فصل: قال أبو السعود:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال أبو السعود:

{فَلَمَّا استيأسوا مِنْهُ} أي يئسوا من يوسف وإجابتِه لهم أشدَّ يأس بدِلالة صيغة الاستفعال، وإنما حصَلت لهم هذه المرتبةُ من اليأس لِما شاهدوه من عَوْذه بالله مما طلبوه الدالِّ على كون ذلك عنده في أقصى مراتب الكراهةِ وأنه مما يجب أن يُحترز عنه ويُعاذَ منه بالله عز وجل ومن تسميته ظلمًا بقوله: {إِنَّا إِذًا لظالمون}.
{خَلَصُواْ} اعتزلوا وانفردوا عن الناس: {نَجِيًّا} أي ذوي نجوى على أن يكون بمعنى النجوى والتناجي أو فوجًا نجيًا على أن يكون بمعنى المناجى كالعشير والسمير بمعنى المعاشر والمسامر ومنه قوله تعالى: {وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا} ويجوز أن يقال: هم نَجيٌّ، كما يقال: هم صديق لأنه بزنة المصادر من الزفير والزئير: {قَالَ كَبِيرُهُمْ} في السن وهو روبيلُ أو في العقل وهو يهوذا أو رئيسهم وهو شمعون: {أَلَمْ تَعْلَمُواْ} كأنهم أجمعوا عند التناجي على الانقلاب جملةً ولم يرضَ به فقال منكِرًا عليهم: ألم تعلموا: {أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَّوْثِقًا مّنَ الله} عهدًا يوثق به وهو حِلفُهم بالله تعالى، وكونُه من الله لإذنه فيه وكونِ الحلف باسمه الكريم: {وَمِن قَبْلُ} أي ومن قبل هذا: {مَا فَرَّطتُمْ في يُوسُفَ} قصرتم في شأنه ولم تحفظوا عهدَ أبيكم وقد قلتم: وإنا له لناصحون، وإنا له لحافظون، وما مزيدةٌ أو مصدرية، ومحلُّ المصدر النصبُ عطفًا على مفعول تعلموا أي ألم تعلموا أخذَ أبيكم عليكم موثقًا وتفريطَكم السابقَ في شأن يوسف عليه السلام، ولا ضير في الفصل بين العاطفِ والمعطوفِ بالظرف وقد جوّز النصبُ عطفًا على اسم أن والخبر في يوسف أو من قبل على معنى ألم تعلموا أن تفريطَكم السابق وقع في شأن يوسف عليه السلام أو أن تفريطَكم الكائنَ أو كائنًا في شأن يوسف عليه السلام وقع من قبل، وفيه أن مقتضى المقام إنما هو الإخبارُ بوقوع ذلك التفريطِ لا بكون تفريطِهم السابقِ واقعًا في شأن يوسف كما هو مفادُ الأول، ولا بكون تفريطِهم الكائنِ في شأنه واقعًا من قبل كما هو مفادُ الثاني على أن الظرفَ المقطوعَ عن الإضافة لا يقع خبرًا ولا صفة ولا صلة ولا حالًا عند البعض كما تقرر في موضعه، وقيل: محلُّه الرفعُ على الابتداء والخبرُ من قبلُ وفيه ما فيه، وقيل: ما موصولةٌ أو موصوفة ومحلها النصبُ أو الرفعُ والحقُّ هو النصبُ عطفًا على مفعول تعلموا أي ما فرطتموه بمعنى قدمتموه في حقه من الخيانة، وأما النصبُ عطفًا على اسم أن أو الرفعُ على الابتداء فقد عرفتَ حاله: {فَلَنْ أَبْرَحَ الأرض} متفرِّعٌ على ما ذكَره وذكره إياهم من ميثاق أبيه وقوله: {لَتَأْتُنَّنِى بِهِ إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ} أي فلن أفارق أرضَ مصرَ جاريًا على قضية الميثاق: {حتى يَأْذَنَ لِى أَبِى} في البَراح بالانصراف إليه وكأن أيمانَهم كانت معقودةً على عدم الرجوعِ بغير إذن يعقوبَ عليه السلام: {أَوْ يَحْكُمَ الله لِى} بالخروج منها على وجه لا يؤدّي إلى نقض الميثاقِ أو بخلاص أخي بسبب من الأسباب. روي أنهم كلموا العزيز في إطلاقه فقال روبيلُ: أيها الملك لترُدَّن إلينا أخانا أو لأصِيحن صَيْحةً لا تبقى بمصرَ حاملٌ إلا ألقت ولدها ووقعت كل شعرة في جسده فخرجت من ثيابه وكان بنو يعقوب إذا غضِبوا لا يطاقون خلا أنه إذا مس مَنْ غضب واحدٌ منهم سكن غضبُه، فقال يوسف لابنه: قم إلى جنبه فَمُسّه فَمَسَّه فقال روبيل: مَنْ هذا؟ إن في هذا البلد بَذْرًا من بَذر يعقوب: {وَهُوَ خَيْرُ الحاكمين} إذ لا يحكم إلا بالحق والعدل.
