فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقد أوضحه الرازي بقوله: قال أبو هاشم وأبو القاسم البلخي: إنه لا يمتنع أن تكون العين حقًا، ويكون معناه: أن صاحب العين إذا شاهد الشيء وأعجب به استحسانًا كان المصلحة له في تكليفه أن يغير الله ذلك الشخص، وذلك الشيء، حتى لا يبقى قلب ذلك المكلف متعلقًا به، فهذا المعنى غير ممتنع. ثم لا يبعد أيضًا أنه لو ذكر ربه عند تلك الحالة، وعدل عن الإعجاب، وسأل ربه أن يقيه ذلك، فعنده تتعين المصلحة. ولما كانت هذه العادة مطردة، لا جرم قيل: العين حق. انتهى.
أقول: وقد بسط الإمام ابن القيم في زاد المعاد هذا البحث بما يشفي ويكفي، في بحث هديه صلى الله عليه وسلم في علاج العين بعد إيراده ما روي في الصحيحين وغيرهما من حقية العين، وشهرة تأثيرها عند العرب، قال:
فأبطلت طائفة ممن قل نصيبهم من السمع والعقل، أمر العين، وقالوا: إنما ذلك أوهام لا حقيقة لها، وهؤلاء من أجهل الناس بالسمع والعقل، ومن أغلظهم حجابًا، وأكثفهم طباعًا، وأبعدهم عن معرفة الأرواح والنفوس، وصفاتها وأفعالها وتأثيراتها. وعقلاء الأمم على اختلاف مللهم ونحلهم لا يدفع أمر العين ولا ينكره، وإن اختلفوا في سببه، وجهة تأثير العين. فقالت طائفة: إن العائن إذا تكيفت نفسه بالكيفية الردية، انبعثت من عينه قوة سمية تتصل بالمعين فيتضرر. قالوا: ولا يستنكر هذا، كما لا يستنكر انبعاث قوة سمية من الأفعى تتصل بالإنسان فيهلك، وهذا أمر قد اشتهر عن نوع من الأفاعي أنها إذا وقع بصرها على الإنسان هلك، فكذلك العائن.
وقالت فرقة أخرى: لا يستبعد أن ينبعث من عين بعض الناس جواهر لطيفة، غير مرئية، فتتصل بالمعين، وتتخلل مسام جسمه، فيحصل له الضرر.
وقالت فرقة أخرى: قد أجرى الله العادة بخلق ما يشاء من الضرر عند مقابلة عين العائن لمن يعينه، من غير أن يكون منه قوة ولا سبب ولا تأثير أصلًا. وهذا مذهب منكري الأسباب والقوى والتأثيرات في العالم. وهؤلاء قد سدوا على أنفسهم باب العلل والتأثيرات والأسباب، وخالفوا العقلاء أجمعين. ولا ريب أن الله سبحانه خلق في الأجسام والأرواح قوى وطبائع مختلفة، وجعل في كثير منها خواص وكيفيات مؤثرة، ولا يمكن للعاقل إنكار تأثير الأرواح في الأجسام، فإنه أمر مشاهد محسوس. وأنت ترى الوجه كيف يحمر حمرة شديدة إذا نظر إليه من يحتشمه ويستحيي منه، ويصفر صفرة شديدة عند نظر من يخافه إليه. وقد شاهد الناس من يسقم من النظر، وتضعف قواه، وهذا كله بواسطة تأثير الأرواح، ولشدة ارتباطها بالعين ينسب الفعل إليها، وليست هي الفاعلة، وإنما التأثير للروح، والأرواح مختلفة في طبائعها وقواها وكيفياتها وخواصها، فروح الحاسد مؤذية للمحسود أذى بينًا، ولهذا أمر الله سبحانه رسوله أن يستعيذ به من شره. وتأثير الحاسد في أذى المحسود أمر لا ينكره إلا من هو خارج عن حقيقة الإنسانية، وهو أصل الإصابة بالعين، فإن النفس الخبيثة الحاسدة تتكيف بكيفية خبيثة تقابل المحسود فتؤثر فيه بتلك الخاصية. وأشبه الأشياء بهذا الأفعى، فإن السم كامن فيها بالقوة، فإذا قابلت عدوها انبعث منها قوة غضبية، وتكيفت نفسها بكيفية خبيثة مؤذية، فمنها ما تشتد كيفيتها وتقوى حتى تؤثر في إسقاط الجنين، ومنها ما يؤثر في طمس البصر. كما قال صلى الله عليه وسلم في الأبتر وذي الطفيتين من الحيات: «إنهما يلتمسان البصر، ويسقطان الحبل». ومنها ما يؤثر في الإنسان كيفيتها