فصل: قال أبو حيان:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



الثالث: يحتمل أن يكون المنادي ربما قال ذلك النداء على سبيل الاستفهام وعلى هذا التقدير لا يكون كذبًا.
الرابع: ليس في القرآن ما يدل على أنهم قالوا ذلك بأمر يوسف وهو الأقرب إلى ظاهر الحال لأنهم طلبوا السقاية فلم يجدوها ولم يكن هناك أحد غيرهم وغلب على ظنهم أنهم هم الذين أخذوها فقالوا ذلك بناء على غلبة ظنهم: {قالوا وأقبلوا عليهم ماذا تفقدون} قال أصحاب الأخبار لما وصل الرسل إلى إخوة يوسف قالوا لهم ألم نكرمكم ونحسن ضيافتكم ونوف إليكم الكيل ونفعل بكم ما لم نفعل بغيركم قالوا بلى وما ذاك قالوا فقدنا سقاية الملك ولا نتهم عليها غيركم فذلك قوله تعالى: {قالوا وأقبلوا عليهم} أي عطفوا على المؤذن وأصحابه {ماذا} أي ما الذي {تفقدون} والفقدان ضد الوجود: {قالوا} يعني المؤذن وأصحابه: {نفقد صواع الملك} الصاع الإناء الذي يكال به وجمعه أصوع والصواع لغة فيه وجمعه صيعان: {ولمن جاء به} يعني بالصواع: {حمل بعير} يعني من الطعام: {وأنا به زعيم} أي كفيل قال الكلبي الزعيم هو الكفيل بلسان أهل اليمن وهذه الآية تدل على أن الكفالة كانت صحيحة في شرعهم وقد حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بها في قوله «الحميل غارم» والحميل الكفيل.
فإن قلت كيف تصح هذه الكفالة مع أن السارق لا يستحق شيئًا.
قلت لم يكونوا سراقًا في الحقيقة فيحمل ذلك على مثل رد الضائع فيكون جعالة أو لعل مثل هذه الكفالة كانت جائزة عندهم في ذلك الزمان فيحمل عليه: {قالوا} يعني إخوة يوسف: {تالله} التاء بدل من الواو ولا تدخل إلا على اسم الله في اليمين خاصة تقديره والله: {لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض وما كنا مسرفين} قال المفسرون: إن أخوة يوسف حلفوا على أمرين:
أحدهما: أنهم ما جاؤوا لأجل الفساد في الأرض والثاني أنهم ما جاؤوا سارقين وإنما قالوا هذه المقالة لأنه كان قد ظهر من أحوالهم ما يدل على صدقهم وهو أنهم كانوا مواظبين على أنواع الخير والطاعة والبر حتى بلغ من أمرهم أنهم شدوا أفواه دوابهم لئلا تؤذي زرع الناس ومن كانت هذه صفته فالفساد في حقه ممتنع.
وأما الثاني: وهو أنهم ما كانوا سارقين فلأنهم قد كانوا ردوا البضاعة التي وجدوها في رحالهم ولم يستحلوا أخذها ومن كانت هذه صفته فليس بسارق فلأجل ذلك قالوا لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض وما كنا سارقين فلما تبينت براءتهم من هذه التهمة: {قالوا} يعني أصحاب يوسف وهو المنادي وأصحابه: {فما جزاؤه إن كنتم كاذبين} يعني فما جزاء السارق إن كنتم كاذبين في قولكم ما جئنا لنفسد في الأرض وما كنا سارقين.
{قالوا} يعني إخوة يوسف: {جزاؤه من وجد في رحله} يعني جزاء السارق الذي وجد في رحله أن يسلم برقبته إلى المسروق منه فيسترقه سنة وكان ذلك سنة آل يعقوب في حكم السارق وكان في حكم ملك مصر أن يضرب السارق ويغرم ضعفي قيمة المسروق وكان هذا في شرعهم في ذلك الزمان يجري مجرى القطع في شرعنا فأراد يوسف أن يأخذ بحكم أبيه في السارق فلذلك رد الحكم إليهم، والمعنى أن جزاء السارق أن يستعبد سنة جزاء له على جرمه وسرقته: {فهو جزاؤه} يعني هذا الجزاء جزاؤه: {كذلك نجزي الظالمين} يعني مثل هذا الجزاء وهو أن يسترقّ السارق سنة نجزي الظالمين ثم قيل إن هذا الكلام من بقية كلام إخوة يوسف وقيل هو من كلام أصحاب يوسف فعلى هذا إن أخوة يوسف لما قالوا جزاء السارق أن يسترق سنة قال أصحاب يوسف كذلك نجزي الظالمين يعني السارقين. اهـ.

