فصل: التفسير المأثور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



أنا أنبئكم بتأويله فأرسلون.. ويسدل الستار هنا، ليرفع في السجن على يوسف وصاحبه هذا يستفتيه: {يوسف أيها الصديق أفتنا في سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات لعلي أرجع إلى الناس لعلهم يعلمون}..
والساقي يلقب يوسف بالصدّيق، أي الصادق الكثير الصدق. وهذا ما جربه في شأنه من قبل..
{أفتنا في سبع بقرات سمان...}..
ونقل الفاظ الملك التي قالها كاملة، لأنه يطلب تأويلها، فكان دقيقًا في نقلها، وأثبتها السياق مرة أخرى ليبين هذه الدقة أولًا، وليجيء تأويلها ملاصقًا في السياق لذكرها.
ولكن كلام يوسف هنا ليس هو التأويل المباشر المجرد، إنما هو التأويل والنصح بمواجهة عواقبه. وهذا أكمل: {قال تزرعون سبع سنين دأبًا}..
أي: متوالية متتابعة. وهي السنوات السبع المخصبة المرموز لها بالبقرات السمان.
{فما حصدتم فذروه في سنبله}..
أي فاتركوه في سنابله لأن هذا يحفظه من السوس والمؤثرات الجوية.
{إلا قليلًا مما تأكلون}..
فجردوه من سنابله، واحتفظوا بالبقية للسنوات الأخرى المجدبة المرموز لها بالبقرات العجاف.
{ثم يأتي من بعد ذلك سبع شداد}..
لا زرع فيهن.
{يأكلن ما قدمتم لهن}..
وكأن هذه السنوات هي التي تأكل بذاتها كل ما يقدم لها لشدة نهمها وجوعها!
{إلا قليلًا مما تحصنون}..
أي إلا قليلًا مما تحفظونه وتصونونه من التهامها!
{ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون}..
أي ثم تنقضي هذه السنوات الشداد العجاف المجدبة، التي تأتي على ما خزنتم وادخرتم من سنوات الخصب. تنقضي ويعقبها عام رخاء، يغاث الناس فيه بالزرع والماء، وتنمو كرومهم فيعصرونها خمرًا، وسمسمهم وخسهم وزيتونهم فيعصرونه زيتًا..
وهنا نلحظ أن هذا العام الرخاء لا يقابله رمز في رؤيا الملك؛ فهو إذن من العلم اللدني الذي علمه الله يوسف. فبشر به الساقي ليبشر الملك والناس، بالخلاص من الجدب والجوع بعام رخيّ رغيد.
وهنا كذلك ينتقل السياق إلى المشهد التالي. تاركًا فجوة بين المشهدين يكمل التصور ما تم فيها من حركة. ويرفع الستار مرة أخرى على مجلس الملك. ويحذف السياق ما نقله الساقي من تأويل الرؤيا، وما تحدث به عن يوسف الذي أولها. وعن سجنه وأسبابه والحال التي هو فيها.. كل أولئك يحذفه السياق من المشهد، لنسمع نتيجته من رغبة الملك في رؤية يوسف، وأمره أن يأتوه به: {وقال الملك ائتوني به}..
ومرة ثالثة في المشهد يحذف السياق جزئيات تفصيلية في تنفيذ الأمر. ولكنا نجد يوسف يرد على رسول الملك الذي لا نعرف: إن كان هو الساقي الذي جاءه أول مرة. أو رسولًا تنفيذيًا مكلفًا بمثل هذا الشأن. نجد يوسف السجين الذي طال عليه السجن لا يستعجل الخروج حتى تحقق قضيته، ويتبين الحق واضحًا في موقفه، وتعلن براءته على الأشهاد من الوشايات والدسائس والغمز في الظلام.. لقد رباه ربه وأدبه. ولقد سكبت هذه التربية وهذا الأدب في قلبه السكينة والثقة والطمأنينة. فلم يعد معجلًا ولا عجولًا!
إن أثر التربية الربانية شديد الوضوح في الفارق بين الموقفين: الموقف الذي يقول يوسف فيه للفتى: اذكرني عند ربك، والموقف الذي يقول له فيه: ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن، والفارق بين الموقفين بعيد..
{قال ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن إن ربي بكيدهن عليم}
لقد رد يوسف أمر الملك باستدعائه حتى يستوثق الملك من أمره، وحتى يتحقق من شأن النسوة اللاتي قطعن أيديهن.. بهذا القيد.. تذكيرًا بالواقعة وملابساتها وكيد بعضهن لبعض فيها وكيدهن له بعدها.. وحتى يكون هذا التحقق في غيبته لتظهر الحقيقة خالصة، دون أن يتدخل هو في مناقشتها.. كل أولئك لأنه واثق من نفسه، واثق من براءته، مطمئن إلى أن الحق لا يخفى طويلًا، ولا يخذل طويلًا.
