فصل: قال الشعراوي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الشعراوي:

وتواصل امرأة العزيز فتقول: {وَمَا أُبَرِّئ نفسي...}.
هذا القول من تمام كلام امرأة العزيز؛ وكأنها توضح سبب حضورها لهذا المجلس؛ فهي لم تحضر لتبرئ نفسها: {إِنَّ النفس لأَمَّارَةٌ...} [يوسف: 53].
ومجيء قول الحق سبحانه المؤكِّد أن النفس على إطلاقها أمَّارة بالسوء؛ يجعلنا نقول: إن يوسف أيضًا نفس بشرية.
وقد قال بعض العلماء: إن هذا القول من كلام يوسف، كردٍّ عليها حين قالت: {أَنَاْ رَاوَدْتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصادقين ذلك لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بالغيب وَأَنَّ الله لاَ يَهْدِي كَيْدَ الخائنين} [يوسف: 51-52].
وكان من المناسب أن يرد يوسف عليه السلام بالقول: {وَمَا أُبَرِّئ نفسي إِنَّ النفس لأَمَّارَةٌ بالسوء إِلاَّ مَا رَحِمَ ربي} [يوسف: 53].
ويمكن أن يُنسب هذا القول إلى يوسف كَلَوْنٍ من الحرص على ألاَّ يلمسه غرور الإيمان، فهو كرسول من الله يعلم أن الله سبحانه هو الذي صرف كيدهُنَّ عنه.
وهذا لَوْن من رحمة الله به؛ فهو كبشر مُجرّد عن العصمة والمنهج من الممكن أن تحدث له الغواية؛ لكن الحق سبحانه عصمه من الزَّلَل.
ومن لُطْف الله أن قال عن النفس: إنها أمَّارة بالسوء؛ وفي هذا توضيح كافٍ لطبيعة عمل النفس؛ فهي ليستْ آمرةً بالسوء، بمعنى أنها تأمر الإنسان لتقع منه المعصية مرة واحدة وينتهي الأمر.
لا، بل انتبه أيها الإنسان إلى حقيقة عمل النفس، فهي دائمًا أمَّارة بالسوء، وأنت تعلم أن التكليفات الإلهية كلها إمَّا أوامر أو نَوَاهٍ، وقد تستقبِل الأوامر كتكليف يشقُّ على نفسك، وأنت تعلم أن النواهي تمنعك من أفعال قد تكون مرغوبة لك، لأنها في ظاهرها ممتعة، وتلبي نداء غرائز الإنسان.
ولذلك يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: «حُفَّتْ الجنة بالمكاره، وحُفَّتْ النار بالشهوات».
أي: أن المعاصي قد تُغريك، ولكن العاقل هو من يملك زمام نفسه، ويُقدِّر العواقب البعيدة، ولا ينظر إلى اللذة العارضة الوقتية؛ إلا إذا نظر معها إلى الغاية التي توصله إليها تلك اللذة؛ لأن شيئًا قد تستلِذُّ به لحظة قد تَشْقى به زمنًا طويلًا.
ولذلك قلنا: إن الذي يُسرف على نفسه غافل عن ثواب الطاعة وعن عذاب العقوبة، ولو استحضر الثواب على الطاعة، والعذاب على المعصية؛ لامتنع عن الإسراف على نفسه.
ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن».
إذن: فلحظة ارتكاب المعصية نجد الإنسان وهو يستر إيمانه؛ ولا يضع في باله أنه قد يموت قبل أن يتوبَ عن معصيته، أو قبل أن يُكفِّر عنها.
ويخطيء الإنسان في حساب عمره؛ لأن أحدًا لا يعلم ميعاد أجله؛ أو الوقت الذي يفصل بينه وبين حساب الموْلَى عَزَّ وجَلَّ له على المعاصي.
وكل مِنَّا مُطَالب بأن يضع في حُسْبانه حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: «الموت القيامة، فمَنْ مات فقد قامت قيامته».
ولنا أسوة طيبة في عثمان بن عفان رضي الله عنه وهو الخليفة الثالث لرسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي كان إذا وقف على قبر بكى حتى تبتلَّ لحيته، فسُئِل عن ذلك؛ وقيل له: تذكر الجنة والنار فلا تبكي، وتبكي إذا وقفتَ على قبر؟ فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن القبر أول منازل الآخرة، فإنْ نجا منه صاحبه فما بعده أيسر منه، وإن لم يَنْجُ منه، فما بعده أشد». لذلك فلا يستبعد أحد ميعاد لقائه بالموت.
وتستمر الآية: {إِلاَّ مَا رَحِمَ ربي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [يوسف: 53].
ونعلم أن هناك ما يشفي من الداء، وهناك ما يُحصِّن الإنسان، ويعطيه مناعة أن يصيبه الداء، والحق سبحانه غفور، بمعنى أنه يغفر الذنوب، ويمحوها، والحق سبحانه رحيم، بمعنى أنه يمنح الإنسان مناعة، فلا يصيبه الداء، فلا يقع في زلة أخرى.
