فصل: قال صاحب المنار في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقرأ الأشهب العقيلي: {بعد إمَّة} بكسر الهمزة، أي: بعد نعمة، وهي نعمة النجاة.
{أَنَاْ أُنَبّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ} أي: أخبركم به بسؤالي عنه من له علم بتأويله، وهو يوسف.
{فَأَرْسِلُونِ} خاطب الملك بلفظ التعظيم، أو خاطبه ومن كان عنده من الملأ، طلب منهم أن يرسلوه إلى يوسف ليقصّ عليه رؤيا الملك حتى يخبره بتأويلها فيعود بذلك إلى الملك.
{يُوسُفُ أَيُّهَا الصديق أَفْتِنَا} أي: يا يوسف، وفي الكلام حذف، والتقدير: فأرسلوه إلى يوسف فسار إليه، فقال له: {يُوسُفُ أَيُّهَا الصديق} إلى آخر الكلام، والمعنى: أخبرنا في رؤيا من رأى سبع بقرات إلخ، وترك ذكر ذلك اكتفاء بما هو واثق به من فهم يوسف بأن ذلك رؤيا، وأن المطلوب منه تعبيرها: {لَّعَلّى أَرْجِعُ إِلَى الناس} أي: إلى الملك ومن عنده من الملأ: {لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ} ما تأتي به من تأويل هذه الرؤيا، أو يعلمون فضلك ومعرفتك لفنّ التعبير.
وجملة: {قَالَ تَزْرَعُونَ} إلخ مستأنفة جواب سؤال مقدّر كغيرها مما يرد هذا المورد: {سَبْعُ سِنِينَ دَأَبًا} أي: متوالية متتابعة، وهو مصدر.
وقيل: هو حال، أي: دائبين، وقيل: صفة لسبع، أي: دائبة.
وحكى أبو حاتم عن يعقوب أنه قرأ {دأبا} بتحريك الهمزة، وكذا روى حفص عن عاصم وهما لغتان قال الفراء: حرك لأن فيه حرفًا من حروف الحلق، وكذلك كل حرف فتح أوّله وسكن ثانيه فتثقيله جائز في كلمات معروفة.
فعبر يوسف عليه السلام السبع البقرات السمان بسبع سنين فيها خصب، والعجاف بسبع سنين فيها جدب، وهكذا عبر السبع السنبلات الخضر، والسبع السنبلات اليابسات، واستدل بالسبع السنبلات الخضر على ما ذكره في التعبير من قوله: {فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ في سُنبُلِهِ} أي: ما حصدتم في كل سنة من السنين المخصبة فذروا ذلك المحصود في سنبله ولا تفصلوه؛ عنها لئلا يأكله السوس إلاّ قليلًا مما تأكلون في هذه السنين المخصبة، فإنه لابد لكم من فصله عن سنبله وإخراجه عنها.
واقتصر على استثناء المأكول دون ما يحتاجون إليه من البذر الذي يبذرونه في أموالهم، لأنه قد علم من قوله: {تزرعون}، {ثُمَّ يَأْتِى مِن بَعْدِ ذلك} أي: من بعد السبع السنين المخصبة: {سَبْعٌ شِدَادٌ} أي: سبع سنين مجدبة يصعب أمرها على الناس: {يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ} من تلك الحبوب المتروكة في سنابلها، وإسناد الأكل إلى السنين مجاز، والمعنى: يأكل الناس فيهنّ، أو يأكل أهلهنّ ما قدمتم لهنّ: أي: ما ادخرتم لأجلهنّ، فهو من باب: نهاره صائم، ومنه قول الشاعر:
نهارك يا مغرور سهو وغفلة ** وليلك نوم والردى لك لازم

{إِلاَّ قَلِيلًا مّمَّا تُحْصِنُونَ} أي: مما تحبسون من الحب لتزرعوا به؛ لأن في استبقاء البذر تحصين الأقوات.
