فصل: قال ابن عطية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قِيلَ: فَمَا أُعْطِيَ؟ قَالَ: أَجْرَ سَبْعِينَ شَهِيدًا.
قَالَ مَالِكٌ: قَالَ يُوسُفُ لَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ: مَا انْتَقَمْت لِنَفْسِي مِنْ شَيْءٍ أَتَى إلَيَّ، فَذَلِكَ زَادِي الْيَوْمَ مِنْ الدُّنْيَا، وَإِنَّ عَمَلِي لَاحِقٌ بِعَمَلِ آبَائِي، فَأَلْحِقُوا قَبْرِي بِقُبُورِهِمْ.
قَالَ عُلَمَاؤُنَا: يُرِيدُ مَالِكٌ بِالْكَلَامِ الثَّانِي قَوْلَ يُوسُفَ لِإِخْوَتِهِ: {لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمْ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} أَيْ: لَا تَبْكِيتَ وَلَا مُؤَاخَذَةَ لَكُمْ بِمَا فَعَلْتُمْ؛ لِأَنَّ شِفَاءَ الْغَيْظِ وَالْجَزَاءَ بِالذَّنْبِ فِي الدُّنْيَا مِنْ عَمَلِ الدُّنْيَا لَا حَظَّ لَهُ فِي الْآخِرَةِ، وَذَلِكَ قَوْلُ يُوسُفَ: مَا انْتَقَمْت لِنَفْسِي مِنْ شَيْءٍ أَتَى إلَيَّ، فَذَلِكَ زَادِي الْيَوْمَ مِنْ الدُّنْيَا، وَإِنْ عَمَلِي لَاحِقٌ بِعَمَلِ آبَائِي أَيْ فِي الصَّفْحِ وَالْإِحْسَانِ، وَهُوَ فِعْلُ أَهْلِ النُّبُوَّةِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَسَلَّمَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ:
قَوْلُهُ: أَلْحِقُوا قَبْرِي بِقُبُورِ آبَائِي شَاهَدْنَاهُ سَنَةَ سَبْعٍ وَثَمَانِينَ، وَجَاوَزْنَا فِيهِ [أَعْوَامًا وَأَيَّامًا آمَنِينَ فِي نِعَمٍ فَاكِهِينَ، وَعَلَى الدَّرْسِ وَالْمُنَاظَرَةِ مُتَقَابِلِينَ، وَهُوَ فِي قَرْيَةِ جَيْرُونَ الَّتِي كَانَتْ لِإِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى سِتَّةُ فَرَاسِخَ فِي سَفْحِ الْجَبَلِ الَّذِي كَانَ فِيهِ بَيْتُ رَامَةَ مُتَعَبَّدُ إبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، الْمُشْرِقُ عَلَى مَدَائِنِ لُوطٍ، وَفِي وَسَطِ الْقَرْيَةِ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ مِنْ حِجَارَةٍ عِظَامٍ سُوَرًا عَظِيمًا، فِي دَاخِلِهِ مَسْجِدٌ، فِي الْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ مِنْهُ مِمَّا يَلِي الْقِبْلَةَ إِسْحَاقُ، وَيَلِيهِ فِي الْجَانِبِ الْمَذْكُورِ إبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ، وَيَلِيه فِي الطَّرَفِ الْجَوَّانِيِّ مِنْ الْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ يَعْقُوبُ عَلَى نِسْبَةٍ مُتَمَاثِلَةٍ.
