فصل: من أقوال المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ولما كان ما ذكر، كان كأنه قيل: لقد أتاهم ما لم يكونوا يحتسبون فما قالوا؟ فقيل: {قالوا} متعجبين غاية التعجب.
ولذلك أقسموا بما يدل على ذلك: {تالله} أي الملك الأعظم: {لقد آثرك الله} أي الذي له الأمر كله: {علينا} أي جعل لك أثرًا يغطي آثارنا بعلوه فالمعنى: فضلك علينا أي بالعلم والعقل والحكم والحسن والملك والتقوى وغير ذلك: {وإن} خففوها من الثقيلة تأكيدًا بالإيجاز للدلالة على الاهتمام بالإبلاغ في الاعتذار في أسرع وقت: {كنا} أي كونًا هو جبلة لنا: {لخاطئين} أي عريقين في الخطأ، وهو تعمد الإثم، فكأنه قيل: ما قال لهم على قدرته وتمكنه مع ما سلف من إساءتهم؟ فقيل: {قال} قول الكرام اقتداء بإخوانه من الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام: {لا تثريب} أي لا لوم ولا تعنيف ولا هلاك: {عليكم اليوم} وإن كان هذا الوقت مظنة اللوم والتأنيب، فإذا انتفى ذلك فيه فما الظن بما بعده!
ومادة ثرب تدور على البرث- بتقديم الموحدة، وهو أسهل الأرض وأحسنها؛ ولثبرة- بتقديم المثلثة: أرض ذات حجارة بيض، فإنه يلزمه الإخلاد، والدعة، ومنه: ثابر على الأمر: دوام، والمثبر- كمنزل: لمسقط الولد أي موضع ولادته، والمقطع والمفصل، فيأتي الكسل واللين فيأتي الفساد، ومنه الثبور للهلاك، والبثر بتقديم الموحدة: خراج معروف: والماء البثر: الذي بقى منه على الأرض شيء قليل؛ والربث- بتقديم الموحدة أيضًا: حبس الإنسان، وهو يرجع إلى الإقامة والدوام أيضًا؛ والتثريب: التقرير بالذنب، فهو إزالة ما على الإنسان من ساتر العفو، من الثرب وهو شحم يغشى الكرش والأمعاء ويسترهما، وهو من لوازم الأرض السهلة لما يلزم من خصبها، فالتثريب إزالته، وذلك للقحط الناشئ عنه الهلاك، فأغلب مدار المادة الهلاك.
ولما أعفاهم من الترثيب، كانوا في مظنة السؤال عن كمال العفو المزيل للعقاب من الله، فأتبعه الجواب عن ذلك بالدعاء لهم بقوله: {يغفر الله} أي الذي له صفات الكمال: {لكم} أي ما فرط منكم وما لعله يكون بعد هذا؛ ولعله عبر في هذا الدعاء بالمضارع إرشادًا لهم إلى إخلاص التوبه، ورغبهم في ذلك ورجاهم بالصفة التي هي سبب الغفران، فقال: {وهو} أي وحده: {أرحم الراحمين} أي لجميع العباد ولاسيما التائب، فهو جدير بإدرار النعم بعد الإعاذة من النقم، وروى أنهم أرسلوا إليه أنك لتدعونا إلى طعامك وكرامتك بكرة وعشيًا ونحن نستحي لما فرط منا، فقال: إن أهل مصر ينظرونني- وإن ملكت فيهم- بعين العبودية فيقولون: سبحان من بلغ عبدًا بيع بعشرين درهمًا ما بلغ، ولقد شرفت الآن بكم وعظمت في العيون حيث علم الناس أنكم إخوتي، وأني من ذرية إبراهيم عليه الصلاة والسلام. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ} اعلم أن المفسرين اتفقوا على أن هاهنا محذوفًا والتقدير: أن يعقوب لما قال لبنيه: {اذهبوا فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ} قبلوا من أبيهم هذه الوصية فعادوا إلى مصر ودخلوا على يوسف عليه السلام فقالوا له: {هُوَ القوى العزيز}.
