فصل: قال الثعالبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الثعالبي:

قوله سبحانه: {وَقَالَ الملك ائتوني بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرسول...} الآية: لمَّا رأى المَلِكُ وحاضروه نُبْلَ التَّعْبِير وحُسْنَ الرأْيِ، وتضمَّن الغيب في أمْر العامِ الثامِنِ، مع ما وُصِفَ به من الصِّدْق عَظُمَ يوسُفُ في نَفْس الملك، وقال: {ائتوني بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرسول قَالَ ارجع إلى رَبِّكَ}: يعني: المَلِكَ،: {فَسْأَلْهُ مَا بَالُ النسوة اللاتي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ}، وقصْدُه عَلَيْه السلام بيانُ براءته، وتحقُّق منزلته من العِفَّة والخَيْرِ، فرسَمَ القصَّة بطَرَف منها، إِذا وقع النظَرُ عَلَيْه، بان الأمْرُ كله، وَنَكَبَ عن ذِكْرِ امرأة العزيز؛ حُسْنَ عِشْرةٍ ورعايةٍ لذِمَامِ مُلْك العزيز له، وفي صحيح البخاري، عن عبد الرحمن بن القاسِمِ صاحبِ مَالِكٍ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «ولَوْ لَبِثْتُ في السِّجْنِ لُبْثَ يُوسُفَ لأَجَبْتُ الدَّاعِي» المعنى: لو كُنْتَ أنا، لَبَادَرْتُ بالخروج، ثم حاوَلْتُ بيان عُذْرِي بَعْدَ ذلك؛ وذلك أَنَّ هذه القصص والنوازل، إِنما هي معرَّضة ليقتدي النَّاسُ بها إِلى يوم القيامة، فأراد صلى الله عليه وسلم حَمْلَ الناسِ على الأحزمِ من الأمورِ؛ وذلك أن التارِكَ لمِثْلِ هذه الفُرْصَة ربَّما نَتَجَ له بسَبَبِ التأخير خلاَفُ مقصوده، وإِن كان يوسف قد أَمِنَ ذلك؛ بِعِلْمِهِ من اللَّه، فغيْرهُ من الناس لا يأمَنُ ذلك، فالحالة التي ذَهَبَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بنفسه إِلَيْها حالَةُ حَزْمٍ ومدحٍ؛ ليقتدى به، وما فعله يوسَفُ عليه السلام حالةُ صَبْرٍ وتجلُّد، قال ابنُ العربيِّ في (أحكامه): وانظر إِلى عظيمِ حلْمِ يوسُف عليه السلام وَوُفُورِ أدبه، كيف قال: {مَا بَالُ النسوة الاتي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ}، فذكر النساءَ جملةً؛ لتدخُلَ فيهنَّ امرأة العزيزِ مدْخَلَ العمومِ؛ بالتلويحِ دون التصريح. انتهى.
وهذه كانَتْ أخلاقُ نبيِّنا محمد صلى الله عليه وسلم، لا يقابل أحدًا بمكروهٍ، وإِنما يقول: «مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَفْعَلُونَ كَذَا»، من غير تعيينٍ، وبالجملة فكلُّ خَصْلة حميدةٍ مذكُورَةٍ في القُرآنَ اتصف بها الأنبياءُ والأصفياءُ، فقد اتصف بها نبيُّنا محمَّد صلى الله عليه وسلم، إِذ كان خلقه القرآن، كما روته عائشةُ في الصحيحِ، وكما ذكر اللَّه سبحانه: {أولئك الذين هَدَى الله فَبِهُدَاهُمُ اقتده} [الأنعام: 90] انتهى.