وَفِيمَا يُقَابِلُهَا مِنْ الْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ قُبُورُ أَزْوَاجِهِمْ عَلَى الِاعْتِدَالِ، عَلَى كُلِّ قَبْرٍ حَجَرٌ عَظِيمٌ وَاحِدٌ لَهُ الطُّولُ وَالْعَرْضُ وَالْعُمْقُ، حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ تَرْتِيبِ الرِّحْلَةِ.
وَفِي الْجَانِبِ الْقِبْلِيِّ مِنْهُ خَارِجَ هَذَا الْحَرَمِ قَبْرُ يُوسُفَ مُنْتَبَذًا، كَانَ لَهُ قَيِّمٌ طُرْطُوشِيٌّ زَمِنٌ، وَلَهُ أُمٌّ تَنُوبُ عَنْهُ، وَهَيْئَةُ قَبْرِ يُوسُفَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَهَيْئَةِ قُبُورِهِمْ.
وَهَذَا أَصَحُّ الْأَقَاوِيلِ فِي مَوْضِعِ قَبْرِهِ لِأَجْلِ ذِكْرِ مَالِكٍ لَهُ، فَلَمْ يَذْكُرْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إلَّا أَشْبَهَ مَا اطَّلَعَ عَلَيْهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ:
كَانَ يَعْقُوبُ حَزِينًا فِي الدَّرَجَةِ الَّتِي قَدْ بَيَّنَّاهَا، وَلَكِنَّ حُزْنَهُ كَانَ فِي قَلْبِهِ جِبِلَّةً، وَلَمْ يَكْتَسِبْ لِسَانُهُ قَوْلًا قَلِقًا يُخَالِفُ الشَّرِيعَةَ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ابْنِهِ فِي صَحِيحِ الْخَبَرِ: «تَدْمَعُ الْعَيْنُ، وَيَحْزَنُ الْقَلْبُ، وَلَا نَقُولُ إلَّا مَا يُرْضِي رَبَّنَا، وَإِنَّا بِك يَا إبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ».
وَقَالَ أَيْضًا فِي الصَّحِيحِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنَّ اللَّهَ لَا يُعَذِّبُ بِدَمْعِ الْعَيْنِ، وَلَا بِحُزْنِ الْقَلْبِ وَإِنَّمَا يُعَذَّبُ بِهَذَا وَأَشَارَ إلَى لِسَانِهِ، أَوْ يَرْحَمُ».
وَهُوَ تَفَضُّلٌ مِنْهُ، سُبْحَانَهُ، حِينَ عَلِمَ عَجْزَ الْخَلْقِ عَنْ الصَّبْرِ؛ فَأَذِنَ لَهُمْ فِي الدَّمْعِ وَالْحُزْنِ، وَلَمْ يُؤَاخِذْهُمْ بِهِ، وَخَطَمَ الْفَمَ بِالزِّمَامِ عَنْ سُوءِ الْكَلَامِ، فَنَهَى عَمَّا نَهَى، وَأَمَرَ بِالتَّسْلِيمِ وَالرِّضَا لِنَافِذِ الْقَضَاءِ، وَخَاصَّةً عِنْدَ الصَّدْمَةِ الْأُولَى.
وَأَحْسَنُ الْكَلَامِ فِي الشَّكْوَى سُؤَالُ الْمَوْلَى زَوَالَ الْبَلْوَى، وَذَلِكَ قَوْلُ يَعْقُوبَ: {إنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنْ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} مِنْ جَمِيلِ صُنْعِهِ وَغَرِيبِ لُطْفِهِ وَعَائِدَتِهِ عَلَى عِبَادِهِ. اهـ.

