فصل: قال القرطبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القرطبي:

قوله تعالى: {وَقَالَ الذي نَجَا مِنْهُمَا} يعني ساقي الملك.
{وادكر بَعْدَ أمَّةٍ} أي بعد حين، عن ابن عباس وغيره؛ ومنه: {إلى أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ} [هود: 8] وأصله الجملة من الحين.
وقال ابن دُرُسْتَويه: والأُمّة لا تكون الحين إلا على حذف مضاف، وإقامة المضاف إليه مقامه، كأنه قال والله أعلم: وادّكر بعد حين أمَّةٍ، أو بعد زمن أمّة، وما أشبه ذلك؛ والأمّة الجماعة الكثيرة من الناس.
قال الأخفش: هو في اللفظ واحد، وفي المعنى جمع؛ وكل جنس من الحيوان أمّة؛ وفي الحديث: «لولا أن الكلاب أمّة من الأمم لأمرت بقتلها».
قوله تعالى: {وادكر} أي تذكر حاجة يوسف، وهي قوله: {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} وقرأ ابن عباس فيما روى عفّان عن همّام عن قَتادة عن عِكرمة عنه {وَادَّكَرَ بَعْدَ أَمَةٍ}.
النحاس: والمعروف من قراءة ابن عباس وعِكرمة والضّحاك: {وادكربعد أُمَةٍ}، بفتح الهمزة وتخفيف الميم؛ أي بعد نسيان؛ قال الشاعر:
أَمِهْتُ وكنتُ لاَ أَنْسَى حديثًا ** كذاكَ الدهرُ يُودِي بالعقولِ

وعن شُبَيل بن عَزْرة الضُّبَعي: {بعد أَمْهٍ} بفتح الألف وإسكان الميم وهاء خالصة؛ وهو مثل الأَمَه، وهما لغتان، ومعناهما النّسيان؛ ويقال: أَمِهَ يأمَهُ أَمَهًا إذا نَسيَ، فعلى هذا {وادكر بَعْدَ أَمَه}؛ ذكره النحاس؛ ورجل أمِهٌ ذاهب العقل.
قال الجوهريّ: وأما ما في حديث الزهريّ {أمِه} بمعنى أقرّ واعترف فهي لغة غير مشهورة.
وقرأ الأَشهب العُقَيْلي {بَعْدَ إِمَّةٍ} أي بعد نعمة؛ أي بعد أن أنعم الله عليه بالنجاة.
ثم قيل: نسي الفتى يوسف لقضاء الله تعالى في بقائه في السجن مدة.
وقيل: ما نسي، ولكنه خاف أن يذكر الملك الذنب الذي بسببه حبس هو والخبّاز؛ فقوله: {وادكر} أي ذكر وأخبر.
قال النحاس: أصل ادكر اذْتَكَر؛ والذال قريبة المخرج من التاء؛ ولم يجز إدغامها فيها لأن الذال مجهورة، والتاء مهموسة، فلو أدغموا ذهب الجهر، فأبدلوا من موضع التاء حرفًا مجهورًا وهو الدال وكان أولى من الطاء لأن الطاء مطبقة؛ فصار اذدكر، فأدغموا الذال في الدال لرخاوة الدال ولينها؛ ثم قال: {أَنَاْ أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ} أي أنا أخبركم.
وقرأ الحسن {أَنَا آتِيكُمْ بِتَأْوِيلِهِ} وقال: كيف ينبئهم العلج؟ا قال النحاس: ومعنى: {أنَبِّئُكُمْ} صحيح حسن؛ أي أنا أخبركم إذا سَأَلتُ.
{فَأَرْسِلُونِ} خاطب الملك ولكن بلفظ التعظيم، أو خاطب الملك وأهل مجلسه.
{يُوسُفُ} نداء مفرد، وكذا: {الصديق} أي الكثير الصدق.
{أَفْتِنَا} أي فأرسلوه، فجاء إلى يوسف فقال: أيها الصديق! وسأله عن رؤيا الملك.
{لعلي أَرْجِعُ إِلَى الناس} أي إلى الملك وأصحابه.
{لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ} التعبير، أو {لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ} مكانك من الفضل والعلم فتخرج.
ويحتمل أن يريد بالناس الملك وحده تعظيمًا له.
{قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ}
فيه مسألتان:
الأولى: قوله تعالى: {قَالَ تَزْرَعُونَ} لما أعلمه بالرؤيا جعل يفسّرها له، فقال: السبع من البقرات السّمان والسّنبلات الخضر سبع سنين مخصِبات؛ وأما البقرات العِجاف والسّنبلات اليابسات فسبع سنين مجدِبات؛ فذلك قوله: {تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا} أي متوالية متتابعة؛ وهو مصدر على غير المصدر، لأن معنى: {تَزْرَعُونَ} تدأبون كعادتكم في الزراعة سبع سنين.
وقيل: هو حال؛ أي دائبين.
وقيل: صفة لسبع سنين، أي دائبة.
وحكى أبو حاتم عن يعقوب {دَأَبًا} بتحريك الهمزة، وكذا روى حفص عن عاصم، وهما لغتان، وفيه قولان، قول أبي حاتم: إنه من دَئِب.
قال النحاس: ولا يعرف أهل اللغة إلا دَأَبَ.
والقول الآخر: إنه حُرِّكَ لأن فيه حرفًا من حروف الحلق؛ قاله الفراء، قال: وكذلك كل حرف فتح أوله وسكن ثانيه فتثقيله جائز إذا كان ثانيه همزة، أو هاء، أو عينًا، أو غينًا، أو حاء، أو خاء؛ وأصله العادة؛ قال:
كدَأْبِكَ مِنْ أمِّ الْحُوَيْرِثِ قَبْلَهَا

