فصل: قال ابن جزي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{وَجَاء إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُواْ عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ} بلا تعريف: {وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ} لتبدل الزي ولأنه كان من وراء الحجاب ولطول المدة وهو أربعون سنة، وروي أنه لما رآهم وكلموه بالعبرانية قال لهم: أخبروني من أنتم وما شأنكم؟ قالوا: نحن قوم من أهل الشام رعاة أصابنا الجهد فجئنا نمتار، فقال: لعلكم جئتم عيونًا تنظرون عورة بلادي.
فقالوا: معاذ الله نحن بنو نبي حزين لفقد ابن كان أحبنا إليه وقد أمسك أخًا له من أمه يستأنس به فقال: ائتوني به إن صدقتم.
{وَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ قَالَ} أعطى كل واحد منهم حمل بعير، وقرئ بكسر الجيم شاذًا: {ائتونى بِأَخٍ لَّكُمْ مّنْ أَبِيكُمْ أَلاَ تَرَوْنَ أَنّى أُوفِى الكيل} أتمه: {وَأَنَاْ خَيْرُ المنزلين} كان قد أحسن إنزالهم وضيافتهم رغبهم بهذا الكلام على الرجوع إليه.
{فَإِن لَّمْ تَأْتُونِى بِهِ فَلاَ كَيْلَ لَكُمْ عِندِى} فلا أبيعكم طعامًا: {وَلاَ تَقْرَبُونِ} أي فإن لم تأتوني به تحرموا ولا تقربوا فهو داخل في حكم الجزاء مجزوم معطوف على محل قوله: {فلا كيل لكم} أو هو بمعنى النهي: {قَالُواْ سنراود عَنْهُ أَبَاهُ} سنخادعه عنه ونحتال حتى ننزعه من يده: {وَإِنَّا لفاعلون} ذلك لا محالة لانفرط فيه ولا نتوانى.
قال: فدعوا بعضكم رهنًا، فتركوا عنده شمعون وكان أحسنهم رأيًا في يوسف: {وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ} كوفي غير أبي بكر: {لفتيته} غيرهم، وهما جمع فتى كإخوة وإخوان في أخ، وفعلة للقلة، وفعلان للكثرة أي لغلمانه الكيالين: {اجعلوا بضاعتهم في رِحَالِهِمْ} أوعيتهم وكانت نعالًا أو أدما أو ورقا وهو أليق بالدس في الرحال: {لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا} يعرفون حق ردها وحق التكرم بإعطاء البدلين: {إِذَا انقلبوا إلى أَهْلِهِمْ} وفرغوا ظروفهم: {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} لعل معرفتهم بذلك تدعوهم إلى الرجوع إلينا، أو ربما لا يجدون بضاعة بها يرجعون أو ما فيهم من الديانة يعيدهم لرد الأمانة، أو لم ير من الكرم أن يأخذ من أبيه وإخوته ثمنًا: {فَلَمَّا رَجِعُوا إلى أَبِيهِمْ} بالطعام وأخبروه بما فعل: {قَالُواْ يأَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الكيل} يريدون قول يوسف: {فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي} لأنهم إذا أنذروا بمنع الكيل فقد منع الكيل: {فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ} نرفع المانع من الكيل ونكتل من الطعام ما نحتاج إليه.
{يكتل} حمزة وعلي أي يكتل أخونًا فينضم اكتياله إلى اكتيالنا: {وَإِنَّا لَهُ لحافظون} عن أن يناله مكروه {قَالَ هَلْ امَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَمَا أَمِنتُكُمْ على أَخِيهِ مِن قَبْلُ} يعني أنكم قلتم في يوسف: {أرسله معنا غدًا يرتع ويلعب وإناله لحافظون} كما تقولونه في أخيه ثم خنتم بضمانكم فما يأمنني من مثل ذلك؟ ثم قال: {فالله خَيْرٌ حافظا} كوفي غير أبي بكر.
فتوكل على الله فيه ودفعه إليهم وهو حال أو تمييز، ومن قرأ: {حِفظا} ً فهو تمييز لا غير.
