فصل: قال القرطبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



و{أمين} من الأمانة، وقالت فرقة هو بمعنى آمن.
قال القاضي أبو محمد: وهذا ضعيف، لأنه يخرج من نمط الكلام وينحط إكرام يوسف كثيرًا ويروى أن الملك لما أدنى يوسف قال له: إني أشاركك في كل شيء إلا أني أحب أن لا تشركني في أهلي وأن لا يأكل معي عبدي، فقال له يوسف: أتأنف أن آكل معك؟ أنا أحق أن آنف، أنا ابن إبراهيم الخليل، وابن إسحاق الذبيح، وابن يعقوب الصديق.
قال القاضي أبو محمد: وفي هذا الحديث بعد وضعف، وقد قال ابن ميسرة: إنما جرى هذا في أول أمره، كان يأكل مع العزيز، فلما جرت قصة المرأة قالت للعزيز: أتدع هذا يواكلك؟ فقال له: اذهب فكل مع العبيد؛ فأنف وقال ما تقدم.
اما ان الظاهر من قصته وقت محاورة الملك أنه كان على عبودية، وإلا كان اللائق به أن ينتحي بنفسه عن عمل الكافر، لأن القوم كانوا أهل أوثان ومحاورة يوسف لصاحبي السجن تقضي بذلك.
وسمى الله تعالى فرعون مصر ملكًا إذ هي حكاية اسم مضى حكمه وتصرم زمنه، ولو كان حيًا لكان حكمًا له إذا قيل لكافر: ملك أو أمير، ولهذا كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل فقال: عظيم الروم، ولم يقل: ملكًا ولا أميرًا، لأن ذلك حكم، والحق أن يسلم ويسلموا. وأما كونه عظيمهم فتلك صفة لا تفارقه كيفما تقلب، ولو كتب له النبي عليه السلام: أمير الروم، لتمسك بتلك الحجة على نحو تمسك زياد في قوله: شهد- والله- لي أبو الحسن.
وقوله تعالى: {اجعلني على خزائن الأرض} الآية، فهم يوسف عليه السلام من الملك أنه عزم على تصريفه والاستعانة بنظره في الملك، فألقى يده في الفصل الذي تمكنه فيه المعدلة ويترتب له الإحسان إلى من يجب ووضع الحق على أهله وعند أهله.
قال بعض أهل التأويل: في هذه الآية ما يبيح للرجل الفاضل أن يعمل للرجل الفاجر بشرط أن يعلم أنه يفوض إليه في فصل ما لا يعارض فيه، فيصلح منه ما شاء؛ وأما إن كان عمله بحسب اختيار الفاجر وشهواته وفجوره، فلا يجوز له ذلك.
قال القاضي أبو محمد: وطلبة يوسف للعمل إنما هي حسبة منه عليه السلام لرغبته في أن يقع العدل، ونحو هذا هو دخول أبي بكر الصديق في الخلافة مه نهيه المستشير من الأنصار عن أن يتأمر على اثنين... الحديث بكماله فجائز للفاضل أن يعمل وأن يطلب العمل إذا رأى ألا عوض منه، وجائز أيضًا للمرء أن يثني على نفسه بالحق إذا جهل أمره.
و{خزائن} لفظ عام لجميع ما تختزنه المملكة من طعام ومال وغيره. و{حفيظ عليم} صفتان تعم وجوه التثقيف والحيطة لا خلل معهما لعامل. وقد خصص الناس بهاتين الصفتين أشياء، مثل قولهم: حفيظ بالحساب عليم بالألسن، وقول بعضهم: حفيظ لما استودعتني، عليم بسني الجوع، وهذا كله تخصيص لا وجه له، وإنما أراد باتصافه أن يعرف الملك بالوجه الذي به يستحق الكون على خزائن الأرض فاتصف بأنه يحفظ المجبي من كل جهة تحتاج إلى الحفظ. ويعلم التناول أجمع. وروي عن مالك بن أنس أنه قال: مصر خزانة الأرض، واحتج بهذه الآية.