وقال أبو عبيدة: معنى: {تحصنون} تحرزون.
وقيل: تدّخرون، والمعنى واحد.
قوله: {ثُمَّ يَأْتِى مِن بَعْدِ ذلك عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ الناس وَفِيهِ يَعْصِرُونَ} أي: من بعد السنين المجدبات، فالإشارة إليها، والعام: السنة: {فِيهِ يُغَاثُ الناس} من الإغاثة أو الغوث، والغيث المطر، وقد غاث الغيث: بالأرض، أي: أصابها، وغاث الله البلاد يغيثها غوثًا: أمطرها، فمعنى: {يغاث الناس}: يمطرون: {وَفِيهِ يَعْصِرُونَ} أي: يعصرون الأشياء التي تعصر كالعنب والسمسم والزيتون.
وقيل: أراد حلب الألبان.
وقيل: معنى: {يعصرون} ينجون، مأخوذ من العصرة وهي المنجاة.
قال أبو عبيدة: والعصر بالتحريك: الملجأ والمنجاة، ومنه قول الشاعر:
صاديا يستغيث غير مغاث ** ولقد كان عصرة المنجود

واعتصرت بفلان: التجأت به.
وقرأ حمزة والكسائي: {تعصرون} بتاء الخطاب، وقرئ: {يعصرون} بضم حرف المضارعة وفتح الصاد، ومعناه يمطرون، ومنه قوله تعالى: {وَأَنزَلْنَا مِنَ المعصرات مَاء ثَجَّاجًا} [النبأ: 14].
وقد أخرج ابن إسحاق، وابن أبي حاتم عن مجاهد قال: قال يوسف للساقي: أذكرني عند ربك، أي: الملك الأعظم، ومظلمتي وحبسي في غير شيء، فقال: أفعل، فلما خرج الساقي ردّ على ما كان عليه، ورضي عنه صاحبه، وأنساه الشيطان ذكر الملك الذي أمره يوسف أن يذكره له، فلبث يوسف بعد ذلك في السجن بضع سنين، ثم إن الملك ريان بن الوليد رأى رؤياه التي أري فيها فهالته، وعرف أنها رؤيا واقعة، ولم يدر ما تأويلها، فقال للملأ حوله من أهل مملكته: {إِنّى أرى سَبْعَ بقرات سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سنبلات خُضْرٍ وَأُخَرَ يابسات} فلما سمع من الملك ما سمع منه ومسألته عن تأويلها، ذكر يوسف ما كان عبَّر له ولصاحبه، وما جاء من ذلك على ما قال، فقال: أنا أنبئكم بتأويله.
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله: {أضغاث أَحْلاَمٍ} يقول: مشتبهة.
وأخرج أبو يعلى، وابن جرير عنه قال: من الأحلام الكاذبة.
وأخرج ابن جرير عن الضحاك مثله.
وأخرج عبد الرزاق، والفريابي، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ من طرق عن ابن عباس في قوله: {وادكر بَعْدَ أُمَّةٍ} قال: بعد حين.
وأخرج ابن جرير عن مجاهد والحسن وعكرمة وعبد الله بن كثير والسدّي مثله.
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: بعد سنين.
وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن قال: بعد أمة من الناس.
وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن قتادة في قوله: {أَفْتِنَا في سَبْعِ بقرات} الآية، قال: أما السمان فسنون فيها خصب، وأما العجاف فسنون مجدبة، وسبع سنبلات خضر هي السنون المخاصيب، تخرج الأرض نباتها وزرعها وثمارها، وآخر يابسات: المحول الجُدُوب لا تنبت شيئًا.
وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن عكرمة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لقد عجبت من يوسف وكرمه وصبره، والله يغفر له حين سئل عن البقرات العجاف والسمان، ولو كنت مكانه ما أخبرتهم حتى اشترطت عليهم أن يخرجوني، ولقد عجبت من يوسف وصبره وكرمه والله يغفر له حين أتاه الرسول، ولو كنت مكانه لبادرتهم الباب، ولكنه أراد أن يكون له العذر» وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {إِلاَّ قَلِيلًا مّمَّا تُحْصِنُونَ} يقول: تخزنون، وفي قوله: {وَفِيهِ يَعْصِرُونَ} يقول: الأعناب والدهن.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عنه في قوله: {فِيهِ يُغَاثُ الناس} يقول: يصيبهم فيه غيث: {وَفِيهِ يَعْصِرُونَ} يقول: يعصرون فيه العنب، ويعصرون فيه الزبيب، ويعصرون من كل الثمرات.
وأخرج سعيد بن منصور، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عنه أيضًا: {وَفِيهِ يَعْصِرُونَ} قال: يحتلبون.
وأخرج ابن جرير، وأبو الشيخ عنه أيضًا: {ثُمَّ يَأْتِى مِن بَعْدِ ذلك عَامٌ} قال: أخبرهم بشيء لم يسألوه عنه كأنّ الله قد علمه إياه فيه يغاث الناس بالمطر، وفيه يعصرون السمسم دهنًا، والعنب خمرًا والزيتون زيتًا. اهـ.

.قال صاحب المنار في الآيات السابقة:

{وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ}.
رُؤْيَا مَلِكِ مِصْرَ وَتَأْوِيلِ يُوسُفَ لَهَا بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ:
كَانَ مَلِكُ مِصْرَ فِي عَهْدِ يُوسُفَ مِنْ مُلُوكِ الْعَرَبِ الْمَعْرُوفِينَ بِالرُّعَاةِ (الْهِكْسُوسِ) كَمَا يَأْتِي فِي التَّفْسِيرِ الْإِجْمَالِيِّ، وَقَدْ رَأَى رُؤْيَا عَجَزَ رِجَالُ دَوْلَتِهِ مِنَ الْوُزَرَاءِ وَالْكَهَنَةِ وَالْعُلَمَاءِ عَنْ تَأْوِيلِهَا، فَكَانَ عَجْزُهُمْ سَبَبًا لِلُّجُوءِ إِلَى يُوسُفَ عليه السلام وَاتِّصَالِهِ بِالْمَلِكِ وَتَوَلِّيهِ مَنْصِبَ الْوَزِيرِ الْمُفَوَّضِ عِنْدَهُ، كَمَا بُيِّنَ فِي الْآيَاتِ مَبْدَأً وَغَايَةً. قَالَ تَعَالَى: {وَقَالَ الْمَلِكُ} هَذَا السِّيَاقُ عَطْفٌ عَلَى سِيَاقِ {صَاحِبَيِ السِّجْنِ} وَمَا قَالَاهُ فِي قَصِّ رُؤَاهُمَا عَلَى يُوسُفَ: {إِنِّي أَرَى} أَيْ رَأَيْتُ فِيمَا يَرَى النَّائِمُ رُؤْيَا جَلِيَّةً مَاثِلَةً أَمَامِي كَأَنِّي أَرَاهَا الْآنَ {سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ} جَمْعُ سَمِينَةٍ وَكَذَا سَمِينٌ كَمَا يُقَالُ: رِجَالٌ وَنِسَاءٌ كِرَامٌ وَحِسَانٌ {يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ} أَيْ سَبْعُ بَقَرَاتٍ مَهَازِيلَ فِي غَايَةِ الضَّعْفِ وَالْهُزَالِ، وَهُوَ جَمْعُ عَجْفَاءَ سَمَاعًا