فصل: قال القاسمي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ومن غريب التفسير أن معنى قولهم: {لّلْغَيْبِ} لليل وهو بهذا المعنى في لغة حمير وكأنهم قالوا: وما شهدنا إلا بما علمنا من ظاهر حاله وما كنا لليل حافظين أي لا ندري ما يقع فيه فلعله سرق فيه أو دلس عليه، وأنا لا أدري ما الداعي إلى هذا التفسير مع تبلج صبح المعنى المشهور؛ وأيًا ما كان فلام: {لّلْغَيْبِ} للتقوية والمراد حافظين الغيب.
{وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا}
يعنون كما روى عن ابن عباس وقتادة والحسن مصر، وقيل: قرية بقربها لحقهم المنادى بها، والأول: ظاهر على القول بأن المفتش لهم يوسف عليه السلام والثاني: الظاهر على القول بأنه المؤذن، وسؤال القرية عبارة عن سؤال أهلها إما مجازًا في القرية لإطلاقها عليها بعلاقة الحالية والمحلية أو في النسبة أو يقدر فيه مضاف وهو مجاز أيضًا عند سيبويه وجماعة.
وفي المحصول وغيره أن الإضمار والمجاز متباينان ليس أحدهما قسمًا من الآخر والأكثرون على المقابلة، وأيًا ما كان فالمسؤول عنه محذوف للعلم به، وحاصل المعنى أرسل من تثق به إلى أهل القرية واسؤلهم عن القصة: {والعير التي أَقْبَلْنَا فِيهَا} أي أصحابها الذين توجهنا فيهم وكنا معهم فإن القصة معروفة فيما بينهم وكانوا قومًا من كنعان من جيران يعقوب عليه السلام، وقيل: من أهل صنعاء، والكلام هنا في التجوز والإضمار كالكلام سابقًا.
وقيل: لا تجوز ولا إضمار في الموضعين والمقصود إحالة تحقيق الحال والإطلاع على كنه القصة على السؤال من الجمادات والبهائم أنفسها بناء على أنه عليه السلام نبي فلا يبعد أن تنطق وتخبره بذلك على خرق العادة.
وتعقب بأنه مما لا ينبغي أن يكون مرادًا ولا يقتضيه المقام لأنه ليس بصدد إظهار المعجزة، وقال بعض الأجلة: الأول إبقاء: {القرية والعير} على ظاهرهما وعدم إضمار مضاف إليهما ويكون الكلام مبنيًا على دعوى ظهور الأمر بحيث أن الجمادات والبهائم قد علمت به وقد شاع مثل ذلك في الكلام قديمًا وحديثًا ومنه قول ابن الدمينة:
سل القاعة الوعسا من الأجرع الذي ** به البان هل حييت إطلال دارك

وقوله:
سلوا مضجعي عني وعنها فإننا ** رضينا بما يخبرن عنا المضاجع

وقوله:
واسأل نجوم الليل هل زار الكرى ** جفني وكيف يزور من لم يعرف

ولا يخفى أن مثل هذا لا يخلو عن ارتكاب مجاز.
نعم هو معنى لطيف بيد أن الجمهور على خلافه وأكثرهم على اعتبار مجاز الحذف: {وِإِنَّا لصادقون} فيما أخبرناك به، وليس المراد إثبات صدقهم بما ذكره حتى يكون مصادرة بل تأكيد صدقهم بما يفيد ذلك من الاسمية وإن واللام وهو مراد من قال: إنه تأكيد في محل القسم، ويحتمل على ما قيل أن يريد أن هنا قسمًا مقدرًا، وقيل: المراد الإثبات ولا مصادرة على معنى أنا قوم عادتنا الصدق فلا يكون ما أخبرناك به كذبًا ولا نظنك في مرية من عدم قبوله.
{قَالَ} أي أبوهم عليه السلام وهو استئناف مبنى على سؤال نشأ مما سبق فكأنه قيل: فماذا كان عند قول ذلك القائل للإخوة ما قال؟ فقيل: قال أبوهم عندما رجعوا إليه فقالوا له ما قالوا: {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا} وإنما حذف للإيذان بأن مسارعتهم إلى قبول كلام ذلك القائل ورجوعهم به إلى أبيهم أمر مسلم غني عن البيان وإنما المحتاج إليه جوابه.