وقوله: {إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ}، فيه وعيدٌ، وقوله: {مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ}: المعنى: فَجَمَعَ المَلِكُ النِّسوة، وامرأة العزيزِ معَهُنَّ، وقال لهنَّ: {مَا خَطْبُكُنَّ...} الآية: أي: أيُّ شيء كانَتْ قصَّتَكُن، فجاوب النساءُ بجوابٍ جيدٍ، تظهر منه براءَةُ أَنفُسِهِنَّ، وأعطَيْنَ يوسُفَ بعْضَ براءةٍ، فقلْنَ: {حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ}، فلما سمعت امرأة العزيزِ مقالَتَهُنَّ وَحَيْدَتَهُنَّ، حضَرَتْها نيَّةٌ وتحقيقٌ، فقالتِ: {الآن حَصْحَصَ الحق}، أي: تبيَّنَ الحقُّ بعد خفائِهِ؛ قاله الخليل وغيره، قال البخاريُّ: حَاشَ وحَاشَى: تنزيهٌ واستثناء، وحَصْحَصَ: وَضَح. انتهى.
ثم أقرَّتْ على نفسها بالمراودةِ، والتزمت الذنْبَ، وأبرأَتْ يوسُفَ البراءةَ التامَّة.
وقوله: {ذلك لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بالغيب} إِلى قوله: {إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ}: اختلف فيه أَهْلُ التأويل، هل هو مِنْ قولِ يوسُفَ أَو من قول امرأة العَزِيزِ. اهـ.

.قال أبو السعود:

{وَقَالَ الملك}
بعد ما جاءه السفيرُ بالتعبير وسمع منه ما سمع من نقير وقِطمير: {ائتونى بِهِ} لِما علم من علمه وفضله: {فَلَمَّا جَاءهُ} أي يوسفَ: {الرسول} واستدعاه إلى الملك: {قَالَ ارجع إلى رَبّكَ} أي سيدك: {فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِى قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ} أي ففتشه عن شأنهن وإنما لم يقل: فاسأله أن يفتش عن ذلك حثًا للملك على الجد في التفتيش ليتبين براءتُه ويتضح نزاهتُه إذ السؤالُ مما يهيج الإنسانَ على الاهتمام في البحث للتفصّي عما توجه إليه وأما الطلب فمما قد يتسامح ويُتساهل فيه ولا يبالى به وإنما لم يتعرض لامرأة العزيزِ مع ما لقِيَ من مقاساة الأحزان ومعاناة الأشجانِ محافظةً على مواجب الحقوق واحترازًا عن مكرها حيث اعتقدها مقيمةً في عُدوة العداوة، وأما النسوةُ فقد كان يطمع في صَدْعهن بالحق وشهادتِهن بإقرارها بأنها راودتْه عن نفسه فاستعصم ولذلك اقتصر على وصفهن بتقطيع الأيدي ولم يصرّح بمراودتهن له وقولِهن: أطع مولاتك واكتفي بالإيماء إلى ذلك بقوله: {إِنَّ رَبّى بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ} مجاملةً معهن واحترازًا عن سوء قالتِهن عند الملكِ وانتصابِهن للخصومة مدافعةً عن أنفسهن متى سمعن بنسبته لهن إلى الفساد: {قَالَ} استئنافٌ مبني على السؤال كأنه قيل: فماذا كان بعد ذلك؟ فقيل: قال الملكُ إثَر ما بلّغه الرسولُ الخبر وأحضرهن: {مَا خَطْبُكُنَّ} أي شأنكن وهو الأمرُ الذي يحِق لعُظْمه أن يخاطِبَ المرءُ فيه صاحبه: {إِذْ رَاوَدتُنَّ يُوسُفَ} وخادعتُنّه: {عَن نَّفْسِهِ} ورغبتُنّه في إطاعة مولاته هل وجدتُن فيه شيئًا من سوء وريبة؟