فإن قيل: إذا كان يعقوب أمرهم أن يتحسسوا أمر يوسف وأخيه فلماذا عدلوا إلى الشكوى وطلبوا إيفاء الكيل؟
قلنا: لأن المتحسسين يتوسلون إلى مطلوبهم بجميع الطرق والاعتراف بالعجز وضيق اليد ورقة الحال وقلة المال وشدة الحاجة مما يرقق القلب فقالوا: نجربه في ذكر هذه الأمور فإن رق قلبه لنا ذكرنا له المقصود وإلا سكتنا.
فلهذا السبب قدموا ذكر هذه الواقعة وقالوا: {هُوَ القوى العزيز} والعزيز هو الملك القادر المنيع: {مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضر} وهوا الفقر والحاجة وكثرة العيال وقلة الطعام وعنوا بأهلهم من خلفهم: {وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ} وفيه أبحاث:
البحث الأول:
معنى الإزجاء في اللغة، الدفع قليلًا قليلًا ومثله التزجية يقال الريح تزجي السحاب.
قال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يُزْجِى سَحَابًا} [النور: 43] وزجيت فلانًا بالقول دافعته، وفلان يزجي العيش أي يدفع الزمان بالحيلة.
والبحث الثاني: إنما وصفوا تلك البضاعة بأنها مزجاة إما لنقصانها أو لرداءتها أو لهما جميعًا والمفسرون ذكروا كل هذه الأقسام قال الحسن: البضاعة المزجاة القليلة، وقال آخرون إنها كانت رديئة واختلفوا في تلك الرداءة، فقال ابن عباس رضي الله عنهما كانت دراهم رديئة لا تقبل في ثمن الطعام، وقيل: خلق الغرارة والحبل وأمتعة رثة، وقيل: متاع الأعراب الصوف والسمن.
وقيل: الحبة الخضراء، وقيل: الأقط، وقيل: النعال والأدم، وقيل: سويق المقل، وقيل: صوف المعز، وقيل: إن دراهم مصر كانت تنقش فيها صورة يوسف والدراهم التي جاؤا بها ما كان فيها صورة يوسف فما كانت مقبولة عند الناس.
البحث الثالث:
في بيان أنه لم سميت البضاعة القليلة الرديئة مزجاة؟ وفيه وجوه: الأول: قال الزجاج: هي من قولهم فلان يزجي العيش أي يدفع الزمان بالقليل، والمعنى أنا جئنا ببضاعة مزجاة ندافع بها الزمان، وليست مما ينتفع به وعلى هذا الوجه فالتقدير ببضاعة مزجاة بها الأيام، الثاني: قال أبو عبيد: إنما قيل للدراهم الرديئة مزجاة، لأنها مردودة مدفوعة غير مقبولة ممن ينفقها قال وهي من الأزجاء، والأزجاء عند العرب السوق والدفع.
الثالث: ببضاعة مزجاة أي مؤخرة مدفوعة عن الإنفاق لا ينفق مثلها إلا من اضطر واحتاج إليها لفقد غيرها مما هو أجود منها.
الرابع: قال الكلبي: مزجاة لغة العجم، وقيل هي من لغة القبط قال أبو بكر الأنباري: لا ينبغي أن يجعل لفظ عربي معروف الاشتقاق والتصريف منسوبًا إلى القبط.
البحث الرابع:
قرأ حمزة والكسائي {مزجاة} بالإمالة، لأن أصله الياء، والباقون بالنصب والتفخيم.