.قال ابن عطية:

{وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ} المعنى: أنه لما ساء ظنه بهم ولم يصدق قولهم بل استراب به،: {تولى عنهم} أي زال بوجهه عنهم وجعل يتفجع ويتأسف، قال الحسن: خصت هذه الأمة بالاسترجاع ألا ترى إلى قول يعقوب: {يا أسفي}.
قال القاضي أبو محمد: والمراد: يا أسفي. لكن هذه لغة من يرد ياء الإضافة ألفًا نحو: يا غلامًا ويا أبتا، ونادى الأسف على معنى احضر فهذا من أوقاتك. وقيل: قوله: {يا أسفى} على جهة الندبة، وحذف الهاء التي هي في الندبة علامة المبالغة في الحزن تجلدًا منه عليه السلام، إذ كان قد ارتبط إلى الصبر الجميل، وقيل: قوله: {يا أسفى} نداء فيه استغاثة.
قال القاضي أبو محمد: ولا يبعد أن يجتمع الاسترجاع و: {يا أسفى} لهذه الأمة وليعقوب عليه السلام.
{وابيضت عيناه} أي من ملازمة البكاء الذي هو ثمرة الحزن، وروي أن يعقوب عليه السلام حزن حزن سبعين ثكلى وأعطي أجر مائة شهيد وما ساء ظنه بالله قط، رواه الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وقرأ ابن عباس ومجاهد {من الحَزَن} بفتح الحاء والزاي، وقرأ قتادة بضمهما وقرأ الجمهور بضم الحاء وسكون الزاي.
{وهو كظيم} يمعنى كاظم، كما قال: {والكاظمين الغيظ} [آل عمران: 134]، ووصف يعقوب بذلك لأنه لم يشك إلى أحد، وإنما كان يكمد في نفسه ويمسك همه في صدره، وكان يكظمه أي يرده إلى قلبه ولا يرسله بالشكوى والغضب والفجر. وقال ناس: {كظيم} بمعنى: مكظوم.
قال القاضي أبو محمد: وقد وصف الله تعالى يونس عليه السلام بمكظوم في قوله: {إذ نادى وهو مكظوم} [القلم: 48] وهذا إنما يتجه على تقدير أنه مليء بحزنه، فكأنه كظم بثه في صدره، وجري كظيم على باب كاظم أبين. وفسر ناس الكظيم بالمكروب وبالمكمود- وذلك كله متقارب- وقال منذر بن سعيد: الأسف إذا كان من جهة من هو أقل من الإنسان فهو غضب، ومنه قول الله تعالى: {فلما آسفونا انتقمنا منهم} [الزخرف: 55] ومنه قول الرجل الذي ذهبت لخادمه الشاة من الغنم: فأسفت فلطمتها؛ وإذا كان من جهة لا يطيقها فهو حزن وهم.
قال القاضي أبو محمد: وتحرير هذا المنزع: أن الأسف يقال في الغضب ويقال في الحزن، وكل واحد من هذين يحزر حاله التي يقال عليها، وقوله تعالى: {قالوا تالله تفتأ} الآية، المعنى تالله لا تفتأ فتحذف لا في هذه الموضع من القسم لدلالة الكلام عليها فمن ذلك قول امرئ القيس: الطويل:
فقلت يمين الله أبرح قاعدًا ** ولو قطعوا رأسي لديك وأوصالي

ومنه قول الآخر:
تالله يبقى على الأيام ذو حيد ** بمشمخر به الظيان والآس

أراد لا يبرح ولا يبقى، وقال الزجاجي: وقد تحذف أيضًا ما في هذا الموضع.
قال القاضي أبو محمد: وخطأه بعض النحويين، ومن المواضع التي حذفت فيها لا ويدل عليها الكلام قول الشاعر: الطويل:
فلا وأبي دهماء زالت عزيزة ** على قومها ما قبل الزَّنْدَ قادِحُ

وقوله ما قبل الزند قادح يوجب أن المحذوف لا، وليست ما، وفتئ بمنزلة زال وبرح في المعنى والعمل، تقول: والله لا فتئت قاعدًا كما تقول: لا زلت ولا برحت، ومنه قول أوس بن حجر: الطويل:
فما فتئت حتى كأن غبارها ** سرادق يوم ذي رياح يرفَّع

والحرض: الذي قد نهكه الهرم أو الحب أو الحزن إلى حال فساد الأعضاء والبدن والحس، وعلى هذا المعنى قراءة الجمهور {حَرَضًا} بفتح الراء والحاء... وقرأ الحسن بن أبي الحسن بضمهما، وقرأت فرقة {حُرْضًا} بضم الحاء وسكون الراء. وهذا كله المصدر يوصف به المذكر والمؤنث والمفرد والجمع بلفظ واحد، كعدل وعدو، وقيل في قراءة الحسن: انه يراد: فتات الشنان أي باليًا متعتتًا، ويقال من هذا المعنى الذي هو شن الهم والهرم: رجل حارض، ويثنى هذا البناء ويجمع ويؤنث ويذكر، ومن هذا المعنى قول الشاعر: البسيط:
إني امرؤ لجَّ بي حبٌّ فأحرضني ** حتى بليت وحتى شفني السقم

وقد سمع من العرب: رجل محرض، قال الشاعر- وهو امرؤ القيس: الطويل:
أرى المرء ذا الأذواد يصبح محرضًا ** كأحراضِ بكر في الديار مريض

