فصل: قال النسفي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قوله تعالى: {بما كانوا يعملون} فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أنهم كانوا يعيِّرون يوسف وأخاه بعبادة جدِّهما أبي أُمهما للأصنام، فقال: لا تبتئس بما كانوا يعملون من التعيير لنا، روى هذا المعنى أبو صالح عن ابن عباس.
والثاني: لا تحزن بما سيعملون بعد هذا الوقت حين يسرِّقونك، فتكون {كانوا} بمعنى يكونون قال الشاعر:
فَأَدْرَكْتُ مَنْ قَدْ كَانَ قَبْلي وَلَمْ أَدَعْ ** لِمَنْ كَانَ بَعْدِي في القَصَائِد مَصْنَعَا

وقال آخر:
وانْضَحْ جَوانِبَ قَبْرِهِ بِدِمَائِهَا ** فَلَقَدْ يَكُونُ أَخَا دَمٍ وَذَبَائِحِ

أراد: فقد كان، وهذا مذهب مقاتل.
والثالث: لا تحزن بما عملوا من حسدنا، وحرصوا على صرف وجه أبينا عنّا، وإِلى هذا المعنى ذهب ابن إِسحاق.
قوله تعالى: {فلما جهزهم بجهازهم} قال المفسرون: أوفى لهم الكيل، وحمَّل لبنيامين بعيرًا باسمه كما حمَّل لهم، وجعل السقاية في رحل أخيه، وهي الصواع، فهما اسمان واقعان على شيء واحد، كالبُرِّ والحنطة، والمائدة والخُوان.
وقال بعضهم: الاسم الحقيقي: الصواع، والسقاية وصف، كما يقال: كوز، وإِناء، فالاسم الخاص: الكوز.
قال المفسرون: جعل يوسف ذلك الصاع مكيالًا لئلا يُكال بغيره.
وقيل: كال لإِخوته بذلك، إِكرامًا لهم.
قالوا: ولما ارتحل إِخوة يوسف وأمعنوا، أرسل الطلب في أثرهم، فأُدركوا وحبسوا،: {ثم أذَّن مؤذِّن} قال الزجاج: أعلم مُعْلم، يقال: آذنته بالشيء، فهو مؤذن به، أي: أعلمته، وآذنت: أكثرت الإِعلام بالشيء، يعني: أنه إِعلام بعد إِعلام.
{أيتها العير} يريد: أهل العير، فأنث لأنه جعلها للعير.
قال الفراء: لا يقال: عير، إِلا لأصحاب الإِبل.
وقال أبو عبيدة: العير: الإِبل المرحولة المركوبة.
وقال ابن قتيبة: العير: القوم على الإِبل.
فإن قيل: كيف جاز ليوسف أن يُسرِّق من لم يسرق؟ فعنه أربعة أجوبة:
أحدها: أن المعنى: إِنكم لسارقون يوسف حين قطعتموه عن أبيه وطرحتموه في الجب، قاله الزجاج.
والثاني: أن المنادي نادى وهو لا يعلم أن يوسف أمر بوضع السقاية في رحل أخيه، فكان غير كاذب في قوله، قاله ابن جرير.
والثالث: أن المنادي نادى بالتسريق لهم بغير أمر يوسف.
والرابع: أن المعنى: إِنكم لسارقون فيما يظهر لمن لم يعلم حقيقة أخباركم، كقوله: {ذق إِنك أنت العزيز الكريم} [الدخان 49] أي: عند نفسك، لا عندنا، وقولِ النبي صلى الله عليه وسلم: «كذب إِبراهيم ثلاث كَذَبات» أي: قال قولًا يشبه الكذب، وليس به.
قوله تعالى: {قالوا} يعني: إِخوة يوسف: {وأقبوا عليهم} فيه قولان:
أحدهما: على المؤذن وأصحابه.
والثاني: أقبل المنادي ومن معه على إِخوة يوسف بالدعوى.
{ماذا تفقدون} مالذي ضلَّ عنكم؟: {قالوا نفقد صواع الملك} قال الزجاج: الصواع هو الصاع بعينه، وهو يذكّر ويؤنّث، وكذلك الصاع يذكّر ويؤنّث.