وقوله: {خزائن الأرض} يريد أرض مصر إذ لم تكن مملكة فرعون إلا بها فقط، ويؤكد أن تسمى خزانة الأرض نصبتها في بلاد الأرض وتوسطها، فمنها ينقل الناس إلى أقطار الأرض وهي محل كل جالب.
وقوله تعالى: {وكذلك مكنا ليوسف} الآية، الإشارة بذلك إلى ما تقدم من جميل صنع الله به كهذه الفعال المنصوصة، درجناه في الرتب ونقلناه فمكنا له في الأرض.
قال القاضي أبو محمد: فروي أن العزيز مات في تلك الليالي، وقال ابن إسحاق: بل عزله الملك ثم مات أطفير، فولاه الملك مكانه وزوجه زوجته، فلما دخلت عليه عروسًا قال لها: أليس هذا خيرًا مما كنت أردت؟ فقالت له: أيها الصديق كنت في غاية الجمال، وكنت شابة عذراء، وكان زوجي لا يطأ، فغلبتني نفسي في حبك، فدخل يوسف بها فوجدها بكرًا، وولدت له ولدين. وروي أن الملك عزل العزيز، وولاه موضعه، ثم عظم ملك يوسف وتغلب على حال الملك أجمع، قال مجاهد: وأسلم الملك آخر أمره، ودرس أمر العزيز وذهبت دنياه، ومات وافتقرت زوجته، وزمنت وشاخت، فلما كان في بعض الأيام. لقيت يوسف في طريق، والجنود حوله ووراءه، وعلى رأسه بنود عليها مكتوب: {هذه سبيلي أدعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين} [يوسف: 108] فصاحت به وقالت: سبحان من أعز العبيد بالطاعة، وأذل الأرباب بالمعصية، فعرفها، وقالت له: تعطف عليَّ وارزقني شيئًا فدعاها وكلمها، وأشفق لحالها، ودعا الله تعالى، فرد عليها جمالها وتزوجها.
قال القاضي أبو محمد: وروي في نحو هذا من القصص ما لا يوقف على صحته، ويطول الكلام بسوقه. وقرأ الجمهور: {حيث يشاء} على الإخبار عن يوسف؛ وقرأ ابن كثير وحده {حيث نشاء} بالنون على ضمير المتكلم. أي حيث يشاء الله من تصرف يوسف على اختلاف تصرفه، وحكى أبو حاتم هذه القراءة عن الحسن وشيبة ونافع وأبي جعفر بخلاف عن الثلاثة المدنيين؛ وقال أبو علي: إما أن يكون تقدير هذه القراءة: حيث يشاء من المحاريب والمتعبدات وأحوال الطاعات، فهي قرب يريدها الله ويشاؤها؛ وإما أن يكون معناها: حيث يشاء يوسف، لكن أضاف الله عز وجل المشيئة التي ليوسف إليه من حيث هو عبد من عبيده، وكانت مشيئته بقدرة الله تعالى وقوته كما قال: {وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى} [الأنفال: 17].
قال القاضي أبو محمد: وهذا كله من أبي على نزغة اعتزالية، وتحفظ من أن أفعال العباد من فاعلين، فتأمله.
واللام في قوله: {مكنا ليوسف} يجوز أن تكون على حد التي في قوله: {ردف لكم} [النمل: 72] و: {للرؤيا تعبرون} [يوسف: 43]. وقوله: {يتبوأ} في موضع نصب على الحال، و: {حيث يشاء} نصب على الظرف أو على المفعول به، كما قال الشماخ: حيث تكوى النواحز. وباقي الآية بين.