بمجرد الرؤية من غير اتصال به، لشدة خبث تلك النفس، وكيفيتها الخبيثة المؤثرة. والتأثير غير موقوف على الاتصالات الجسمية، كما يظنه من قل علمه ومعرفته بالطبيعة والشريعة، بل التأثير يكون تارة بالاتصال، وتارة بالمقابلة، وتارة بالرؤية وتارة بتوجه الروح نحو من يؤثر فيه، وتارة بالأدعية والرقي والتعوذات، وتارة بالوهم والتخيل. ونفس العائن لا يتوقف تأثيرها على الرؤية، بل قد يكون أعمى فيوصف له الشيء، فتؤثر نفسه فيه وإن لم يره. وكثير من العائنين يؤثر في المعين بالوصف من غير رؤية، وقد قال الله تعالى لنبيه: {وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ} [القلم: من الآية 51]، وقال: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ مِن شَرِّ مَا خَلَقَ وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} [الفلق: 1- 5]، فكل عائن حاسد، وليس كل حاسد عائنًا. فلما كان الحاسد أعم من العائن، كانت الاستعاذة منه استعاذة من العائن، وهي سهام تخرج من نفس الحاسد والعين نحو المحسود والمعين، تصيبه العين تارة، وتخطئه تارة، فإن صادفته مكشوفًا لا وقاية عليه أثرت فيه، ولابد، وإن صادفته حذرًا، شاكي السلاح، لا منفذ فيه للسهام لم تؤثر فيه، وربما ردت السهام على صاحبها. وهذا بمثابة الرمي الحسي سواء، فهذا من النفوس والأرواح، وهذا من الأجسام والأشباح. وأصله من إعجاب العائن بالشيء، ثم يتبعه كيفية نفسه الخبيثة، ثم تستعين على تنفيذ سمها بنظرة إلى المعين. وقد يعين الرجل نفسه، وقد يعين بغير إرادته، بل بطبعه. وهذا أردأ ما يكون من النوع الإنساني. وقد قال أصحابنا وغيرهم من الفقهاء: إن من عُرف بذلك، حبسه الإمام، وأجرى له ما ينفق عليه إلى الموت. وهذا هو الصواب قطعًا، انتهى كلام ابن القيم، عليه الرحمة.
وقال الرازي: ليس من شرط المؤثر أن يكون تأثره بحسب الكيفيات المحسوسة، أعني الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة، بل قد يكون التأثير نفسانيًا محضًا، ولا يكون للقوى الجسمانية بها تعلق، والذي يدل عليه أن اللوح الذي يكون قليل العرض، إذا كان موضوعًا على الأرض قدر الإنسان على المشي عليه، ولو كان موضوعًا فيما بين جدارين عاليين لعجز الإنسان عن المشي عليه. وما ذاك إلا لأن خوفه من السقوط منه يوجب سقوطه، فعلمنا أن التأثرات النفسانية موجودة.
وأيضًا إن الإنسان إذا تصور كون فلان مؤذيًا له، حصل في قلبه غضب، ويسخن مزاجه جدًا، فمبدأ تلك السخونة ليس إلا لذلك التصور النفساني، ولأن مبدأ الحركات البدنية ليس إلا التصورات النفسانية، فلما ثبت أن تصور النفس يوجب تغير بدنه الخاص، لم يبعد أيضًا أن يكون بعض النفوس بحيث تتعدى تأثيراتها إلى سائر الأبدان، فثبت أنه لا يمتنع في العقل كون النفس مؤثرة في سائر الأبدان. وأيضًا جواهر النفوس مختلفة بالماهية، فلا يمتنع أن يكون بعض النفوس بحيث يؤثر في تغيير بدن حيوان آخر بشرط أن يراه، ويتعجب منه. فثبت أن هذا المعنى أمر محتمل، والتجارب من الزمن الأقدم ساعدت عليه، والنفوس النبوية نطقت به، فعنده لا يبقى في وقوعه شك. وإذا ثبت هذا، ثبت أن الذي أطبق عليه المتقدمون من المفسرين في تفسير هذه الآية بإصابة العين، كلام حق، لا يمكن رده. انتهى. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ}
{وقال يا بني} عطف على جملة: {قال الله على ما نقول وكيل} [يوسف: 66].
