فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{قَالُواْ أَءنَّكَ لأَنتَ يُوسُفُ} استفهامُ تقريرٍ ولذلك أكدوه بأن واللام قالوه استغرابًا وتعجبًا، وقرئ إنك بالإيجاب، قيل: عرفوه بروائه وشمائله حين كلمهم به، وقيل: تبسم فعرفوه بثناياه، وقيل: رفع التاجَ عن رأسه فرأوا علامةً بقَرنه تشبه الشامة البيضاء وكان لسارةَ ويعقوبَ مثلُها وقرئ {أإنك أو أنت يوسف} على معنى أئنك يوسف أو أنت يوسف، فحذف الأولُ لدلالة الثاني عليه وفيه زيادةُ استغراب: {قَالَ أَنَاْ يُوسُفُ} جوابًا عن مسألتهم وقد زاد عليه قوله: {وهذا أَخِى} أي من أبويّ مبالغةً في تعريف نفسه وتفخيمًا لشأن أخيه وتكملةً لما أفاده قوله: هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه؟ حسبما يفيده قولُه: {قَدْ مَنَّ الله عَلَيْنَا} فكأنه قال: هل علمتم ما فعلتم بنا من التفريق والإذلالِ؟ فأنا يوسفُ وهذا أخي قد منّ الله علينا بالخلاص عما ابتُلينا به، والاجتماعِ بعد الفُرقةِ، والعزة بعد الذِلة، والأُنس بعد الوحشة، ولا يبعد أن يكون فيه إشارةٌ إلى الجواب عن طلبهم لرد بنيامين بأنه أخي لا أخوكم فلا وجهَ لطلبكم، ثم علل ذلك بطريق الاستئنافِ التعليلي بقوله: {إِنَّهُ مَن يَتَّقِ} أي يفعل التقوى في جميع أحوالِه أو يقِ نفسه عما يوجب سخطَ الله تعالى وعذابه: {وَيِصْبِرْ} على المحن أو على مشقة الطاعاتِ أو عن المعاصي التي تستلذها النفس: {فَإِنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المحسنين} أي أجرهم، وإنما وُضع المظهرُ موضع المضمرِ تنبيهًا على أن المنعوتين بالتقوى والصبر موصوفون بالإحسان.
{قَالُواْ تالله لَقَدْ اثَرَكَ الله عَلَيْنَا} اختارك وفضلك علينا بما ذكرت من النعوت الجليلة: {وَإِن كُنَّا} وإن الشأن كنا: {لخاطئين} لمتعمِّدين للذنب إذ فعلنا بك ما فعلنا ولذلك أعزك وأذلنا، وفيه إشعارٌ بالتوبة والاستغفار ولذلك: {قَالَ لاَ تَثْرَيبَ} أي لا عتْبَ ولا تأنيب: {عَلَيْكُمْ} وهو تفعيل من الثرب وهو الشحمُ الغاشي للكرِش ومعناه إزالته كما أن التجليد إزالةُ الجلد والتقريعُ إزالة القرع لأنه إذا ذهب كان ذلك غايةَ الهُزال فضرب مثلًا للتقريع الذي يذهب بماء الوجوه وقوله عز وعلا: {اليوم} منصوب بالتثريب أو بالمقدر خبرًا لِلا أي لا أثر بكم أو لا تثريبَ مستقرٌ عليكم اليوم الذي هو مظنةٌ له فما ظنُّكم بسائر الأيام أو بقوله: {يَغْفِرَ الله لَكُمْ} لأنه حينئذ صفح عن جريمتهم وعفا عن جريرتهم بما فعلوا من التوبة: {وَهُوَ أَرْحَمُ الرحمين} يغفر الصغائرَ والكبائرَ ويتفضل على التائب بالقَبول، ومن كرمه عليه الصلاة والسلام أن إخوتَه أرسلوا إليه إنك تدعونا إلى طعامك بكرةً وعشيًا ونحن نستحيي منك بما فرَط منا فيك، فقال عليه الصلاة والسلام: إن أهلَ مصرَ وإن ملكت فيهم كانوا ينظرون إليّ بالعين الأولى ويقولون: سبحان من بلّغ عبدًا بيع بعشرين درهمًا ما بلّغ، ولقد شرُفت بكم الآن وعظُمتُ في العيون حيث علم الناسُ أنكم إخوتي وأني من حفدة إبراهيم عليه السلام. اهـ.