وقد قرئ: {صياع} بياء، وقرئ: {صَوْغ} بغين معجمة، وقرئ: {صَوع} بعين غير معجمة مع فتح الصاد، وضمها، وقرأ أبو هريرة: {صاع الملك} وكل هذه لغات ترجع إِلى معنى واحد، إِلا أن الصوغ، بالغين المعجمة، مصدر صغت، وُصف الإِناء به، لأنه كان مصوغًا من ذهب.
واختلفوا في جنسه على خمسة أقوال:
أحدها: أنه كان قدحًا من زبرجد.
والثاني: أنه كان من نحاس، رويا عن ابن عباس.
والثالث: أنه كان شربة من فضة مرصَّعة بالجوهر، قاله عكرمة.
والرابع: كان كأسًا من ذهب، قاله ابن زيد.
والخامس: كان من مِسٍّ، حكاه الزجاج.
وفي صفته قولان:
أحدهما: أنه كان مستطيلًا يشبه المكوك.
والثاني: أنه كان يشبه الطاس.
قوله تعالى: {ولمن جاء به} يعني الصواع: {حمل بعير} من الطعام: {وأنا به زعيم} أي: كفيل لمن ردَّه بالحِمل، يقوله المؤذِّن.
قوله تعالى: {قالوا تالله} قال الزجاج: {تالله} بمعنى: والله، إِلا أن التاء لا يقسم بها إِلا في الله عز وجل.
ولا يجوز: تالرحمن لأفعلن، ولا: تربي لأفعلن.
والتاء تُبدل من الواو، كما قالوا في وُراث: تراث، وقالوا: يتَّزن، وأصله: يوتزن، من الوزن.
قال ابن الأنباري: أبدلت التاء من الواو، كما أبدلت في التخمة والتراث والتُجاه، وأصلهن من الوخمة والوراث والوجاه، لأنهن من الوِخامة والوِراثة والوَجه.
ولا تقول العرب: تالرحمن، كما قالوا: تالله، لأن الاستعمال في الإِقسام كثر بالله، ولم يكن بالرحمن، فجاءت التاء بدلًا من الواو في الموضع الذي يكثر استعماله.
قوله تعالى: {لقد علمتم} يعنون يوسف: {ما جئنا لنفسد في الأرض} أي: لنظلم أحدًا أو نسرق.
فإن قيل: كيف حلفوا على عِلم قوم لا يعرفونهم؟
فالجواب من ثلاثة أوجه.
أحدها: أنهم قالوا ذلك، لأنهم ردّوا الدراهم ولا يستحلُّوها، فالمعنى: لقد علمتم أنا رددنا عليكم دراهمكم وهي أكثر من ثمن الصاع، فكيف نستحل صاعكم، رواه الضحاك عن ابن عباس، وبه قال مقاتل.
والثاني: لأنهم لما دخلوا مصر كعموا أفواه إِبلهم وحميرهم حتى لا تتناول شيئًا، وكان غيرهم لا يفعل ذلك، رواه أبو صالح عن ابن عباس.
والثالث: أن أهل مصر كانوا قد عرفوهم أنهم لا يظلمون أحدًا.
قوله تعالى: {فما جزاؤه} المعنى: قال المنادي وأصحابه: فما جزاؤه.
قال الأخفش: إِن شئت رددت الكناية إِلى السارق، وإِن شئت رددتها إِلى السرق.
قوله تعالى: {إِن كنتم كاذبين} أي: في قولكم،: {وما كنا سارقين}.
{قالوا}: يعني إِخوة يوسف: {جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه} أي: يُستعبَد بذلك.
قال ابن عباس: وهذه كانت سُنَّة آل يعقوب.
قوله تعالى: {فبدأ بأوعيتهم} قال المفسرون: انصرف بهم المؤذن إِلى يوسف، وقال: لابد من تفتيش أمتعتكم،: {فبدأ} يوسف: {بأوعيتهم قبل وعاء أخيه} لإِزالة التهمة، فلما وصل إِلى وعاء أخيه، قال: ما أظن هذا أخذ شيئًا، فقالوا: والله لا نبرح حتى تنظر في رحله، فهو أطيب لنفسك.
فلما فتحوا متاعه وجدوا الصواع، فذلك قوله: {ثم استخرجها}.
وفي هاء الكناية ثلاثة أقوال.
أحدها: أنها ترجع إِلى السرقة، قاله الفراء.
والثاني: إِلى السقاية، قاله الزجاج.
والثالث: إِلى الصواع على لغة من أنَّثه، ذكره ابن الأنباري.