{وَهُوَ أَرْحَمُ الرحمين} فأرجو أن ينعم عليّ بحفظه ولا يجمع عليّ مصيبتين قال كعب: لما قال: {فالله خير حفظًا} قال الله تعالى وعزتي وجلالي لأردن عليك كليهما.
{وَلَمَّا فَتَحُواْ متاعهم وَجَدُواْ بضاعتهم رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُواْ ياأبانا مَا نَبْغِى} {ما} للنفي أي ما نبغي في القول ولا تتجاوز الحق أو ما نبغي شيئًا وراء ما فعل بنا من الإحسان، أو ما نريد منك بضاعة أخرى، أو للاستفهام أيْ أيّ شيء نطلب وراء هذا؟: {هذه بضاعتنا رُدَّتْ إِلَيْنَا} جملة مستأنفة موضحة لقوله: {ما نبغي} والجمل بعدها معطوفة عليها أي أن بضاعتنا ردت إلينا فنستظهر بها: {وَنَمِيرُ أَهْلَنَا} في رجوعنا إلى الملك أي نجلب لهم ميرة وهي طعام يحمل من غير بلدك: {وَنَحْفَظُ أَخَانَا} في ذهابنا ومجيئنا فما يصيبه شيء مما تخافه: {وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ} نزداد وسق بعير باستصحاب أخينا: {ذلك كَيْلٌ يَسِيرٌ} سهل عليه متيسر لا يتعاظمه: {قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حتى تُؤْتُونِ} وبالياء: مكي: {مَوْثِقًا} عهدًا: {مِنَ الله} والمعنى حتى تعطوني ما أتوثق به من عند الله أي أراد أن يحلفوا له بالله.
وإنما جعل الحلف بالله موثقًا منه لأن الحلف به مما يؤكد به العهود وقد أذن الله في ذلك فهو إذن منه: {لَتَأْتُنَّنِى بِهِ} جواب اليمين لأن المعنى حتى تحلفوا لتأتنني به: {إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ} إلا أن تغلبوا فلم تطيقوا الإتيان به فهو مفعول له، والكلام المثبت وهو قوله: {لتأتنني به} في تأويل النفي أي لا تمتنعوا من الإتيان به إلا للإحاطة بكم يعني لا تمتنعوا منه لعلة من العلل إلا لعلة واحدة وهي أن يحاط بكم، فهو استثناء من أعم العام في المفعول له، والاستثناء من أعم العام لا يكون إلا في النفي فلابد من تأويله بالنفي: {فَلَمَّا ءاتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ} قيل: حلفوا بالله رب محمد عليه السلام: {قَالَ} بعضهم يسكت عليه لأن المعنى قال يعقوب: {الله على مَا نَقُولُ} من طلب الموثق وإعطائه: {وَكِيلٌ} رقيب مطلع غير أن السكتة تفصل بين القول والمقول وذا لا يجوز، فالأولى يأن يفرق بينهما بالصوت فيقصد بقوة النغمة اسم الله.
{وَقَالَ يا بَنِى لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ وادخلوا مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرّقَةٍ} الجمهور على أنه خاف عليهم العين لجمالهم وجلالة أمرهم ولم يأمرهم بالتفرق في الكرة الأولى لأنهم كانوا مجهولين في الكرة الأولى، فالعين حق عندنا وجه بأن يحدث الله تعالى عند النظر إلى الشيء والإعجاب به نقصانًا فيه وخللاه وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعوّذ الحسن والحسين رضي الله عنهما فيقول: «أعيذكما بكلمات الله التامة من كل هامة ومن كل عين لامة» وأنكر الجبائي العين وهو مردود بما ذكرنا.