ولقد حكى القرآن عن يوسف استعمال كلمة: {رب} بمدلوها الكامل، بالقياس إليه وبالقياس إلى رسول الملك إليه. فالملك رب هذا الرسول لأنه هو حاكمه الذي يدين لسلطانه. والله رب يوسف لأنه هو حاكمه الذي يدين لسلطانه.. ورجع الرسول فأخبر الملك وأحضر الملك النسوة يستجوبهن والسياق يحذف هذا لنعلمه مما يليه: {قال ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه}..
والخطب: الأمر الجلل والمصاب. فكأن الملك كان قد استقصى فعلم أمرهن قبل أن يواجههن، وهو المعتاد في مثل هذه الأحوال، ليكون الملك على بينة من الأمر وظروفه قبل الخوض فيه. فهو يواجههن مقررًا الاتهام، ومشيرًا إلى أمر لهن جلل أو شأن لهن خطير: {ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه}.
ومن هذا نعلم شيئًا مما دار في حفل الاستقبال في بيت الوزير؛ ما قالته النسوة ليوسف وما لَمّحن به وأشرن إليه، من الإغراء الذي يبلغ درجة المراودة. ومن هذا نتخيل صورة لهذه الأوساط ونسائها حتى في ذلك العهد الموغل في التاريخ. فالجاهلية دائمًا هي الجاهلية. إنه حيثما كان الترف، وكانت القصور والحاشية، كان التخلل والتميع والفجور الناعم الذي يرتدي ثياب الأرستقراطية!
وفي مثل هذه المواجهة بالاتهام في حضرة الملك، يبدو أنه لم يكن هنالك مجال للإنكار: {قلن حاش لله ما علمنا عليه من سوء}!
وهي الحقيقة التي يصعب إنكارها. ولومن مثل هؤلاء النسوة. فقد كان أمر يوسف إذن من النصاعة والوضوح بحيث لا يقوم فيه جدال.
وهنا تتقدم المرأة المحبة ليوسف، التي يئست منه، ولكنها لا تستطيع أن تخلص من تعلقها به.. تتقدم لتقول كل شيء في صراحة: {قالت امرأة العزيز الآن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين}..
الآن حصحص الحق وظهر ظهورًا واضحًا لا يحتمل الخفاء: {أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين}.. وزادت ما يكشف عن أن قلبها لم يخل من إيثاره ورجاء تقديره والتفاته بعد كل هذا الأمد؛ وما يشي كذلك بأن عقيدة يوسف قد أخذت طريقها إلى قلبها فآمن: {ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب وأن الله لا يهدي كيد الخائنين}..
وهذا الاعتراف وما بعده يصوره السياق هنا بألفاظ موحية، تشي بما وراءها من انفعالات ومشاعر. كما يشي الستار الرقيق بما وراءه في ترفع وتجمل في التعبير: {أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين}.
شهادة كاملة بنظافته وبراءته وصدقه. لا تبالي المرأة ما وراءها مما يلم بها هي ويلحق بأردانها.. فهل هو الحق وحده الذي يدفعها لهذا الإقرار الصريح في حضرة الملك والملأ؟
يشي السياق بحافز آخر، هو حرصها على أن يحترمها الرجل المؤمن الذي لم يعبأ بفتنتها الجسدية. أن يحترمها تقديرًا لإيمانها ولصدقها وأمانتها في حقه عند غيبته: {ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب}..
ثم تمضي في هذه المحاولة والعودة إلى الفضيلة التي يحبها يوسف ويقدرها: {وأن الله لا يهدي كيد الخائنين}..
وتمضي خطوة أخرى في هذه المشاعر الطيبة: {وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي إن ربي غفور رحيم}..
إنها امرأة أحبت. امرأة تكبر الرجل الذي تعلقت به في جاهليتها وإسلامها، فهي لا تملك إلا أن تظل معلقة بكلمة منه، أو خاطرة ارتياح تحس أنها صدرت عنه!
وهكذا يتجلى العنصر الإنساني في القصة، التي لم تسق لمجرد الفن، إنما سيقت للعبرة والعظة. وسيقت لتعالج قضية العقيدة والدعوة. ويرسم التعبير الفني فيها خفقات المشاعر وانتفاضات الوجدان رسمًا رشيقًا رفيقًا شفيفًا. في واقعة كاملة تتناسق فيها جميع المؤثرات وجميع الواقعيات في مثل هذه النفوس، في ظل بيئتها ومؤثرات هذه البيئة كذلك.
وإلى هنا تنتهي محنة السجن ومحنة الاتهام، وتسير الحياة بيوسف رخاء، الاختبار فيه بالنعمة لا بالشدة. وإلى هنا نقف في هذا الجزء من الظلال، وتتابع القصة سيرها في الجزء التالي إن شاء الله. اهـ.

.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50)}
أخرج أحمد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والحاكم وصححه وابن مردويه، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: {فلما جاءه الرسول قال ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن} فقال: «لو كنت أنا لأسرعت الاجابة وما ابتغيت العذر».