يروى أنهم لما عزموا على الرجوع إلى أبيهم قال لهم يوسف عليه السلام: إذا أتيتم أباكم فاقرؤا عليه السلام وقولوا له: إن ملك مصر يدعو لك أن لا تموت حتى ترى ولدك يوسف ليعلم أن في أرض مصر صديقين مثله، فساروا حتى وصلوا إليه فأخبروه بجميع ما كان فبكى وقال ما قال،: {وبل} للإضراب وهو على ما قيل إضراب لا عن صريح كلامهم فإنهم صادقون فيه بل عما يتضمنه من ادعاء البراءة عن التسبب فيما نزل به وأنه لم يصدر عنهم ما أدى إلى ذلك من قول أو فعل كأنه لم يكن الأمر كذلك بل زينت وسهلت لكم أنفسكم أمرًا من الأمور فأتيتموه يريد بذلك فتياهم بأخذ السارق بسرقته وليس ذلك من دين الملك.
وقال أبو حيان إن هنا كلامًا محذوفًا وقع الإضراب عنه والتقدير ليس حقيقة كما أخبرتم بل سولت الخ وهو عند ابن عطية وادعى أنه الظاهر على حد ما قال في قصة يوسف عليه السلام ظن سوء بهم خلا أنه عليه السلام صدق ظنه هناك ولم يتحقق هنا.
وذكر ابن المنير في توجيه هذا القول هاهنا مع أنهم لم يتعمدوا في حق بنيامين سوءا ولا أخبروا اباهم إلا بالواقع على جليته وما تركوه بمصر إلا مغلوبين عن استصحابه أنهم كانوا عند أبيهم عليه السلام حينئذ متهمين وهم قمن باتهامه لما أسلفوه في حق يوسف عليه السلام وقامت عنده قرينة تؤكد التهمة وتقويها وهو أخذ الملك له في السرقة ولم يكن ذلك إلا من دينه لا من دينه ولا من دين غيره من الناس فظن أنهم الذين أفتوه بذلك بعد ظهور السرقة التي ذكروها تعمدًا ليتخلف دونهم، واتهمام من هو بحيث يتطرق إليه التهمة لا جرح فيه لاسيما فيما يرجع إلى الوالد مع الولد، ثم قال: ويحتمل أن يكون الوجه الذي سوغ له هذا القول في حقهم أنهم جعلوا مجرد وجود الصواع في رحل من يوجد في رحله سرقة من غير أن يحيلوا الحكم على ثبوت كونه سارقًا بوجه معلوم، وهذا في شرعنا لا يثبت السرقة على من ادعيت عليه فإن كان في شرعهم أيضًا كذلك ففي عدم تحرير الفتوى إشعار بأنهم كانوا حراصًا على أخذه وهو من التسويل وإن اقتضى ذلك في شرعهم فالعمدة على الجواب الأول هذا، والتنوين في: {لَكَ أمْرًا} للتعظيم أي أمرًا عظيمًا: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} أي فأمري ذلك أو فصبر جميل أجمل وقد تقدم تمام الكلام فيه فتذكر.
{عَسَى الله أَن يَأْتِيَنِى بِهِمْ جَمِيعًا} بيوسف وأخيه بنيامين والمتوقف بمصر: {إِنَّهُ هُوَ العليم} بحالي وحالهم: {الحكيم} الذي يبتلى ويرفع البلاء حسب الحكمة البالغة، قيل: إنما ترجى عليه السلام للرؤية التي رآها يوسف عليه السلام فكان ينتظرها ويحسن ظنه بالله تعالى لاسيما بعد أن بلغ الشظاظ الوركين وجاوز الحزام الطبيين فإنه قد جرت سنته تعالى أن الشدة إذا تناهت يجعل وراءها فرجًا عظيمًا، وانضم إلى ذلك ماأخبر به عن ملك مصر أنه يدعو له أن لا يموت حتى يرى ولده. اهـ.

.قال القاسمي:

{فَلَمَّا اسْتَيْأَسُواْ مِنْهُ خَلَصُواْ نَجِيًّا}
أي: يئسوا من يوسف وإجابته لهم أشد يأس، كما دل عليه (السين والتاء) فإنهما يزادان في المبالغة.