لَا قِيَاسًا فَإِنَّ جَمْعَ أَفْعَلِ وَفَعْلَاءِ وِزَانُ فُعْلِ بِالضَّمِّ كَحُمْرِ وَخُضْرِ، وَحُسْنُهُ هُنَا مُنَاسَبَتُهُ لِـ {سِمَانٍ}. {وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ} عَطْفٌ عَلَى {سَبْعَ بَقَرَاتٍ} وَهِيَ جَمْعُ سُنْبُلَةٍ كَقُنْفُدَةٍ: مَا يُخْرِجُهُ الزَّرْعُ كَالْقَمْحِ وَالشَّعِيرِ فَيَكُونُ فِيهِ الْحَبُّ {وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ} عَطْفٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ وَالْيَابِسُ مِنَ السُّنْبُلِ مَا آنَ حَصَادُهُ، وَاسْتَغْنَى عَنْ إِعَادَةِ {سَبْعِ} هُنَا بِدَلَالَةِ مُقَابِلِهِ فِي الْبَقَرَاتِ عَلَيْهِ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ يُخَاطِبُ رِجَالَ دَوْلَتِهِ وَأَشْرَافَ قَوْمِهِ: {أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ} مَا مَعْنَاهَا وَمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ فَيَكُونُ مَآلًا لَهَا {إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ} أَيْ تَعْبُرُونَهَا بِبَيَانِ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ الْمُرَادِ مِنَ الْمَعْنَى الْخَيَالِيِّ، كَمَنْ يَعْبُرُ النَّهْرَ بِالِانْتِقَالِ مِنْ ضَفَّةٍ إِلَى أُخْرَى، فَاللَّامُ فِيهَا لِلْبَيَانِ وَالتَّقْوِيَةِ، فَعَبْرُهَا وَعُبُورُهَا بِمَعْنَى... تَأْوِيلِهَا، وَهُوَ الْإِخْبَارُ بِمَآلِهَا الَّذِي يَقَعُ بَعْدُ.
{قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ} أَيْ هِيَ، أَوْ هَذِهِ الرُّؤْيَا مِنْ جِنْسِ أَضْغَاثِ الْأَحْلَامِ، أَيِ الْأَحْلَامِ الْمُخْتَلَطَةِ مِنَ الْخَوَاطِرِ وَالْأَخْيِلَةِ الَّتِي يَتَصَوَّرُهَا الدِّمَاغُ فِي النَّوْمِ فَلَا تَرْمِي إِلَى مَعْنًى مَقْصُودٍ، وَأَصْلُ الْأَضْغَاثِ جَمْعُ ضِغْثٍ بِالْكَسْرِ وَهُوَ الْحُزْمَةُ مِنَ النَّبَاتِ أَوِ الْعِيدَانِ، وَالْأَحْلَامُ جَمْعُ حُلُمٍ بِضَمَّتَيْنِ وَيُسَكَّنُ لِلتَّخْفِيفِ وَهُوَ مَا يُرَى فِي النَّوْمِ. يُقَالُ: حَلَمَ كَنَصَرَ وَاحْتَلَمَ، وَمِنْهُ بُلُوغُ الْحُلُمِ، وَالْحُلُمُ قَدْ يَكُونُ وَاضِحَ الْمَعْنَى كَالْأَفْكَارِ الَّتِي تَكُونُ فِي الْيَقَظَةِ، وَقَدْ يَكُونُ- وَهُوَ الْأَكْثَرُ- مُشَوَّشًا مُضْطَرِبًا لَا يُفْهَمُ لَهُ مَعْنًى وَهُوَ الَّذِي يُشَبَّهُ بِالتَّضَاغِيثِ، كَأَنَّهُ مُؤَلَّفٌ مِنْ حُزَمٍ مُخْتَلِفَةٍ مِنَ الْعِيدَانِ وَالْحَشَائِشِ الَّتِي لَا تَنَاسُبَ بَيْنَهَا، وَهُوَ مَا تَبَادَرَ إِلَى أَفْهَامِهِمْ مِنْ نَوْعَيِ الْبَقَرِ وَالسَّنَابِلِ {وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ} يَحْتَمِلُ قَوْلُهُمْ هَذَا أَنَّهُمْ لَيْسُوا بِأُولِي عِلْمٍ بِتَأْوِيلِ هَذِهِ الْأَحْلَامِ الْمُخْتَلِطَةِ الْمُضْطَرِبَةِ، وَإِنَّمَا يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَ غَيْرِهَا مِنَ الْمَنَامَاتِ الْمَعْقُولَةِ الْمَفْهُومَةِ، وَيُحْتَمَلُ نَفْيُ الْعِلْمِ بِجِنْسِ الْأَحْلَامِ لِأَنَّهَا مِمَّا لَا يُعْلَمُ، أَوْ مِمَّا لَا يَكُونُ لَهُ مَعْنًى بَعِيدٌ تَدُلُّ عَلَيْهِ الصُّوَرُ الْمُتَخَيَّلَةُ فِي النَّوْمِ تَنْتَهِي إِلَيْهِ، كَمَا يُنْكِرُ أَهْلُ الْعِلْمِ الْمَادِّيِّ الْآنَ أَنْ يَكُونَ لِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الرُّؤَى وَالْأَحْلَامِ تَأْوِيلٌ صَحِيحٌ، وَلَكِنَّ قُدَمَاءَ الْمِصْرِيِّينَ كَانُوا يَعْنُونَ بِهَا. وَسَنُبَيِّنُ الْحَقَّ فِي ذَلِكَ فِي الْخُلَاصَةِ الْكُلِّيَّةِ لِتَفْسِيرِ السُّورَةِ كَمَا تَقَدَّمَ.
{وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا} أَيْ مِنْ صَاحِبَيِ السِّجْنِ، وَهُوَ السَّاقِي أَحَدُ أَرْكَانِ الْقِصَّةِ {وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ} أَيْ وَالْحَالُ أَنَّهُ تَذَكَّرَ بَعْدَ طَائِفَةٍ طَوِيلَةٍ مِنَ الزَّمَنِ وَصِيَّةَ يُوسُفَ إِيَّاهُ بِأَنْ يَذْكُرَهُ عِنْدَ سَيِّدِهِ الْمَلِكِ، فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذَلِكَ (وَأَصْلُ ادَّكَرَ اذْتَكَرَ) افْتِعَالٌ مِنَ الذِّكْرِ أُبْدِلَتْ تَاؤُهُ دَالًا مُهْمَلَةً لِقُرْبِ مَخْرَجِهِمَا وَأُدْغِمَتْ فِيهَا الذَّالُ الْمُعْجَمَةُ، وَهُوَ الْفَصِيحُ، وَقُرِئَ فِي الشَّوَاذِّ بِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ وَهِيَ لُغَةٌ. {أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ} أَيْ أُخْبِرُكُمْ بِهِ أَوْ بِمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ تَأْوِيلِهِ فَأَرْسَلُونِ إِلَيْهِ أَوْ إِلَى السِّجْنِ فَهُوَ فِيهِ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ السِّجْنَ كَانَ خَارِجَ الْبَلَدِ. وَفِي خُطَطِ الْمَقْرِيزِيِّ: قَالَ الْقُضَاعِيُّ سِجْنُ يُوسُفَ بِبُوصِيرَ مِنْ عَمَلِ الْجِيزَةِ، أَجْمَعَ أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ مِنْ أَهْلِ مِصْرَ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْمَكَانِ، وَفِيهِ أَثَرُ نَبِيَّيْنِ: أَحَدُهُمَا يُوسُفُ سُجِنَ فِيهِ الْمُدَّةَ الَّتِي ذُكِرَ أَنَّ مَبْلَغَهَا سَبْعُ سِنِينَ، وَالْآخِرُ مُوسَى، وَقَدْ بُنِيَ عَلَى أَثَرِهِ مَسْجِدٌ يُعْرَفُ بِمَسْجِدِ مُوسَى إِلَخْ. وَأَمْثَالُ هَذِهِ الْأَخْبَارِ لَا يُوثَقُ بِهَا.
{يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ} أَيْ قَالَ فَأَرْسَلُونِي إِلَيْهِ فَأَرْسَلُوهُ إِلَيْهِ، فَجَاءَهُ فَاسْتَفْتَاهُ فِيمَا عَجَزَ عَنْهُ الْمَلَأُ مِنْ تَأْوِيلِ رُؤْيَا الْمَلِكِ، مُنَادِيًا لَهُ بِاسْمِهِ وَمَا ثَبَتَ عِنْدَهُ مِنْ لَقَبِهِ الصِّدِّيقُ وَهُوَ الَّذِي بَلَغَ غَايَةَ الْكَمَالِ بِالصِّدْقِ فِي الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ وَتَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَتَعْبِيرِ الْأَحْلَامِ، شَارِحًا لَهُ رُؤْيَا الْمَلِكِ بِنَصِّهَا- وَهُوَ بَسْطٌ فِي مَحَلِّهِ بَعْدَ إِيجَازٍ فِي مَحَلِّهِ- قَائِلًا: {أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ} وَعَلَّلَ هَذَا الِاسْتِفْتَاءَ بِمَا يَرْجُو أَنْ يُحَقِّقَ لِيُوسُفَ أَمَلَهُ بِالْخُرُوجِ مِنَ السِّجْنِ وَانْتِفَاعِ الْمَلِكِ وَمَلَئِهِ بِعِلْمِهِ فَقَالَ: {لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ} أُولِي الْأَمْرِ، وَأَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ، بِمَا تُلْقِيهِ إِلَيَّ مِنَ التَّأْوِيلِ وَالرَّأْيِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ مَكَانَتَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَيَنْتَفِعُونَ بِهِ، أَوْ يَعْلَمُونَ مَا جَهِلُوا مِنْ تَأْوِيلِ رُؤْيَا الْمَلِكِ وَمَا يَجِبُ أَنْ يَعْلَمُوا بَعْدَ الْعِلْمِ بِهِ، فَلَعَلَّ الْأَوْلَى تَعْلِيلٌ لِرُجُوعِهِ إِلَيْهِمْ بِإِفْتَائِهِ، وَلَعَلَّ الثَّانِيَةَ تَعْلِيلٌ لِمَا يَرْجُوهُ مِنْ عِلْمِهِمْ بِهَا، وَالرَّجَاءُ تَوَقُّعُ خَيْرٍ بِوُقُوعِ أَسْبَابِهِ.
{قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا} أَيْ قَالَ يُوسُفُ مُبَيِّنًا لِلْمَلَأِ مَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ عَمَلُهُ، لِتَلَافِي مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ هَذِهِ الرُّؤْيَا مِنَ الْخَطَرِ عَلَى الْبِلَادِ وَالْعِبَادِ، قَبْلَ وُقُوعِ تَأْوِيلِهَا الَّذِي بَيَّنَهُ فِي سِيَاقِ هَذَا التَّدْبِيرِ الْعَمَلِيِّ، وَهَذَا ضَرْبٌ مِنْ بَلَاغَةِ الْأُسْلُوبِ وَالْإِيجَازِ، وَلَا تَجِدُ لَهُ ضَرِيبًا فِي غَيْرِ الْقُرْآنِ، خَاطَبَ أُولِي الْأَمْرِ بِمَا لَقَّنَهُ لِلسَّاقِي خِطَابَ الْآمْرِ لِلْمَأْمُورِ الْحَاضِرِ، فَأَوْجَبَ عَلَيْهِمُ الشُّرُوعَ فِي زِرَاعَةِ الْقَمْحِ دَائِبِينَ عَلَيْهِ دَأَبًا مُسْتَمِرًّا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ} [14: 33] سَبْعَ سِنِينَ بِلَا انْقِطَاعٍ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: تَزْرَعُونَ خَبَرٌ فِي مَعْنَى الْأَمْرِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ} [61: 11] وَإِنَّمَا يَخْرُجُ الْأَمْرُ فِي صُورَةِ الْخَبَرِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي إِيجَابِ إِيجَادِ الْمَأْمُورِ بِهِ، فَيُجْعَلُ كَأَنَّهُ يُوجَدُ فَهُوَ يُخْبِرُ عَنْهُ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى كَوْنِهِ فِي مَعْنَى الْأَمْرِ قَوْلُهُ: {فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ} أَيْ فَكُلُّ مَا حَصَدْتُمْ مِنْهُ فِي كُلِّ زَرْعَةٍ فَاتْرُكُوهُ- أَيِ ادَّخِرُوهُ- فِي سُنْبُلِهِ بِطَرِيقَةٍ تَحْفَظُهُ مِنَ السُّوسِ بِعَدَمِ سَرَيَانِ الرُّطُوبَةِ إِلَيْهِ: الْحَبُّ لِغِذَاءِ النَّاسِ وَالتِّبْنُ لِغِذَاءِ الْبَهَائِمِ وَالدَّوَابِّ {إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ} فِي كُلِّ سَنَةٍ مِنْ هَذِهِ السِّنِينَ، مَعَ مُرَاعَاةِ الْقَصْدِ وَالِاكْتِفَاءِ بِمَا يَسُدُّ حَاجَةَ الْجُوعِ، فَإِنَّ النَّاسَ يَقْنَعُونَ فِي سِنِيِّ الْخِصْبِ وَالرَّخَاءِ بِالْقَلِيلِ، فَهَذِهِ السِّنِينُ السَّبْعُ تَأْوِيلٌ لِلْبَقَرَاتِ السَّبْعِ السِّمَانِ، وَالسُّنْبُلَاتُ السَّبْعُ الْخُضْرُ عَلَى ظَاهِرِهَا فِي كَوْنِ كُلِّ سُنْبُلَةٍ تَأْوِيلًا لِزَرْعِ سَنَةٍ.
{ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ} أَيْ سَبْعِ سِنِينَ شِدَادٍ فِي مَحَلِّهِنَّ وَجَلْبِهِنَّ {يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ} أَيْ يَأْكُلُ أَهْلُهُنَّ كُلَّ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُمْ، وَهُوَ مِنْ إِسْنَادِهِمْ إِلَى الزَّمَانِ وَالدَّهْرِ مَا يَقَعُ فِيهِ، وَيَكْثُرُ إِسْنَادُ الْعُسْرِ وَالْجُوعِ إِلَى سِنِيِّ الْجَدْبِ، يُقَالُ: أَكَلَتْ لَنَا هَذِهِ السَّنَةُ كُلَّ شَيْءٍ وَلَمْ تُبْقِ لَنَا خَفِيًّا وَلَا حَافِرًا، وَلَا سَبَدًا وَلَا لَبَدًا، أَيْ لَا شَعْرًا وَلَا صُوفًا. وَهَذَا تَأْوِيلٌ لِلْبَقَرَاتِ السَّبْعِ الْعِجَافِ وَأَكْلِهِنَّ لِلسَّبْعِ السِّمَانِ، وَلِلسُّنْبُلَاتِ الْيَابِسَاتِ {إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ} أَيْ تُحْرِزُونَ وَتَدَّخِرُونَ لِلْبَذْرِ.
{ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} الَّذِي ذُكِرَ وَهُوَ السَّبْعُ الشِّدَادُ {عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ} أَيْ فِيهِ يُغِيثُهُمُ اللهُ تَعَالَى مِنَ الشِّدَّةِ أَتَمَّ الْإِغَاثَةِ وَأَوْسَعَهَا، وَهِيَ تَشْمَلُ جَمِيعَ أَنْوَاعِ الْمَعُونَةِ بَعْدَ الشِّدَّةِ، يُقَالُ: غَاثَهُ يَغُوثُهُ وَغَوَاثًا (بِالْفَتْحِ) وَأَغَاثَهُ إِغَاثَةً إِذَا أَعَانَهُ وَنَجَّاهُ، وَغَوَّثَ الرَّجُلُ، قَالَ: (وَاغَوْثَاهُ) وَاسْتَغَاثَ رَبَّهُ اسْتَنْصَرَهُ وَسَأَلَهُ الْغَوْثَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْغَيْثِ وَهُوَ الْمَطَرُ، إِذْ يُقَالُ: غَاثَ اللهُ الْبِلَادَ غَيْثًا إِذَا أَنْزَلَ فِيهَا الْمَطَرَ، وَالْأَوَّلُ أَعَمُّ وَهُوَ الْمُتَبَادَرُ هُنَا، وَلَا يُقَالُ إِنَّ الثَّانِيَ لَا يَصِحُّ، لِأَنَّ خِصْبَ مِصْرَ يَكُونُ بِفَيَضَانِ النِّيلِ لَا بِالْمَطَرِ، فَإِنَّ فَيَضَانَهُ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنَ الْمَطَرِ الَّذِي يَمُدُّهُ فِي مَجَارِيهِ مِنْ بِلَادِ السُّودَانِ، فَاعْتِرَاضُ بَعْضِ الْمُسْتَشْرِقِينَ مِنَ الْإِفْرِنْجِ وَزَعْمُهُ أَنَّ الْكَلِمَةَ مِنَ الْغَيْثِ وَأَنَّهَا غَيْرُ جَائِزَةٍ، جَهْلٌ زَيَّنَهُ لَهُمُ الشَّيْطَانُ تَلَذُّذًا بِالِاعْتِرَاضِ عَلَى لُغَةِ الْقُرْآنِ، {وَفِيهِ يَعْصِرُونَ} مَا شَأْنُهُ أَنْ يُعْصَرَ مِنَ الْأَدْهَانِ الَّتِي يَأْتَدِمُونَ بِهَا وَيَسْتَصْبِحُونَ كَالزَّيْتِ مِنَ الزَّيْتُونِ وَالْقُرْطُمِ وَغَيْرِهِ، وَالشَّيْرَجِ مِنَ السِّمْسِمِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَالْأَشْرِبَةِ مِنَ الْقَصَبِ وَالنَّخِيلِ وَالْعِنَبِ. وَالْمُرَادُ: أَنَّ هَذَا الْعَامَ عَظِيمُ الْخِصْبِ وَالْإِقْبَالِ، وَيَكُونُ لِلنَّاسِ فِيهِ كُلُّ مَا يَبْغُونَ مِنَ النِّعْمَةِ وَالْإِتْرَافِ، وَالْإِنْبَاءُ بِهَذَا زَائِدٌ عَلَى تَأْوِيلِ الرُّؤْيَا لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْعَامُ الْأَوَّلُ بَعْدَ سِنِيِّ الشِّدَّةِ وَالْجَدْبِ دُونَ ذَلِكَ، فَهَذَا التَّخْصِيصُ وَالتَّفْصِيلُ لَمْ يَعْرِفْهُ يُوسُفُ إِلَّا بِوَحْيٍ مِنَ اللهِ- عَزَّ وَجَلَّ- لَا مُقَابِلَ لَهُ فِي رُؤْيَا الْمَلِكِ وَلَا هُوَ لَازِمٌ مِنْ لَوَازِمِ تَأْوِيلِهَا بِهَذَا التَّفْصِيلِ، وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ {تَعْصِرُونَ} بِالْخِطَابِ كَـ {تَزْرَعُونَ} و{تُحْصِنُونَ}. وَقِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ عَطْفٌ عَلَى {يُغَاثُ النَّاسُ} وَفَائِدَةُ الْقِرَائَتَيْنِ: بَيَانُ الْمِنَّةِ عَلَى الْفَرِيقَيْنِ مِنْ غَائِبٍ مَحْكِيٍّ عَنْهُ، وَحَاضِرٍ مُخَاطَبٍ بِمَا يَكُونُ مِنْهُ. اهـ.