وإعادة فعل: {قال} للإشارة إلى اختلاف زمن القولين وإن كانا معًا مسبّبَيْن على إيتاء موثقهم، لأنه اطمأن لرعايتهم ابنَه وظهرت له المصلحة في سفرهم للإمتار، فقوله: {يا بني لا تدخلوا من باب واحد} صادر في وقت إزمَاعهم الرحيل.
والمقصود من حكاية قوله هذا العبرة بقوله: {وما أغني عنكم من الله من شيء} إلخ.
والأبواب: أبواب المدينة.
وتقدم ذكر الباب آنفًا.
وكانت مدينة (منفيس) من أعظم مدن العالم فهي ذات أبواب.
وإنما نهاهم أن يدخلوها من باب واحد خشية أن يسترعي عددهم أبصارَ أهل المدينة وحُراسها وأزياؤهم أزياء الغرباء عن أهل المدينة أن يُوجسوا منهم خيفة من تجسس أو سرقة فربما سجنوهم أو رصدوا الأعين إليهم، فيكون ذلك ضرًّا لهم وحائلًا دون سرعة وصولهم إلى يوسف عليه السلام ودون قضاء حاجتهم.
وقد قيل في الحكمة: استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان.
ولما كان شأن إقامة الحراس والأرصاد أن تكون على أبواب المدينة اقتصر على تحذيرهم من الدخول من باب واحد دون أن يحذرهم من المشي في سكة واحدة من سكك المدينة، ووثق بأنهم عارفون بسكك المدينة فلم يخش ضلالهم فيها، وعلم أن (بنيامِين) يكون في صحبة أحد إخوته لئلا يضل في المدينة.
والمتفرقة أراد بها المتعددة لأنه جعلها في مقابلة الواحد.
ووجه العدول عن المتعددة إلى المتفرقة الإيماء إلى علة الأمر وهي إخفاء كونهم جماعة واحدة.
وجملة: {وما أغني عنكم من الله من شيء} معترضة في آخر الكلام، أي وما أغني عنكم بوصيتي هذه شيئًا.
و{من الله} متعلق بـ: {أغني}، أي لا يكون ما أمرتكم به مُغنيًا غَنَاء مبتدِئًا من عند الله بل هو الأدب والوقوف عندما أمر الله، فإنْ صادف ما قدره فقد حصل فائدتان، وإن خالف ما قَدّره حصلت فائدة امتثال أوامره واقتناع النفس بعدم التفريط.
وتقدم وجه تركيب: {وما أغني عنكم من الله من شيء} عند قوله تعالى: {ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئًا} في سورة العقود (41).
وأراد بهذا تعليمهم الاعتماد على توفيق الله ولطفه مع الأخذ بالأسباب المعتادة الظاهرة تأدبًا مع واضع الأسباب ومقدّر الألطاف في رعاية الحالين، لأنا لا نستطيع أن نطلع على مراد الله في الأعمال فعلينا أن نتعرفها بعلاماتها ولا يكون ذلك إلا بالسعي لها.
وهذا سرّ مسألة القدر كما أشار إليه قول النبي اعمَلوا فكلٌ ميسّر لما خلق له، وفي الأثر إذا أراد الله أمرًا يَسّر أسبابه قال الله تعالى: {ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورًا} [سورة الإسراء: 19].
ذلك أن شأن الأسباب أن تحصُل عندها مسبباتها.
وقد يتخلف ذلك بمعارضة أسباب أخرى مضادة لتلك الأسباب حاصلة في وقت واحد، أو لكون السبب الواحد قد يكون سببًا لأشياء متضادة باعتبارات فيخطئ تعَاطي السبب في مصادفة المسبّب المقصود، ولولا نظام الأسباب ومراعاتها لصار المجتمع البشري هملًا وهمجًا.
