فصل: من لطائف وفوائد المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وأنشد الفرّاء:
إذا نهي السّفيه جرى إليه ** وخالف، والسّفيه إلى خلاف

أراد: جرى إلى السّفه.
وقال اللّه عز وجل في أول سورة الرحمن: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (13)} [الرحمن: 13]، ولم يذكر قبل ذلك إلا الإنسان، ثم خاطب الجانّ معه لأنّه ذكرهم بعد، وقال: {وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ (15)} [الرحمن: 15].
قال الفراء: ومثله قول المثقّب العبدي:
فما أدري إذا يمّمت أرضا ** أريد الخير: أيّهما يليني؟

أالخير الّذي أنا أبتغيه؟ أم الشرّ الّذي هو يبتغيني؟
فكنى عن الشر وقرنه في الكتابة بالخير قبل أن يذكره، ثم أتى به بعد ذلك.
ومن ذلك حذف الصفات.
كقول اللّه سبحانه: {وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3)} [المطففين: 3] أي: كالوا لهم أو وزنوا لهم.
وقوله: {وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا} [الأعراف: 155]. أي اختار منهم.
وقال العجّاج:
تحت الذي اختار له اللّه الشّجر

أي اختار له من الشجر:
وكقوله: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ} [الحج: 41] أي: مكنّا لهم. والعرب تقول: عددتك مائة، أي عددت لك، وأستغفر اللّه ذنبي.
قال الشاعر:
أستغفر اللّه ذنبا لست محصيه ** ربّ العباد إليه الوجه والعمل

وشبعت خبزا ولحما، وشربت ورويت ماء ولبنا وتعرّضت معروفك، ونزلتك ونأيتك، وبتّ القوم، وغاليت السلعة، وثويت البصرة وسرقتك مالا، وسعيت القوم، واستجبتك.
قال الشاعر:
وداع دعا يا من يجيب إلي النّدى ** فلم يستجبه عند ذاك مجيب

وقوله جل وعزّ: {إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلًا} [الإسراء: 34]. أي: مسؤولا عنه.
قال أبو عبيدة: يقال: (لتسألنّ عهدي) أي عن عهدي.
ومن الاختصار قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (44)} [النساء: 44]. أراد: يشترون الضلالة بالهدى، فحذف (الهدى) أي يستبدلون هذا بهذا.
ومثله: {أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى} [البقرة: 16].
ومن الاختصار قوله: {وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (108)} [البقرة: 108]. أي: أبقينا له ذكرا حسنا في الآخرين، كأنه قال: تركنا عليه ثناء حسنا، فحذف الثناء الحسن لعلم المخاطب بما أراد.
ومن الاختصار قوله: {لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ} [النساء: 166]. لأنه لما أنزل عليه: {إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} [النساء: 163] قال المشركون: ما نشهد لك بهذا، فمن يشهد لك به؟ فترك ذكر قولهم وأنزل: {لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ} [النساء: 166]. يدلك على هذا أن (لكن) إنما تجيء بعد نفي لشيء فيوجب ذلك الشيء بها.
ومن الاختصار قوله: {فَبَعَثَ اللَّهُ غُرابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ} [المائدة: 31]. أراد: فبعث اللّه غرابا يبحث التراب على غراب ميّت ليواريه، {لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ} [المائدة: 31].
ومنه قوله: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ} [المائدة: 52] أي في مرضاتهم. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

من لطائف القشيري في الآية:
قال عليه الرحمة:
{فَلَمَّا اسْتَيْئَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا}
لما عَلِموا أن يوسف عليه السلام ليس يبرح عن أخيه خلا بعضُهم ببعضٍ فعملت فيهم الخجْلة، وعلموا أن يعقوب في هذه الكرَّةِ يتجدد له مثلما أسلفوه من تلك الفَعْلة، فلم يرجع، أكبرهم إلى أبيهم، وتناهى إلى يعقوبَ خَبَرُهم، فاتهمهم وما صدّقهم، واستخونهم وما استوثقهم.
{ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ (81)}
كان لهم في هذه الكَرَّةِ حجة على ما قالوه، ولكن لم يسكن قلبُ يعقوب عليه السلام إليها، فإنَّ تعيُّنَ الجُرْمِ في المرة الأولى أَوْجَبَ التُّهمةَ في الكرَّةِ الأخرى.
{وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (82)}
ما ازدادوا إقامةَ حُجَّةٍ إلا ازداد يعقوبُ عليه السلام في قولهم شُبْهةً.
ويقال: في مُساءلة الأطلال أَخْذٌ لقلوب الأحباب، وسَلْوةٌ لأسرارهم.. وهذا البابُ مما للشرح فيه مجال.
قوله جلّ ذكره: {قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ َجَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَن يَأتِيَنِى بِهِمْ جَمِيعًا}.
لجأ إلى قُرْبِ خلاصه من الضُرِّ بالصبر.
ويقال لما وعد من نفسه الصبر فلم يُمْسِ حتى قال: {ياأسفى عَلَى يُوسُفَ} ليُعْلَمَ أنَّ عَزْمَ الأحبابِ على الصبر منقوضٌ غيرُ محفوظ. اهـ.

