فصل: تفسير الآيات (43- 44):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.تفسير الآيات (43- 44):

قوله تعالى: {وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ (43) قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ (44)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما بطل هذا السبب الذي أمر به يوسف عليه الصلاة والسلام، وهو تذكير الشرابي به، أثار الله سبحانه سببًا ينفذ به ما أراد من رئاسته وقضى به من سجود من دلت عليه الكواكب فقال دالًا على ذلك: {وقال الملك} وهو شخص قادر واسع المقدور إليه السياسه والتدبير، لملاه وهم السحرة والكهنة والحزرة والقافة والحكماء، وأكد ليعلم أنه محق في كلامه غير ممتحن: {إني أرى} عبر بالمضارع حكاية للحال لشدة ما هاله من ذلك: {سبع بقرات سمان} والسمن: زيادة البدن من اللحم والشحم: {يأكلهن سبع} أي بقرات: {عجاف} والعجف: يبس الهزال: {و} إني أرى: {سبع}.
ولما كان تأويل المنام الجدب والقحط والشدة، أضاف العدد إلى جمع القلة بخلاف ما كان في سياق المضاعفة في قوله: {أنبتت سبع سنابل} [البقرة: 261] فقال: {سنبلات خضر و} إني أرى سبع سنبلات: {أخر يابسات} التوت على الخضر فغلبت عليها، وكأنه حذف هذا لدلالة العجاف عليه؛ والسنبلة: نبات كالقصبة حملة حبوب منتظمة، وكأنه قيل: فكان ماذا؟ فقيل: قال الملك: {يا أيها الملأ} أي الأشراف النبلاء الذين تملأ العيون مناظرهم والقلوب مخابرهم ومآثرهم: {أفتوني} أي أجيبوني وبينوا لي كرمًا منكم بقوة وفهم ثاقب.
ولما كان مراده أن لا يخرجوا بالجواب عن القصد ولا يبعدوا به، عبر بما يفهم الظرف فقال: {في رؤياي} ومنعهم من الكلام بغير علم بقوله: {إن كنتم للرؤيا} أي جنسها: {تعبرون} وعبارة الرؤيا: تأويلها بالعبور من علنها إلى سرها كما تعبر، من عبر النهر- أي شطه- إلى عبره الآخر، ومثله أولت الرؤيا- إذا ذكرت مالها ومرجعها المقصود بضرب المثال.
والمادة- بتراكيبها الستة: عرب، وعبر، ورعب، وربع، وبعر، وبرع- تدور على الجواز من محل إلى محل ومن حال إلى حال، وأكثر ذلك إلى أجود، فالعرب سموا لأن مبنى أمرهم على الارتحال لاستجادة المنازل، وأعرب- إذا أفصح، أي تكلم بكلام العرب فأبان عن مراده، أي أجازه من العجمة والإبهام إلى البيان، وأعرب الفرس- إذا خلصت عربيته، فكأنه جاز مرتبة الهجن إلى العرب، وكذا الإبل العراب، والعروبة: يوم الجمعة- لعلو قدرها عن بقية الأيام، والعروب: المرأة الضاحكة العاشقة لزوجها المتحببه إليه المظهرة له ذلك، وهي أيضًا العاصية لزوجها- لأن كل ذلك أفعال العرب، فهم أعشق الناس وأقدرهم على الاستمالة بالكلام العذب، وهم أعصى الناس وأجفاهم إذا أرادوا، والعرب- ويحرك: النشاط- لأنه انتقال عن الكسل، وقد عرب- كفرح- إذا نشط وإذا ورم، لأن الوارم يتجاوز هيئة غيره، وعربت البئر: كثر ماءها فارتفع، وعرب- كضرب: أكل، والعربة، محركة: النهر الشديد الجري، والنفس- لكثرة انتقالها بالفكر، والعربون: ما عقد به المبايعة من الثمن، فنقل السلعة من حال إلى حال، واستعربت البقر: اشتهت الفحل، إما من العروب العاشقة لزوجها، وإما لنقل الشهوة لها من حال إلى أخرى، وتعرب: أقام بالبادية، مع الأعراب الذين لا يوطنون مكانًا، وإنما هم مع الربيع، وعروباء: اسم السماء السابعة- لارتفاعها عن جميع السماوات، فكأنها جازت الكل، ولأن حركتها حركة للكل، والعرب- بالكسر: يبيس البهمي، لأنه صار أهلًا للنقل ولو بتطيير الهواء، والعربي: شعير أبيض سنبله حرفان- كأنه نسب إلى العرب لجودته، والإعراب: إجراء الفرس ومعرفتك بالفرس العربي من الهجين- لانتقال حال الجهل بذلك إلى حال العلم، وأن لا يلحن في الكلام- كأنه انتقل بذلك من العجمة إلى العربية، وعرب الرجل- بالكسر- إذا أتخم، وكذا الفرس من العلف، ومعدته:
فسدت، وجرحه: بقي به أثر بعد البرء، كل ذلك ناقل من حال إلى غيرها، والتعريب: تهذيب المنطق من اللحن- كأنه رفع نفسه إلى العرب، وقطع سعف النخل- لأنه نقلها عن حالها إلى أصلح منه، وأن تكون الدابة على أشاعرها ثم تبزع بمبزع، والتعريب أيضًا والإعراب: ما قبح من الكلام، وتقبيح قول القائل كأنه حكم بزوال عربيته، وهما أيضًا الرد عن القبيح، وذلك إدخاله في خصال العرب التي هي معالي الأخلاق، وهما أيضًا النكاح، أو التعريض به لأن نقله من حال إلى حال وفعل إلى فعل قولًا وعملًا، والتعريب: الإكثار من شرب الماء الصافي، واتخاذ فرس عربي، وسما بها عريب، أي أحد يعرب؛ وعبر الرؤيا- إذا فسرها وأخبر بما يؤول إليه أمرها، كأنه جاز ظاهرها إلى بطن منها، وعبرت الكتاب أعبره عبرًا: تدبرته ولم ترفع به صوتك، وعبرت النهر: قطعته من عبره- أي شطه- إلى عبره، والعبر أيضًا: الجانب، لأنه يعبر منه وإليه، والمعبر: سفينة يعبر عليها النهر وشط هيئ للعبور، وعبر القوم: ماتوا، والعبرة- بالكسر: العجب، وبالفتح: الدمعة قبل أن تفيض- كأن لها قوة الجري، أو هي تردد البكاء في الصدر أو الحزن بلا بكاء، لأن ذلك مبدأ جري الدمع؛ وفي مختصر العين: وعبرة الدمع: جريه، والعبرة: الدمع نفسه.
والعبر- بالضم ويحرك: سخة العين، والكثير من كل شيء، وبالجماعة- لأن ذلك جوازعن حد القلة، ولأنهم يجيزون ما شاؤوا، ومجلس عبر- بالكسر والفتح: كثير الأهل- من ذلك، وأيضًا هو أهل لأن يعبر بجماعته من حال إلى حال، وبامرأة مستعبرة- وتفتح الباء: غير محظية، أي هي أهل لجري العبرة، وناقة عبر أسفار- مثلثة قوية، وعبرت عن الرجل فتكلمت عنه- كأنك عبرت من خاطره إلى خاطر المخاطب، وعبرت الدنانير تعبيرًا: وزنتها ولم تبالغ في وزنها- كأنك عبرت من الجهل بمقدارها إلى الظن، أو عابر سبيل، أحي مار؛ والشعري: العبور: نجم خلف الجوزاء، والعبور: الجذعة من الغنم- لأنها جازت سنة وتأهلت العبور مع الغنم وكانت في عدادها، والعبور: لأقلف- لأن كمرته عابرة في قلفته، وغلام معبر: لم يختن، ورجل عبر: كاد أن يحتلم ولم يختن بعد، أي كاد أن يصير إلى خذ البالغين على هذه الحال، وهي أن كمرته عابرة في قلفته، وعبر به الأمر تعبيرًا: اشتد عليه- كأنه جاز من حالة الرخاء إلى الشدة وعبرت به أهلكته، والمعبرة- بالتخفيف: ناقة لم تنتج ثلاث سنين، فيكون أصلب لها- لأنها صارت أهلًا لأن يعبر عليها في الأسفار، والعبير ضرب من الطيب- لعبور ريحه، والزعفران- لعبور لونه وريحه، والعبرى: السدر النهري- لنباته في عبر النهر، والمعبر من الجمال: الكثير الوبر، ومن الشاء: التي لم تجز- كأنه لجواز الصوف عن حد جلدهما، وسهم معبر وعبير: كثير الريش- كأنه عبر عن حد العادة، والعبر- بالضم: الثكلى، لأنها أهل لإرسال العبرة، والسحاب التي تسير شديدًا، والعقاب- لقوتها على قطع المسافات، ونبات عبر: الكذب والباطل- لسرعة زواله؛ ورعبت فلانًا: أفزعته، فهو مرعوب- لأنك أجزته من الأمن إلى الخوف، وسيل راعب: أي يملأ الوادي، وراعب: أرض، منها الحمام الراعبية، والحمام أيضًا لها قوة العبور بالرسائل من مكان إلى مكان، ورعبت الحمامة في صوتها ترعيبًا: رفعته، ورعبت