فصل: قال سيد قطب في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



يُسمَّى في اللغة قضية شرطية. ومعنى القضية الشرطية؛ أن حدثًا يقع بسبب حَدَث وقع قبله، فهناك حَدَث يحدث وحده، وهناك حَدَث يحدث بشرط أن يحدث قبله حدث آخر.
مثال هذا هو قولك لتلميذ: إنْ تذاكر دروسك تنجحْ، وهنا حَدَثان، المذاكرة والنجاح، فكأن حدوثَ النجاح الشرط فيه حدوث المذاكرة، ولابد أن يحدث الشرط أولًا؛ ثم يحدث الحدث الثاني، وهو هنا قولهم: {فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ} [يوسف: 77]. كتعليل لسرقة بنيامين.
والمثل من القرآن أيضًا: {فَإِن كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ} [آل عمران: 184].
فكأن الله يوضح للرسول صلى الله عليه وسلم: إنْ كذَّبوك الآن فيما تنقل لهم من أخبار السماء؛ فلا تحزن ولا تبتئس؛ فهذا التكذيب ظاهرة عَانَى منها كل الرسل السابقين لك؛ لأنهم يجيئون بما يُنكره المرسل إليهم أولًا، فلابد أن يكذبوا، وهكذا يستقيم الشرط، لأن الحق سبحانه هنا قد عدل بالشيء عن سببه، فكان جواب الشرط بعد الزمان الذي حدث فيه الشرط.
وهنا قال الحق سبحانه: {إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ..} [يوسف: 77].
أي: لا تعجب يا عزيز مصر؛ لأن هذه خصلة في أولاد راحيل، قالوا ذلك وهم يجهلون أنهم يتحدثون إلى يوسف ابن راحيل!!
وكل حدث يحدث للمَلَكات المستقيمة؛ لابد أن يُخرج تلك المَلَكات عن وضعها، ونرى ذلك لحظة أن يتفوَّه واحد بكلمة تُخرج إنسانًا مستقيمًا عن حاله وتُنغِّصه، ويدرك بها الإنسان المستقيم ما يؤلمه؛ وينفعل انفعالًا يجعله ينزع للردِّ.
ولذلك يوصينا صلى الله عليه وسلم: «إذا غضب أحدكم وهو قائم فليجلس؛ فإن ذهب عنه الغضب؛ وإلا فليضطجع».
كي يساعد نفسه على كَظْم ضيقه وغضبه، ولِيُسرِّب جزءًا من الطاقة التي تشحنه بالانفعال.
ولكن يوسف عليه السلام لم ينزع إلى الرد، لذلك قال الحق سبحانه: {فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ...} [يوسف: 77].
وكان يستطيع أن يقول لهم ما حدث له من عمَّته التي اتهمته بالباطل أنه سرق؛ لتحتفظ به في حضانتها من فَرْط حُبِّها له، لكن يوسف عليه السلام أراد أن يظل مجهولًا بالنسبة لهم، لتأخذ الأمور مجراها: {فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ..} [يوسف: 77].
حدث ذلك رغم أن قولهم قد أثَّر فيه، ولكن قال رأيه فيهم لنفسه: {أَنْتُمْ شَرٌّ مَّكَانًا والله أَعْلَمْ بِمَا تَصِفُونَ} [يوسف: 77].
لأنكم أنتم مَنْ أخذتموني طفلًا لألعب؛ ثم ألقيتموني في الجب؛ وتركتم أبي بلا موانسة.. وأنا لم أسرق بل سُرِقت، وهكذا سرقتم ابنًا من أبيه.
وهو إنْ قال هذا في نفسه فلابد أن انفعاله بهذا القول قد ظهر على ملامحه، وقد يظهر المعنى على الملامح، ليصِلَ إليهم المعنى، والقول ليس إلا ألفاظًا يصل به مدلول الكلام إلى مُسْتمع.
وقد وصل المعنى من خلال انفعال يوسف.
وقوله: {والله أَعْلَمْ بِمَا تَصِفُونَ} [يوسف: 77].
أي: أنه سبحانه أعلم بما تنعتون، وتظهرون العلامات والسِّمات، وغلبت كلمة {تصفون} على الكلام.
ومثال هذا هو قول الحق سبحانه: {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الكذب هذا حَلاَلٌ وهذا حَرَامٌ} [النحل: 116].
أي: أن ما تقولونه يُوحي من تلقاء نفسه أنه كَذِب، وهكذا نعرف أن كلمة {تَصِف} وكلمة {تصفون} غلب في استعمالهما للكلام الذي يحمل معه دليلَ كَذِبه.