.التفسير الإشاري:

قال نظام الدين النيسابوري:
التأويل: لما دخل الأوصاف البشرية ومعهم السر: {على يوسف} القلب: {آوى} القلب السر: {إليه} لأنه أخوه الحقيقي بالمناسبة الروحانية: {فلا تبتئس} إذا وصلت بي: {بما كانوا يعملون} معك في مفارقتي لأن السر مهما كان مفارقًا من قلب مقارنًا للأوصاف كان محرومًا عن كمالات هو مستعد لها: {فلما جهزهم} جهز القلب الأوصاف بما يلائم أحوالها: {جعل السقاية} وهي مشربة كان منها شربه: {في رحل أخيه} لأنهما رضيعا لبان واحد: {إنكم لسارقون} سرقتم في الأول يوسف القلب وشريتموه بثمن بخس من متاع الدنيا وشهواتها، وسرقتم في الآخر مشربة ليست من مشاربكم، وفيه أن من ادعى الشرب من مشارب الرجال وهو طفل بعد أخذ بالسرقة واستردت منه: {ولمن جاء به حمل بعير} من علف الدواب ومراتع الحيوانات لأنه ليس مستحقًا للشرب من مشارب الملوك: {لقد علمتم} أن المقبولين المقبلين على يوسف القلب لا نريد الإفساد في أرض الدنيا كما قالت الملائكة: {أتجعل فيها من يفسد فيها} [البقرة: 30]: {وما كنا سارقين} إذ أخذنا يوسف القلب وألقيناه في غيابة الجب البشرية بل سعينا في أن ينال مملكة مصر العبودية ليكون عزيزًا فيها ونحن أذلاء له: {جزاؤه من وجد في رحله} أي لكل شارب مشرب ولكل شرب فدية. ففدية الشارب من مشرب الدنيا صنعته وحرفته وكسبه، وفدية الشارب من مشرب الآخرة الدنيا وشهواتها، وفدية الشارب من شرب المحبة بذل الوجود: {كذلك نجزي الظالمين} الذين وضعوا صواع الملك في غير موضعه طمعًا في أن يكونوا حريف الملك وشريبه: {كذلك كدنا ليوسف} أي كما كاد الأوصاف البشرية في الابتداء بيوسف القلب إذ ألقوه في جب البشرية كدنا بهم عند قسمة الأقوات من خزانة الملك فجعلنا قسمتهم من مراتع الحيوانات يأكلون كما تأكل الأنعام، وقسمة بنيامين السر من مشربة الملك. {وفوق كل ذي علم} آتيناه علم الصعود: {عليم} بجذبه من المصعد الذي يصعد إليه بالعلم المخلوق إلى مصعد لا يصعد إليه إلا بالعلم القديم وهو السير في الله بالله إلى الله، وهذا صواع لا تسعه أوعية الإنسانية: {إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل} فيه إشارة إلى السر والقلب مع أنهما مخصوصان بالحظوظ الأخروية والروحانية فإنهم قابلان للاسترقاق من الشهوات الدنياوية والنفسانية ولما رأت الأوصاف البشرية عزة القلب وعرفت اختصاص البشرية أرادت أن تفدي نفسها وسيلة إلى يعقوب الروح فقالت: {فخذ أحدنا مكانه}، {قال معاذ الله} أن نقبل بالصحبة والمخالطة: {إلا من وجدنا متاعنا} من الصدق والمحبة والإخلاص عنده أي لا تكون صحبتنا بالكراهية والنفاق وإنما تكون بعلة الجنسية: {فلما استيأسوا} من صحبة القلب: {خلصوا} عن الأوصاف الذميمة للتناجي: {قال كبيرهم} هو العقل ألم تعلموا أن أباكم وهو الروح: {قد أخذ عليكم موثقًا من الله} يوم الميثاق أن لا تعبدوا إلا الله: {فلن أبرح} أرض فناء القلب وهي الصدر.
والحاصل أن صفة العقل لما تخلصت عن الأوصاف البشرية خرجت عن أوامر النفس وتصرفاتها وصارت محكومة لأوامر الروح مستسلمة لأحكام الحق. {ارجعوا إلى أبيكم} الروح على أقدام العبودية وتبديل الأخلاق: {إن ابنك سرق} لأنه وجد في رحله مشربة المحبة التي بها يكال الحب على وفده. {وما كنا للغيب} عند ارتحالنا من الغيب إلى الشهادة: {حافظين} لأنه جعل السقاية في رحله في غيبتنا. {واسأل} أهل مصر الملكوت وأرواح الأنبياء والأولياء: {قال بل سولت} فيه أن للنفس تزيينات وللأوصاف البشرية خيالات يتأذى بها يعقوب الروح لكن عليه أن يصبر على إمضاء أحكام الله وتنفيذ قضائه: {عسى الله أن يأتيني} فيه أن متولدات الروح من القلب والأوصاف وغيرها وإن تفرقوا وتباعدوا عن الروح في الجسد للاستكمال فإن الله بجذبات العناية يجمعهم في مقعد صدق عنده مليك مقتدر: {إنه هو العليم} بافتراقهم: {الحكيم} بما في التفريق والجمع من الفوائد. اهـ.

