} [يوسف: 41] الخ، وقيل: هو بمعناه، والتعبير بالاجتهاد والحكم بقضاء الأمر أيضًا اجتهادي.
واستدل به من قال: إن تعبير الرؤيا ظني لا قطعي، والجار والمجرور إما في موضع الصفة- لناج- أو الحال من الموصول ولا يجوز أن يكون متعلقًا- بناج- لأنه ليس المعنى عليه: {اذْكُرْنِي} بما أنا عليه من الحال والصفة.
{عنْدَ رَبِّكَ} سيدك، روي أنه لما انتهى بالناجي في اليوم الثالث إلى باب السجن قال له: أوصني بحاجتك، فقال عليه السلام: حاجتي أن تذكرني عند ربك وتصفني بصفتي التي شاهدتها: {فَأَنْسَاهُ الشيْطَانُ} أي أنسى ذلك الناجي بوسوسته وإلقائه في قلبه أشغالًا حتى يذهل عن الذكر، وإلا فالإنساء حقيقة لله تعالى، والفاء للسببية فإن توصيته عليه السلام المتضمنة للاستعانة بغيره سبحانه وتعالى كانت باعثة لما ذكر من إنسائه: {ذكْرَ رَبِّه} أي ذكر يوسف عليه السلام عند الملك، والإضافة لأدنى ملابسة، ويجوز أن تكون من إضافة المصدر إلى المفعول بتقدير مضاف أي ذكر إخبار ربه.
{فَلَبثَ} أي فمكث يوسف عليه السلام بسبب ذلك القول أو الإنساء: {في السِّجْن بضْعَ سنينَ} البضع ما بين الثلاث إلى التسع كما روي عن قتادة، وعن مجاهد أنه من الثلاث إلى دون المائة والألف، وهو مأخوذ من البضع بمعنى القطع؛ والمراد به هنا في أكثر الأقاويل سبع سنين وهي مدة لبثه كلها فميا صححه البعض، وسنتان منها كانت مدة لبثه بعد ذلك القول، ولا يأبى ذلك فاء السببية لأن لبث هذا المجموع مسبب عما ذكر، وقيل: إن هذه السبع مدة لبثه بعد ذلك القول، وقد لبث قبلها خمسًا فجميع المدة اثنتا عشرة سنة، ويدل عليه خبر: «رحم الله تعالى أخي يوسف لو لم يقل: {اذكرني عند ربك} لما لبث في السجن سبعًا بعد خمس».
وتعقب بأن الخبر لم يثبت بهذا اللفظ وإنما الثابت في عدة روايات: «ما لبث في السجن طول ما لبث» وهو لا يدل على المدعى.
وروى ابن أبي حاتم عن طاوس والضحاك تفسير البضع هاهنا بأربع عشرة سنة وهو خلاف المعروف في تفسيره، والأولى أن لا يجزم بمقدار معين كما قدمنا.
وكون هذا اللبث مسببًا عن القول هو الذي تظافرت عليه الأخبار كالخبر السابق والخبر الذي روي عن أنس قال: «أوحى الله تعالى إلى يوسف عليه السلام من استنقذك من القتل حين هم إخوتك أن يقتلوك، قال: أنت يا رب، قال: فمن استنقذك من الجب إذ ألقوك فيه، قال: أنت يا رب، قال: فمن استنقذك من المرأة إذ همت بك، قال: أنت يا رب، قال: فما بالك نسيتني وذكرت آدميًا، قال: يا رب كلمة تكلم بها لساني، قال: وعزتي لأدخلنك في السجن بضع سنين» وغير ذلك من الأخبار.
ولا يشكل على هذا أن الاستعانة بالعباد في كشف الشدائد مما لا بأس به، فقد قال سبحانه: {وتعاونوا على البر والتقوى} [المائدة: 2] فكيف عوتب عليه السلام في ذلك لأن ذلك مما يختلف باختلاف الأشخاص، واللائق بمناصب الأنبياء عليهم السلام ترك ذلك والأخذ بالعزائم، واختار أبو حيان أن يوسف عليه السلام إنما قال للشرابي ما قال ليتوصل بذلك إلى هداية الملك وإيمانه بالله تعالى كما توصل إلى إيضاح الحق لصاحبيه، وإن ذلك ليس من باب الاستعانة بغير الله تعالى في تفريج كربه وخلاصه من السجن، ولا يخفى أن ذلك خلاف الظاهر، وموجب للطعن في غير ما خبر، نعم إنه اللائق بمنصبه عليه الصلاة والسلام.