واعلم أن حاصل الكلام في كون البضاعة مزجاة إما لقلتها أو لنقصانها أو لمجموعها ولما وصفوا شدة حالهم ووصفوا بضاعتهم بأنها مزجاة قالوا له: {فَأَوْفِ لَنَا الكيل} والمراد أن يساهلهم إما بإن يقيم الناقص مقام الزائد أو يقيم الرديء مقام الجيد، ثم قالوا: {وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا} والمراد المسامحة بما بين الثمنين وأن يسعر لهم بالرديء كما يسع بالجيد، واختلف الناس في أنه هل كان ذلك طلبًا منهم للصدقة فقال سفيان بن عيينة: إن الصدقة كانت حلالًا للأنبياء قبل محمد صلى الله عليه وسلم بهذه الآية وعلى هذا التقدير، كأنهم طلبوا القدر الزائد على سبيل الصدقة، وأنكر الباقون ذلك وقالوا حال الأنبياء وحال أولاد الأنبياء ينافي طلب الصدقة لأنهم يأنفون من الخضوع للمخلوقين ويغلب عليهم الانقطاع إلى الله تعالى والاستغاثة به عمن سواه، وروي عن الحسن ومجاهد: أنهما كرها أن يقول الرجل في دعائه اللهم تصدق علي، قالوا: لأن الله لا يتصدق إنما يتصدق الذي يبتغي الثواب، وإنما يقول: اللهم أعطني أو تفضل، فعلى هذا التصدق هو إعطاء الصدقة والمتصدق المعطي، وأجاز الليث أن يقال للسائل: متصدق وأباه الأكثرون.
وروي أنهم لما قالوا: {مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضر} وتضرعوا إليه اغرورقت عيناه فعند ذلك: {قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ} وقيل: دفعوا إليه كتاب يعقوب فيه من يعقوب إسرائيل الله ابن إسحق ذبيح الله ابن إبراهيم خليل الله إلى عزيز مصر.
أما بعد: فإنا أهل بيت موكل بنا البلاء أما جدي فشدت يداه ورجلاه ورمي في النار ليحرق فنجاه الله وجعلها بردًا وسلامًا عليه، وأما أبي فوضع السكين على قفاه ليقتل ففداه الله، وأما أنا فكان لي ابن وكان أحب أولادي إلي فذهب به إخوته إلى البرية ثم أتوني بقميصه ملطخًا بالدم وقالوا قد أكله الذئب فذهبت عيناي من البكاء عليه، ثم كان لي ابن وكان أخاه من أمه وكنت أتسلى به فذهبوا به إليك ثم رجعوا وقالوا: إنه قد سرق وإنك حبسته عندك وإنا أهل بيت لا نسرق ولا نلد سارقًا، فإن رددته علي وإلا دعوت عليك دعوة تدرك السابع من ولدك.
فلما قرأ يوسف عليه السلام الكتاب لم يتمالك وعيل صبره وعرفهم أنه يوسف.
ثم حكى تعالى عن يوسف عليه السلام في هذا المقام أنه قال: {هَلْ عَلِمْتُمْ مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ} قيل إنه لما قرأ كتاب أبيه يعقوب ارتعدت مفاصله واقشعر جلده ولان قلبه وكثر بكاؤه وصرح بأنه يوسف.
وقيل: إنه لما رأى إخوته تضرعوا إليه ووصفوا ما هم عليه من شدة الزمان وقلة الحيلة أدركته الرقة فصرح حينئذ بأنه يوسف، وقوله: {هَلْ عَلِمْتُمْ مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ} استفهام يفيد تعظيم الواقعة، ومعناه: ما أعظم ما ارتكبتم في يوسف وما أقبح ما أقدمتم عليه، وهو كما يقال للمذنب هل تدري من عصيت وعل تعرف من خالفت؟
واعلم أن هذه الآية تصديق لقوله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} [يوسف: 15] وأما قوله: {وَأَخِيهِ} فالمراد ما فعلوا به من تعريضه للغم بسبب إفراده عن أخيه لأبيه وأمه، وأيضًا كانوا يؤذونه ومن جملة أقسام ذلك الإيذاء قالوا في حقه: {إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ} [يوسف: 77] وأما قوله: {إِذْ أَنتُمْ جاهلون} فهو يجري مجرى العذر كأنه قال: أنتم إنما أقدمتم على ذلك الفعل القبيح المنكر حال ما كنتم في جهالة الصبا أو في جهالة الغرور، يعني والآن لستم كذلك، ونظيره ما يقال في تفسير قوله تعالى: {مَا غَرَّكَ بِرَبّكَ الكريم} [الأنفطار: 6] قيل إنما ذكر تعالى هذا الوصف المعين ليكون ذلك جاريًا مجرى الجواب وهو أن يقول العبد يا رب غرني كرمك فكذا هاهنا إنما ذكر ذلك الكلام إزالة للخجالة عنهم وتخفيفًا للأمر عليهم.
