فصل: قال الجصاص:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الجصاص:

قَوْله تَعَالَى: {إنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} يعني أَنَّ النَّفْسَ كَثِيرَةُ النِّزَاعِ إلَى السُّوءِ، فَلَا يُبَرِّئُ نَفْسَهُ، وَإِنْ كَانَ لَا يُطَاوِعُهَا، وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي قَائِلِ هَذَا الْقَوْلِ، فَقَالَ قَائِلُونَ: هُوَ مِنْ قَوْلِ يُوسُفَ وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ مِنْ قَوْلِ الْمَرْأَةِ.
الْأَمَّارَةُ: الْكَثِيرَةُ الْأَمْرِ بِالشَّيْءِ، وَالنَّفْسُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ لِكَثْرَةِ مَا تَشْتَهِيهِ وَتُنَازِعُ إلَيْهِ مِمَّا يَقَعُ الْفِعْلُ مِنْ أَجْلِهِ، وَقَدْ كَانَتْ إضَافَةُ الْأَمْرِ بِالسُّوءِ إلَى النَّفْسِ مَجَازًا فِي أَوَّلِ اسْتِعْمَالِهِ ثُمَّ كَثُرَ حَتَّى سَقَطَ عَنْهُ اسْمُ الْمَجَازِ وَصَارَ حَقِيقَةً، فَيُقَالُ: نَفْسِي تَأْمُرُنِي بِكَذَا وَتَدْعُونِي إلَى كَذَا مِنْ جِهَةِ شَهْوَتِي لَهُ، وَإِنَّمَا لَمْ يَصِحَّ أَنْ يَأْمُرَ الْإِنْسَانُ نَفْسَهُ فِي الْحَقِيقَةِ؛ لِأَنَّ فِي الْأَمْرِ تَرْغِيبًا لِلْمَأْمُورِ بِتَمْلِيكِ مَا لَا يَمْلِكُ، وَمُحَالٌ أَنْ يُمَلِّكَ الْإِنْسَانُ نَفْسَهُ مَا لَا يَمْلِكُهُ؛ لِأَنَّ مَنْ مَلَكَ شَيْئًا، فَإِنَّمَا يَمْلِكُ مَا هُوَ مَالِكُهُ. اهـ.

.قال ابن عطية:

قوله تعالى: {وما أبرئ نفسي} الآية.
هذه أيضًا مختلف فيها هل هي من كلام يوسف أم من كلام المرأة، حسب التي قبلها:
فمن قال من كلام يوسف روى في ذلك: عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لما قال يوسف: {أني لم أخنه بالغيب} قال له جبريل: ولا حين هممت وحللت سراويلك، وقال نحوه ابن عباس وابن جبير وعكرمة والضحاك. وروي أن المرأة قالت له ذلك، قاله السدي، وروي أن يوسف تذكر من تلقائه ما كان هم به فقال: {وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء}، قاله ابن عباس أيضًا.
ومن قال: إن المرأة قالت: {وما أبرئ نفسي} فوجه كلامها الاعتذار عن وقوعها فيما يقع فيه البشر من الشهوات، كأنها قالت: وما هذا ببدع ولا ذلك نكير على البشر فأبرئ أنا منه نفسي، والنفوس أمارات بالسوء مائلة إليه.
و{أمارة} بناء مبالغة، و: {ما} في قوله: {إلا ما رحم} مصدرية، هذا قول الجمهور فيها، وهو على هذا. استثناء منقطع، أي إلا رحمة ربي، ويجوز أن تكون بمعنى من، هذا على أن تكون النفس يراد بها النفوس إذ النفس تجري صفة لمن يعقل كالعين والسمع، كذا قال أبو علي، فتقدير الآية: إلا النفوس التي يرحمها الله.
قال القاضي أبو محمد: وإذن النفس اسم جنس، فصح أن تقع: {ما} مكان من إذ هي كذلك في صفات من يعقل وفي أجناسه، وهو نص في كلام المبرد، وهو- عندي- معنى كلام سيبويه، وهو مذهب أبي علي- ذكره في البغداديات.
ويجوز أن تكون: {ما} ظرفية، المعنى: أن النفس لأمارة بالسوء إلا مدة رحمة الله العبد وذهابه عن اشتهاء المعاصي.
ثم ترجى في آخر الآية بقوله: {إن ربي غفور رحيم}. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {وَمَا أُبَرِّئ نفسي}
قيل: هو من قول المرأة.
وقال القُشَيْريّ: فالظاهر أن قوله: {ذَلِكَ لِيَعْلَمَ} وقوله: {وَمَا أُبَرِّئ نَفْسِي} من قول يوسف.
قلت: إذا احتمل أن يكون من قول المرأة فالقول به أولى حتى نبرّئ يوسف من حَلّ الإزار والسّراويل؛ وإذا قدرناه من قول يوسف فيكون مما خطر بقلبه، على ما قدّمناه من القول المختار في قوله: {وَهَمَّ بِهَا}.
قال أبو بكر الأنباريّ: من الناس من يقول: {ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ} إلى قوله: {إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ} من كلام امرأة العزيز؛ لأنه متصل بقولها: {أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} وهذا مذهب الذين ينفون الهمّ عن يوسف عليه السلام؛ فمن بنى على قولهم قال: من قوله: {قَالَتِ آمْرَأَةُ الْعَزِيزِ} إلى قوله: {إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ} كلام متصل بعضه ببعض، ولا يكون فيه وقف تام على حقيقة؛ ولسنا نختار هذا القول ولا نذهب إليه.
وقال الحسن: لما قال يوسف: {ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ} كره نبيّ الله أن يكون قد زكّى نفسه فقال: {وَمَا أُبَرِّئ نَفْسِي} لأنّ تزكية النفس مذمومة؛ قال الله تعالى: {فَلاَ تزكوا أَنفُسَكُمْ} [النجم: 32] وقد بيّناه في النساء.
وقيل: هو من قول العزيز؛ أي وما أبرئ نفسي من سوء الظن بيوسف.
{إِنَّ النفس لأَمَّارَةٌ بالسوء} أي مشتهية له.
{إِلاَّ مَا رَحِمَ ربي} في موضع نصب بالاستثناء؛ وما بمعنى مَنْ؛ أي إلا مَن رحم ربي فعصمه؛ وما بمعنى من كثير؛ قال الله تعالى: {فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النساء} [النساء: 3] وهو استثناء منقطع، لأنه استثناء المرحوم بالعصمة من النفس الأمارة بالسوء؛ وفي الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما تقولون في صاحب لكم إن أنتم أكرمتموه وأطعمتموه وكسوتموه أفضى بكم إلى شرّ غاية وإن أهنتموه وأعريتموه وأجعتموه أفضى بكم إلى خير غاية». قالوا: يا رسول الله! هذا شرّ صاحب في الأرض. قال: «فوالذي نفسي بيده إنها لنفوسكم التي بين جنوبكم». اهـ.

.قال الخازن:

واختلفوا في قوله: {وما أبرئ نفسي} من قول من؟ على قولين أيضًا:
أحدهما: أنه من قول المرأة وهذا التفسير على قول من قال إن قوله ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب من قول المرأة فعلى هذا يكون المعنى وما أبريء نفس من مراودتي يوسف عن نفسه وكذبي عليه.
والقول الثاني: وهو الأصح وعليه أكثر المفسرين أنه من قول يوسف وذلك أنه لما قال ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب قال له جبريل ولا حين هممت بها فقال يوسف عند ذلك وما أبرئ نفسي وهذه رواية عن ابن عباس أيضًا وهو قول الأكثرين وقال الحسن إن يوسف لما قال ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب خاف أن يكون قد زكى نفسه فقال وما أبرئ نفسي لأن الله تعالى قال فلا تزكوا أنفسكم، ففي قوله وما أبرئ نفسي هضم للنفس وانكسار وتواضع لله فإن رؤية النفس في مقام العصمة والتزكية ذنب عظيم فراد إزالة ذلك عن نفسه فإن حسنات الأبرار سيئات المقربين: {إن النفس لأمارة بالسوء} والسوء لفظ جامع لكل ما يهم الإنسان من الأمور الدنيوية والأخروية والسيئة الفعلة القبيحة.
واختلفوا في النفس الأمارة بالسوء ما هي فالذي عليه أكثر المحققين من المتكلمين وغيرهم أن النفس الإنسانية واحدة ولها صفات: منها الأمارة بالسوء، ومنها اللوامة، ومنها المطمئنة فهذه الثلاث المراتب هي صفات لنفس واحدة فإذا دعت النفس إلى شهواها مالت إليها فهي النفس الأمارة بالسوء فإذا فعلتها أتت النفس اللوامة فلامتها على ذلك الفعل القبيح من ارتكاب الشهوات ويحصل عند ذلك الندامة على ذلك الفعل القبيح وهذا من صفات النفس المطمئنة، وقيل: إن النفس أمارة بالسوء بطبعها فإذا تزكت وصفت من أخلاقها الذميمة صارت مطمئنة.
وقوله: {إلا ما رحم ربي} قال ابن عباس: معناه إلا من عصم ربي فتكون ما بمعنى من فهو كقوله: {ما طاب لكم من النساء} يعني من طاب لكم وقيل هذا استثناء منقطع معناه لكم من رحم ربي فعمصه من متابعة النفس الأمارة بالسوء: {إن ربي غفور} يعني غفور لذوب عباده: {رحيم} بهم. اهـ.