ولما تقدم في هذه الآية الإحسان من العبد، والجري على طريق الحق لا يضيع عند الله ولابد من حسن عاقبته في الدنيا، عقب ذلك بأن حال الآخرة أحمد وأحرى أن تجعل غرضًا ومقصدًا، وهذا هو الذي ينتزع من الآية بحسب المقيدين بالإيمان والتقوى من الناس وفيها مع ذلك إشارة إلى أن حاله من الآخرة خير من حاله العظيمة في الدنيا. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {وَقَالَ الملك ائتوني بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي}
لما ثبت للملك براءته مما نُسب إليه؛ وتحقّق في القصة أمانته، وفهم أيضًا صبره وجَلَده عظمت منزلته عنده، وتيقّن حسن خلاله قال: {ائتوني بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي} فانظر إلى قول الملك أولًا حين تحقق علمه {ائتوني بِهِ} فقط، فلما فعل يوسف ما فعل ثانيًا قال: {ائتوني بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي} ورُوي عن وهب بن منَبِّه قال: لما دُعي يوسف وقف بالباب فقال: حسبي ربّي من خلقه، عزَّ جاره وجلّ ثناؤه ولا إله غيره.
ثم دخل فلما نظر إليه الملك نزل عن سريره فخرّ له ساجدًا؛ ثم أقعده الملك معه على سريره فقال: {إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ}.
{قَالَ} له يوسف: {اجْعَلْني عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ} للخزائن {عَلِيمٌ} بوجوه تصرفاتها.
وقيل: حافظ للحساب، عليم بالألسن.
وفي الخبر: «يرحم الله أخي يوسف لو لم يقل اجعلني على خزائن الأرض لاستعمله من ساعته ولكن أخَّر ذلك سنة» وقيل: إنما تأخر تمليكه إلى سنة لأنه لم يقل إن شاء الله.
وقد قيل في هذه القصة: إن يوسف عليه السلام لما دخل على الملك قال: اللهم إني أسألك بخيرك من خيره، وأعوذ بك من شرّه وشرّ غيره؛ ثم سلّم على الملك بالعربية فقال: ما هذا اللسان؟ قال: هذا لسان عَمِّي إسمعيل، ثم دعا (له) بالعبرانية فقال: ما هذا اللسان؟ قال: لسان آبائي إبراهيم وإسحق ويعقوب؛ وكان الملك يتكلم بسبعين لسانًا، فكلما (تكلم الملك) بلسان أجابه يوسف بذلك اللسان، فأعجب الملك أمره، وكان يوسف إذ ذاك ابن ثلاثين سنة؛ ثم أجلسه على سريره وقال: أحب أن أسمع منك رؤياي، قال يوسف: نعم أيها الملك! رأيتَ سبع بقرات سِمانٍ شُهْبًا غُرًّا حسانًا، كشف لك عنهن النِّيل فطلعن عليك من شاطئه تَشخُب أخلافها لبنًا؛ فبينا أنت تنظر إليهنّ وتتعجب من حسنهنّ إذ نَضَب النِّيل فغار ماؤه، وبدا أُسُّه، فخرج من حَمَئه وَوَحَله سبع بقرات عِجاف شُعْث غُبْر مُقَلَّصات البطون، ليس لهنّ ضروع ولا أخلاف، لهنّ أنياب وأضراس، وأكفّ كأكف الكلاب وخراطيم كخراطيم السّباع، فاختلطن بالسِّمان فافترسنهنّ افتراس السّباع، فأكلن لحومهنّ، ومزّقن جلودهنّ، وحطّمن عظامهنّ، ومشمشن مخّهنّ؛ فبينا أنت تنظر وتتعجب كيف غلبنهنّ وهنّ مهازيل! ثم لم يظهر منهنّ سِمَن ولا زيادة بعد أكلهن إذا بسبع سنابل خضر طريات ناعمات ممتلئات حبًا وماء، وإلى جانبهنّ سبع يابسات ليس فيهنّ ماء ولا خضرة في منبت واحد، عروقهنّ في الثرى والماء، فبينا أنت تقول في نفسك: أي شيء هذا؟ هؤلاء خضر مثمرات، وهؤلاء سود يابسات، والمنبت واحد، وأصولهن في الماء، إذ هبّت ريح فذرت الأوراق من اليابسات السود على الخضر المثمرات، فأشعلت فيهن النار فأحرقتهنّ؛ فصرن سودًا مغبرات؛ فانتبهتَ مذعورًا أيها الملك؛ فقال الملك: والله ما شأن هذه الرؤيا وإن كان عجبًا بأعجب مما سمعتُ منك! فما ترى في رؤياي أيها الصدّيق؟ فقال يوسف: أرى أن تجمع الطعام، وتزرع زرعًا كثيرًا في هذه السنين المخصبة؛ فإنك لو زرعت على حجر أو مَدَر لنبت، وأظهر الله فيه النّماء والبركة، ثم ترفع الزرع في قصبه وسنبله تبني له المخازن العظام؛ فيكون القصب والسّنبل عَلَفًا للدواب، وحبه للناس، وتأمر الناس فيرفعون من طعامهم إلى أهْرَائك الخُمْس؛ فيكفيك من الطعام الذي جمعته لأهل مصر ومن حولها، ويأتيك الخلق من النواحي يمتارون منك، ويجتمع عندك من الكنوز ما لم يجتمع لأحد قبلك؛ فقال الملك: ومن لي بتدبير هذه الأمور؟ ولو جمعت أهل مصر جميعًا ما أطاقوا، ولم يكونوا فيه أمناء؛ فقال يوسف عليه السلام عند ذلك: {اجعلني عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ} أي على خزائن أرضك؛ وهي جمع خِزانة؛ ودخلت الألف واللام عوضًا من الإضافة، كقول النابغة:
لَهُمْ شِيمَةٌ لم يُعْطِهَا الله غَيْرَهُمْ ** مِنَ الجُودِ والأَحْلاَمِ غَيْرُ كَوَاذِبِ

قوله تعالى: {أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي} جزم لأنه جواب الأمر؛ وهذا يدلّ على أن قوله: {ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ} جَرَى في السّجن.
ويحتمل أنه جرى عند الملك، ثم قال في مجلس آخر: {ائتوني بِهِ} تأكيدًا {أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي} أي أجعله خالصًا لنفسي، أفوّض إليه أمر مملكتي؛ فذهبوا فجاؤوا به؛ ودلّ على هذا: {فَلَمَّا كَلَّمَهُ} أي كلّم الملك يوسف، وسأله عن الرؤيا فأجاب يوسف؛ ف: {قَالَ} الملك: {إِنَّكَ اليوم لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ} أي متمكن نافذ القول، {أَمِينٌ} لا تخاف غدرًا.
{قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55)}
فيه أربع مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {قَالَ اجعلني على خَزَائِنِ الأرض} قال سعيد بن منصور: سمعت مالك بن أنس يقول: مصر خِزَانة الأرض؛ أما سمعت إلى قوله: {اجعلني عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ} أي على حفظها، فحذف المضاف.
{إِنِّي حَفِيظٌ} لما وُلّيْت: {عَلِيمٌ} بأمره.
وفي التفسير: إني حاسب كاتب؛ وأنه أوّل من كتب في القراطيس.
وقيل: {حَفِيظٌ} لتقدير الأقوات {عَلِيمٌ} بسنيّ المجاعات.
قال جُويبر عن الضّحّاك عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رحم الله أخي يوسف لو لم يقل اجعلني على خزائن الأرض لاستعمله من ساعته ولكن أَخَّر ذلك عنه سنة» قال ابن عباس: لما انصرمت السنة من يوم سأل الإمارة دعاه الملك فتَوجَّه ورَدّاه بسيفه، ووضع له سريرًا من ذهب، مكلّلًا بالدرّ والياقوت، وضرب عليه حُلّة من إِسْتَبرق؛ وكان طول السرير ثلاثين ذراعًا وعرضه عشرة أذرع، عليه ثلاثون فراشًا وستون مِرْفَقة، ثم أمره أن يخرج، فخرج متوّجًا، لونه كالثلج، ووجهه كالقمر؛ يرى الناظر وجهه من صفاء لون وجهه، فجلس على السرير ودانت له الملوك، ودخل الملك بيته مع نسائه، وفوّض إليه أمر مصر، وعزل قطفير عما كان عليه وجعل يوسف مكانه.