السنام: قطعته، والرعبوبة: قطعة منه- لأنها جازت مكانها، وجارية رعبوبة ورعبوب: حسنة القوام تامة- كأنها جازت أقرانها حسنًا، والرعب: القصار، واحدهم رعيب وأرعب، تشبيه بالقطعة من السنام؛ والبعر: رجيع الخف والظلف إلا البقر الأهلية، لأنها تخثى، والوحشية تبعر بعرًا- لأنه يجوز من مكانه من غير أن يلوثه، فلا يبقى منه به شيء، والمعبر، مكانه، والبعير: الجمل البازل أو الجذع، وقد يكون الحمار وكل ما يحمل؛ وفي مختصر العين: وإذا رأت العرب ناقة أو جملًا من بعيد قالوا: هذا بعير، فإذا عرفوا قالوا للذكر: جمل، وللأنثى: ناقة، والبعرة- بالتحريك: الكمرة، تشبيهًا بها، والربع: المنزل والدار بعينها، والمحلة- لأنها يخرج منها ويدخل إليها، ولذلك سميت متبوأ، لأنها يتبوأ إليها، أي يرجع، وربع يربع: أقام، وأربع على نفسك: انتظر، كأنه من الربع، أي المنزل، لأنه يقام فيه: وربع- إذا أخصب- للانتقال من حال إلى حال أخرى، وهم على ربعاتهم، أي استقامتهم وأمرهم الأول- كأنه من المنزل، والروبع- كجوهر: الضعيف الدنيء- كأن ذلك يلزم من الإقامة في المنزل، وبهاء: قصير العرقوب، والرجل القصير- كأنه تشبيه بالربعة في مطلق القصر عن الطويل، وربع الحجر: رفعه، والحمل: رفعه على الدابة، والمربوع: المنعوش المنفس عنه- لتحول الحال في كل ذلك، والمربعة: خشبة يرفع بها العدل، والمرابعة: أن تأخذ يد صاحبك وترفعا الحمل على الدابة- كأنه مع النقل مأخوذ من الأربعة، وهي أيضًا المعادلة بالربيع، ومنه تربعت الناقة سنامًا طويلًا، أي حملته، وربيع الشهور: شهران بعد صفر، وربيع الفصول اثنان الذي فيه النور والكمأة، والذي تدرك فيه الثمار- للانتقال في كل منهما، والربع- كصرد: الفصيل ينتج في الربيع، وناقة مربع: ذات ربع، وأربع القوم: صاروا أربعة، ودخلوا في الربيع، وأقاموا في المربع، وربعت الأرض: أصابها مطر الربيع، والمرابيع: الأمطار أول الربيع، وأربع الرجل- إذا ولد له في شبابه، تشبيهًا للشباب بالربيع، وناقة مرباع- إذا كانت عادتها أن تنتج في ربعية القيظ، والربعية: أول الشتاء، والربيع: الجدول- لجريه وإنبات ما حوله، وجمعه أربعاء، والحجر يشيلونه لتجربة القوى، والرابع تلو الثالث- لأنه جاز الجمع، ووتر وحبل مربوع: مفتول على أربع قوى، وربعتُ القوم أربعهم: صرت رابعهم، والأربعاء: يوم، والمرباع: ربع الغنيمة الذي كان يأخذه الرئيس، والرباعية- كثمانية: السن بين الثنية والناب، وعدتها أربع، وكل ما بلغ الأربعة رباع كثمان، ويقول للغنم في الرابعة وللبقر والحافر في الخامسة وللخف في السابعة: أربعت، كأنه لا يجوز في كل نوع من حد الصغر إلى الكبر إلا بذلك، وأربع الفرس: ألقى رباعيته، وحمى ربع: تأتي في اليوم الرابع، وقد ربع الرجل وأربع، وهو معنى ما قال في القاموس: وربعته الحمى: أخذته الحمى يومًا بعد يومين، لأن يومها الثاني هو رابع يومها الأول، والربعة- بالفتح: جونة العطار- لتضوع ريحها، والرجل بين الطويل والقصير- ويحرك- كالمربوع، لجوازه حد كل منهما، هذا إلى الطول، وهذا إلى القصر، وارتبع: صار ربعة، والربعة- محركة: أشد عدو الإبل، والمسافة بين أثافي القدر- لعبور كل منهما عن محل صاحبتها، وأربع ماء الركية: كثر، فجاز عن محله الأول، وعلى فلان: سأله ثم ذهب ثم عادوه، وعلى المرأة: كر إلى جماعها، والقوم إبلهم مكان كذا: رعوها وأرسلوها على الماء ترد متى شاءت، ويجوز أن يكون هذا أيضًا من الربيع، وأربعت الناقة- إذا استغلقت رحمها فلم تقبل الماء، كأنها