وأخرج ابن جرير وابن مردويه، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يرحم الله يوسف إن كان لذا أناة حليمًا، لو كنت أنا المحبوس، ثم أرسل إليّ لخرجت سريعًا».
وأخرج الفريابي وابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه من طرق، عن ابن عباس- رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عجبت لصبر أخي يوسف وكرمه- والله يغفر له- حيث أرسل إليه ليستفتى في الرؤيا، وإن كنت أنا لم أفعل حتى أخرج، وعجبت من صبره وكرمه- والله يغفر له- أتى ليخرج فلم يخرج حتى أخبرهم بعذره، ولو كنت أنا لبادرت الباب، ولكنه أحب أن يكون له العذر».
وأخرج أحمد في الزهد وابن المنذر، عن الحسن رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «رحم الله أخي يوسف، لو أنا أتاني الرسول بعد طول الحبس لأسرعت الإجابة، حين قال: {ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة}».
وأخرج ابن المنذر، عن ابن عباس- رضي الله عنهما- في قوله: {ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن} قال: أراد يوسف عليه السلام العذر قبل أن يخرج من السجن.
وأخرج الفريابي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والبيهقي في شعب الإِيمان، عن ابن عباس- رضي الله عنهما- قال: لما جمع الملك النسوة قال لهن: انتن راودتن يوسف عن نفسه؟: {قلن حاش لله ما علمنا عليه من سوء قالت امرأة العزيز الآن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين} قال يوسف: {ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب} فغمزه جبريل عليه السلام فقال: ولا حين هممت بها؟ فقال: {وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء}.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم، عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: {الآن حصحص الحق} قال: تبين.
وأخرج ابن جرير عن مجاهد وقتادة والضحاك وابن زيد والسدي مثله.
وأخرج الحاكم في تاريخه، وابن مردويه والديلمي، عن أنس رضي الله عنه. أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية: {ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب} قال: «لما قالها يوسف عليه السلام، قال له جبريل عليه السلام: يا يوسف، اذكر همك. قال: {وما أبرئ نفسي}».
وأخرج ابن جرير عن عبد الله بن أبي الهذيل قال: لما قال يوسف عليه السلام: {ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب} قال له جبريل عليه السلام: ولا يوم هممت بما هممت به؟ فقال: {وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء}.
وأخرج ابن جرير، عن عكرمة قال: لما قال يوسف عليه السلام: {ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب} قال الملك- وطعن في جنبه- يا يوسف، ولا حين هممت؟ قال: {وما أبرئ نفسي}.
وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي حاتم، عن حكيم بن جابر في قوله: {ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب} قال: قال له جبريل: ولا حين حللت السراويل؟ فقال عند ذلك: {وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء}.
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله: {ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب} قال: هو قول يوسف لمليكه حين أراه الله عذره.
وأخرج أبو عبيد وابن جرير وابن المنذر، عن ابن جريج قال: أراد يوسف عليه السلام العذر قبل أن يخرج من السجن، فقال: {ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن إن ربي بكيدهن عليم...} و: {ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب} قال ابن جريج: وبين هذا وبين ذلك ما بينه، قال: وهذا من تقديم القرآن وتأخيره.
وأخرج أبو عبيد وابن جرير وابن المنذر، عن مجاهد في قوله: {ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب} قال يوسف- يقول- لم أخن سيدي.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ، عن أبي صالح رضي الله عنه في قوله: {ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب} قال هذا قول يوسف عليه السلام، لم يخن العزيز في امرأته. قال: فقال له جبريل عليه السلام: ولا حين حللت السراويل؟ فقال يوسف عليه السلام: {وما أبرئ نفسي...} إلى آخر الآية.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر، عن الحسن رضي الله عنه في قوله: {ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب} قال: قال له جبريل عليه السلام: اذكر همك. قال: {وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء}.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر، عن سعيد بن جبير رضي الله عنه: {ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب} فقال له الملك أو جبريل: ولا حين هممت بها؟ فقال يوسف عليه السلام: {وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء}.
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر، عن مجاهد رضي الله عنه في قوله: {ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب} قال: فقال له الملك: ولا حين هممت؟ فقال: {وما أبرئ نفسي}.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم، عن قتادة رضي الله عنه قال: ذكر لنا أن الملك الذي كان مع يوسف عليه السلام قال له: اذكر ما هممت به. قال: {وما أبرئ نفسي}.
وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ، عن الحسن رضي الله عنه في قوله: {ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب} قال: خشي نبي الله صلى الله عليه وسلم أن يكون زكى نفسه فقال: {وما أبرئ نفسي...} الآية.
وأخرج ابن أبي حاتم من وجه آخر، عن الحسن رضي الله عنه في قوله: {وما أبرئ نفسي} قال: يعني همته التي هم بها.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن عبد العزيز بن عمير رضي الله عنه قال: النفس أمارة بالسوء، فإذا جاء العزم من الله، كانت هي التي تدعو إلى الخير. اهـ.