والحرض- بالجملة- الذي فسد ودنا موته، قال مجاهد: الحرض: ما دون الموت، قال قتادة: الحرض: البالي الهرم، وقال نحو الضحاك والحسن، وقال ابن إسحاق: {حرضًا} معناه فاسد لا عقل له؛ فكأنهم قالوا على جهة التعنيف له: أنت لا تزال تذكر يوسف إلى حال القرب من الهلاك أو إلى الهلاك. فأجابهم يعقوب عليه السلام رادًّا عليهم: أي أني لست ممن يجزع ويضجر فيستحق التعنيف، وإنما أشكو إلى الله، ولا تعنيف في ذلك. والبث ما في صدر الإنسان مما هو معتزم أنه يبثه وينشره، وأكثر ما يستعمل البث في المكروه، وقال أبو عبيدة وغيره: البث أشد الحزن، وقد يستعمل البث في المخفي على الجملة ومنه قول المرأة في حديث أم زرع: ولا يولج الكف ليعلم البث، ومنه قولهم: أبثك حديثي.
وقرأ عيسى: {وحَزَني} بفتح الحاء والزاي.
وحكى الطبري بسند: أن يعقوب دخل على فرعون وقد سقط حاجباه على عينيه من الكبر، فقال له فرعون: ما بلغ بك هذا يا إبراهيم؟ فقالوا: إنه يعقوب، فقال: ما بلغ بك هذا يا يعقوب؟ قال له: طول الزمان وكثرة الأحزان، فأوحى الله إليه: يا يعقوب أتشكوني إلى خلقي؟ فقال: يا رب خطيئة فاغفرها لي، وأسند الطبري إلى الحسن قال: كان بين خروج يوسف عن يعقوب إلى دخول يعقوب على يوسف ثمانون سنة، لم يفارق الحزن قلبه، ولم يزل يبكي حتى كف بصره، وما في الأرض يومئذ أكرم على الله من يعقوب. وقوله: {وأعلم من الله ما لا تعلمون} يحتمل أنه أشار إلى حسن ظنه بالله وجميل عادة الله عنده، ويحتمل أنه أشار إلى الرؤيا المنتظرة أو إلى ما وقع في نفسه عن قول ملك مصر: إني أدعو له برؤية ابنه قبل الموت، وهذا هو حسن الظن الذي قدمناه.
{يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ}
المعنى: {اذهبوا} إلى الأرض التي جئتم منها وتركتم أخويكم بنيامين وروبيل،: {فتحسسوا}، أي استقصوا ونقروا، والتحسس: طلب الشيء بالحواس من البصر والسمع، ويستعمل في الخير والشر، فمن استعماله في الخير هذه الآية، وفي الشر نهي النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: ولا تحسسوا.
وقوله: {من يوسف} يتعلق بمحذوف يعمل فيه: {تحسسوا} التقدير: فتحسسوا نبأ أو حقيقة من أمر يوسف. لكن يحذف ما يدل ظاهر القول عليه إيجازًا.
وقرأت فرقة: {تيأسوا} وقرأت فرقة {تأيسوا} على ما تقدم، وقرأ الأعرج {تِئسوا} بكسر التاء.
وخص يوسف وبنيامين بالذكر لأن روبيل إنما بقي مختارًا. وهذان قد منعا الأوبة.
والروح: الرحمة. ثم جعل اليأس من رحمة الله وتفريجه من صفة الكافرين. إذ فيه إما التكذيب بالربوبية، وإما الجهل بصفات الله تعالى.
وقرأ الحسن وقتادة وعمر بن عبد العزيز {من رُوح الله} بضم الراء. وكأن معنى هذه القراءة لا تأيسوا من حي معه روح الله الذي وهبه، فإن من بقي بوحه فيرجى، ومن هذا قول الشاعر: الطويل:
وفي غير من قد وارت الأرض فاطمع

ومن هذا قول عبيد:
وكل ذي غيبة يؤوب ** وغائب الموت لا يؤوب

ويظهر من حديث الذي قال: إذا مت فاحرقوني ثم اسحقوني ثم اذروني في البحر والبر في يوم راح. فلئن قدر الله علي ليعذبني عذابًا ما عذبه أحدًا من الناس، إنه يئس من روح الله، وليس الأمر كذلك، لأن قول النبي صلى الله عليه وسلم في آخر الحديث فغفر الله له يقتضي أنه مات مؤمنًا إذ لا يغفر الله لكافر، فبقي أن يتأول الحديث، إما على أن قدر بمعنى ضيق وناقش الحساب، فذلك معنى بين، وإما أن تكون من القدرة، ويقع خطأ في أن ظن في أن الاجتماع بعد السحق والتذرية محال لا يوصف الله تعالى بالقدرة عليه فغلط في أن جعل الجائز محالًا، ولا يلزمه بهذا كفر. قال النقاش: وقرأ ابن مسعود {من فضل} وقرأ أبي بن كعب: {من رحمة الله}. اهـ.