قال المفسرون: فأقبلوا على بنيامين، وقالوا: أي شيء صنعت؟! فضحتنا وأزريت بأبيك الصدِّيق، فقال: وضع هذا في رحلي الذي وضع الدراهم في رحالكم، وقد كان يوسف أخبر أخاه بما يريد أن يصنع به.
قوله تعالى: {كذلك كدنا ليوسف} فيه أربعة أقوال:
أحدها: كذلك صنعنا له، قاله الضحاك عن ابن عباس.
والثاني: احتلنا له، والكيد: الحيلة، قاله ابن قتيبة.
والثالث: أردنا ليوسف، ذكره ابن القاسم.
والرابع: دبَّرنا له بأن ألهمناه ما فعل بأخيه ليتوصل إِلى حبسه.
قال ابن الأنباري: لما دبَّر الله ليوسف ما دبَّر من ارتفاع المنزلة وكمال النعمة على غير ما ظن إِخوتُه، شُبِّه بالكيد من المخلوقين، لأنهم يسترون ما يكيدون به عمن يكيدونه.
قوله تعالى: {ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك} في المراد بالدين هاهنا قولان:
أحدهما: أنه السلطان، فالمعنى: في سلطان الملك، رواه العوفي عن ابن عباس.
والثاني: أنه القضاء، فالمعنى: في قضاء الملك، لأن قضاء الملك، أن من سرق إِنما يُضرب ويُغرَّم، قاله أبو صالح عن ابن عباس.
وبيانه أنه لو أجرى أخاه على حكم الملك ما أمكنه حبسه، لأن حكم الملك الغرم والضرب فحسب، فأجرى الله على ألسنة إِخوته أن جزاء السارق الاسترقاق، فكان ذلك مما كاد الله ليوسف لطفًا حتى أظفره بمراده بمشيئة الله، فذلك معنى قوله: {إِلا أن يشاء الله}.
وقيل: إِلا أن يشاء الله إِظهار علَّة يستحق بها أخاه.
قوله تعالى: {نرفع درجات من نشاء} وقرأ يعقوب {يرفع درجاتِ من يشاء} بالياء فيهما.
وقرأ أهل الكوفة {درجاتٍ} بالتنوين، والمعنى: نرفع الدرجات بصنوف العطاء، وأنواع الكرامات، وابواب العلوم، وقهر الهوى، والتوفيق للهدى، كما رفعنا يوسف.
{وفوق كل ذي علم عليم} أي: فوق كل ذي علم رفعه الله بالعلم مَن هو أعلم منه حتى ينتهي العلم إِلى الله تعالى، والكمال في العلم معدوم من غيره.
وفي مقصود هذا الكلام ثلاثة أقوال:
أحدها: أن المعنى: يوسف أعلم من إِخوته، وفوقه من هو أعلم منه.
والثاني: أنه نبَّه على تعظيم العِلم، وبيَّن أنه أكثر من أن يُحاط به.
والثالث: أنه تعليم للعالم التواضع لئلا يُعجب. اهـ.

.قال النسفي:

{وَقَالَ الملك ائتونى بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِى}
أجعله خالصًا لنفسي: {فَلَمَّا كَلَّمَهُ} وشاهد منه ما لم يحتسب: {قَالَ} الملك ليوسف: {إِنَّكَ اليوم لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ} ذو مكانة ومنزلة، أمين مؤتمن على كل شيء.
روي أن الرسول جاءه ومعه سبعون حاجبًا وسبعون مركبًا وبعث إليه لباس الملوك فقال: أجب الملك، فخرج من السجن ودعا لأهله: اللهم عطّف عليهم قلوب الأخيار ولا تعم عليهم الأخبار فهم أعلم الناس بالأخبار في الواقعات.
وكتب على باب السجن: هذه منازل البلواء وقبور الأحياء وشماتة الأعداء وتجربة الأصدقاء.
ثم اغتسل وتنظف من درن السجن ولبس ثيابًا جددًا، فلما دخل على الملك قال: اللهم إني أسألك بخيرك من خيره، وأعوذ بعزتك وقدرتك من شره، ثم سلم عليه ودعا له بالعبرانية فقال: ما هذا اللسان قال: لسان آبائي، وكان الملك يتكلم بسبعين لسانًا فكلمه بها فأجابه بجميعها فتعجب منه وقال: أيها الصديق إني أحب أن أسمع رؤياي منك.