.قال أبو حيان:

{وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آَوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}
العير الإبل التي عليها الأحمال، سميت بذلك لأنها تعير أي تذهب وتجيء.
وقيل: هي قافلة الحمير، ثم كثر حتى قيل لكل قافلة عير، كأنها جمع عير.
وأصلها فعل كسقف، وسقف فعل به ما فعل ببيض وعيد، والعير مؤنث.
وقالوا في الجمع: عيرات، فشذوا في جمعه بالألف والتاء، وفي فتح يائه وقال الشاعر:
غشيت ديار الحي بالبكرات ** فعارمة فبرقة العيرات

قال الأعلم: هنا مواضع الأعيار، وهي الحمير.
الصواع الصاع، وفيه لغات تأتي في القرآن، ويؤنث ويذكر.
{ولما دخلوا على يوسف آوى إليه أخاه قال إني أنا أخوك فلا تبتئس بما كانوا يعملون فلما جهزهم بجهازهم جعل السقاية في رحل أخيه ثم أذن مؤذن أيتها العير إنكم لسارقون قالوا وأقبلوا عليهم ماذا تفقدون قالوا نفقد صواع الملك ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم قالوا تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض وما كنا سارقين قالوا فما جزاؤه إن كنتم كاذبين قالوا جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه كذلك نجزي الظالمين}: روي أنهم قالوا له: هذا أخونا قد جئناك به، فقال: أحسنتم وأصبتم، وستجدون ذلك عندي، فأنزلهم وأكرمهم، ثم أضافهم، وأجلس كل اثنين منهم على مائدة، فبقي بنيامين وحده فبكى وقال: لو كان أخي يوسف حيًا لأجلسني معه.
فقال يوسف: بقي أخوكم وحيدًا، فأجلسه معه على مائدته، وجعل يؤاكلهم وقال: أنتم عشرة، فلينزل كل اثنين منكم بيتًا، وهذا لا ثاني له فيكون معي، فبات يوسف يضمه إليه ويشم رائحته حتى أصبح، وسأله عن ولده فقال: لي عشرة بنين اشتققت أسماءهم من اسم أخ لي هلك، فقال له: أتحب أنْ أكون أخاك بدل أخيك الهالك؟ قال: من يجد أخا مثلك، ولكن لم يلدك يعقوب ولا راحيل، فبكى يوسف وقام إليه وعانقه وقال له: أنا أخوك يوسف فلا تبتئس، فلا تحزن بما كانوا يعملون بنا فيما مضى، فإن الله قد أحسن إلينا وجمعنا على خير، ولا تعلمهم بما أعلمتك.
وعن ابن عباس: تعرف إليه أنه أخوه، وهو الظاهر.
وهو قول ابن إسحاق وغيره، أعلمه أنه أخوه حقيقة واستكتمه، وقال له: لا تبالي بكل ما تراه من المكروه في تحيلي في أخذك منهم.
قال ابن عطية: وعلى هذا التأويل يحتمل أن يشير بقوله: بما كانوا يعملون إلى ما يعمله فتيان يوسف من أمر السقاية ونحو ذلك انتهى.
ولا يحتمل ذلك لأنه لو كان التركيب بما يعملون بغير كانوا، لأمكن على بعده، لأن الكلام إنما هو مع أخوة يوسف.
وأما ذكر فتيانه فبعيد جدًا، لأنهم لم يتقدم لهم ذكر إلا في قوله: وقال لفتيانه، وقد حال بينهما قصص.
واتسق الكلام مع الأخوة اتساقًا لا ينبغي أن يعدل عن الضمير عائد إليهم، وأن ذلك إشارة إلى ما كان يلقى منهم قديمًا من الأذى، إذ قد أمن من ذلك باجتماعه بأخيه يوسف.
وقال وهب: إنما أخبر أنه أخوه في الود مقام أخيه الذاهب، ولم يكشف إليه الأمر، بل تركه تجوز عليه الحيلة كسائر إخوته.
والظاهر أنّ الذي جعل السقاية في رحل أخيه هو يوسف، ويظهر من حيث كونه ملكًا أنه لم يباشر ذلك بنفسه، بل جعل غيره من فتيانه، أو غيرهم أن يجعلها.
وتقدم قول وهب: إنه لم يكشف له أنه أخوه، وأنه تركه تجوز عليه الحيلة.