ويأتي الحق سبحانه بما جاء على ألسنتهم بعد ذلك: {قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ}
وهكذا دخلوا مع يوسف في نقاش، وبدأوا في الاستعطاف؛ بقولهم: {إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا...} [يوسف: 78].
ونلحظ أن كلمة كبير تُطلق إطلاقات متعددة، إنْ أردتَ الكِبَر في السنِّ تكون من كَبرَ يَكْبَر، وإنْ أردتَ الكِبَرَ في المقام تقول: كَبُرَ يَكبُر.
والحق سبحانه يقول: {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِبًا} [الكهف: 5].
والكِبَر واحد من معاني العظمة، أما الكِبَرُ في السِّنِّ فهو مختلف؛ وهنا قالوا: {إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا...} [يوسف: 78].
قد تكون ترقيقًا بالعزة، أو ترقيقًا بالضعف.
أي: إن له أبًا شيخًا كبيرًا عظيمًا في قومه؛ وحين يُبلغه أن ابنه قد احتُجز من أجل سرقة، فهذا أمر مؤلم؛ ولك أن تُقدِّر ذلك وأنت عزيز مصر؛ ونرجو أن تحفظ للأب شرفه ومَجْده وعظمته، واسْتُرْ ذلك الأمر من أجل خاطر ومكانة والده.
أو: أن يكون قولهم مقصودًا به، أن الأب شيخ مُهدَّم، لا يحتمل الصدمة، وخصوصًا أن له ابنًا قد فُقِد.
ثم يعرضون عَرْضًا آخر، فيقولون: {فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ المحسنين} [يوسف: 78].
أي: أنهم سألوه أن يُتمِّمَ إحسانه عليهم، فقد أحسن استقبالهم؛ وسبق أن أنزلهم منزلًا كريمًا، وأعطاهم المَيْرة، ولم يأخذ بضائعهم ثمنًا لها.
ومَنْ يفعل ذلك؛ لا يضِنُّ عليهم بأن يستجيب لرجائهم، بأن يأخذ واحدًا منهم بدلًا من أخيهم الصغير.
كل هذه ترقيقات منهم لقلبه، ولكن القاعدة هي ألاَّ يُؤاخذ بالذنب إلا صاحبه؛ ولذلك لم يَفُتْ هذا الأمر على يوسف، فجاء الحق سبحانه بما يوضح ذلك: {قَالَ مَعَاذَ الله...}.
ويستعيذ يوسف عليه السلام بالله أن يأخذ أحدًا بدلًا ممَّنْ وُجِد في متاعه صُوَاع الملك، فما ذنبه في هذا الأمر؟ ولا أحد يمكن أن ينال عقابًا على ذنب ارتكبه غيره.
وساعةَ تقرأ إذا مُنوَّنة؛ فاعرف أن هناك جملةً محذوفةً، أي: أن يوسف قال: إنْ أخذنا غير مَنْ وجدنا متاعنا عنده نكون من الظالمين.
وجاء التنوين بدلًا من الجملة المحذوفة التي ذكرناها.
ومثال آخر من القرآن هو قول الحق سبحانه: {وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ} [الواقعة: 84].
ويحدث ذلك حين تبلغ الرُّوح الحلقوم، وجاء التنوين عِوَضًا عن الجملة كلها.
وهكذا أراد يوسف أن يُذكِّرهم أنه لا يحِقُّ له أن يأخذ أخًا منهم بدلًا من بنيامين؛ لأنه هو مَنْ وُجِد في متاعه صُوَاع الملك؛ ولا يصح له أن يظلم أحدًا، أو يأخذ أحدًا بجريرة أحد آخر.
وهنا علم أبناء يعقوب أن المسألة لا يُبَتُّ فيها بسهولة؛ لأنها تتعلق بأمر خطير. اهـ.

.قال سيد قطب في الآيات السابقة:

{وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ (54)}
نمضي في هذا الدرس مع قصة يوسف، في حلقة جديدة من حلقاتها الحلقة الرابعة وقد وقفنا في نهاية الجزء الثاني عشر عند نهاية الحلقة الثالثة. وقد أخرج من السجن، واستدعاه الملك ليكون له شأن معه، هو الذي سنعرفه في هذه الحلقة الجديدة.
هذا الدرس يبدأ بآخر فقرة في المشهد السابق. مشهد الملك يستجوب النسوة اللاتي قطعن أيديهن كما رغب إليه يوسف أن يفعل تمحيصًا لتلك المكايد التي أدخلته السجن، وإعلانًا لبراءته على الملأ، قبل أن يبدأ مرحلة جديدة في حياته؛ وهو يبدؤها واثقًا مطمئنًا، في نفسه سكينة وفي قلبه طمأنينة وقد أحس أنها ستكون مرحلة ظهور في حياة الدولة، وفي حياة الدعوة كذلك. فيحسن أن يبدأها وكل ما حوله واضح، ولا شيء من غبار الماضي يلاحقه وهو بريء.