قال أبو السعود: وإنما حصلت لهم هذه المرتبة من اليأس، لما شاهدوه من عوذه بالله لما طلبوه، الدال على كون ذلك عنده في أقصى مراتب الكراهة، وأنه مما يجب أن يحترز عنه، ويعاذ بالله عز وجل، ومن تسميته (ظلمًا) بقوله: {إِنَّا إِذًا لَّظَالِمُونَ}، و (خلصوا) بمعنى اعتزلوا وانفردوا عن الناس، خالصين، لا يخالطهم سواهم، و (نجيًا) حال من فاعل (خلصوا) أي: اعتزلوا في هذه الحالة مناجين. وإنما أفردت الحال وصاحبها جمع؛ إما لأن النجي (فعيل) بمعنى (مفاعل) كالعشير والخليط، بمعنى المعاشر والمخالط، كقوله: {وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا} [مريم: من الآية 52]، أي: مناجيًا، وهذا في الاستعمال يفرد مطلقًا. يقال: هم خليطك وعشيرك أي: مخالطوك ومعاشروك. وإما لأنه صفة على (فعيل) بمنزلة صديق، وبابه. فوحد لأنه بزنة المصادر، كالصهيل والوحيد والذميل. وإما لأنه مصدر بمعنى التناجي، أطلق على المتناجين مبالغة، أو لتأويله بالمشتق والمصدر، ولو بحسب الأصل، يشمل القليل والكثير، وتنزيل المصدر منزلة الأوصاف أبلغ في المعنى، ولذا قال الزمخشري: وأحسن منه- أي: من تأويل: {نَجِيًّا} بذوي نجوى، أو فوجًا نجيًا أي: مناجيًا- إنهم تمحضوا تناجيًا لاستجماعهم لذلك، وإفاضتهم فيه، بجد واهتمام، كأنهم في أنفسهم صورة التناجي وحقيقته، وكان تناجيهم في تدبير أمرهم على أي: صفة يذهبون، وما يقولون لأبيهم في شأن أخيهم؟ كقوم تعايوا بما دهمهم من الخطب، فاحتاجوا إلى التشاور. انتهى.
لطيفة:
ذكر القاضي عياض في الشفا في (بحث إعجاز القرآن): أن أعرابيًا سمع رجلًا يقرأ: {فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا} فقال: أشهد أن مخلوقًا لا يقدر على مثل هذا الكلام.
وقال الثعالبي في كتاب الإيجاز والإعجاز في الباب الأول: من أراد أن يعرف جوامع الكلم، ويتنبه لفضل الاختصار، ويحيط ببلاغة الإيماء، ويفطن لكفاية الإيجاز فليتدبر القرآن، وليتأمل علوه على سائر الكلام.
ثم قال: فمن ذلك قوله عز ذكره، في إخوة يوسف: {فَلَمَّا اسْتَيْأَسُواْ مِنْهُ خَلَصُواْ نَجِيًّا} وهذه صفة اعتزالهم جميع الناس وتقليبهم الآراء ظهرًا لبطن، وأخذهم في تزوير ما يلقون به أباهم عند عودتهم إليه، وما يوردون عليه من ذكر الحادث. فتضمنت تلك الكلمات القصيرة معاني القصة الطويلة.
وقوله تعالى: {قَالَ كَبِيرُهُمْ} أي: في السن، كما هو المتبادر، وهو فيما يروى، (رَؤُبين): {أَلَمْ تَعْلَمُواْ أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُم مَّوْثِقًا مِّنَ اللّهِ} أي: عهدًا وثيقًا في رد أخيكم. وإنما جعل منه تعالى لكون الحلف كان باسمه الكريم: {وَمِن قَبْلُ} أي: قبل هذا: {مَا فَرَّطتُمْ فِي يُوسُفَ} أي: قصرتم في شأنه و (ما) إما مزيدة، و (من) متعلق بالفعل بعده، والجملة حالية، وإما مصدرية في موضع رفع بالابتداء، و (من قبل) خبره، أو في موضع نصب عطفًا على معمول (تعلموا). وإما موصولة بالوجهين، أي: قدمتموه في حقه من الخيانة، ولم تحفظوا عهد أبيكم بعد ما قلتم: {وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ} [يوسف: من الآية 11]، و: {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [يوسف: من الآية 63].
{فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ} أي: فلن أفارق أرض مصر: {حَتَّىَ يَأْذَنَ لِي أَبِي} أي: في الرجوع: {أَوْ يَحْكُمَ اللّهُ لِي} أي: بالخروج من مصر، أو بخلاص أخي بسببٍ ما: {وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} لأنه لا يحكم إلا بالحق والعدل.
ثم أمر كبيرهم أن يخبروا أباهم بما جرى، فقال: {ارْجِعُواْ إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُواْ يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ} أي: نُسبَ إلى سرقة صواع الملك: {وَمَا شَهِدْنَا إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا} أي: ما شهدنا عليه بالسرقة إلا بما تيقناه من إخراج الصواع من رحله.
تنبيه:
استنبط بعضهم من هذا عدم جواز الشهادة على الكتابة بلا علم وتذكر. وكذا من سمع كلمة من وراء حجاب؛ لعدم العلم به- كذا في الإكليل- ولا يخفى أن مثل هذا مما يستأنس به في مواقع الخلاف.
{وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ} أي: وما علمنا أنه سيسرق حين أعطيناك الموثق.
{وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا} يعنون مصر. أي: أرسل إلى أهلها فسلهم عن كنه القصة: {وَالْعِيْرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا} أي: جئنا معها. وكان صحبهم قوم من كنعان: {وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} أي: فيما أخبرناك.
{قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا} معناه: فرجعوا إلى أبيهم، فقالوا له ما قال لهم أخوهم. فقال: بل سولت، أي: زينت وسهلت أنفسكم أمرًا، ففعلتموه.
لطيفة:
قال الزمخشري: أمرًا أردتموه، وإلا فما أدرى ذلك الرجل أن السارق يؤخذ بسرقته، لولا فتواكم وتعليمكم؟!.
قال الناصر: هذا من الزمخشري إسلاف جواب عن سؤال، كأن قائلًا يقول: هم في الوقعة الأولى سولت لهم أنفسهم أمرًا بلا مراء، وأما في هذه الوقعة الثانية، فلم يتعمدوا في حق بنيامين سوءًا، ولا أخبروا أباهم إلا بالواقع على جليته، وما تركوه بمصر إلا بمغلوبين عن استصحابه، فما وجه قوله ثانيًا: {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا} كما قال لهم أولًا؟ وإذا ورد السؤال على هذا التقرير؛ فلابد من زيد بسط في الجواب، فنقول: كانوا عند يعقوب عليه السلام حينئذ متهمين، وهم قمن باتهامه لما أسلفوه في حق يوسف عليه السلام، وقامت عنده قرينة تؤكد نفي التهمة وتقويها، وهي أخذ الملك له في السرقة، ولم يكن ذلك إلا من دين يعقوب وحده، لا من دين غيره من الناس، ولا من عادتهم. وإلى ذلك وقعت الإشارة بقوله تعالى: {مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ} [يوسف: من الآية 76]، تنبيهًا من الله تعالى على وجه اتهام يعقوب لهم، فعلم أن الملك إنما فعل ذلك بفتواهم له به، وظن أنهم أفتوه بذلك بعد ظهور السرقة تعمدًا؛ ليتخلف أخوهم، وكان الواقع أنهم استفتوا من قبل أن يدعي عليهم السرقة، فذكروا ما عندهم، ولم يشعروا أن المقصود إلزامهم بما قالوا. واتهام من هو بحيث تتطرق التهمة إليه لا حرج فيه، وخصوصًا فيما يرجع إلى الوالد من الولد. ويحتمل- والله أعلم- أن يكون الوجه الذي سوغ له هذا القول في حقهم، أنهم جعلوا مجرد وجود الصواع في رحل من يوجد في رحله، سرقة، من غير أن يحيلوا الحكم على ثبوت كونه سارقًا بوجه معلوم، وهذا في شرعنا لا يثبت لا سرقة عليه- ولله أعلم-.
وقوله: {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا} واقع بمكانه من حالهم، وإن كان شرعهم يقتضي ذلك مخالفًا لشرعنا، فالعمدة على الجواب الأول.
وقوله تعالى: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} أي: لا جزع: {عَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا} أي: بيوسف وأخيه المتوقف بمصر، فتذهب أحزانه بمرة واحدة: {إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} أي: العليم بحالي وحالهم، الحكيم في تشديد الأمر لينظر مقدار الصبر فيفيض بقدره الأجر، ومن الأجر المعجل تعجيل الفرج. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{فَلَمَّا اسْتَيْئَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا}
{استيأسوا} بمعنى يئسوا فالسين والتاء للتأكيد، ومثلها: {فاستجاب له ربه} [سورة يوسف: 34] واستعصَم.
واليأس منه: اليأس من إطلاقه أخاهم، فهو من تعليق الحكم بالذات.
والمراد بعض أحوالها بقرينة المقام للمبالغة.
وقرأ الجمهور: {استيأسوا} بتحتية بعد الفوقية وهمزة بعد التحتية على أصل التصريف.
وقرأه البزي عن ابن كثير بخلف عنه بألف بعد الفوقية ثم تحتية على اعتبار القلب في المكان ثم إبدال الهمزة.
و{خلصوا} بمعنى اعتزلوا وانفردوا.
وأصله من الخلوص وهو الصفاء من الأخلاط.
ومنه قول عبد الرحمان بن عوف لعمر بن الخطاب رضي الله عنهما في آخر حجة حجّها حيث عزم عمر رضي الله عنه على أن يخطب في الناس فيحذرهم من قوم يريدون المزاحمة في الخلافة بغير حق، قال عبد الرحمان بن عوف رضي الله عنه: يا أمير المؤمنين إن المَوسم يجمع رَعاع الناس فأمهل حتى تقدم المدينة فتخلص بأهل الفقه... إلخ.
والنجيّ: اسم من المناجاة، وانتصابه على الحال.
ولما كان الوصف بالمصدر يلازم الإفراد والتذكير كقوله تعالى: {وإذْ هم نجوى}.
والمعنى: انفردوا تناجيا.