وروي أنه قال ليوسف: أنا لا أفارقك قال: قد علمت اغتمام والدي، فإذا حبستك ازداد غمه، ولا سبيل إلى ذلك إلا أن أنسبك إلى ما لا يحمل.
قال: لا أبالي، فافعل ما بدا لك.
قال: فإني أدس صاعي في رحلك، ثم أنادي عليك بأنك سرقته ليتهيأ لي ردّك بعد تسريحك معهم، قال: فافعل.
وقرأ عبد الله فيما نقل الزمخشري: {وجعل السقاية في رحل أخيه}، أمهلهم حتى انطلقوا، ثم أذن.
وفي نقل ابن عطية وجعل السقاية بزيادة واو في جعل دون الزيادة التي زادها الزمخشري بعد قوله: في رحل أخيه، فاحتمل أن تكون الواو زائدة على مذهب الكوفيين، واحتمل أن يكون جواب لما محذوفًا تقديره: فقدها حافظها كما قيل: إنما أوحى إلى يوسف أن يجعل السقاية فقط، ثم إن حافظها فقدها، فنادى برأيه على ما ظهر له، ورجحه الطبري.
وتفتيش الأوعية يرد هذا القول، والذي يظهر أنّ تأذين المؤذن كان عن أمر يوسف.
وقال السدي: كان هذا الجعل من غير علم من بنيامين، وما تقدم يدل على أنه كان بعلم منه.
وقال الجمهور: وابن عمر، وابن عباس، والحسن، ومجاهد، والضحاك، وابن زيد: السقاية إناء يشرب به الملك، وبه كان يكال الطعام للناس.
وقيل: كان يسقى بها الملك ثم جعلت صاعًا يكال به، وقيل: كانت الدواب تسقى بها ويكال بها.
وقال ابن جبير: الصواع هو مثل المكوك الفارسي، وكان إناء يوسف الذي يشرب فيه، وكان إلى الطول ماهر.
قال: وحدثني ابن عباس أنه كان للعباس مثله يشرب به في الجاهلية.
وقال ابن جبير أيضًا: الصواع المكوك الفارسي الذي يلتقي طرفاه.
كانت تشرب به الأعاجم.
والسقاية من فضة أو ذهب أو فضة مموهة بالذهب، أو نحاس، أو مسك، أو كانت مرصعة بالجواهر أقوال أولها للجمهور، ولعزة الطعام في تلك الأعوام قصر كيله على ذلك الإناء.
ثم أذن مؤذن أي: نادى مناد، أذن: أعلم.
وآذن أكثر الإعلام، ومنه المؤذن لكثرة ذلك منه.
وثم تقتضي مهلة بين جعل السقاية والتأذين، فروي أنه لما فصلت العير بأوقارها وخرجوا من مصر أدركوا وقيل لهم ذلك.
وقيل: قبل الخروج من مصر أمر بهم فحبسوا، وأذن مؤذن.
والظاهر وقول الجمهور: إن العير الإبل.
وقال مجاهد: كانت دوابهم حميرًا، ومناداة العير والمراد أصحابها كقوله: «يا خيل الله اركبي»، ولذلك جاء الخطاب: إنكم لسارقون، فروعي المحذوف، ولم يراع العير كما روعي في اركبي.
وفي قوله: والعير التي أقبلنا فيها.
ويجوز أن تطلق العير على القافلة، أو الرفقة، فلا يكون من مجاز الحذف: والذي يظهر أن هذا التحيل، ورمى أبرياء السرقة، وإدخال الهم على يعقوب، بوحي من الله.
لما علم تعالى في ذلك من الصلاح، ولما أراد من محنتهم بذلك.
ويقويه قوله: كذلك كدنا ليوسف.
وقيل: لما كانوا باعوا يوسف استجيز أن يقال لهم هذا، ونسبة السرقة إليهم جميعًا: وإن كان الصواع إنما وجد في رحل واحد منهم كما تقول: بنو فلان فتلوا فلانًا، والقاتل واحد منهم.
قالوا: أي إخوة يوسف، وأقبلوا جملة حالية أي: وقد أقبلوا عليهم، أي: على طالبي السقاية، أو على المؤذن إنْ كان أريد به جمع.
كأنه جعل مؤذنين ينادون، وساءهم أن يرموا بهذه المثلبة وقالوا: ماذا تفقدون؟ ليقع التفتيش فتظهر براءتهم، ولم يلوذوا بالإنكار من أول، بل سألوا كمال الدعوى رجاء أن يكون فيها ما تبطل به فلا يحتاج إلى خصام.