وقيل: إنه أحب أن لا يفطن بهم أعداؤهم فيحتالوا لإهلاكهم: {وَمَا أُغْنِى عَنكُمْ مّنَ الله مِن شَئ} أي إن كان الله أراد بكم سوءًا لم ينفعكم ولم يدفع عنكم ما أسرت به عليكم من التفرق وهو مصيبكم لا محالة: {إِنِ الحكم إِلاَّ للَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المتوكلون} التوكل تفويض الأمر إلى الله تعالى والاعتماد عليه: {وَلَمَّا دَخَلُواْ مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُم} أي متفرقين: {مَّا كَانَ يُغْنِى عَنْهُمْ} دخولهم من أبواب متفرقة: {مّنَ الله مِن شَئ} أي شيئًا قط حيث أصابهم ما ساءهم مع تفرقهم من إضافة السرقة إليهم وافتضاحهم بذلك وأخذ أخيهم بوجدان الصواع في رحله وتضاعف المصيبة على أبيهم: {إِلاَّ حَاجَةً} استثناء منقطع أي ولكن حاجة: {فِى نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا} وهي شفقته عليهم: {وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ} يعني قوله وما أغنى عنكم وعلمه بأن القدر لا يغني عنه الحذر: {لّمَا عَلَّمْنَاهُ} لتعليمنا إياه: {ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ} ذلك.
{وَلَمَّا دَخَلُواْ على يُوسُفَ اوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ} ضم إليه بنيامين.
وروي أنهم قالوا له هذا أخونا قد جئناك به فقال لهم: أحسنتم فأنزلهم وأكرمهم ثم أضافهم وأجلس كل اثنين منهم على مائدة فبقي بنيامين وحده فبكى وقال: لو كان أخي يوسف حيًا لأجلسني معه فقال يوسف: بقي أخوكم وحيدًا فأجلسه معه على مائدته وجعل يؤاكله وقال له: أتحب أن أكون أخاك بدل أخيك الهالك؟ قال: ومن يجد أخا مثلك ولكن لم يلدك يعقوب ولا راحيل فبكى يوسف وعانقه ثم: {قَالَ} له: {إِنّى أَنَاْ أَخُوكَ} يُوسُف: {فَلاَ تَبْتَئِسْ} فلا تحزن: {بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} بنا فيما مضى فإن الله قد أحسن إلينا وجمعنا على خير ولا تعلمهم بما أعلمتك وروي أنه قال له فأنا لا أفارقك.
قال لقد علمت اغتمام والدي بي فإن حبستك ازداد غمه ولا سبيل إلى ذلك ألا أن أنسبك إلا ما لا يحمد.
قال: لا أبالي فافعل ما بدا لك.
قال: فإني أدس صاعي في رحلك ثم أنادي عليك بأنك سرقته ليتهيأ لي ردك بعد تسريحك معهم فقال: افعل: {فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ} هيأ أسبابهم وأوفى الكيل لهم: {جَعَلَ السقاية في رَحْلِ أَخِيهِ} السقاية هي مشربة يُسقى بها وهي الصواع.
قيل: كان يسقي بها الملك ثم جعلت صاعًا يكال به لعزة الطعام وكان يشبه الطاس من فضة أو ذهب: {ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذّنٌ} ثم نادى مناد آذنه أي أعلمه، وأذن أكثر الأعلام ومنه المؤذن لكثرة ذلك منه.
روي أنهم ارتلحوا وأمهلهم يوسف عليه السلام حتى انطلقوا ثم أمر بهم فأدركوا وحبسوا ثم قيل لهم: {أَيَّتُهَا العير} هي الإبل التي عليها الأحمال لأنها تعير أي تذهب وتجيء والمراد أصحاب العير: {إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ} كناية عن سرقتهم إياه من أبيه.
{قَالُواْ وَأَقْبَلُواْ عَلَيْهِمْ مَّاذَا تَفْقِدُونَ قَالُواْ نَفْقِدُ صُوَاعَ الملك} هو الصاع: {وَلِمَن جَاء بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ} يقوله المؤذن يريد وأنا بحمل البعير كفيل أؤديه إلى من جاء به وأراد وسق بعير من طعام جعلا لمن حصله: {قَالُواْ تالله} قسم فيه معنى التعجب مما أضيف إليهم: {لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَّا جِئْنَا لِنُفْسِدَ في الأرض} استشهدوا بعلمهم لما ثبت عندهم من دلائل دينهم وأمانتهم حيث دخلوا وأفواه رواحلهم مشدودة لئلا تتناول زرعًا أو طعامًا لأحد من أهل السوق، ولأنهم ردوا بضاعتهم التي وجدوها في رحالهم: {وَمَا كُنَّا سارقين} وما كنا نوصف قط بالسرقة: {قَالُواْ فَمَا جَزَاؤُهُ} الضمير للصواع أي فما جزاء سرقته: {إِن كُنتُمْ كاذبين} في جحودكم وادعائكم البراءة منه: {قَالُواْ جَزاؤُهُ مَن وُجِدَ في رَحْلِهِ} أي جزاء سرقته أخذ من وجد في رحله، وكان حكم السارق في آل يعقوب أن يسترق سنة فلذلك استفتوا في جزائه.
وقولهم: {فَهُوَ جَزَاؤُهُ} تقرير للحكم أي فأخذ السارق نفسه هو جزاؤه لا غير، أو: {جزاؤه} مبتدأ والجملة الشرطية كما هي خبره: {كذلك نَجْزِى الظالمين} أي السراق بالاسترقاق: {فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاء أَخِيهِ} فبدأ بتفتيش أوعيتهم قبل وعاء بنيامين لنفي التهمة حتى بلغ وعاءه فقال: ما أظن هذا أخذ شيئًا فقالوا: والله لا نتركه حتى تنظر في رحله فإنه أطيب لنفسك وأنفسنا: {ثُمَّ استخرجها} أي الصواع: {مِن وِعَاء أَخِيهِ} ذكر ضمير الصواع مرات ثم أنثه لأن التأنيث يرجع إلى السقاية، أو لأن الصواع يذكر ويؤنث.
الكاف في: {كذلك} في محل النصب أي مثل ذلك الكيد العظيم: {كِدْنَا لِيُوسُفَ} يعني علمناه إياه: {مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ في دِينِ الملك} تفسير للكيد وبيان له لأن الحكم في دين الملك أي في سيرته للسارق أن يغرم مثلي ما أخذ لا أن يستعبد: {إِلاَّ أَن يَشَاء الله} أي ما كان ليأخذه إلا بمشيئة الله وإرادته فيه: {نَرْفَعُ درجات} بالتنوين: كوفي: {مَّن نَّشَاء} أي في العلم كما رفعنا درجة يوسف فيه: {وَفَوْقَ كُلّ ذِى عِلْمٍ عَلِيمٌ} فوقه أرفع درجة منه في علمه أو فوق العلماء كلهم عليهم هم دونه في العلم وهو الله عز وجل. اهـ.

.قال ابن جزي:

{وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ (54)}
{أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي}
أي: أجعله خاصتي وخلاصتي قال أولًا ائتوني به، فلما تبين له حاله قال: أستخلصه لنفسي: {فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ اليوم لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ} أي فلما رأى حُسن كلامه وعرف وفور عقله وعلمه قال: إنك اليوم لدينا مكين أمين، والمكين من التمكين، والأمين من الأمانة: {قَالَ اجعلني على خَزَائِنِ الأرض} لما فهم يوسف من الملك أنه يريد تصريفه والاستعانة به قال له ذلك، وإنما طلب منه الولاية رغبة منه في العدل وإقامة الحق والإحسان، وكان هذا الملك كافرًا، ويستدل بذلك على أنه يجوز للرجل الفاضل أن يعمل للرجل الفاجر إذا علم أنه يصلح بعض الأحوال، وقيل: إن الملك أسلم، وأراد بقوله خزائن الأرض: أرض مصر إذ لم يكن للملك غيرها، والخزائن كل ما يخزن من طعام ومال وغير ذلك: {إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} صفتان تعمان وجوه المعرفة والضبط للخزائن وقيل: حفيظ للحساب عليم بالألسن، واللفظ أعم من ذلك، ويستدل بذلك أنه يجوز للرجل أن يعرف بنفسه ويمدح نفسه بالحق إذا جعل أمره وإذا كان في ذلك فائدة.