: {قُلْنَ حَاشَ للَّهِ} تنزيهًا له وتعجبًا من نزاهته وعفته: {مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوء} بالغْن في نفي جنس السوءِ عنه بالتنكير وزيادة من: {قَالَتِ امرأت العزيز} وكانت حاضرةً في المجلس وقيل: أقبلت النسوةُ عليها يقرِّرنها، وقيل: خافت أن يشهَدْن عليها بما قالت لهن: {وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فاستعصم وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا ءامُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مّن الصاغرين} فأقرت قائلة: {الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ} أي ثبت واستقرَّ أو تبيّن وظهر بعد خفاء، قاله الخليل، وقيل: هو مأخوذ من الحِصة وهي القطعة من الجملة أي تبين حصةُ الحقِّ من حصة الباطل كما تتبين حِصصُ الأراضي وغيرها، وقيل: بان وظهر من حصّ شعرَه إذا استأصله بحيث ظهرت بشرةُ رأسه، وقرئ على البناء للمفعول من حَصحَص البعيرُ مباركَه أي ألقاها في الأرض للإناخة قال:
فحصحَص في صُمّ الصفا ثفَناتِه ** وناء بسلمى نوأةً ثم صمّما

والمعنى أُقرَّ الحقُّ في مقرّه ووُضع في موضعه ولم ترِدْ بذلك مجردَ ظهور ما ظهر بشهادتهن من مطلق نزاهتِه عليه السلام فيما أحاط به علمُهن من غير تعرض لنزاهته في سائر المواطنِ خصوصًا فيما وقع فيه التشاجرُ بمحضر العزيز، ولا بحثٍ عن حال نفسها وما صنعت في ذلك بل أرادت ظهورَ ما هو متحققٌ في نفس الأمر وثبوتِه من نزاهته عليه السلام في محل النزاعِ وخيانتِها فقالت: {أَنَاْ راودته عَن نَّفْسِهِ} لا أنه راودني عن نفسي: {وَإِنَّهُ لَمِنَ الصادقين} أي في قوله حين افتريت عليه هي راودتني عن نفسي وأرادت بالآن زمانَ تكلّمها بهذا الكلام لا زمانَ شهادتِهن فتأمل أيها المنصفُ هل ترى فوق هذه المرتبةِ نزاهةً حيث لم تتمالك الخُصماء من الشهادة بها، والفضلُ ما شهدت بهِ الخصماءُ وإنما تصدى عليه السلام لتمهيد هذه المقدمة قبل الخروج ليُظهر براءةَ ساحتِه مما قُذف به لاسيما عند العزيزِ قبل أن يحُلّ ما عقَده كما يُعرب عنه قوله عليه السلام لما رجع إليه الرسولُ وأخبره بكلامهن.
{ذلك} أي ذلك التثبيتُ المؤدي إلى ظهور حقيقة الحال: {لِيَعْلَمَ} أي العزيز: {أَنّى لَمْ أَخُنْهُ} في حرمته كما زعمه لا علمًا مطلقًا فإن ذلك لا يستدعي تقديمَ التفتيشِ على الخروج من السجن بل قبل ما ذكر من نقص ما أبرمه ولعله لمراعاة حقوقِ السيادةِ لأن المباشرَة للخروج من حبسه قبل ظهورِ بُطلانِ ما جعله سببًا له وإن كان ذلك بأمر الملك مما يوهم الافتياتَ على رأيه، وأما أن يكون ذلك لئلا يُتمكن من تقبيح أمرِه عند ذلك تمحلًا لإمضاء ما قضاه فلا يليق بشأنه عليه السلام في الوثوق بأمره والتوكل على ربه جل جلاله: {بالغيب} أي بظهر الغيبِ وهو حالٌ من الفاعل أو المفعول أي لم أخُنه وأنا غائبٌ عنه أو وهو غائبٌ عني أو ظرف أي بمكان الغيب وراءَ الأستار والأبوابِ المغلقة، وأيًا ما كان فالمقصودُ بيانُ كمالِ نزاهتِه عن الخيانة وغايةِ اجتنابه عنها عند تعاضد أسبابِها: {وَأَنَّ الله} أي وليعلم أنه تعالى: {لاَ يَهْدِى كَيْدَ الخائنين} أي لا يُنفِذه ولا يسدّده بل يُبطله ويُزهِقه أو لا يهديهم في كيدهم إيقاعًا للفعل على الكيد مبالغة كما في قوله تعالى: {يضاهئون قَوْلَ الذين كَفَرُواْ} أي يضاهئونهم في قولهم، وفيه تعريضٌ بامرأته في خيانتها أمانتَه وبه في خيانته أمانةَ الله تعالى حين ساعدها على حبسه بعد ما رأوا آياتِ نزاهتِه عليه السلام ويجوز أن يكون ذلك لتأكيد أمانته وأنه لو كان خائنًا لما هدى الله عز وجل أمره وأحسن عاقبتَه. اهـ.