.تفسير الآيات (84- 87):

قوله تعالى: {وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (84) قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ (85) قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (86) يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ (87)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
{وتولى} أي انصرف بوجهه: {عنهم} لما تفاقم عليه من الحزن، وبلغ به من الجهد، وهاج به باجتماع حزن إلى حزن من الحرق كراهية لما جاؤوا به وإقبالًا على من إليه الأمر: {وقال} مشتكيًا إلى الله لا غيره، فهو تعريض بأشد التصريح والدعاء: {ياأسفي} أي يا أشد حزني، والألف بدل عن ياء الإضافة لتدل على بلوغ الأسف إلى ما لا حد له، وجناس الأسف مع يوسف مما لم يتعمد، فيكون مطبوعًا، فيصل إلى نهاية الإبداع، وأمثاله في القرآن كثير: {على يوسف} هذا أوانك الذي ملأني بك فنادمني كما أنادمك، وخصه لأنه قاعدة إخوانه، انبنى عليها وتفرع منها ما بعدها: {وابيضت عينه} أي انقلب سوادهما إلى حال البياض كثرة الاستعبار، فعمى البصر: {من الحزن} الذي هو سبب البكاء الدائم الذي هو سبب البياض، فذكر السبب الأول، يقال: بلغ حزنه عليه السلام حزن سبعين ثكلى وما ساء ظنه قط.
ثم علل ذلك بقوله: {فهو} أي بسبب الحزن: {كظيم} أي شديد الكظم لامتلائه من الكرب، مانع نفسه من عمل ما يقتضيه ذلك من الرعونات بما آتاه الله من العلم والحكمة، وذلك أشد ما يكون على النفس وأقوى ما يكون للحزن، فهو فعيل بمعنى مفعول، وهو أبلغ منه، من كظم السقاء- إذا شده على ملئه.
ومادة كظم تدور على المنع من الإظهار، يلزمه الكرب- لأنه من شأن الممنوع مما قد امتلأ منه، ويلزمه الامتلاء، لأن ما دونه ليس فيه قوة الظهور، كظم غيظه-إذا سكت بعد امتلائه منه، وكظمت السقاء- إذا ملأته وسددته، وكظم البعير جرته- إذا ردها وكف، والكظم: مخرج النفس، لأنه به يمنع من الجري في هواه؛ والكظامة: حبل يشد به خرطوم البعير، لمنعه مما يريد، وأيضًا يوصل بوتر القوس العربية ثم يدار بطرف السية العليا، منعًا له من الانحلال وأيضًا قناة في باطن الأرض يجري فيهما الماء، لأنه يمنع الماء من أن يأخذ في هواه فيرتفع في موضع النبع فيظهر على وجه الأرض، وخرق يجري فيه الماء من بئر إلى بئر، لأنه لا يصنع إلا عند ضعف إحدى البئرين، فلولاه لفاضت القوية، فهو تصريف لمائها في غير وجهه، وكظامة الميزان: المسمار الذي يدور فيه اللسان، لأنه يربطه فيمنعه من الانفكاك، ويقال: ما زلت كاظمًا يومي كله، أي ممسكًا عن الأكل وقد امتلأت جوعًا، وقد يطلق على مطلق النبع، ومنه كاظمة- لقرية على شاطئ البحر، لأن البحر قد كظمها عن الانفساح وكذا هي منعته عن الانسياح.