ثم إن إخوته قالوا: {أَءنَّكَ لاَنتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَاْ يُوسُفُ} قرأ ابن كثير: {إِنَّكَ} على لفظ الخبر، وقرأ نافع: {أَءنَّكَ لاَنتَ يُوسُفُ} بفتح الألف غير ممدودة وبالياء وأبو عمرو: {آينك} بمد الألف وهو رواية قالون عن نافع، والباقون: {أئنك} بهمزتين وكل ذلك على الاستفهام، وقرأ أبي: {أَوْ أَنتَ يُوسُفَ} فحصل من هذه القراءات أن من القراء من قرأ بالاستفهام ومنهم من قرأ بالخبر.
أما الأولون فقالوا: إن يوسف لما قال لهم: {هَلْ عَلِمْتُمْ} وتبسم فأبصروا ثناياه، وكانت كاللؤلؤ المنظوم شبهوه بيوسف، فقالوا له استفهامًا: {أَءنَّكَ لاَنتَ يُوسُفُ} ويدل على صحة الاستفهام أنه: {قَالَ أَنَاْ يُوسُفُ} وإنما أجابهم عما استفهموا عنه.
وأما من قرأ على الخبر فحجته ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن إخوة يوسف لم يعرفوه حتى وضع التاج عن رأسه، وكان في فرقه علامة وكان ليعقوب وإسحق مثلها شبه الشامة، فلما رفع التاج عرفوه بتلك العلامة، فقالوا: {إِنَّكَ لاَنتَ يُوسُفَ} ويجوز أن يكون ابن كثير أراد الاستفهام ثم حذف حرف الاستفهام وقوله: {قَالَ أَنَاْ يُوسُفُ} فيه بحثان:
البحث الأول:
اللام لام الابتداء، وأنت مبتدأ ويوسف خبره، والجملة خبر إن.
البحث الثاني:
أنه إنما صرح بالاسم تعظيمًا لما نزل به من ظلم إخوته وماعوضه الله من الظفر والنصر؛ فكأنه قال: أنا الذي ظلمتموني على أعظم الوجوه والله تعالى أوصلني إلى أعظم المناصب، أنا ذلك العاجز الذي قصدتم قتله وإلقاءه في البئر ثم صرت كما ترون، ولهذا قال: {وهذا أَخِى} مع أنهم كانوا يعرفونه لأن مقصوده أن يقول: وهذا أيضًا كان مظلومًا كما كنت ثم إنه صار منعمًا عليه من قبل الله تعالى كما ترون وقوله: {قَدْ مَنَّ الله عَلَيْنَا} قال ابن عباس رضي الله عنهما بكل عز في الدنيا والآخرة وقال آخرون بالجمع بيننا بعد التفرقة وقوله: {إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ} معناه: من يتق معاصي الله ويصبر على أذى الناس: {فَإِنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المحسنين} والمعنى: إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجرهم فوضع المحسنين موضع الضمير لاشتماله على المتقين.
وفيه مسألتان:
المسألة الأولى:
اعلم أن يوسف عليه السلام وصف نفسه في هذا المقام الشريف بكونه متقيًا ولو أنه قدم على ما يقوله الحشوية في حق زليخا لكان هذا القول كذبًا منه وذكر الكذب في مثل هذا المقام الذي يؤمن فيه الكافر ويتوب فيه العاصي لا يليق بالعقلاء.
المسألة الثانية:
قال الواحدي روي عن ابن كثير في طريق قنبل: {إِنَّهُ مِنَ يَتَّقِى} بإثبات الياء في الحالين ووجهه أن يجعل: {من} بمنزلة الذي فلا يوجب الجزم ويجوز على هذا الوجه أن يكون قوله: {وَيِصْبِرْ} في موضع الرفع إلا أنه حذف الرفع طلبًا للتخفيف كما يخفف في عضد وشمع والباقون بحذف الياء في الحالين.
{قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آَثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ}
اعلم أن يوسف عليه السلام لما ذكر لإخوته أن الله تعالى منَّ عليه وأن من يتق المعاصي ويصبر على أذى الناس فإنه لا يضيعه الله صدقوه فيه، واعترفوا له بالفضل والمزية: {قَالُواْ تالله لَقَدْ اثَرَكَ الله عَلَيْنَا وَإِن كُنَّا لخاطئين} قال الأصمعي: يقال: آثرك إيثارًا، أي فضلك الله، وفلان آثر عبد فلان، إذا كان يؤثره بفضله وصلته، والمعنى: لقد فضلك الله علينا بالعلم والحلم والعقل والفضل والحسن والملك، واحتج بعضهم بهذه الآية على أن إخوته ما كانوا أنبياء، لأن جميع المناصب التي تكون مغايرة لمنصب النبوة كالعدم بالنسبة إليه فلو شاركوه في منصب النبوة لما قالوا: {تالله لَقَدْ اثَرَكَ الله عَلَيْنَا} وبهذا التقدير يذهب سؤال من يقول لعل المراد كونه زائدًا عليهم في الملك وأحوال الدنيا وإن شاركوه في النبوة لأنا بينا أن أحوال الدنيا لا يعبأ بها في جنب منصب النبوة.
وأما قوله: {وَإِن كُنَّا لخاطئين} قيل الخاطئ هو الذي أتى بالخطيئة عمدًا وفرق بين الخاطئ والمخطئ، فلهذا الفرق يقال لمن يجتهد في الأحكام فلا يصيب إنه مخطئ، ولا يقال إنه خاطئ وأكثر المفسرين على أن الذي اعتذروا منه هو إقدامهم على إلقائه في الجب وبيعه وتبعيده عن البيت والأب، وقال أبو علي الجبائي: إنهم لم يعتذروا إليه من ذلك، لأن ذلك وقع منهم قبل البلوغ فلا يكون ذنبًا فلا يعتذر منه، وإنما اعتذروا من حيث إنهم أخطؤا بعد ذلك بأن لم يظهروا لأبيهم ما فعلوه، ليعلم أنه حي وأن الذئب لم يأكله وهذا الكلام ضعيف من وجوه:
الوجه الأول: أنا بينا أنه لا يجوز أن يقال إنهم أقدموا على تلك الأعمال في زمن الصبا لأنه من البعيد في مثل يعقوب أن يبعث جمعًا من الصبيان غير البالغين من غير أن يبعث معهم رجلًا عاقلًا يمنعهم عما لا ينبغي ويحملهم على ما ينبغي.
الوجه الثاني: هب أن الأمر على ما ذكره الجبائي إلا أنا نقول غاية ما في الباب أنه لا يجب الاعتذار عن ذلك إلا أنه يمكن أن يقال إنه يحسن الاعتذار عنه، والدليل عليه أن المذنب إذا تاب زال عقابه ثم قد يعيد التوبة والاعتذار مرة أخرى، فعلمنا أن الإنسان أيضًا قد يتوب عند ما لا تكون التوبة واجبة عليه.