{وكذلك مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأرض} الإشارة بذلك إلى ما تقدم من جميل صنع الله به، ورُوي أن الملك ولاه في موضع العزيز، وأسند إليه جميع الأمور حتى تغلب على أمره أنه باع من أهل مصر في أعوام القحط الطعام بالدنانير والدراهم في السنة الأولى حتى لم يبق لهم شيء منها، ثم بالحلي، ثم بالدواب ثم بالضياع والعقار ثم برقابهم حتى تملكهم جميعًا ثم أعتقهم وردّ عليهم أملاكهم: {نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَشَاءُ} الرحمة هنا يراد بها الدنيا وكذلك الأجر في قوله: ولا نضيع أجر المحسنين بدليل قوله بعد ذلك: ولأجر الآخرة خير، فأخبر تعالى أن رحمته في الدنيا يصيب بها من يشاء من مؤمن وكافر ومطيع وعاص، وأن المحسن لابد له من أجره في الدنيا، فالأول: في المشيئة، والثاني: واقع لا محالة، ثم أخبر أن أجر الآخرة خير من ذلك كله: للذين آمنوا، وكانوا يتقون، وفي الآية إشارة إلى أن يوسف عليه السلام جمع الله له بين خيري الدنيا والآخرة.
{وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ} كان سبب مجيئهم أنهم أصابتهم مجاعة في بلادهم، فخرجوا إلى مصر ليشتروا بها من الطعام الذي ادخره يوسف: {فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ} إنما أنكروه لبعد العهد به وتغيير سنة أو لأنه كان متلثمًا، روى أنهم دخلوا عليه وهو على هيئة عظيمة من الملك وأنه سألهم عن أحوالهم، وأخبروه أنهم تركوا أخًا لهم، فحينئذ قال لهم: ائتوني بأخ لكم من أبيكم وهو بنيامين شقيق يوسف: {وَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ} الجهاز ما يحتاج إليه المسافر من زاد وغيره، والمراد به هنا الطعام الذي باع منهم: {خَيْرُ المنزلين} أي المضيفين: {وَإِنَّا لفاعلون} أي نفعل ذلك لا محالة.
{وَقَالَ لفتيانه} جمع فتى وهو الخادم سواء كان حرًا أو عبدًا: {اجعلوا بضاعتهم فِي رِحَالِهِمْ} أمر أن يجعلوا البضاعة التي اشتروا منه بها الطعام في أوعيتهم: {لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا} أي لعلهم يعرفون اليد والكرامة في ردّ البضاعة إليهم، وليس الضمير للبضاعة: {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} أي لعل معرفتهم بها تدعوهم إلى الرجوع وقصد برد البضاعة إليه مع الطعام استئلافهم بالإحسان إليهم: {مُنِعَ مِنَّا الكيل} إشارة إلى قوله: {وإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي} فهو خوف من المنع في المستقبل: {نَكْتَلْ} وزنه نفتعل من الكيل: {مَا نَبْغِي} ما استفهامية ونبغي بمعنى نطلب، والمعنى أي شيء نطلبه بعد هذه الكرامة وهي ردّ البضاعة مع الطعام ويحتمل أن تكون ما نافية ونبغي من البغي: أي لا نتعدى على أخينا ولا نكذب على الملك: {وَنَمِيرُ أَهْلَنَا} أي نسوق لهم الطعام: {وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ} يريدون بعير أخيهم إذ كان يوسف لا يعطى إلا كيل بعير من الطعام لكل إنسان فأعطاهم عشرة أبعرة ومنعهم الحادي عشر لغيبة صاحبه حتى يأتي. والبعير الجمل: {ذلك كَيْلٌ يَسِيرٌ} إن كانت الإشارة إلى الأحمال فالمعنى أنها قليلة لا تكفيهم حتى يضاف إليها كيل بعير، وإن كانت الإشارة إلى كيل بعير، فالمعنى أنه يسير على يوسف أي قليل عنده أو سهل عليه، فلا يمنعهم منه: {حتى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِّنَ الله} أراد أن يحلفوا له ولتأتنني به جواب اليمين: {إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ} أي إلا تغلبوا فلا تطيقون الإيتان به.