.قال الألوسي:

{وَقَالَ الْمَلِكُ}
بعد ما جاء السفير المعبر بالتعبير وسمع منه ما سمع من نقير وقطمير.
{ائْتُوني به} لما رأى من علمه وفضله وإخباره عما لا يعلمه إلا اللطيف الخبير: {فَلَمَّا جَاءَهُ} أي يوسف عليه السلام: {الرَّسُولُ} وهو صاحبه الذي استفتاه، وقال له: إن الملك يريد أن تخرج إليه.
{قَالَ ارْجعْ إلَى رَبِّكَ} أي سيدك وهو الملك: {فَسْئَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَة اللاَّتِي قَطَّعْنَ أيْدِيَهُنَّ} أي فتشه عن شأنهن وحالهن، وإنما لم يقل فاسأله أن يفتش عن ذلك حثًا للملك على الجد في التفتيش لتتبين براءته وتتضح نزاهته فإن السؤال عن شيء ما يهيج الإنسان ويحركه للبحث لأنه يأنف من الجهل، ولو قال: سله أن يفتش لكان تهييجًا له عن الفحص عن ذلك، وفيه جراءة عليه فربما امتنع منه ولم يلتفت إليه.
وإنما لم يتعرض عليه السلام لامرأة العزيز مع أنها الأصل الأصيل لما لاقاه تأدبًا وتكرمًا، ولذا حملها ذلك على الاعتراف بنزاهته وبراءة ساحته، وقيل: احترازًا عن مكرها حيث اعتقدها باقية في ضلالها القديم، وأما النسوة فقد كان يطمع في صدعهن بالحق وشهادتهن بإقرارها بأنها راودته عن نفسه فاستعصم، ولذلك اقتصر على وصفهن بتقطيع الأيدي ولم يصرح بمراودتهن له واكتفى بالإيماء إلى ذلك بقوله: {إنَّ رَبِّي بكَيْدهنَّ عَلِيمٌ} مجاملة معهن واحترازًا عن سوء مقالتهن وانتصابهن عند رفعهن إلى الملك للخصومة عن أنفسهن متى سمعن بنسبته لهن إلى الفساد.
وفي الكشاف أنه عليه السلام أراد بهذا أنه كيد عظيم لا يعلمه إلا الله تعالى، أو استشهد بعلم الله تعالى على أنهن كدنه وأنه برئ مما قرف به، أو أراد الوعيد لهن أي عليم بكيدهن فمجازيهن عليه انتهى.
وكان الحصر على الأول من قربه من زيد يعلم وصلوحه لإفادته عنده أو من اقتضاء المقام لأنه إذا حمله على السؤال ثم أضاف علمه إلى الله تعالى دل به على عظمته، وأن الكنه غير مأمول الوصول لكن ما لا يدرك كله لا يترك كله، وهذا هو الوجه، وفيه زيادة تشويق وبعث إلى تعرف الأمر، فالجملة عليه تتميم لقوله: {فاسأله} الخ والكيد اسم لما كدنه به، وعلى الوجه الثاني تكون تذييلًا كأنه قيل: احمله على التعرف يتبين له براءة ساحتي فإن الله سبحانه يعلم أن ذلك كان كيدًا منهن وإذا كان كيدًا يكون لا محالة بريئًا، والكيد هو الحدث؛ وعلى الثالث تحتملهما؛ والمعنى بعث الملك على الغضب له والانتقام منهن، وإلا لم يتلاءم الكلام ولا يطابق كرم يوسف عليه السلام الذي عجب منه نبينا عليه الصلاة والسلام؛ فقد أخرج غير واحد عن ابن عباس وابن مسعود عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لقد عجبت من يوسف وكرمه وصبره والله تعالى يغفر له حين سئل عن البقرات العجاف والسمان ولو كنت مكانه ما أجبتهم حتى اشترطت أن يخرجوني ولقد عجبت منه حين أتاه الرسول فقال: {ارجع إلى ربك} ولو كنت مكانه ولبثت في السجن ما لبث لأسرعت الإجابة وبادرتهم الباب ولما ابتغيت العذر أن كان حليمًا ذا أناة» ودعاؤه له صلى الله عليه وسلم قيل: إشارة إلى ترك العزيمة بالرخصة وهي تقديم حق الله تعالى بتبليغ التوحيد والرسالة على براءة نفسه، وجعله العلامة الطيبي من قبيل قولك لمن تعظمه: رضي الله تعالى عنك ما جوابك عن كلامي.