.قال القرطبي:

{وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (84)}
فيه ثلاث مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {وتولى عَنْهُمْ} أي أعرض عنهم؛ وذلك أن يعقوب لما بلغه خبر بنيامين تَتَامَّ حزنه، وبلغ جهده، وجدّد الله مصيبته له في يوسف فقال: {يا أسفى عَلَى يُوسُفَ} ونَسيَ ابنه بنيامين فلم يذكره؛ عن ابن عباس.
وقال سعيد بن جُبير: لم يكن عند يعقوب ما في كتابنا من الاسترجاع، ولو كان عنده لما قال: {يَا أَسَفَا عَلَى يُوسُفَ}.
قال قَتَادة والحسن: والمعنى يا حزناه! وقال مجاهد والضحّاك: يا جزعاه!؛ قال كُثَيِّر:
فيا أَسفا للقلب كيف انصرافه ** وللنَّفْسِ لمّا سلِّيت فَتَسلَّتِ

والأسف شدّة الحزن على ما فات.
والنداء على معنى: تعالَ يا أسف فإنه مَن أوقاتك.
وقال الزجاج: الأصل يا أسفِي؛ فأبدل من الياء ألف لخفة الفتحة.
{وابيضت عَيْنَاهُ مِنَ الحزن} قيل: لم يبصر بهما ست سنين، وأنه عَمِيَ؛ قاله مقاتل.
وقيل: قد تبيضّ العين ويبقى شيء من الرؤية، والله أعلم بحال يعقوب؛ وإنما ابيضت عيناه من البكاء، ولكن سبب البكاء الحزن، فلهذا قال: {مِنَ الحزن}.
وقيل: إن يعقوب كان يصلّي، ويوسف نائمًا معترضًا بين يديه، فَغطَّ في نومه، فالتفت يعقوب إليه، ثم غَطّ ثانية فالتفت إليه، ثم غَطَّ ثالثة فالتفت إليه سرورًا به وبغطيطه؛ فأوحى الله تعالى إلى ملائكته: «انظروا إلى صفييّ وابن خليلي قائمًا في مناجاتي يلتفت إلى غيري، وعِزّتي وجَلاَلي! لأنزعنّ الحدقتين اللتين التفت بهما، ولأفرقنّ بينه وبين من التفت إليه ثمانين سنة؛ ليعلم العاملون أن من قام بين يديّ يجب عليه مراقبة نظري».
الثانية: هذا يدلّ على أن الالتفات في الصلاة وإن لم يُبطل يدلّ على العقوبة عليها، والنقص فيها، وقد رَوى البخاري عن عائشة قالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الالتفات في الصلاة فقال: «هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد» وسيأتي ما للعلماء في هذا في أوّل سورة المؤمنون موعبًا إن شاء الله تعالى.
الثالثة: قال النحاس: فإن سأل قوم عن معنى شدّة حزن يعقوب صلى الله عليه وسلم وعلى نبينا فللعلماء في هذا ثلاثة أجوبة: منها أن يعقوب صلى الله عليه وسلم لما علم أن يوسف صلى الله عليه وسلم حَيٌّ خاف على دِينه، فاشتدّ حزنه لذلك.
وقيل: إنما حزن لأنه سلّمه إليهم صغيرًا، فندم على ذلك.
والجواب الثالث وهو أبْيَنُها هو أن الحزن ليس بمحظور، وإنما المحظور الوَلْولة وشقّ الثياب، والكلام بما لا ينبغي.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «تَدمع العين ويَحزن القلب ولا نقول ما يُسخط الربّ» وقد بيّن الله جلّ وعزّ ذلك بقوله: {فَهُوَ كَظِيمٌ} أي مكظوم مملوء من الحزن ممسك عليه لا يبَثّه؛ ومنه كَظْم الغيظ وهو إخفاؤه؛ فالمكظوم المسدود عليه طريق حزنه؛ قال الله تعالى: {إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ} [القلم: 48] أي مملوء كربًا.