أزالت العبور، أي الانتقال من حال إلى أخرى، والربيعة: البيضة من السلاح- لنقلها صاحبها إلى الحصانة، والروضة- لجواز النبت فيها عن حد الأرض، والمربع: شراع السفينة- لأنه آلة السير، والمربع: الرجل الكثير النكاح- لعبوره عن حالة الأولى، ولجلوسه بين الشعب الأربع، وتربع في جلوسه ضد جثا، إما لأنه صار على شكل المربع، وإما أخذا من الربع إلى المنزل، لأنها جلسة المقيم في منزله، وتربعت النخيل: خرقت وصرمت- لتحول حالها، واستربع الرمل: تراكم، إما لجوازه عن حاله الأولى، وإما من الإقامة في الربع، واستربع الغبار، ارتفع، والبعير للمسير: قوى عليه وصبر، والرجل بالأمر: استقل وصبر، وفلان يقيم رباعة قومه، أي شأنهم وحالهم أي يجيزهم من حال إلى أخرى، ومضى من بني فلان ربوع بعد ربوع، أي أحياء بعد أحياء، إما لأن ذلك جواز من دار إلى دار وحال إلى حال، وإما على حذف مضاف، أي أهل ربوع منازل، واليربوع: دابة كالفأرة، إما لشدة جريها، وإما لجعلها نافقاءين تهرب من أيهما شاءت، فهي عبارة منتقلة بالقوة وإن كانت ساكنة، واليربوع: لحمة المتن- كأنه مشبه بالدابة؛ وبرع الرجل- مثلثة: فاق أصحابه في علم أو غيره، أو تم في كل فضيلة وجمال، وهذا أبرع منه: أضخم- لأنه جاز مقداره، والبارع: الأصيل الجيد الرأي، وتبرع بالعطاء: تفضل بما لا يجب عليه من عند نفسه كأنه جاز رتبة الواجب- والله أعلم.
وفي الآية ما يوجبه حال العلماء من حاجة الملوك إليهم، فكأنه قيل: فما قالوا؟ فقيل: {قالوا} هذه الرؤيا: {أضغاث} أي أخلاط، جمع ضغث- بكسر الضاد وإسكان الغين المعجمة، وهو قبضه حشيش مختلطة الرطب باليابس: {أحلام} مختلفة مشتبهة، جمع حلم- بضم الحاء وإسكان اللام وضمه، وهو الرؤيا- فقيدوها بالأضغاث، وهو ما يكون من الرؤيا باطلًا- لكونه من حديث النفس أو وسوسة الشيطان، لكونها تشبه أخلاط النبات التي لا تناسب بينها، لأن الرؤيا تارة تكون من الملك وهي الصحيحة، وتارة تكون من تحريف الشيطان وتخليطاته، وتارة من حديث النفس؛ ثم قالوا: {وما نحن} أي بأجمعنا: {بتأويل} أي ترجيع: {الأحلام} أي مطلق الأضغاث وغيرها، وأعرقوا في النفي بقولهم: {بعالمين} فدلسوا من غير وجه، جمعوا- وهي حلم واحد- ليجعلوها أضغاثًا لا مدلول لها، ونفوا عن أنفسهم العلم المطلق المستلزم لنفي العلم بالمقيد بعد أن أتوا بالكلام على هذه الصورة، ليوهموا أنهم ما جهلوها إلا لكونها أضغاثًا- والله أعلم؛ والقول: كلام متضمن بالحكاية في البيان عنه، فإذا ذكر أنه قال، اقتضى الحكاية لما قال، وإذا ذكر أنه تكلم، لم يقتض حكاية لما تكلم به، ومادة حلم بجميع تقاليبها تدور على صرف شيء عن وجهه وعادته وما تقتضيه الجبلة- كما يأتي في الرعد في قوله: {شديد المحال} [الرعد: 13]. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ}
اعلم أنه تعالى إذا أراد شيئًا هيأ له أسبابًا، ولما دنا فرج يوسف عليه السلام رأى ملك مصر في النوم سبع بقرات سمان خرجن من نهر يابس وسبع بقرات عجاف فابتلعت العجاف السمان، ورأى سبع سنبلات خضر قد انعقد حبها، وسبعًا أخر يابسات، فالتوت اليابسات على الخضر حتى غلبن عليها فجمع الكمنة وذكرها لهم وهو المراد من قوله: {يابسات يا أَيُّهَا الملا أَفْتُونِى في رؤياى} فقال القوم هذه الرؤيا مختلطة فلا تقدر على تأويلها وتعبيرها، فهذا ظاهر الكلام وفيه مسائل:
المسألة الأولى:
قال الليث: العجف ذهاب السمن والفعل عجف يعجف والذكر أعجف والأنثى عجفاء والجمع عجاف في الذكران والإناث.