وقيل: يمكن أن يقال: إن في براءته النفس من حق الله تعالى ما فيها فإنها إذا تحققت عندهم وقع ما تلاها موقع القبول.
وقد ذكر أن الاجتهاد في نفي التهم واجب وجوب اتقاء الوقوف في مواقفها، فقد قال صلى الله عليه وسلم: «من كان يؤمن بالله تعالى واليوم الآخر فلا يقفن مواقف التهم» وأخرج مسلم من رواية أنس أن رسول الله عليه الصلاة والسلام كان مع إحدى نسائه فمرّ به رجل فدعاه، وقال: «هذه زوجتي»، فقال: يا رسول الله من كنت أظن به فلم أكن أظن بك؟! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم». وكأنه لهذا كان الزمخشري وكان ساقط الرجل قد أثبت على القضاة أن رجله لم تقطع في جناية ولا فساد بل سقطت من ثلج أصابها في بعض الأسفار، وكان يظهر مكتوب القضاة في كل بلد دخله خوفًا من تهمة السوء، فلعله عليه السلام خشي أن يخرج ساكتًا عن أمر ذنبه غير متضحة براءة ساحته عما سجن فيه وقرف به من أن يتسلق بهالحاشدون إلى تقبيح أمره ويجعلوه سلمًا إلى حط قدره ونظر الناس إليه بعين الاحتقار فلا يعلق كلامه في قلوبهم ولا يترتب على دعوته قبولهم، وفي ذلك من تعري التبليغ عن الثمرة ما فيه، وما ذكره صلى الله عليه وسلم: «ولو كنت مكانه» الخ كان تواضعًا منه عليه الصلاة والسلام لا أنه لو كان مكانه بادر وعجل وإلا فحلمه صلى الله عليه وسلم وتحمله واهتمامه بما يترتب عليه قبول الخلق أوامر الحق سبحانه وتعالى أمر معلوم لدى الخواص والعموم.
وزعم ابن عطية أنه يحتمل أن يكون عليه السلام أراد بالرب العزيز كما قيل في قوله: {إنه ربي أحسن مثواي} [يوسف: 23] ففي ذلك استشهاد به وتقريع له وليس بشيء، ومثله ما قيل: إن ضمير (كيدهن) ليس عائدًا على النسوة المذكورات بل عائد على الجنس فافهم.
وقرأ أبو حيوة وأبو بكر عن عاصم في رواية: {النسوة} بضم النون، وقرأت فرقة {اللائي}- بالياء وهو كاللاء جمع التي.
{قَالَ} استئناف مبني على السؤال كما سبق كأنه قيل: فما كان بعد ذلك؟ فقيل: قال الملك إثر ما بلغه الرسول الخبر وأحضرهن: {مَا خَطْبُكُنَّ} أي شأنكن، وأصله الأمر العظيم الذي يحق لعظمته أن يكثر فيه التخاطب ويخطب له: {إذْ راوَدتُّنَّ يُوسُفَ} وخادعتنه: {عَن نَّفْسه} ورغبتنه في طاعة مولاته هل وجدتن فيه ميلًا إليكن؟: {قلْنَ حَاشَى لله} تنزيهًا له وتعجيبًا من نزاهته عليه السلام وعفته: {مَا عَلمْنَا عَلَيْه من سُوء} بالغن في نفي جنس السوء عنه بالتنكير وزيادة: {من}.