ومع أنه قد تجمل فلم يذكر عن امرأة العزيز شيئًا، ولم يشر إليها على وجه التخصيص، إنما رغب إلى الملك أن يفحص عن أمر النسوة اللاتي قطعن أيديهن، فإن امرأة العزيز تقدمت لتعلن الحقيقة كاملة: {الآن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب وأن الله لا يهدي كيد الخائنين وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي إن ربي غفور رحيم}..
وفي هذه الفقرة الأخيرة تبدو المرأة مؤمنة متحرجة، تبرئ نفسها من خيانة يوسف في غيبته، ولكنها تتحفظ فلا تدعي البراءة المطلقة، لأن النفس أمارة بالسوء إلا ما رحم ربي ثم تعلن ما يدل على إيمانها بالله ولعل ذلك كان اتباعًا ليوسف: {إن ربي غفور رحيم}..
وبذلك يسدل الستار على ماضي الآلام في حياة يوسف الصديق. وتبدأ مرحلة الرخاء والعز والتمكين..
{وقال الملك ائتوني به أستخلصه لنفسي فلما كلمه قال إنك اليوم لدينا مكين أمين قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم وكذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء نصيب برحمتنا من نشاء ولا نضيع أجر المحسنين ولأجر الآخرة خير للذين آمنوا وكانوا يتقون}..
لقد تبينت للملك براءة يوسف، وتبين له معها علمه في تفسير الرؤيا، وحكمته في طلب تمحيص أمر النسوة، كذلك تبينت له كرامته وإباؤه، وهو لا يتهافت على الخروج من السجن، ولا يتهافت على لقاء الملك. وأي ملك؟ ملك مصر! ولكن يقف وقفة الرجل الكريم المتهم في سمعته، المسجون ظلمًا، يطلب رفع الاتهام عن سمعته قبل أن يطلب رفع السجن عن بدنه؛ ويطلب الكرامة لشخصه ولدينه الذي يمثله قبل أن يطلب الحظوة عند الملك..
كل أولئك أوقع في نفس الملك احترام هذا الرجل وحبه فقال: {ائتوني به أستخلصه لنفسي}..فهو لا يأتي به من السجن ليطلق سراحه؛ ولا ليرى هذا الذي يفسر الرؤى؛ ولا ليسمعه كلمة الرضاء الملكي السامي! فيطير بها فرحًا.. كلا! إنما يطلبه ليستخلصه لنفسه، ويجعله بمكان المستشار واَلنجيّ والصديق..
فيا ليت رجالًا يمرغون كرامتهم على أقدام الحكام وهم أبرياء مطلقو السراح فيضعوا النير في أعناقهم بأيديهم؛ ويتهافتوا على نظرة رضى وكلمة ثناء، وعلى حظوة الأتباع لا مكانة الأصفياء.. يا ليت رجالًا من هؤلاء يقرأون هذا القرآن، ويقرأون قصة يوسف، ليعرفوا أن الكرامة والإباء والاعتزاز تدر من الربح- حتى المادي أضعاف ما يدره التمرغ والتزلف والانحناء!
{وقال الملك ائتوني به أستخلصه لنفسي}..
ويحذف السياق جزئية تنفيذ الأمر لنجد يوسف مع الملك..
{فلما كلمه قال إنك اليوم لدينا مكين أمين}..
فلما كلمه تحقق له صدق ما توسمه. فإذا هو يطمئنه على أنه عند الملك ذو مكانة وفي أمان. فليس هو الفتى العبراني الموسوم بالعبودية. إنما هو مكين. وليس هو المتهم المهدد بالسجن. إنما هو أمين. وتلك المكانة وهذا الأمان لدى الملك وفي حماه. فماذا قال يوسف؟
إنه لم يسجد شكرًا كما يسجد رجال الحاشية المتملقون للطواغيت. ولم يقل له: عشت يا مولاي وأنا عبدك الخاضع أو خادمك الأمين، كما يقول المتملقون للطواغيت! كلا إنما طالب بما يعتقد أنه قادر على أن ينهض به من الأعباء في الأزمة القادمة التي أوّل بها رؤيا الملك، خيرًا مما ينهض بها أحد في البلاد؛ وبما يعتقد أنه سيصون به أرواحًا من الموت وبلادًا من الخراب، ومجتمعًا من الفتنة فتنة الجوع فكان قويًا في إدراكه لحاجة الموقف إلى خبرته وكفايته وأمانته، قوته في الاحتفاظ بكرامته وإبائه: {قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم}.. والأزمة القادمة وسنو الرخاء التي تسبقها في حاجة إلى الحفظ والصيانة والقدرة على إدارة الأمور بالدقة وضبط الزراعة والمحاصيل وصيانتها. وفي حاجة إلى الخبرة وحسن التصرف والعلم بكافة فروعه الضروية لتلك المهمة في سنوات الخصب وفي سني الجدب على السواء. ومن ثم ذكر يوسف من صفاته ما تحتاج إليه المهمة التي يرى أنه أقدر عليها، وأن وراءها خيرًا كبيرًا لشعب مصر وللشعوب المجاورة: {إني حفيظ عليم}..