وليس في كلام العرب أفعل وفعلاء جمعًا على فعال غير أعجف وعجاف وهي شاذة حملوها على لفظ سمان فقالوا: سمان وعجاف لأنهما نقيضان ومن دأبهم حمل النظير على النظير، والنقيض على النقيض، واللام في قوله: {لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ} على قول البعض زائدة لتقدم المفعول على الفعل، وقال صاحب الكشاف: يجوز أن تكون الرؤيا خبر كان كما تقول: كان فلان لهذا الأمر إذا كان مستقلًا به متمكنًا منه وتعبرون خبرًا آخر أو حالًا، ويقال عبرت الرؤيا أعبرها وعبرتها تعبيرًا إذا فسرتها، وحكى الأزهري أن هذا مأخوذ من العبر، وهو جانب النهر ومعنى عبرت النهر، والطريق قطعته إلى الجانب الآخر فقيل لعابر الرؤيا عابر، لأنه يتأمل جانبي الرؤيا فيتفكر في أطرافها وينتقل من أحد الطرفين إلى الآخر، والأضغاث جمع الضغث وهو الحزمة من أنواع النبت والحشيش بشرط أن يكون مما قام على ساق واستطال قال تعالى: {وَخُذْ بِيَدِكَ} [ص: 44].إذا عرفت هذا فنقول: الرؤيا إن كانت مخلوطة من أشياء غير متناسبة كانت شبيهة بالضغث.
المسألة الثانية:
أنه تعالى جعل تلك الرؤيا سببًا لخلاص يوسف عليه السلام من السجن، وذلك لأن الملك لما قلق واضطرب بسببه، لأنه شاهد أن الناقص الضعيف استولى على الكامل القوي فشهدت فطرته بأن هذا ليس بجيد وأنه منذر بنوع من أنواع الشر، إلا أنه ما عرف كيفية الحال فيه والشيء إذا صار معلومًا من وجه وبقي مجهولًا من وجه آخر عظم تشوف الناس إلى تكميل تلك المعرفة وقويت الرغبة في إتمام الناقص لاسيما إذا كان الإنسان عظيم الشأن واسع المملكة، وكان ذلك الشيء دالًا على الشر من بعض الوجوه فبهذا الطريق قوى الله داعية ذلك الملك في تحصيل العلم بتعبير هذه الرؤيا، ثم إنه تعالى أعجز المعبرين اللذين حضروا عند ذلك الملك عن جواب هذه المسألة وعماه عليهم ليصير ذلك سببًا لخلاص يوسف من تلك المحنة.
واعلم أن القوم ما نفوا عن أنفسهم كونهم عالمين بعلم التعبير، بل قالوا: إن علم التعبير على قسمين منه ما تكون الرؤيا فيه منتسقة منتظمة فيسهل الانتقال من الأمور المتخيلة إلى الحقائق العقلية الروحانية ومنه ما تكون فيه مختلطة مضطربة ولا يكون فيها ترتيب معلوم وهو المسمى بالأضغاث والقوم قالوا إن رؤيا الملك من قسم الأضغاث ثم أخبروا أنهم غير عالمين بتعبير هذا القسم وكأنهم قالوا هذه الرؤيا مختلطة من أشياء كثيرة وما كان كذلك فنحن لا نهتدي إليها ولا يحيط عقلنا بها وفيها إيهام أن الكامل في هذا العلم والمتبحر فيه قد يهتدي إليها، فعند هذه المقالة تذكر ذلك الشرابي واقعة يوسف فإنه كان يعتقد فيه كونه متبحرًا في هذا العلم. اهـ.