فلما رأوا أنه قد فاتهم ما ظنوا أنه يكون بعد ذهاب يوسف من صلاح الحال مع أبيهم بقصر الإقبال عليهم، ووقع لأبيهم هذا الفادح العظيم، تشوف السامع إلى قولهم له، فاستأنف الإخبار عنه بقوله: {قالوا} أي حنقًا من ذلك: {تالله} أي الملك الأعظم، يمينًا فيها تعجب: {تفتئوا} أي ما تزال: {تذكر يوسف} حريصًا على ذكره قويًا عليه حرص الفتى الشاب الجلد الصبور على مراده: {حتى} أي إلى أن: {تكون حرضًا} أي حاضر الهلاك مشرفًا عليه متهيئًا له بدنف الجسم وخبل العقل- كما مضى بيانه في الأنفال عند: {حرض المؤمنين على القتال}، {أو تكون} أي كونًا لازمًا هو كالجبلة: {من الهالكين}.
ولما تشوفت النفس إلى ما كان عنه بعد ما رأى من غلطة بنيه، شفى عيّها بقوله: {قال إنما} أي نعم لا أزال كذلك لأنه من صفات الكمال للإنسان، لدلالته على الرقة والوفاء، وإنما يكون مذمومًا إذا كان على وجه الشكاية إلى الخلق وأنا لا أشكو إلى مخلوق، إنما: {أشكوا بثي} والبث أشد الحزن، سمي بذلك لأنه من صعوبته لا يطاق حمله فيباح به وينشر: {وحزني} مطلقًا وإن كان سببه خفيفًا يقدر الخلق على إزالته: {إلى الله} أي المحيط بكل شيء علمًا وقدرة تعرضًا لنفحات كرمه، لا إلى أحد غيره، وهذا- الذي سمعتوه مني فقلقتم له- قليل من كثير.
ولما كان يجوز أن يكونوا صادقين في أنهم لم يجدوا إلا قميص يوسف ملطخًا دمًا، وأن يكون قطعهم بأكل الذئب له مستندًا إلى ذلك، وكان يعقوب عليه السلام يغلب على ظنه أن يوسف عليه السلام حي ويظن في الله أن يجمع شمله به، قال: {وأعلم من الله} أي الملك الأعلى من اللطف بنا أهل هذا البيت ومن التفريج عن المكروبين والتفريح للمغمومين: {ما لا تعلمون} ومادة فتا يائية وواوية مهموزة وغير ومهموزة بكل ترتيب وهي فتأ، وفأت وتفأ وأفت، وفتى وفوت وتوف وتفو تدور على الشباب، وتلزمه القوة وشدة العزيمة وسلامة الانقياد: ما فتأ يفعل كذا- مثلثة العين: ما زال كما أفتا، أي إنه ما زال فاعلًا في ذلك فعل الشاب الجلد الماضي العزم، وما فتئ أن فعل، ما برح أي أنه بادر إلى ذلك بسهولة انقياد وشدة عزيمة، وحقيقته: ما فتئ عن فعل كذا، أي ما تجاوزه إلى غيره وما نسيه بل قصر فتاءه وهمته وجلده عليه، وعن ابن مالك في جمع اللغات المشكلة وعزاه للفراء- وصححه في القاموس: فتأ- كمنع: كسر وأطفأ، وهو واضح في القوة، وفتئ عنه- كسمع: نسيه وانقذع عنه، أي انكف أو خاص بالجحد، أي بأن يكون قبله حرف نفي، ومعناه أن قوته تجاوزته فلم تخالطه؛ ومن يائيه: الفتاء- كسماء: الشباب، وكأنه أصل المادة، والفتي- بالقصر؛ السخي والكريم، أي الجواد الشريف النفس، والفتى: السيد الشجاع- لأن ذلك يلزم الشباب، والفتى: المملوك وإن كان بخيلًا أو شيخًا- لأنه غالبًا لا يشتري إلا الشباب، والفتى: التلميذ، والتابع كذلك، والفتى- كغنى: الشاب أيضًا، والفتوة: الكرم، وقد تفتى وتفاتى، وفتوتهم: غلبتهم فيها، وأفتاه في الأمر: أبانه له، والفتيا- بالضم والفتوى- ويفتح: ما أفتى به الفقيه، وهو يرجع إلى الجود وحسن الخلق، والفتيان: الليل والنهار، ولذلك يسميان الجديدين، وفتيت البنت تفتية: منعت اللعب مع الصبيان، فهو من سلب الشباب، أي فعله ومن مقلوبه مهموزًا: افتأت عليّ الباطل: اختلقه، وبرأيه: استبد، وكلاهما يدل على جرأة وطيش، وهو بالشاب الذي لم يحنكه الدهر أجدر، وافتئت- على البناء للمفعول: مات فجأة- كأن ذلك أشد الموت؛ ومن واوية: فات الشيء فوتًا وفواتًا: ذهب فسبق فلم يدرك، وفاته وافتاته: ذهب عنه فسبقه، وذلك يدل على قوة السابق، وبينهما فوت، أي بون- كأن كلًا منهما سابق للآخر، وتفاوت الشيئان وتفوتا: تباعد ما بينهما، ويلزم ذلك الاختلاف والاضطراب، ويلزمه العيب: {فما ترى في خلق الرحمن من تفوت}: من عيب، يقول الناظر: لو كان كذا كان أحسن، وموت الفوات: الفجأة، وهو فوت رمحه ويده، أي حيث يراه ولا يصل إليه، والفوت: الفرجة بين إصبعين، وافتأت عليه برأيه: سبقه به، وفاته به وعليه: غلبه، ولا يفتات عليه أي لا يعمل دون أمره، أي لا أحد أشد منه فيسبقه، وافتات الكلام: ابتدعه- كما تقدم في المهموز، وافتات عليه: حكم- لقوته، والفويت- كزبير: المنفرد برأيه- للمذكر والمؤنث، وذلك لعدة نفسه شديدًا، وتفوت عليه في ماله: فاته به؛ ومن مقلوبه مهموزًا: تفئ كفرح: احتد وغضب- وذلك لشدته، وتفيئة الشيء: حينه وزمانه، وذلك أحسن أحواله، ودخل على تفيئته أي أثره أي لم يسبقه بكثير، وذلك أشد له؛ ومن واوية: التفة كقفة: عناق الأرض وهي تصيد، وفيها خلاف يبين إن شاء الله تعالى في قوله: {جزاء موفورًا} من سورة سبحان؛ ومن مقلوبه واويًا: تاف بصره يتوف: تاه- كأنه لسلب الشدة أو المعنى أنه وقع في توقة، أي شدة، وما فيه توفة- بالضم- ولا تافة: عيب أو مزيد أو حاجة وأبطأ وكل ذلك يدل على شدته، وطلب علي توفة بالفتح،: عثرة وذنبًا- من ذلك لأن العثرة والذنب لا يصيبان شيئًا إلا عن شدتهما وضعفه؛ ومن مقلوبه مهموزًا: الأفت- بالفتح: النافة التي عندها من الصبر والبقاء ما ليس عند غيرها، والسريع الذي يغلب الإبل على السير، والكريم من الإبل- ويكسر- والداهية والعجب، وكل ذلك واضح في القوة، والإفت- بالكسر: الأول- لأنه أصل كل معدود، وأفته عن كذا: صرفه.
ولما أخبرهم عليه السلام أن علمه فوق علمهم، أتبعه استئنافًا ما يدل عليه فقال: {يا بني اذهبوا} ثم سبب عن هذا الذهاب وعقب به قوله: {فتحسسوا} أي بجميع جهدكم: {من يوسف وأخيه} أي اطلبوا من أخبارهما بحواسكم لعلكم تظفرون بهما، وهذا يؤكد ما تقدم من احتمال ظنه أن فاعل ذلك يوسف- عليهم الصلاة والسلام.
ولما لم يكن عندهم من العلم ما عنده، قال: {ولا تيأسوا} أي تقنطوا: {من روح الله} أي الذي له الكمال كله؛ والروح- قال الرماني- يقع بريح تلذ، وكأن هذا أصله فالمراد: من رحمته وفرجه وتيسيره ولطفه في جمع الشتات وتيسير المراد؛ ثم علل هذا النهي بقوله: {إنه لا يبأس} أي لا يقنط: {من روح الله} أي الذي له جميع صفات الجلال والإكرام: {إلا القوم} أي الذين لهم قوة المحاولة: {الكافرون} أي العريقون في الكفر. اهـ.