وقد مضى في آل عمران القول فيه.
{فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ} قيل: لئلا يتسوّس، وليكون أبقى؛ وهكذا الأمر في ديار مصر.
{إِلاَّ قَلِيلًا مِّمَّا تَأْكُلُونَ} أي استخرجوا ما تحتاجون إليه بقدر الحاجة؛ وهذا القول منه أمر، والأول خبر.
ويحتمل أن يكون الأول أيضًا أمرًا، وإن كان الأظهر منه الخبر؛ فيكون معنى: {تَزْرَعُونَ} أي ازرعوا.
الثانية: هذه الآية أصل في القول بالمصالح الشرعية التي هي حفظ الأديان والنفوس والعقول والأنساب والأموال؛ فكل ما تضمن تحصيل شيء من هذه الأمور فهو مصلحة، وكل ما يُفوّت شيئًا منها فهو مفسدة، ودفعه مصلحة؛ ولا خلاف أن مقصود الشرائع إرشاد الناس إلى مصالحهم الدنيوية؛ ليحصل لهم التمكن من معرفة الله تعالى وعبادته الموصلتين إلى السعادة الأخروية، ومراعاة ذلك فضل من الله عز وجل ورحمة رحم بها عباده، من غير وجوب عليه، ولا استحقاق؛ هذا مذهب كافة المحقِّقين من أهل السنّة أجمعين؛ وبسطه في أصول الفقه.
{ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ (48)}
فيه مسألتان:
الأولى: قوله تعالى: {سَبْعٌ شِدَادٌ} يعني السّنين المجدِبات.
{يَأْكُلْنَ} مجاز، والمعنى يأكل أهلهنّ.
{مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ} أي ما ادّخرتم لأجلهن؛ ونحوه قول القائل:
نهارُك يا مغرورُ سَهْوٌ وغَفْلَةٌ ** ولَيلُكَ نَوْمٌ والرَّدَى لَكَ لازمُ