{ارجعوا} أنتم: {إلى أَبِيكُمْ فَقُولُواْ يأَبَانَا إِنَّ ابنك سَرَقَ} على ظاهر الحالِ وقرئ {سُرق} أي نسب إلى السرقة: {وَمَا شَهِدْنَا} عليه: {إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا} وشاهدنا أن الصُواعَ استُخرجت من وعائه: {وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ} أي باطن الحال: {حافظين} فما ندري أن حقيقةَ الأمرِ كما شاهدنا أم بخلافه، أو وما كنا عالمين حين أعطيناك المَوْثِقَ أنه سيسرِق أو أن نلاقيَ هذا الأمر أو أنك تصاب به كما أُصبت بيوسف.
{واسئل القرية التي كُنَّا فِيهَا} أي مصرَ أو قريةً بقربها لحِقهم المنادي عندها أي أرسلْ إلى أهلها واسألهم عن القصة: {والعير التي أَقْبَلْنَا فِيهَا} أي أصحابَها فإن القصة معروفةٌ فيما بينهم وكانوا قومًا من كنعان من جيران يعقوبَ عليه السلام، وقيل: من صنعاء: {وِإِنَّا لصادقون} تأكيدٌ في محل القسم: {قَالَ} أي يعقوبُ عليه السلام وهو استئنافٌ مبني على سؤال نشأ مما سبق فكأنه قيل: فماذا كان عند قولِ المتوقّف لإخوته ما قال؟ فقيل: قال يعقوبُ عندما رجَعوا إليه فقالوا له ما قالوا وإنما حُذف للإيذان بأن مسارعتَهم إلى قبوله ورجوعَهم به إلى أبيهم أمرٌ مسلَّم غنيٌّ عن البيان، وإنما المحتاجُ إليه جوابُ أبيهم: {بَلْ سَوَّلَتْ} أي زيّنت وسهّلت وهو إضرابٌ لا عن صريح كلامهم فإنهم صادقون في ذلك عما يتضمنه من ادعاء البراءة عن التسبب فيما نزل به وأنه لم يصدرُ عنهم ما يؤدي إلى ذلك من قول أو فعل كأنه قيل: لم يكن الأمرُ كذلك بل زينت: {لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا} من الأمور فأتيتموه يريد بذلك فُتياهم بأخذ السارق بسرقته: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} أي فأمري صبرٌ جميل أو فصبرٌ جميل أجملُ: {عَسَى الله أَن يَأْتِيَنِى بِهِمْ جَمِيعًا} بيوسف وأخيه والمتوقِّف بمصر: {إِنَّهُ هُوَ العليم} بحالي وحالهم: {الحكيم} الذي لم يبتلِني إلا لحكمة بالغة. اهـ.

.قال الألوسي:

{فَلَمَّا اسْتَيْئَسُوا مِنْهُ} أي يئسوا من يوسف عليه السلام وإجابته لهم إلى مرادهم، فاستفعل بمعنى فعل نحو سخر واستسخر وعجب واستعجب على ما في البحر، وقال غير واحد: إن السين والتاء زائدتان للمبالغة أي يئسوا يأسًا كاملًا لأن المطلوب المرغوب مبالغ في تحصيله، ولعل حصول هذه المرتبة من اليأس لهم لما شاهدوه من عوذه بالله تعالى مما طلبوه الدال على كون ذلك عنده في أقصى مراتب الكراهة وأنه مما يجب أن يحترز عنه ويعاذ بالله تعالى منه، ومن تسميته ذلك ظلمًا بقوله: {إِنَّا إِذًا لظالمون} [يوسف: 79].