.قال أبو حيان:

{وما أبرئ نفسي}
من الزلل.، وما أشهد لها بالبراءة الكلية، ولا أزكيها، إن النفس لأمارة بالسوء.
أراد الجنس أي: هذا الجنس يأمر بالسوء، ويحمل على ما فيه من الشهوات انتهى.
وفيه تكثير وتحميل للفظ ما ليس فيه، ويزيد على عادته في خطابته.
ولما أحسّ الزمخشري بأشكال قول من قال: إنه من كلام يوسف قال: فإن قلت: كيف صح أن يجعل من كلام يوسف ولا دليل على ذلك؟ قلت: كفى بالمعنى دليلًا قائدًا إلى أن يجعل من كلامه، ونحوه قوله: قال الملأ من قوم فرعون إن هذا لساحر عليم يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره فماذا تأمرون؟ وهو من كلام فرعون يخاطبهم ويستشيرهم انتهى.
وهذا ليس كما ذكر، إذ لا يتعين في هذا التركيب أن يكون من كلام فرعون، بل هو من كلام الملأ تقدمهم فرعون إلى هذه المقالة، فقالوا ذلك بعض لبعض، فيكون في قول فرعون: يريد أن يخرجكم خطابًا للملأ من فرعون، ويكون في هذا التركيب خطابًا من بعضهم لبعض، ولا يتنافى اجتماع المقالتين.
وبالغيب يحتمل أن يكون حالًا من الفاعل أي: غائبًا عنه، أو من المفعول أي: غائبًا عني، أو ظرفًا أي بمكان الغيب.
والظاهر أنّ إلا ما رحم ربي استثناء متصل من قوله: لأمارة بالسوء، لأنه أراد الجنس بقوله: إن النفس، فكأنه قال: إلا النفس التي رحمها ربي فلا تأمر بالسوء، فيكون استثناء من الضمير المستكن في أمارة.
ويجوز أن يكون مستثنى من مفعول أمارة المحذوف إذ التقدير: لأمارة بالسوء صاحبها، إلا الذي رحمه ربي فلا تأمره بالسوء.
وجوزوا أن يكون مستثنى من ظرف الزمان المفهوم عمومه من ما قبل الاستثناء، وما ظرفية إذ التقدير: لأمارة بالسوء مدة بقائها إلا وقت رحمة الله العبد وذهابه بها عن اشتهاء المعاصي.
وجوزوا أن يكون استثناء منقطعًا، وما مصدرية.
وذكر ابن عطية أنه قول الجمهور أي: ولكن رحمة ربي هي التي تصرف الإساءة. اهـ.

.قال أبو السعود:

{وَمَا أُبَرّئ نَفْسِى} أي لا أنزّهها عن السوء قاله عليه السلام هضمًا لنفسه الكريمة البريئةِ عن كل سوء وربأً بمكانها عن التزكية والإعجاب بحالها عند ظهورِ كمالِ نزاهتِها على أسلوب قوله عليه السلام: «أنا سيد ولد آدم ولا فخر» أو تحديثًا بنعمة الله عز وجل عليه وإبرازًا لسره المكنونِ في شأن أفعال العبادِ أي لا أنزهها عن السوء من حيث هي هي، ولا أُسند هذه الفضيلةَ إليها بمقتضى طبعِها من غير توفيقٍ من الله عز وعلا: {أَنَّ النفس} البشريةَ التي من جملتها نفسي في حد ذاتِها: {لامَّارَةٌ بالسوء} مائلةٌ إلى الشهوات مستعمِلةٌ للقوى والآلاتِ في تحصيلها بل إنما ذلك بتوفيق الله وعصمته ورحمتِه كما يفيده قوله: {إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبّى} من النفوس التي يعصمها من الوقوع في المهالك ومن جملتها نفسي أو هي أمارةٌ بالسوء في كل وقت إلا وقتَ رحمةِ ربي وعصمتِه لها، وقيل: الاستثناءُ منقطعٌ أي لكنْ رحمةٌ بي هي التي تصرِف عنها السوء كما في قوله تعالى: {وَلاَ هُمْ يُنقَذُونَ إِلاَّ رَحْمَةً}، {إِنَّ رَبّى غَفُورٌ رَّحِيمٌ} عظيمُ المغفرة لما يعتري النفوسَ بموجب طباعِها ومبالِغٌ في الرحمة لها بعصمتها من الجريان بمقتضى ذلك، وإيثارُ الإظهار في مقام الإضمارِ مع التعرض لعنوان الربوبيةِ لتربية مبادئ المغفرةِ والرحمة، وقيل: إلى هنا من كلام امرأةِ العزيز، والمعنى ذلك الذي قلتُ ليعلم يوسفُ عليه السلام أني لم أخُنه ولم أكذِب عليه في حال الغَيبة وجئت بما هو الحقُّ الواقعُ وما أبرئ نفسي مع ذلك من الخيانة حيث قلت في حقه ما قلت وفعلتُ به ما فعلت، إن كل نفس لأمارةٌ بالسوء إلا ما رحم ربي أي إلا نفسًا رحِمها الله بالعصمة كنفس يوسفَ إن ربي غفورٌ لمن استغفر لذنبه واعترف به رحيمٌ له، فعلى هذا يكون تأنّيه عليه السلام في الخروج من السجن لعدم رضاه عليه السلام بملاقاة الملكِ وأمرُه بَيْنَ بينَ ففعل ما فعل حتى يتبين نزاهتُه وأنه إنما سجن بظلم عظيم مع ما له من الفضل ونباهةِ الشأن ليتلقاه الملك بما يليق به من الإعظام والإجلال وقد وقع. اهـ.

.قال الألوسي:

{وَمَا أُبَرّئ نَفْسِى} أي لا أنزهها عن السوء قال ذلك عليه السلام: هضما لنفسه البرية عن كل سوء وتواضعًا لله تعالى وتحاشيًا عن التزكية والإعجاب بحالها على أسلوب قوله صلى الله عليه وسلم: «أنا سيد ولد آدم ولا فخر» أو تحديثًا بنعمة الله تعالى وإبرازًا لسره المكنون في شأن أفعال العباد أي لا أنزهها من حيث هي هي ولا أسند هذه الفضيلة إليها بمقتضى طبعها من غير توفيق من الله سبحانه بل إنما ذلك بتوفيقه جل شأنه ورحمته، وقيل: إنه أشار بذلك إلى أن عدم التعرض لم يكن لعدم الميل الطبيعي بل لخوف الله تعالى: {أَنَّ النفس} البشرية التي من جملتها نفسي في حد ذاتها: {لامَّارَةٌ} لكثيرة الأمر: {بالسوء} أي بجنسه، والمراد أنها كثيرة الميل إلى الشهوات مستعملة في تحصيلها القوى والآلات.
وفي كثير من التفاسير أنه عليه السلام حين قال: {لِيَعْلَمَ أَنّى لَمْ أَخُنْهُ بالغيب} [يوسف: 52] قال له جبريل عليه السلام: ولا حين هممت؟ فقال: {وَمَا أُبَرّئ نَفْسِى} الخ، وقد أخرجه الحاكم في تاريخه.
وابن مردويه بلفظ قريب من هذا عن أنس مرفوعًا، وروي ذلك عن ابن عباس وحكيم بن جابر والحسن وغيرهم، وهو إن صح يحمل الهم فيه على الميل الصادر عن طريق الشهوة البشرية لا عن طريق العزم والقصد، وقيل: لا مانع من أن يحمل على الثاني ويقال: إنه صغيرة وهي تجوز على الأنبياء عليهم السلام قبل النبوة، ويلتزم أنه عليه السلام لم يكن إذا ذاك نبيًا.