والإغناء: هنا مشتق من الغَناء بفتح الغين وبالمدّ، وهو الإجزاء والاضطلاع وكفاية المهم، وأصله مرادف الغِنى بكسر الغين والقصر وهما معًا ضد الفقر، وكثر استعمال الغناء المفتوح الممدود في الإجزاء والكفاية على سبيل المجاز المرسل لأن من أجزأ وكفى فقد أذهب عن نفسه الحَاجة إلى المغنين وأذهب عمن أجزأ عنه الاحتياج أيضًا، وشاع هذا الاستعمال المجازي حتى غلب على هذا الفعل، فلذلك كثر في الكلام تخصيص الغَناء بالفتح والمد بهذا المعنى، وتخصيص الغِنى بالكسر والقصر في معنى ضد الفقر ونحوه حتى صار الغَناء الممدود لا يكاد يسمع في معنى ضد الفقر.
وهي تفرقة حسنة من دقائق استعمالهم في تصاريف المترادفات.
فما يوجد في كلام ابن بري من قوله: إن الغناء مصدر ناشئ عن فعل أغنى المهموز بحذف الزائد الموهم أنه لا فِعل له مجرّد فإنما عَنى به أن استعمال فِعل غَنِيَ في هذا المعنى المجازي متروك مُمات لا أنه ليس له فعل مجرد.
ولذلك فمعنى فعل (أغنى) بهذا الاستعمال معنى الأفعال القاصرة، ولم يفده الهمز تعديةً، فلعل همزته دالة على الصيرورة ذا غنى، فلذلك كان حقه أن لا ينصب المفعول به بل يكون في الغالب مرادفًا لِمفعول مطلق كقول عمرو بن معديكرب:
أُغْني غَناء الذاهب ** ين أُعَدُّ للحدثان عَدّا

ويقولون: أغنى فلان عن فلان، أي في أجزاه عوضه وقام مقامه، ويأتون بمنصوب فهو تركيب غريب، فإن حرف (عن) فيه للبدلية وهي المجاوزة المجازية.
جعل الشيء البدل عن الشيء مجاوزًا له لأنه حلّ محلّه في حال غيبته فكأنه جاوزه فسموا هذه المجاوزة بدلية وقالوا: إنّ (عن) تجيء للبدلية كما تجيء لها الباء.
فمعنى: {ما أغني عنكم} لا أجزي عنكم، أي لا أكفي بدلًا عن إجزائكم لأنفسكم.
و{من شيء} نائب مناب شيئًا، وزيدت: {من} لتوكيد عموم شيء في سياق النفي، فهو كقوله تعالى: {لا تغني عني شفاعتهم شيئًا} [سورة يس: 23] أي من الضرّ.
وجوز صاحب الكشاف في مثله أن يكون {شيئًا} مفعولًا مطلقًا، أي شيئًا من الغناء وهو الظاهر، فقال في قوله تعالى: {واتقوا يومًا لا تجزي نفس عن نفس شيئًا} [سورة البقرة: 48]، قال: أي قليلًا من الجزاء، كقوله تعالى: {ولا يظلمون شيئًا} لكنه جوز أن يكون: {شيئًا} مفعولًا به وهو لا يستقيم إلا على معنى التوسع بالحذف والإيصال، أي بنزع الخافض.
وجملة: {إن الحكم إلا لله} في موضع التعليل لمضمون: {وما أغني عنكم من الله من شيء}.
والحكم: هنا بمعنى التصرف والتقدير، ومعنى الحصر أنه لا يتم إلا ما أراده الله، كما قال تعالى: {إن الله بالغٌ أمره} [سورة الطلاق: 3].
وليس للعبد أن ينازع مراد الله في نفس الأمر ولكن واجبه أن يتطلب الأمور من أسبابها لأن الله أمر بذلك، وقد جمع هذين المعنيين قوله: {وادخلوا من أبواب متفرقة وما أغني عنكم من الله من شيء}.
وجملة: {عليه توكلت وعليه فليتوكل المتوكلون} في موضع البيان لِجملة: {وما أغني عنكم من الله من شيء} ليبين لهم أن وصيته بأخذ الأسباب مع التنبيه على الاعتماد على الله هو معنى التوكّل الذي يَضل في فهمه كثير من الناس اقتصارًا وإنكارًا، ولذلك أتى بجملة: {وعليه فليتوكل المتوكلون} أمرًا لهم ولغيرهم على معنى أنه واجب الحاضرين والغائبين، وأن مقامه لا يختص بالصدّيقين بل هو واجب كل مؤمن كامل الإيمان لا يخلط إيمانه بأخطاء الجاهليات.
{وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا}
جملة معترضة، والواو اعتراضية.
ودلت: {حيث} على الجهة، أي لمّا دخلوا من الجهات التي أمرهم أبوهم بالدخول منها.
فالجملة التي تضاف إليها: {حيثُ} هي التي تُبين المراد من الجهة.
وقد أغنت جملة: {ولما دخلوا من حيث أمرهم أبوهم} عن جمل كثيرة، وهي أنهم ارتحلوا ودخلوا من حيث أمرهم أبوهم، ولما دخلوا من حيث أمرهم سَلموا مما كان يخافه عليهم.
وما كان دخولهم من حيث أمرهم يُغني عنهم من الله من شيء لوْ قدّر الله أن يحاط بهم، فالكلام إيجاز.
ومعنى: {ما كان يغني عنهم من الله من شيء} أنه ما كان يرد عنهم قضاء الله لولا أن الله قدر سلامتهم.
والاستثناء في قوله: {إلاّ حاجةً} منقطع لأن الحاجة التي في نفس يعقوب عليه السلام ليست بعضًا من الشيء المنفي إغناؤه عنهم من الله، فالتقدير: لكن حاجة في نفس يعقوب عليه السلام قضاها.
والقضاء: الإنفاذ، ومعنى قضاها أنفذها.
يقال: قضى حاجة لنفسه، إذا أنفذ ما أضمره في نفسه، أي نصيحة لأبنائه أداها لهم ولم يدخرها عنهم ليطمئن قلبه بأنه لم يترك شيئًا يظنه نافعًا لهم إلاّ أبلغه إليهم.
والحاجة: الأمر المرغوب فيه.
سمي حاجة لأنه محتاج إليه، فهي من التسمية باسم المصدر.
والحاجة التي في نفس يعقوب عليه السلام هي حرصه على تنبيههم للأخطار التي تعرض لأمثالهم في مثل هذه الرحلة إذا دخلوا من باب واحد، وتعليمُهم الأخذ بالأسباب مع التوكل على الله.
وجملة: {وإنه لذو علم لما علمناه} معترضة بين جملة: {ولما دخلوا من حيث أمرهم أبوهم} الخ وبين جملة: {ولكن أكثر الناس لا يعلمون}.
وهو ثناء على يعقوب عليه السلام بالعلم والتدبير، وأنّ ما أسْداه من النصح لهم هو من العلم الذي آتاه الله وهو من علم النبوءة.
وقوله: {ولكن أكثر الناس لا يعلمون} استدراك نشأ عن جملة: {ولما دخلوا من حيث أمرهم أبوهم} إلخ.
والمعنى أن الله أمر يعقوب عليه السلام بأخذ أسباب الاحتياط والنصيحة مع علمه بأن ذلك لا يغني عنهم من الله من شيء قدره لهم، فإن مراد الله تعالى خفيّ عن الناس، وقد أمر بسلوك الأسباب المعتادة، وعَلِم يعقوب عليه السلام ذلك، ولكن أكثر الناس لا يعلمون تطلب الأمرين فيهملون أحدهما، فمنهم من يهمل معرفة أن الأسباب الظاهرية لا تدفع أمرًا قَدّره الله وَعَلِم أنه واقع، ومنهم من يهمل الأسباب وهو لا يعلم أن الله أراد في بعض الأحوال عدم تأثيرها.
وقد دلّ: {وإنه لذو علم لما علمناه} بصريحه على أن يعقوب عليه السلام عمل بما علّمه الله، ودلّ قوله: {ولكن أكثر الناس لا يعلمون} بتعريضه على أن يعقوب عليه السلام من القليل من الناس الذين علموا مراعاة الأمرين ليتقرر الثناء على يعقوب عليه السلام باستفادته من الكلام مرتين: مرة بالصراحة ومرة بالاستدراك.
والمعنى: أن أكثر الناس في جهالة عن وضع هاته الحقائق موضعها ولا يخلون عن مُضيع لإحداهما، ويفسر هذا المعنى قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه لمّا أمر المسلمين بالقفول عن عَمواس لَمّا بلغه ظهور الطاعون بها وقال له أبو عبيدة: أفرارًا من قدر الله فقال عمر رضي الله عنه: لو غَيْرُك قالها يا أبَا عبيدة ألسنا نفرّ من قدر الله إلى قدر الله... إلى آخر الخبر. اهـ.