وفي بعض الآثار أنهم لما رأوا خروج الصواع من رحله وكانوا قد أفتوا بما أفتوا تذكروا عهدهم مع أبيهم استشاط من بينهم روبيل غضبًا وكان لا يقوم لغضبه شيء ووقف شعره حتى خرج من ثيابه فقال: أيها الملك لتتركن أخانا أو لأصيحن صيحة لا يبقين بها في مصر حامل إلا وضعت فقال يوسف عليه السلام لولد له صغير: قم إلى هذا فمسه أو خذ بيده، وكان إذا مسه أحد من ولد يعقوب عليه السلام يسكن غضبه، فلما فعل الولد سكن غضبه فقال لإخوته: من مسني منكم؟ فقالوا: ما مسك أحد منا فقال: لقد مسني ولد من آل يعقوب عليه السلام، ثم قال لإخوته كم عدد الأسواق بمصر؟ قالوا: عشرة قال: اكفوني أنتم الأسواق وأنا أكفيكم الملك أو اكفوني أنتم الملك وأنا أكفيكم الأسواق فلما أحس يوسف عليه السلام بذلك قام إليه وأخذ بتلابيبه وصرعه وقال: أنتم يا معشر العبرانيين تزعمون أن لا أحد أشد منكم قوة فعند ذلك خضعوا وقالوا: {يا أيها العزيز} [يوسف: 78] الخ، ويمكن على هذا أن يكون حصول اليأس الكامل لهم من مجموع الأمرين.
وجوز بعضهم كون ضمير: {مِنْهُ} لبنيامين، وتعقب بأنهم لم ييأسوا منه بدليل تخلف كبيرهم لأجله وروى أبو ربيعة عن البزي عن ابن كثير أنه قرأ: {استأيسوا} من أيس مقلوب يئس، ودليل القلب على ما في البحر عدم انقلاب ياء أيس ألفًا لتحركها وانفتاح ما قبلها، وحاصل المعنى لما انقطع طمعهم بالكلية: {مِنْهُ خَلَصُواْ} انفردوا عن غيرهم واعتزلوا الناس.
وقول الزجاج: انفرد بعضهم عن بعض فيه نظر: {نَجِيًّا} أي متناجين متشاورين فيما يقولون لأبيهم عليه الصلاة والسلام، وإنما وحده وكان الظاهر جمعه لأنه حال من ضمير الجمع لأنه مصدر بحسب الأصل كالتناجي أطلق على المتناجين مبالغة أو لتأويله بالمشتق والمصدر ولو بحسب الأصل يشمل القليل والكثير أو لكونه على زنة المصدر لأن فعيلًا من أبنية المصادر هو فعيل بمعنى مفاعل كجليس بمعنى مجالس وكشعير بمعنى معاشر، أي مناج بعضهم بعضًا فيكونون متناجين وجمعه أنجية قال لبيد:
وشهدت أنجية الخلافة عاليا ** كعبي وارادف الملوك شهود

وأنشد الجوهري:
إني إذًا ما القول كانوا أنجيه ** واضطربوا مثل اضطراب الأرشيه

هناك أوصيني ولا توصي بيه

وهو على خلاف القياس إذ قياسه في الوصف افعلاء كغني وأغنياء: {قَالَ كَبِيرُهُمْ} أي رئيسهم وهو شمعون قاله مجاهد، أو كبيرهم في السن وهو روبيل قاله قتادة، أو كبيرهم في العقل وهو يهوذا قاله وهب والكلبي، وعن محمد بن إسحاق أنه لاوى: {أَلَمْ تَعْلَمُواْ} كأنهم أجمعوا عند التناجي على الانقلاب جملة ولم يرض به فقال منكرًا عليهم: {أَلَمْ تَعْلَمُواْ}.
{أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَّوْثِقًا مّنَ الله} عهدًا يوثق به وهو حلفهم بالله تعالى وكونه منه تعالى لأنه بإذنه فكأنه صدر منه تعالى أو هو من جهته سبحانه فمن ابتدائية: {وَمِن قَبْلُ} أي من قبل هذا، والجار والمجرور متعلق بقوله تعالى: {مَا فَرَّطتُمْ في يُوسُفَ} أي قصرتم في شأنه ولم تحفظوا عهد أبيكم فيه وقد قلتم ما قلتم.