وجوز بعضهم كون ضمير- أنساه- و: {ربه} عائدين على يوسف عليه السلام، وإنساء الشيطان ليس من الإغواء في شيء بل هو تك الأولى بالنسبة لمقام الخواص الرافعين للأسباب من البين، وأنت تعلم أن الأول هو المناسب لمكان الفاء، ولقوله تعالى الآتي: {وادّكر بعد أمّة} [يوسف: 45]. اهـ.

.قال الشوكاني:

{يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا}
هذا هو بيان ما طلباه منه من تعبير رؤياهما.
والمراد بقوله: {أَمَّا أَحَدُكُمَا} هو الساقي، وإنما أبهمه لكونه مفهومًا أو لكراهة التصريح للخباز بأنه الذي سيصلب: {فَيَسْقِى رَبَّهُ خَمْرًا} أي: مالكه، وهي عهدته التي كان قائمًا بها في خدمة الملك، فكأنه قال: أما أنت أيها الساقي فستعود إلى ما كنت عليه ويدعو بك الملك ويطلقك من الحبس: {وَأَمَّا الآخر} وهو الخباز: {فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطير مِن رَّأْسِهِ} تعبيرًا لما رآه من أنه يحمل فوق رأسه خبزًا فتأكل الطير منه: {قُضِىَ الأمر الذي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ} وهو ما رأياه وقصاه عليه، يقال: استفتاه إذا طلب منه بيان حكم شيء سأله عنه مما أشكل عليه، وهما قد سألاه تعبير ما أشكل عليهما من الرؤيا.
{وَقَالَ لِلَّذِى ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مّنْهُمَا} أي: قال يوسف، والظان هو أيضًا يوسف.
والمراد بالظنّ العلم؛ لأنه قد علم من الرؤيا نجاة الشرابي وهلاك الخباز، هكذا قال جمهور المفسرين.
وقيل: الظاهر على معناه؛ لأن عابر الرؤيا إنما يظن ظنًا، والأوّل أولى وأنسب بحال الأنبياء.
ولاسيما وقد أخبر عن نفسه عليه السلام بأنه قد أطلعه الله على شيء من علم الغيب كما في قوله: {لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ} الآية، وجملة: {اذكرنى عِندَ رَبّكَ} هي مقول القول، أمره بأن يذكره عند سيده، ويصفه بما شاهده منه من جودة التعبير والاطلاع على شيء من علم الغيب، وكانت هذه المقالة منه عليه السلام صادرة عن ذهول ونسيان عن ذكر الله بسبب الشيطان، فيكون ضمير المفعول في أنساه عائدًا إلى يوسف، هكذا قال بعض المفسرين ويكون المراد بربه في قوله: {ذِكْرَ رَبّهِ} وهو الله سبحانه، أي: إنساء الشيطان يوسف ذكر الله تعالى في تلك الحال.
{وَقَالَ لِلَّذِى ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مّنْهُمَا} يذكره عند سيده ليكون ذلك سببًا لانتباهه على ما أوقعه من الظلم البين عليه بسجنه بعد أن رأى من الآيات ما يدل على براءته.
وذهب كثير من المفسرين إلى أن الذي أنساه الشيطان ذكر ربه هو الذي نجا من الغلامين، وهو الشرابي، والمعنى: إنساء لشيطان الشرابي ذكر سيده، أي: ذكره لسيده فلم يبلغ إليه ما أوصاه به يوسف من ذكره عند سيده، ويكون المعنى: فأنساه الشيطان ذكر إخباره بما أمره به يوسف مع خلوصه من السجن، ورجوعه إلى ما كان عليه من القيام بسقي الملك، وقد رجح هذا بكون الشيطان لا سبيل له على الأنبياء.