قال ابن زيد: كان لفرعون ملك مصر خزائن كثيرة غير الطعام، فسلّم سلطانه كلّه إليه، وهلك قطفير تلك الليالي، فزوّج الملك يوسف راعيل امرأة العزيز، فلما دخل عليها قال: أليس هذا خيرًا مما كنت تريدين؟ا فقالت: أيها الصدّيق لا تلمني؛ فإني كنت امرأة حسناء ناعمة كما ترى، وكان صاحبي لا يأتي النساء، وكنتَ كما جعلك الله من الحسن فغلبتني نفسي.
فوجدها يوسف عذراء فأصابها فولدت له رجلين: إفراثيم بن يوسف، ومنشا بن يوسف.
وقال وهب بن منَبّه: إنما كان تزويجه زليخاء امرأة العزيز بين دخلتي الإخوة، وذلك أن زليخاء مات زوجها ويوسف في السجن، وذهب مالها وعمي بصرها بكاء على يوسف، فصارت تَتَكفّف الناس؛ فمنهم من يرحمها ومنهم من لا يرحمها، وكان يوسف يركب في كل أسبوع مرة في موكب زُهَاء مائة ألف من عظماء قومه، فقيل لها: لو تعرّضت له لعله يسعفك بشيء؛ ثم قيل لها: لا تفعلي، فربما ذكربعض ما كان منك من المراودة والسجن فيسيء إليك، فقالت: أنا أعلم بخُلُق حبيبي منكم، ثم تركته حتى إذا ركب في موكبه، (قامت) فنادت بأعلى صوتها: سبحان من جعل الملوك عبيدًا بمعصيتهم، وجعل العبيد ملوكًا بطاعتهم، فقال يوسف: ما هذه؟ فأتوا بها؛ فقالت: أنا التي كنت أخدمك على صدور قدميّ، وأُرَجِّل جُمَّتك بيديّ، وتربيت في بيتي، وأكرمت مثواك، لكن فرط ما فرط من جهلي وعُتوّي فذقت وبال أمري، فذهب مالي، وتضعضع ركني، وطال ذلّي، وعَمِي بصري، وبعد ما كنت مغبوطة أهل مصر صرت مرحومتهم، أتكفّف الناس، فمنهم من يرحمني، ومنهم من لا يرحمني، وهذا جزاء المفسدين؛ فبكى يوسف بكاء شديدًا، ثم قال لها: هل بقيت تجدين مما كان في نفسك من حبك لي شيئًا؟ فقالت: والله لنظرة إلى وجهك أحب إليّ من الدنيا بحذافيرها، لكن ناولني صدر سوطك، فناولها فوضعته على صدرها، فوجد للسوط في يده اضطرابا وارتعاشًا من خفقان قلبها، فبكى ثم مضى إلى منزله فأرسل إليها رسولًا: إن كنتِ أَيِّمًا تزوّجناك، وإن كنتِ ذات بعل أغنيناك، فقالت للرّسول: أعوذ بالله أن يستهزئ بي الملك! لم يُردْني أيام شبابي وغناي ومالي وعزّي أفيريدني اليوم وأنا عجوز عمياء فقيرة؟ا فأعلمه الرسول بمقالتها، فلما ركب في الأسبوع الثاني تعرّضت له، فقال لها: ألم يبلّغك الرسول؟ فقالت: قد أخبرتك أن نظرة واحدة إلى وجهك أحبّ إليّ من الدنيا وما فيها؛ فأمر بها فأصلح من شأنها وهُيئت، ثم زُفّت إليه، فقام يوسف يصلّي ويدعو الله، وقامت وراءه، فسأل الله تعالى أن يعيد إليها شبابها وجمالها وبصرها، فردّ الله عليها شبابها وجمالها وبصرها حتى عادت أحسن ما كانت يوم راودته، إكرامًا ليوسف عليه السلام لمّا عَفَّ عن محارم الله، فأصابها فإذا هي عذراء، فسألها؛ فقالت: يا نبيّ الله إن زوجي كان عِنِّينًا لا يأتي النساء، وكنت أنت من الحسن والجمال بما لا يوصف؛ قال: فعاشا في خَفْض عيش، في كل يوم يجدّد الله لهما خيرًا، وولدت له ولدين، إفراثيم ومنشا.