و{مَا} مزيدة والجملة حالية، وهذا على ما قيل أحسن الوجوه في الآية وأسلمها، وجوز أن تكون: {مَا} مصدرية ومحل المصدر النصب عطفًا على مفعول: {تَعْلَمُواْ} أي ألم تعلموا أخذ أبيكم موثقًا عليكم وتفريطكم السابق في شأن يوسف عليه السلام، وأورد عليه أمران:
الفصل بين حرف العطف والمعطوف بالظرف، وتقديم معمول صلة الموصول الحرفي عليه وفي جوازهما خلاف للنحاة والصحيح الجواز خصوصًا بالظرف المتوسع فيه، وقيل: بجواز العطف على اسم: {إن} ويحتاج حينئذ إلى خبر لأن الخبر الأول لا يصح أن يكون خبر إله فهو: {فِى يُوسُفَ} أو: {مِن قَبْلُ} على معنى ألم تعلموا أن تفريطكم السابق وقع في شأن يوسف عليه السلام أو أن تفريطكم الكائن أو كائنًا في شأن يوسف عليه السلام وقع من قبل.
واعترض بأن مقتضى المقام إنما هو الأخبار بوقوع ذلك التفريط لا يكون تفريطهم السابق واقعًا في شأن يوسف عليه السلام كما هو مفاد الأول، ولا يكون تفريطهم الكائن في شأنه واقعًا من قبل كما هو مفاد الثاني.
وفيه أيضًا ما ذكره أبو البقاء وتبعه أبو حيان من أن الغايات لا تقع خبرًا ولا صلة ولا صفة ولا حالًا وقد صرح بذلك سيبويه سواء جرت أم لم تجر فتقول: يوم السبت يوم مبارك والسفر بعده ولا تقول والسفر بعد، وأجاب عند في الدر المصون بأنه إنما امتنع ذلك لعدم الفائدة لعدم العلم بالمضاف إليه المحذوف فينبغي الجواز إذا كان المضاف إليه معلومًا مدلولًا عليه كما في الآية الكريمة، ورد بأن جواز حذف المضاف إليه في الغايات مشروط بقيام القرينة على تعيين ذلك المحذوف على ما صرح به الرضى فدل على أن الامتناع ليس معللًا بما ذكر.
وقال الشهاب: أن ما ذكروه ليس متفقًا عليه فقد قام الإمام المرزوقي في شرح الحماسة: إنها تقع صفات وأخبارًا وصلات وأحوالًا ونقل هذا الاعراب المذكور هنا عن الرماني وغيره واستشهد له بما يثبته من كلام العرب، ثم إن في تعرفها بالإضافة باعتبار تقدير المضاف إليه معرفة يعينه الكلام السابق عليها اختلافًا والمشهور أنها معارف، وقال بعضهم: نكرات وإن التقدير من قبل شيء كما في شرح التسهيل.
والفاضل صاحب الدر سلك مسلكًا حسنًا وهو أن المضاف إليه إذا كان معلومًا مدلولًا عليه بأن يكون مخصوصًا معينًا صح الاخبار لحصول الفائدة فإن لم يتعين بأن قامت قرينة العموم دون الخصوص وقدر من قبل شيء لم يصح الأخبار ونحوه إذ ما شيى إلا وهو قبل شيء ما فلا فائدة في الأخبار فحينئذ يكون معرفة ونكرة، ولا مخالفة بني كلامه وكلام الرضى مع أن كلام الرضى غير متفق عليه انتهى، وهو كما قال تحقيق نفيس، وقيل: محل المصدر الرفع على الإبتداء والخبر: {مِن قَبْلُ} وفيه البحث السابق، وقيل: {مَا} موصولة ومحلها من الإعراب ما تقدم من الرفع أو النصب وجملة: {فَرَّطتُمْ} صلتها والعائد محذوف، والتفريط بمعنى التقديم من الفرط لا بمعنى التقصير أي ما قدمتموه من الجناية.
وأورد عليه أنه يكون قوله تعالى: {مِن قَبْلُ} تكرارًا فإن جعل خبرًا يكون الكلام غير مفيد وإن جعل متعلقًا بالصلة يلزم مع التكرار تقديم متعلق الصلة على الموصول وهو غير جائز، وقيل: {مَا} نكرة موصوفة ومحلها ما تقدم وفيه ما فيه: {فَلَنْ أَبْرَحَ الأرض} مفرع على ما ذكره وذكر به، و: {برح} تامة وتستعمل إذا كان كذلك بمعنى ذهب وبمعنى ظهر كما في قولهم: برح الخفاء، وقد ضمنت هنا معنى فارق فنصبت: {وَفِى الأرض} على المفعولية ولا يجوز أن تكون ناقصة لأن الأرض لا يصح أن تكون خبرًا عن المتكلم هنا وليست منصوبة على الظرفية ولا بنزع الخافض؛ وعنى بها أرض مصر أي فلن أفارق أرض مصر جريًا على قضية الميثاق: {حتى يَأْذَنَ لِى أبى} في البراح بالانصراف إليه: {أَوْ يَحْكُمَ الله لِى} بالخروج منها على وجه لا يؤدي إلى نقض الميثاق أو بخلاص أخي بسبب من الأسباب، قال في البحر إنه غيا ذلك بغايتين خاصة وهي إذن أبيه وعامة وهي حكم الله تعالى له وكأنه بعد أن غيا بالأولى رجع وفوض الأمر إلى من له الحكم حقيقة جل شأنه، وأراد حكمه سبحانه بما يكون عذرًا له ولو الموت، والظاهر أن أحب الغايتين إليه الأولى فلذا قدم: {لِى} فيها وأخره في الثانية فليفهم: {وَهُوَ خَيْرُ الحاكمين} إذ لا يحكم سبحانه إلا بالحق والعدل.