وأجيب بأن النسيان وقع من يوسف، ونسبته إلى الشيطان على طريق المجاز، والأنبياء غير معصومين عن النسيان إلاّ فيما يخبرون به عن الله سبحانه، وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
«إنما أنا بشر مثلكم، أنسى كما تنسون، فإذا نسيت فذكروني» ورجح أيضًا بأن النسيان ليس بذنب، فلو كان الذي أنساه الشيطان ذكر ربه هو يوسف لم يستحق العقوبة على ذلك بلبثه في السجن بضع سنين، وأجيب بأن النسيان هنا بمعنى الترك، وأنه عوقب بسبب استعانته بغير الله سبحانه، ويؤيد رجوع الضمير إلى يوسف ما بعده من قوله: {فَلَبِثَ في السجن بِضْعَ سِنِينَ} ويؤيد رجوعه إلى الذي نجا من الغلامين قوله فيما سيأتي: {وَقَالَ الذي نَجَا مِنْهُمَا وادكر بَعْدَ أُمَّةٍ} [يوسف: 45] سنة.
{فَلَبِثَ} أي: يوسف: {فِى السجن} بسبب ذلك القول الذي قاله للذي نجا من الغلامين، أو بسبب ذلك الإنساء: {بِضْعَ سِنِينَ} البضع: ما بين الثلاث إلى التسع كما حكاه الهروي عن العرب، وحكي عن أبي عبيدة أن البضع: ما دون نصف العقد، يعني: ما بين واحد إلى أربعة.
وقيل: ما بين ثلاث إلى سبع، حكاه قطرب.
وحكى الزجاج أنه ما بين الثلاث إلى الخمس.
وقد اختلف في تعيين قدر المدة التي لبث فيها يوسف في السجن، فقيل: سبع سنين.
وقيل: اثنتا عشرة سنة.
وقيل: أربع عشرة سنة، وقيل: خمس سنين.
وقد أخرج ابن جرير عن عكرمة في قوله: {أَمَّا أَحَدُكُمَا} قال: أتاه فقال: رأيت فيما يرى النائم أني غرست حبلة من عنب فنبتت، فخرج فيه عناقيد فعصرتهنّ ثم سقيتهنّ الملك؛ فقال: تمكث في السجن ثلاثة أيام، ثم تخرج فتسقيه خمرًا.
وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن ابن مسعود قال: ما رأى صاحبا يوسف شيئًا، إنما تحالما ليجرّبا علمه.
فلما أوّل رؤياهما قالا: إنما كنا نلعب، ولم نرَ شيئًا، فقال: {قُضِىَ الأمر الذي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ} يقول: وقعت العبارة فصار الأمر على ما عبر يوسف.
وأخرج أبو عبيد، وابن المنذر، وأبو الشيخ عن أبي مجلز قال: كان أحد اللذين قصا على يوسف الرؤيا كاذبًا.
وأخرج ابن جرير، وأبو الشيخ عن ابن ساباط: {وَقَالَ لِلَّذِى ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مّنْهُمَا اذكرنى عِندَ رَبّكَ} قال: عند ملك الأرض.
وأخرج ابن أبي الدنيا في كتاب العقوبات، وابن جرير، والطبراني، وابن مردويه عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو لم يقل يوسف الكلمة التي قال، ما لبث في السجن طول ما لبث حيث يبتغي الفرج من عند غير الله» وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وأبو الشيخ، عن عكرمة مرفوعًا نحوه، وهو مرسل، وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه عن أبي هريرة مرفوعًا نحوه.
وأخرج أحمد في الزهد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن الحسن مرفوعًا نحوه.
وهو مرسل.
وأخرج ابن جرير، وأبو الشيخ عن قتادة فذكر نحوه، وهو مرسل أيضًا.
وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد الله بن أحمد في زوائد الزهد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن أنس قال: أوحي إلى يوسف: من استنقذك من القتل حين همّ إخوتك أن يقتلوك؟ قال: أنت يا ربّ، قال: فمن استنقذك من الجبّ إذ ألقوك فيه؟ قال: أنت يا ربّ، قال: فمن استنقذك من المرأة إذ همت بك؟ قال: أنت يا ربّ، قال: فما لك نسيتني، وذكرت آدميًا؟ قال: جزعًا، وكلمة تكلم بها لساني، قال: فوعزتي لأخلدنك في السجن بضع سنين، فلبث فيه سبع سنين، وقد اختلف السلف في تقدير مدّة لبثه في السجن على حسب ما قدّمنا ذكره، فلم نشتغل هاهنا بذكر من قال بذلك ومن خرّجه. اهـ.

.قال القاسمي:

وبعد تحقيق الحق، ودعوتهما إليه، وبيانه لهما مرتبة علمه، شرع في تفسير ما استفسراه. ولكونه بحثًا مغايرًا لما سبق فصله عنه بتكرير الخطاب فقال: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا}
أي: يخرج من السجن، ويعود إلى ما كان عليه من سقي سيده الخمر: {وَأَمَّا الآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِن رَّأْسِهِ} أي: فيقتل ويعلق على خشبة، فتأكل الطير من لحم رأسه: {قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ} أي: قطع وتم ما تستفتيان فيه. يعني: مآله، وهو نجاة أحدهما، وهلاك الآخر. والتعبير عنه بـ (الأمر)، وعن طلب تأويله بـ: (الاستفتاء) تهويلًا لأمره، وتفخيمًا لشأنه؛ إذ الاستفتاء إنما يكون في النوازل المشكلة الحكم، المبهمة الجواب، وإيثار صيغة الاستقبال، مع سبق استفتائهما في ذلك؛ لما أنهما بصدده، إلى أن يقضي عليه السلام من الجواب وطره.
{وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ} أي: قال يوسف للذي علم نجاته من الفتيين، أي: خلوصه من السجن والقتل، وهو الساقي: {اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ} أي: اذكر حالي وصفتي، وعلمي بالرؤيا، وما جرى عليّ عند الملك سيدك، عسى يخلصني مما ظلمت به.
و (الظن) بمعنى العلم واليقين، ورد كثيرًا، والتعبير به إرخاء للعنان، وتأدب مع الله تعالى. وقيل: الظن بمعناه المعروف، بناء على أن تأويل يوسف بطريق الاجتهاد، والحكم بقضاء الأمر اجتهادي أيضًا، والأول أنسب بالسياق.
تنبيه:
دلت الآية على جواز الاستعانة بمن هو مظنة كشف الغمة، ولو مشركًا. وقد جاء ذلك في قوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: من الآية 2]، وقوله حكاية عن عيسى: {مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّه} [آل عِمْرَان: من الآية 52] و[الصف: 14] وفي الحديث: «والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه». وجلي أن ذلك من نظام الكون، والعمران البشري، ولذلك ميز الإنسان بالنطق.
وأما ما رواه ابن جرير عن ابن عباس مرفوعًا: لو لم يقل- يعني يوسف- الكلمة التي قال ما لبث في السجن طول ما لبث، حيث يبتغي الفرج من عند غير الله تعالى. فقال الحافظ ابن كثير: حديث ضعيف جدًا، وذكر من رجاله الضعفاء راويين سماهما. ثم قال: وروي أيضًا مرسلًا عن الحسن وقتادة. قال: وهذه المرسلات هاهنا لا تقبل، لو قُبل المرسل من حيث هو، في غير هذا الموطن- والله أعلم- انتهى. ولقد أجاد وأفاد عليه الرحمة.
وقوله تعالى: {فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ} يعني: فشغله الشيطان حتى نسي ذكر يوسف عند الملك: {فَلَبِثَ} أي: مكث يوسف: {فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ} أي: طائفة منها.
ولأهل اللغة أقوال في (البضع): ما بين الثلاث إلى التسع، أو إلى الخمس، أو ما لم يبلغ العقد ولا نصفه، يعني ما بين الواحد إلى الأربعة. وقيل غير ذلك. اهـ.