والحق سبحانه هو القائل: {وَنُنَزِّلُ مِنَ القرآن مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ} [الإسراء: 82].
فساعةَ تسمع القرآن فهو يشفيك من الداء الذي تعاني منه نفسيًا ويُقويَّ قدرتك على مقاومة الداء؛ ويُفجِّر طاقات الشفاء الكامنة في أعماقك. وهو رحمة لك حين تتخذه منهجًا، وتُطبِّقه في حياتك؛ فيمنحك مناعة تحميك من المرض، فهو طِبّ علاجيّ وطبّ وقائيّ في آنٍ واحد. اهـ.

.قال السمرقندي في الآيات السابقة:

قوله تعالى: {وَقَالَ نِسْوَةٌ في المدينة}
قال الكلبي: (هنَّ) أربع نسوة امرأة ساقيه يعني: ساقي الملك، وامرأة الخباز، وامرأة صاحب السجن، وامرأة صاحب الدوابّ.
ويقال هن خمس، خامستهن امرأة صاحب الملك.
ويقال: أربعون امرأة.
ويقال: جماعة كثيرة من النساء اجتمعت في موضع، وقلن فيما بينهنّ: {وَقَالَ نِسْوَةٌ في المدينة امرأت العزيز} يعني: تطلب عبدها وتدعوه إلى نفسها.
{قَدْ شَغَفَهَا حُبّا إِنَّا لَنَرَاهَا في ضلال مُّبِينٍ} قال: الحسن أي شق شغاف قلبها حبه.
وقال عامر الشعبي: الشغوف المحب، والمشغوف المحبوب.
وقال القتبي: {قَدْ شَغَفَهَا حُبّا} بلغ الحب شغافها، وهو غلاف القلب، قال: ومن قرأ شغفها أي فتنها من قولك فلان شغوف بفلانة.
ويقال: شغف الشيء إذا علاه: {قَدْ شَغَفَهَا} أي علاها.
ويقال: أهلكها، فلا تعقل غيره: {إِنَّا لَنَرَاهَا في ضلال مُّبِينٍ} يعني: في خطأ بيّن.
ويقال: في عشق بيّن.
أي: لا تعقل غيره.
قوله تعالى: {فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ} يعني: سمعت زليخا بمقالتهن.
وإنما سمَّي قولهنّ مكرًا والله أعلم، لأن قولهن لم يكن على وجع النصيحة، والنهي عن المنكر.
ولكن كان على وجه الشماتة والتعيير.
{أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ} فدعتهن: {وَأعَدَّتْ لَهُنَّ متكأ} أي: اتخذت لهن وسائد يتكين عليها.
وذلك أنها اتخذت ضيافة، ودعت النساء، ووضعت الوسائد لجلوسهن.
وقال الفراء: من قرأ متكًا غير مهموز فإنه الأترج.
وكذلك قال ابن عباس.
روى منصور عن مجاهد أنه قال: من قرأ مثقلة قال: يعني: الطعام، ومن قرأ: مخففة قال الأترج.
ويقال: الزُّمَّاوَرْد وهو نوع من التمر.
وقال عكرمة كل شيء يقطع بالسكين: {فِى ضلال مُّبِينٍ فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ} يعني: أعطت زليخا كل واحدة من النسوة سكينًا، وأمرت يوسف بأن يلبس أحسن ثيابه، وزيّنته أحسن الزينة: {وَقَالَتِ} له: {اخرج عَلَيْهِنَّ} يعني: اخرج على النساء فخرج عليهن.
روى أبو الأحوص عن ابن مسعود قال: أوتي يوسف وأمه ثلث حسن الناس، في الوجه، والبياض، وغير ذلك.
وكانت المرأة إذا رأت يوسف، غطّى وجهه مخافة أن تفتن به.
فلما خرج يوسف إلى النسوة غطى نفسه فنظرن إليه: {فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ} يقول: أعظمنه.
أي: أعظمن شأنه، وتحيرن، وبقين مدهوشات، طائرة عقولهن،: {وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ} يقول: حززن، وخدشن أيديهن بالسكين، ولم يشعرن بذلك: {وَقُلْنَ حَاشَ للَّهِ} يعني: معاذ الله: {مَا هذا بَشَرًا} قرأ بعضهم: بالرفع.
وقرأ بعضهم: {مَا هذا} يعني: مثل هذا لا يكون بشرًا.
وقراءة العامة {ما هذا بشرًا} بنصب الراء والتنوين، لأنه خبر ما.
ولأنه صار نصبًا لنزع الخافض.
ومعناه: {للَّهِ مَا هذا بَشَرًا} يعني: مثل هذا لا يكون آدميًا: {إِنْ هذا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ} يعني: على ربه.