{ارجعوا إلى أَبِيكُمْ فَقُولُواْ} له: {فَقُولُواْ يأَبَانَا إِنَّ ابنك سَرَقَ} الظاهر أن هذا القول من تتمة كلام كبيرهم وقيل: هو من كلام يوسف عليه السلام وفيه بعد كما أن الظاهر أنهم أرادوا أنه سرق في نفس الأمر.
{وَمَا شَهِدْنَا} عليه: {إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا} من سرقته وتبقيناه حيث استخرج صواع الملك من رحله.
{وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حافظين} وما علمنا أنه سيسرق حين أعطيناك الميثاق أو ما علمنا أنك ستصاب به كما أصبت بيوسف.
وقرأ الضحاك: {سارق} باسم الفاعل.
وقرأ ابن عباس وأبو رزين والكسائي في رواية: {فَقَدْ سَرَقَ} بتشديد الراء مبنيًا للمفعول أي نسب إلى السرقة فمعنى: {وَمَا شَهِدْنَا} الخ وما شهدنا إلا بقدر ما علمنا من التسريق وما كنا للأمر الخفي بحافظين أسرق بالصحة أم دس الصواع في رحله ولم يشعر.
واستحسنت هذه القراءة لما فيها من التنزيه كذا قالوا، والظاهر أن القول باستفادة اليقين من استخراج الصواع من رحله مما لا يصح فكيف يوجب اليقين، واحتمال أنه دس فيه من غير شعور قائم جعل مجرد وجود الشيء في يد المدعى عليه بعد إنكاره موجبًا للسرق في شرعهم أولًا، قيل: فالوجه أن الظن البين قائم مقام العلم، ألا ترى أن الشهادة تجوز بناء على الاستصحاب ويسمى علمًا كقوله تعالى: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مؤمنات} [الممتحنة: 10] وإنما جزموا بذلك لبعد الاحتمالات المعارضة عندهم، وإذا جعل الحكم بالسرقة وكذا علمهم أيضًا مبنيًا على ما شاهدوا من ظاهر الأمر اتحدت القراءتان ويفسر: {وَمَا كُنَّا} الخ بما فسر به على القراءة الأخيرة، وقيل: معنى: {مَا شَهِدْنَا} الخ ما كانت شهادتنا في عمرنا على شيء إلا بما علمنا وليست هذه شهادة منا إنما هي خبر عن صنيع ابنك بزعمهم: {وَمَا كُنَّا} الخ كما هو وهو ذهاب أيضًا إلى أنهم غير جازمين.
وفي الكشف الذي يشهد له الذوق أنهم كانوا جازمين وقولهم: {إن يسرق فقد سرق} [يوسف: 77] تمهيد بين، وادعاء العلم لا يلزم العلم فإن كان لبعد الاحتمالات المعارضة فلا يكون كذبًا محرمًا وإلا فغايته الكذب في دعوى العلم وليس بأول كذباتهم، وكان قبل أن تنبؤا ولهذا خونهم الأب في هذه أيضًا، على أن قولهم: {جَزاؤُهُ مَن وُجِدَ في رَحْلِهِ} [يوسف: 75] مؤكدًا ذلك التأكيد يدل على أنهم جعلوا الوجدان في الرحل قاطعًا وإلا كان عليهم أن يقولوا: جزاؤه من وجد في رحله متعديًا أو سارقًا ونحوه، فإن يحتمل عنهم الحزم هنالك فلم لا يحتمل هاهنا اه وفيه مخالفة لبعض ما نحن عليه، وكذا لما ذكرناه في تفسير: {جَزَاؤُهُ} [يوسف: 75] الخ، ولعل الأمر في هذا هين.