والنهار لا يَسهو، والليل لا ينام؛ وإنما يُسهى في النهار، ويُنام في الليل.
وحكى زيد بن أسلم عن أبيه: أن يوسف كان يضع طعام الاثنين فيقرِّبه إلى رجل واحد فيأكل بعضه، حتى إذا كان يومٌ قَرَّبه له فأكله كلَّه؛ فقال يوسف: هذا أوّل يوم من السّبع الشداد.
{إِلاَّ قَلِيلًا} نصب على الاستثناء.
{مِّمَّا تُحْصِنُونَ} أي مما تحبسون لتزرعوا؛ لأن في استبقاء البذر تحصين الأقوات.
وقال أبو عبيدة: تحرزون.
وقال قتادة: {تُحْصِنُونَ} تدّخرون، والمعنى واحد؛ وهو يدلّ على جواز احتكار الطعام إلى وقت الحاجة.
الثانية: هذه الآية أصل في صحة رؤيا الكافر، وأنها تُخرّج على حسب ما رأى، لاسيما إذا تعلقت بمؤمن، فكيف إذا كانت آية لنبيّ، ومعجزة لرسول، وتصديقًا لمصطفى للتبليغ، وحجة للواسطة بين الله جل جلاله و (بين) عبادِه.
قوله تعالى: {ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذلك عَامٌ}
هذا خبر من يوسف عليه السلام عما لم يكن في رؤيا الملك، ولكنه من علم الغيب الذي آتاه الله.
قال قَتَادة: زاده الله عِلم سَنَة لم يسألوه عنها إظهارًا لفضله، وإعلامًا لمكانه من العلم وبمعرفته.
{فِيهِ يُغَاثُ الناس} من الإغاثة أو الغوث؛ غَوَّثَ الرجل قال واغوثاه، والاسم الغَوْث والغُوَاث والغَوَاث، واستغاثني فلان فأغثته، والاسم الغِياث؛ صارت الواو ياء لكسرة ما قبلها.
والغيث المطر؛ وقد غاث الغيث الأرضَ أي أصابها؛ وغاث الله البلاَد يَغِيثها غَيْثًا، وغِيثَت الأرضُ تُغاث غَيْثًا، فهي أرض مَغِيثَة ومَغْيوثة؛ فمعنى: {يُغَاث النَّاسُ} يُمطَرون.
{وَفِيهِ يَعْصِرُونَ} قال ابن عباس: يعصرون الأعناب والدُّهن؛ ذكره البخاريّ.
وروى حجّاج عن ابن جُرَيج قال: يعصرون العنب خمرًا والسّمسم دُهنًا، والزيتون زيتًا.
وقيل: أراد حلب الألبان لكثرتها؛ ويدلّ ذلك على كثرة النبات.
وقيل: {يَعْصِرُونَ} أي يَنجُون؛ وهو من العُصْرة، وهي المَنْجَاة.
قال أبو عبيدة: والعَصَر بالتحريك المَلْجأ والمَنْجاة، وكذلك العُصْرة؛ قال أبو زُبَيد:
صادِيًا يَستغِيثُ غَير مُغَاثٍ ** ولقد كَانَ عُصْرَةَ المَنْجُودِ

والمَنجُودِ الفَزِع.
واعتصرتُ بفلان وتَعصرتُ أي التجأت إليه.
قال أبو الغوث: {يَعْصِرُونَ} يَسْتَغِلُّون؛ وهو من عصر العنب.
واعتصرت ماله أي استخرجته من يده.
وقرأ عيسى {تُعْصَرُونَ} بضم التاء وفتح الصاد، ومعناه: تُمطَرون؛ من قول (الله): {وَأَنزَلْنَا مِنَ المعصرات مَاءً ثَجَّاجًا} [النبأ: 14] وكذلك معنى: {تُعصِرون} بضم التاء وكسر الصاد، فيمن قرأه كذلك. اهـ.

.قال الخازن:

{وقال الذي نجا منهما}.
يعني وقال الساقي الذي نجا من السجن والقتل بعد هلاك صاحبه الخباز: {وادكر بعد أمة} يعني أنه تذكر قول يوسف اذكرني عند ربك بعد أمة يعني بعد حين وهو سبع سنين وسمي الحين من الزمان أمة لأنه جماعة الأيام والأمة والجماعة: {أنا أنبئكم} يعني أخبركم: {بتأويله} وقوله أنا أنبئكم بلفظ الجمع إما أنه أراد به الملك مع جماعة السحرة والكهنة والمعبرين أو أراد به الملك وحده وخاطبه بلفظ الجمع على سبيل التعظيم وذلك أن الفتى الساقي جثا بين يدي الملك وقال إن في السجن رجلًا عالمًا يعبر الرؤيا: {فأرسلون} فيه اختصار تقديره فأرسلني أيها الملك فأتى السجن قال ابن عباس ولم يكن السجن في المدينة: {يوسف} أي يا يوسف: {أيها الصديق} إنما سماه صديقًا لأنه لم يجرب عليه كذبًا قط والصديق الكثير الصدق والذي ل يكذب قط وقيل سماه صديقًا لأنه صدق في تعبيره رؤياه التي رآها في السجن: {أفتنا في سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات} فإن الملك رأى هذه الرؤيا: {لعلي أرجع إلى الناس} يعني أرجع بتأويل هذه الرؤيا إلى الملك وجماعته: {لعلهم يعلمون} يعني بتأويل هذه الرؤيا وقيل لعلهم يعلمون منزلتك في العلم: {قال} يعني يوسف معبرًا لتلك الرؤيا أما البقرات السمان والسنبلات الخضر فسبع سنين مخصبة وأما البقرات العجاف والسنبلات اليابسات فسبع سنين مجدبه فذلك قوله تعالى: {تزرعون} وهذا خبر بمعنى الأمر أي ازرعوا: {سبع سنين دأبًا} يعني عادتكم في الزراعة والدأب العادة وقيل ازرعوا بجد واجتهاد: {فما حصدتم فذروه في سنبله} إنما أمرهم بترك ما حصدوه من الحنطة في سنبله لئلا يفسد ويقع في السوس وذلك ابقى له على طول الزمان: {إلا قليلًا مما تأكلون} يعني ادرسوا قليلًا من الحنطة للأكل بقدر الحاجة وأمرهم بحفظ الأكثر لوقت الحاجة أيضًا وهو وقت السنين المجدبة وهو قوله: {ثم يأتي من بعد ذلك} يعني من بعد السنين المخصبة: {سبع شداد} يعني سبع سنين مجدبة ممحلة شديدة على الناس: {يأكلن} يعني يفنين: {ما قدمتم لهن} يعني يؤكل فيهن كل ما أعددتم وادخرتم لهن من الطعام وإنما أضاف الأكل إلى السنين على طريق التوسع في الكلام: {إلا قليلًا مما تحصنون} يعني تحرزون وتدخرون للبذر، والإحصان الإحراز وهو إبقاء الشي في الحصن بحيث يحفظ ولا يضيع.
{ثم يأتي من بعد ذلك} يعني من بعد هذه السنين المجدبة: {عام فيه يغاث الناس} أي يمطرون من الغيث الذي هو المطر، وقيل: هو من قولهم استغثت بفلان فأغاثني من الغوث: {وفيه يعصرون} يعني يعصرون العنب خمرًا والزيتون زيتًا والسمسم دهنًا أراد به كثرة الخير والنعم على الناس وكثرة الخصب في الزرع والثمار، وقيل يعصرون معناه ينجون من الكرب والشدة والجدب. اهـ.

.قال أبو حيان:

{وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ}
أمة يأمه أمها وأمها نسي.
يغاث: يحتمل أن يكون من الغوث وهو الفرج، يقال: أغاثهم الله فرج عنهم، ويحتمل أن يكون من الغيث تقول: غيثت البلاد إذا أمطرت، ومنه قول الأعرابية: غثنا ما شئنا.
{وقال الذي نجا منهما وادّكر بعد أمة أنا أنبئكم بتأويله فأرسلون يوسف أيها الصديق أفتنا في سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات لعلي أرجع إلى الناس لعلهم يعلمون قال تزرعون سبع سنين دأبًا فما حصدتم فذروه في سنبله إلا قليلًا مما تأكلون ثم يأتي من بعد ذلك سبع شداد يأكلن ما قدمتم لهن إلا قليلا مما تحصنون ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون}: لما استثنى الملك في رؤياه وأعضل على الملأ تأويلها، تذكر الناجي من القتل وهو ساقي الملك يوسف، وتأويل رؤياه ورؤيا صاحبه، وطلبه إليه ليذكره عند الملك.