واحتمل أن يكون ماذا استفهامًا في موضع نصب بتفقدون، ويحتمل أن يكون ما وحدها استفهامًا مبتدأ، وذا موصولة بمعنى الذي خبر عن ما، وتفقدون صلة لذا، والعائد محذوف أي: تفقدونه.
وقرأ السلمي {تفقدون} بضم التاء من أفقدته إذا وجدته فقيدًا نحو: أحمدته إذا أصبته محمودًا.
وضعف هذه القراءة أبو حاتم، وجهها ما ذكرناه.
وصواع الملك هو المكيال، وهو السقاية سماه أولًا بإحدى جهتيه، وآخرًا بالثانية.
وقرأ الجمهور {صواع} بضم الصاد، بعدها واو مفتوحة، بعدها ألف، بعدها عين مهملة.
وقرأ أبو حيوة، والحسن، وابن جبير فيما نقل ابن عطية كذلك، إلا أنه كسر الصاد.
وقرأ أبو هريرة، ومجاهد: {صاع} بغير واو على وزن فعل، فالألف فيها بدل من الواو المفتوحة.
وقرأ أبو رجاء: صوع على وزن قوس.
وقرأ عبد الله بن عون بن أبي أرطيان: {صوع} بضم الصاد، وكلها لغات في الصاع.
وقرأ الحسن، وابن جبير فيما نقل عنهما صاحب اللوامح: {صواغ} بالغين المعجمة على وزن غراب.
وقرأ يحيى بن يعمر كذلك، إلا أنه يحذف الألف ويسكن الواو.
وقرأ زيد بن علي: {صوغ} مصدر صاغ، وصواغ صوغ مشتقان من الصوغ مصدر صاغ يصوغ، أقيما مقام المفعول بمعنى مصوغ الملك.
{ولمن جاء به} أي: ولمن دل على سارقه وفضحه، وهذا جعل وأنا به زعيم من كلام المؤذن.
وأنا بحمل البعير كفيل أؤديه إلى ما جاء به، وأراد به وسق بعير من طعام جعلًا لمن حصله.
قالوا: تالله أقسموا بالتاء من حروف القسم، لأنها تكون فيها التعجب غالبًا كأنهم عجبوا من رميهم بهذا الأمر.
وروي أنهم ردوا البضاعة التي وجدوها في الطعام وتحرجوا من أكل الطعام بلا ثمن، وكانوا قد اشتهروا بمصر بصلاح، وكانوا يجعلون الأكمة في أفواه إبلهم لئلا تنال زروع الناس، فأقسموا على إثبات شيء قد علموه منهم، وهو أنكم قد علمتم أن مجيئنا لم يكن لفساد، ثم استأنفوا الإخبار عن نفي صفة السرقة عنهم، وأن ذلك لم يوجد منهم قط.
ويحتمل أن يكون في حيز جواب القسم، فيكون معطوفًا على قوله: لقد علمتم.
قال ابن عطية: والتاء في تالله بدل من واو، كما أبدلت في تراث، وفي التوراة، والتخمة، ولا تدخل التاء في القسم إلا في المكتوبة من بين أسماء الله تعالى وغير ذلك لا تقول: تالرحمن، ولا تالرحيم انتهى.
أما قوله: والتاء في تالله بدل من واو، فهو قول أكثر النحويين.
وخالفهم السهيلي فزعم أنها أصل بنفسها وليست بدلًا من واو، وهو الصحيح على ما قررناه في النحو.
وأما قوله: وفي التوراة فعلى مذهب البصريين إذ زعموا أنّ الأصل ورواة من ورى الزند.
ومن النحويين من زعم أن التاء زائدة، وذلك مذكور في النحو.
وأما قوله: ولا تدخل إلى آخره فقد حكي عن العرب دخولها على الرب، وعلى الرحمن، وعلى حياتك، قالوا: ترب الكعبة، وتالرحمن، وتحياتك.
والخطاب في لقد علمتم لطالبي الصواع، والضمير في جزاؤه عائد على السارق.
فما جزاء السارق إن كنتم كاذبين في قولكم: وما كنا سارقين له؟ قاله ابن عطية.
وقال الزمخشري: فما جزاؤه الضمير للصواع أي: فما جزاء سرقته إن كنتم كاذبين في جحودكم وادعائكم البراءة منه انتهى.
وقوله: هو الظاهر لاتحاد الضمائر في قوله: قالوا جزاؤه من وجد في رحله، إذ التقدير إذ ذاك قال: جزاء الصاع، أي: سرقته من وجد الصاع في رحله.