ولم يكن يوسف يطلب لشخصه وهو يرى إقبال الملك عليه فيطلب أن يجعله على خزائن الأرض.. إنما كان حصيفًا في اختيار اللحظة التي يستجاب له فيها لينهض بالواجب المرهق الثقيل ذي التبعة الضخمة في أشد أوقات الأزمة؛ وليكون مسؤولًا عن إطعام شعب كامل وشعوب كذلك تجاوره طوال سبع سنوات، لا زرع فيها ولا ضرع. فليس هذا غنمًا يطلبه يوسف لنفسه. فإن التكفل بإطعام شعب جائع سبع سنوات متوالية لا يقول أحد إنه غنيمة.
إنما هي تبعة يهرب منها الرجال، لأنها قد تكلفهم رؤوسهم، والجوع كافر، وقد تمزق الجماهير الجائعة أجسادهم في لحظات الكفر والجنون.
وهنا تعرض شبهة.. أليس في قول يوسف عليه السلام: {اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم}.. أمران محظوران في النظام الإسلامي: أولهما: طلب التولية، وهو محظور بنص قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «إنا والله لا نولي هذا العمل أحدًا سأله (أو حرص عليه)». متفق عليه.
وثانيهما: تزكية النفس، وهي محظورة بقوله تعالى: {فلا تزكوا أنفسكم} ولا نريد أن نجيب بأن هذه القواعد إنما تقررت في النظام الإسلامي الذي تقرر على عهد محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنها لم تكن مقررة على أيام يوسف عليه السلام والمسائل التنظيمية في هذا الدين ليست موحدة كأصول العقيدة، الثابتة في كل رسالة وعلى يد كل رسول..
لا نريد أن نجيب بهذا، وإن كان له وجه، لأننا نرى أن الأمر في هذه المسألة أبعد أعماقًا، وأوسع آفاقًا من أن يرتكن إلى هذا الوجه؛ وأنه إنما يرتكن إلى اعتبارات أخرى لابد من إدراكها، لإدراك منهج الاستدلال من الأصول والنصوص، ولإعطاء أصول الفقه وأحكامه تلك الطبيعة الحركية الأصيلة في كيانها، والتي خمدت وجمدت في عقول الفقهاء وفي عقلية الفقه كلها في قرون الخمود والركود!
إن الفقه الإسلامي لم ينشأ في فراغ، كما أنه لا يعيش ولا يفهم في فراغ!.. لقد نشأ الفقه الإسلامي في مجتمع مسلم، ونشأ من خلال حركة هذا المجتمع في مواجهة حاجات الحياة الإسلامية الواقعية. كذلك لم يكن الفقه الإسلامي هو الذي أنشأ المجتمع المسلم؛ إنما كان المجتمع المسلم بحركته الواقعية لمواجهة حاجات الحياة الإسلامية هو الذي أنشأ الفقه الإسلامي..
وهاتان الحقيقتان التاريخيتان الواقعيتان عظيمتان الدلالة؛ كما أنهما ضروريتان لفهم طبيعة الفقه الإسلامي؛ وإدراك الطبيعة الحركية للأحكام الفقهية الإسلامية.
والذين يأخذون اليوم تلك النصوص والأحكام المدونة، دون إدراك لهاتين الحقيقتين؛ ودون مراجعة للظروف والملابسات التي نزلت فيها تلك النصوص ونشأت فيها تلك الأحكام، ودون استحضار لطبيعة الجو والبيئة والحالة التي كانت تلك النصوص تلبيها وتوجهها؛ وكانت تلك الأحكام تصاغ فيها وتحكمها وتعيش فيها... الذين يفعلون ذلك؛ ويحاولون تطبيق هذه الأحكام كأنها نشأت في فراغ؛ وكأنها اليوم يمكن أن تعيش في فراغ.. هؤلاء ليسوا فقهاء! وليس لهم فقه بطبيعة الفقه! وبطبيعة هذا الدين أصلًا!
إن فقه الحركة يختلف اختلافًا أساسيًا عن فقه الأوراق مع استمداده أصلًا وقيامه على النصوص التي يقوم عليها ويستمد منها فقه الأوراق!