قال: رأيت بقرات فوصف لونهن وأحوالهن ومكان خروجهن، ووصف السنابل وما كان منها على الهيئة التي رآها الملك وقال له: من حقك أن تجمع الطعام في الأهراء فيأتيك الخلق من النواحي ويمتارون منك ويجتمع لك من الكنوز ما لم يجتمع لأحد قبلك.
قال الملك: ومن لي بهذا ومن يجمعه؟
{قَالَ} يوسف: {اجعلنى على خَزَائِنِ الأرض} ولني على خزائن أرضك يعني مصر: {إِنّى حَفِيظٌ} أمين أحفظ ما تستحفظنيه: {عَلِيمٌ} عالم بوجوه التصرف.
وصف نفسه بالأمانة والكفاية وهما طلبة الملوك ممن يولونه.
وإنما قال ذلك ليتوصل إلى إمضاء أحكام الله وإقامة الحق وبسط العدل والتمكن مما لأجله بعث الأنبياء إلى العباد، ولعلمه أن أحدًا غيره لا يقوم مقامه في ذلك فطلبه ابتغاء وجه الله لا لحب الملك والدنيا، وفي الحديث: «رحم الله أخي يوسف لو لم يقل اجعلني على خزائن الأرض لاستعمله من ساعته ولكنه أخر ذلك سنة» قالوا: وفيه دليل على أنه يجوز أن يتولى الإنسان عمالة من يد سلطان جائر، وقد كان السلف يتولون القضاء من جهة الظلمة.
وإذا علم النبي أو العالم أنه لا سبيل إلى الحكم بأمر الله ودفع الظلم إلا بتمكين الملك الكافر أو الفاسق فله أن يستظهر به.
وقيل: كان الملك يصدر عن رأيه ولا يتعرض عليه في كل ما رأى وكان في حكم التابع له.
{وكذلك} ومثل ذلك التمكين الظاهر: {مَكَّنَّا لِيُوسُفَ في الأرض} أرض مصر وكان أربعين فرسخًا في أربعين، والتمكين الإقدار وإعطاء المكنة: {يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاء} أي كل مكان أراد أن يتخذه منزلًا لم يمنع منه لاستيلائه على جميعها ودخولها تحت سلطانه.
{نشاء} مكي: {نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا} بعطائنا في الدنيا من الملك والغني وغيرهما من النعم: {مَّن نَّشَاء} من اقتضت الحكمة أن نشاء له ذلك: {وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ المحسنين} في الدنيا: {وَلأَجْرُ الأخرة خَيْرٌ لّلَّذِينَ ءامَنُواْ} يريد يوسف وغيره من المؤمنين إلى يوم القيامة: {وَكَانُواْ يَتَّقُونَ} الشرك والفواحش.
قال سفيان بن عيينة: المؤمن يثاب على حسناته في الدنيا والآخرة، والفاجر يعجل له الخير في الدنيا وماله في الآخرة من خلاق، وتلا الآية.
روي أن الملك توج يوسف وختمه بخاتمه ورداه بسيفه ووضع له سريرًا من ذهب مكللًا بالدر الياقوت، فقال: أما السرير فأشد به ملكك، وأما الخاتم فأدبر به أمرك، وأما التاج فليس من لباسي ولا لباس آبائي فجلس على السرير، ودانت له الملوك وفوض الملك إليه أمره وعزل قطفير ثم مات بعد فزوجه الملك امرأته، فلما دخل عليها قال أليس هذا خيرًا مما طلبت! فوجدها عذراء فولدت له ولدين أفراثيم وميشا وأقام العدل بمصر وأحبته الرجال والنساء، وأسلم على يديه الملك وكثير من الناس وباع من أهل مصر في سني القحط الطعام بالدارهم والدنانير في السنة الأولى حتى لم يبق معهم شيء منها، ثم بالحلي والجواهر في الثانية، ثم بالدواب في الثالثة، ثم بالعبيد والإماء في الرابعة، ثم بالدور والعقار في الخامسة، ثم بأولادهم في السادسة، ثم برقابهم في السابعة، حتى استرقهم جميعًا، ثم أعتق أهل مصر عن آخرهم، ورد عليهم أملاكهم، وكان لايبيع لأحد من الممتارين أكثر من حمل بعير، وأصاب أرض كنعان نحو ما أصاب مصر فأرسل يعقوب بنيه ليمتاروا وذلك قوله.