{يابني لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ واحد} خاف عليهم من العين إن دخلوا مجتمعين إذ كانوا أهل جمال وهيبة: {مَّا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ} جواب لما والمعنى أن ذلك لا يدفع ما قضاه الله: {إِلاَّ حَاجَةً} استثناء منقطع، والحاجة هنا هي شفقته عليهم ووصيته لهم: {آوى إِلَيْهِ أَخَاهُ} أي ضمه: {قَالَ إني أَنَاْ أَخُوكَ} أخبره بأنه أخوه، واستكتمه ذلك: {فَلاَ تَبْتَئِسْ} أي لا تحزن فهو من البؤس: {بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} الضمير لإخوة يوسف، ويعني ما فعلوا بيوسف وأخيه، ويحتمل أن يكون لفتيانه: أي لا تبالي بما تراه من تحيلي في أخذك: {جَعَلَ السقاية فِي رَحْلِ أَخِيهِ} السقاية هي الصواع، وهي إناء يشرب فيه الملك ويأكل فيه الطعام، وكان من فضة، وقيل من ذهب، وقصد بجعله في رحل أخيه أن يحتال على إمساكه معه إذ كان شرع يعقوب أن من سرق استعبده المسروق له.
{ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ} أي نادى مناد: {أَيَّتُهَا العير} أي أيتها الرفقة: {إِنَّكُمْ لسارقون} خطاب لأخوة يوسف، وإنما استحل أن يرميهم بالسرقة لما في ذلك من المصلحة من إمساك أخيه، وقيل: إن حافظ السقاية نادى: إنكم لسارقون، بغير أمر يوسف وهذا بعيد لتفتيش الأوعية: {وَلِمَن جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ} أي لمن وجده ورده حِملُ بعير من طعام على وجه الجُعلْ: {وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ} أي ضامن لحمل البعير لمن ردّ الصواع، وهذا من كلام المنادي.
{قَالُواْ تالله لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَّا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأرض} أي استشهدوا بعلمهم لما ظهر لهم من ديانتهم في دخولهم أرضهم؛ حتى كانوا يجعلون الأكِمّة في أفواه إبلهم لئلا تنال زروع الناس: {قَالُواْ فَمَا جَزَاؤُهُ إِن كُنتُمْ كاذبين} أي قال فتيان يوسف: ما جزاء آخذ الصواع إن كنتم كاذبين في قولكم: وما كنا سارقين، فالضمير في قوله جزاؤه يعود على الأخذ المفهوم من الكلام: {قَالُواْ جَزَاؤُهُ مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ} المعنى أن إخوة يوسف أفتو فيما سئلوا عنه فقالوا: جزاء السارق أن يستعبد، ويؤخذ في السرقة، وأما الإعراب فيحتمل وجهين: الأول: أن يكون جزاؤه الأول مبتدأ ومن مبتدأ ثان وهي شرطية أو موصولة، وخبرها فهو جزاؤه، والجملة خبر جزاؤه الأول، والوجه الثاني: أن يكون من خبر المبتدأ الأول على حذف مضاف، وتقديره جزاؤه أخذ من وجد في رحله وتم الكلام. ثم قال فهو جزاؤه أي هذا الحكم جزاؤه: {وكذلك نَجْزِي الظالمين} [الأعراف: 41] من كلام إخوة يوسف أي هذا حكمنا في السارق، وقد كان هذا الحكم في أول الإسلام، ثم نسخ بقطع الأيدي: {فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ} هذا تمكين للحيلة ورفع للتهمة: {ثُمَّ استخرجها مِن وِعَاءِ أَخِيهِ} ليصح له بذلك إمساكه معه، وإنما أنث الصواع في هذا الموضع لأنه سقاية، أو لأن الصواع يذكر ويؤنث.
{كذلك كِدْنَا لِيُوسُفَ} أي صنعنا له هذا الصنع: {مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الملك} أي في شرعة أو عادته، لأنه إنما كان جزاء السارق عنده أن يضرب ويضاعف عليه الغرم، ولكن حكم في هذه القضية آل يعقوب: {نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاءُ} يعني الرفعة بالعلم بدليل ما بعده: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} أي فوق كل عالم من هو أعلم منه من البشر، أو الله عز وجل. اهـ.