فإن قيل: إنهن لم يرين الملك فكيف شبّهنه بشيء لم يرينه؟ قيل له: لأن المعروف عند الناس، أنهم إذا وصفوا أحدًا بالحسن، يقولون: هذا يشبه الملك، وإن لم يروا الملائكة، كما أنهم إذا وصفوا أحدًا بالقبح، يقولون: هو كالشيطان، وإن لم يروا الشيطان.
قرأ أبو عمرو: {يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} بالألف.
وقرأ الباقون: بغير ألف.
وكذلك الذي بعده: {قَالَتْ} زليخا للنسوة: {فذلكن الذي لُمْتُنَّنِى فِيهِ} يقول: عذلتنني فيه وعبتنني فيه فهل عذرتنني؟ فقلن لها: أنت معذورة.
قالت: {وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ} يعني: طلبت إليه أن يمكنني من نفسه: {فاستعصم} أي فامتنع بنفسه مني: {وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا ءامُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ} يعني: احبسنه في السجن: {وَلَيَكُونًا مّن الصاغرين} يعني: من المهانين بالسجن.
ويقال: مذللين.
وقرأ بعضهم: {لَّيَكُونُنَّ} بتشديد النون وهذا خلاف مصحف الإمام.
وقراءة العامة: {وَلَيَكُونًا} لأن النون الخفيفة تبدل منها في الوقف بالألف.
{قَالَ رَبّ} يقول: يا سيدي: {السجن أَحَبُّ إِلَىَّ مِمَّا يَدْعُونَنِى} النسوة: {إِلَيْهِ} من العمل القبيح.
قرأ بعضهم: {قَالَ رَبّ السجن} بنصب السين على معنى المصدر.
يقال: سجنته سَجْنًا وهي قراءة شاذة.
وقراءة العامة بالكسر يعني: نزول بيت السجن أحب إلي مما يدعونني إليه، يعني به: امرأة العزيز خاصة.
ويقال: أراد به النسوة اللاتي حضرن هناك، لأنهن قلن له: أطع مولاتك، ولا تخالفها، فإن لها عليك حقًا.
وقد اشترتك بمالها وهي تحسن إليك، وتحبك، وتطلب هواك.
فقال: {رَبّ السجن أَحَبُّ إِلَىَّ} وقال بعض الحكماء: لو أنه قال: رب العافية أحَبُّ إليّ، لعافاه الله تعالى.
ولكن لما نجا بدينه، لم يبال بما أصابه في الله.
ثم قال: {وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنّى كَيْدَهُنَّ} يعني: إذا لم تصرف عني عملهن وشرهن: {أَصْبُ إِلَيْهِنَّ} أي: أمل إليهن: {وَأَكُن مّنَ الجاهلين} يعني: من المذنبين.
قوله تعالى: {فاستجاب لَهُ رَبُّهُ} فيما دعاه: {فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ} يعني: فعلهن، وشرهن.
{إِنَّهُ هُوَ السميع العليم} يسمع لمن دعاه.
يعني: {السميع} للدعاء فيما دعاه يوسف: {العليم} به.
ثم إن المرأة قالت لزوجها: إن هذا الغلام العبراني لا ينقطع عني، وقد فضحني في الناس، يعتذر إليهم ويخبرهم، أنني راودته عن نفسه، ولست أطيق أن أعتذر بعذري.
فإما أن تأذن لي فأخرج فأعتذر إلى الناس، وأخبرهم بحالي.
وإما أن تحبسه حتى ينقطع حديثه فذلك قوله تعالى: {ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيات} يعني: ثم بدا للزوج من بعد ما رأى شق القميص، وقضاء ابن عمها بينهما: {لَيَسْجُنُنَّهُ حتى حِينٍ} قال الكلبي: سجنه خمس سنين.
ويقال: {حتى حِينٍ} يعني: إلى يوم من الأيام وإلى وقت من الأوقات.
قوله تعالى: {وَدَخَلَ مَعَهُ السجن فَتَيَانَ} يعني: حبس معه في السجن الخباز، والساقي.
عبدان للملك غضب عليهما.
يعني: صاحب شرابه، وصاحب مطعمه: {قَالَ أَحَدُهُمَا} ليوسف: {إِنّى أَرَانِى} في المنام: {أَعْصِرُ خَمْرًا} يعني: عنبًا بلغة عمان.
قال الضحاك: إن ناسًا من العرب يسمون العنب خمرًا.
ويقال: معناه أعصر العنب الذي يكون عصيره خمرًا، وذلك أنه قال: رأيت في المنام، كأني دخلت كرمًا فيه حبلة حسنة، فيها ثلاث من القضبان، وفي القضبان ثلاثة عناقيد، عنب قد أينع، وبلغ، فأخذته وعصرته في الكأس، ثم أتيت به الملك فسقيته.