.قال الألوسي:

{فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَيْهِ} أي على يوسف عليه السلام بعد ما رجعوا إلى مصر بموجب أمر أبيهم، وإنما لم يذكر إيذانًا بمسارعتهم إلى ما أمروا به وإشعارًا بأن ذلك أمر محقق لا يفتقر إلى الذكر والبيان.
وأنكر اليهود رجوعهم بعد أخذ بنيامين إلى أبيهم ثم عودهم إلى مصر وزعموا أنهم لما جاؤا أولًا للميرة اتهمهم بأنهم جواسيس فاعتذروا وذكروا أنهم أولاد نبي الله تعالى يعقوب وأنهم كانوا اثني عشر ولدًا هلك واحد منهم وتخلف أخوه عند أبيهم يتسلى به عن الهالك حيث أنه كان يحبه كثيرًا فقال: ائتوني به لأتحقق صدقكم وحبس شمعون عنده حتى يجيؤا فلما أتوا به ووقع من أمر السرقة أظهر والخضوع والانكسار فلم يملك عليه السلام نفسه حتى تعرف إليهم ثم أمرهم بالعود إلى أبيهم ليخبروه الخبر ويأتوا به وهو الذي تضمنته نوراتهم اليوم وما بعد الحق إلا الضلال: {قَالُواْ يا أَيُّهَا العزيز} خاطبوه بذلك تعظيمًا له على حد خطابهم السابق به على ما هو الظاهر، وهل كانوا يعرفون اسمه أم لا، لم أر من تعرض لذلك فإن كانوا يعرفون ازداد أمر جهالتهم غرابة، والمراد على ما قال الإمام وغيره يا أيها الملك القادر المنيع: {مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضر} الهزال من شدة الجوع، والمراد بالأهل ما يشمل الزوجة وغيرها: {وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ} مدفوعة يدفعها كل تاجر رغبة عنها واحتقارًا، من أزجيته إذا دفعته وطردته والريح تزجي السحاب، وأنشدوا لحاتم:
ليبك على ملحان ضيف مدفع ** وأرملة تزجى مع الليل أرملًا

وكنى بها عن القليل أو الردئ لأنه لعدم الاعتناء يرمى ويطرح، وقيل: كانت بضاعتهم من متاع الأعراب صوفًا وسمنًا، وقيل: الصنوبر وحبة الخضراء وروى ذلك عن أبي صالح وزيد بن أسلم، وقيل: سويق المقل والأقط، وقيل: قديد وحش، وقيل: حبالًا وإعدالًا وأحقابًا، وقيل: كانت دراهم زيوفًا لا تؤخذ إلا بوضيعة، وروى ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، والمروى عن الحسن تفسيرها بقليلة لا غير، وعلى كل فمزجاة صفة حقيقية للبضاعة، وقال الزجاج: هي من قولهم: فلان يزجى العيش أي يدفع الزمان بالقليل، والمعنى إنا جئنا ببضاعة يدفع بها الزمان وليس مما ينتفع بها، والتقدير على هذا ببضاعة مزجاة بها الأيام أي تدفع بها ويصير عليها حتى تنقضي كما قيل:
درج الأيام تندرج ** وبيوت الهم لا تلج

وما ذكر أولًا هو الأولى، وعن الكلبي أن: {بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ} من لغة العجم، وقيل: من لغط القبط.
وتعقب ذلك ابن الانباري بأنه لا ينبغي أن يجعل لفظ معروف الاشتقاق والتصريف منسوبًا إلى غير لغة العرب فالنسبة إلى ذلك مزجاة.
وقرأ حمزة والكسائي: {مزجية} بالإمالة لأن أصلها الياء، والظاهر أنهم إنما قدموا هذا الكلام ليكون ذريعة إلى إسعاف مرامهم ببعث الشفقة وهز العطف والرأفة وتحريك سلسلة الرحمة ثم قالوا: {مُّزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الكيل} أي أتمه لنا ولا تنقصه لقلة بضاعتنا أو رداءتها، واستدل بهذا على أن الكيل على البائع ولا دليل فيه: {وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا} ظاهره بالإيفاء أو بالمسامحة وقبول المزجاة أو بالزيادة على ما يساويها.
وقال الضحاك وابن جريج: إنهم أرادوا تصدق علينا برد أخينا بنيامين على أبيه، قيل: وهو الأنسب بحالهم بالنسبة إلى أمر أبيهم وكأنهم أرادوا تفضل علينا بذلك لأن رد الأخ ليس بصدقة حقيقة، وقد جاءت الصدقة بمعنى التفضل كما قيل، ومنه تصدق الله تعالى على فلان بكذا، وأما قول الحسن لمن سمعه يقول: اللهم تصدق على إن الله تعالى لا يتصدق إنما يتصدق من يبغي الثواب قل: اللهم أعطني أو تفضل على أو ارحمني فقد رد بقوله صلى الله عليه وسلم: «صدقة تصدق الله تعالى بها عليكم فاقبلوا صدقته» وأجيب عنه مجازًا ومشاكلة، وإنما رد الحسن على القائل لأنه لم يكن بليغًا كما في قصة المتوفي، وادعى بعضهم تعين الحمل على المجاز أيضًا إذا كان المراد طلب الزيادة على ما يعطي بالثمن بناء على أن حرمة أخذ الصدقة ليست خاصة بنبينا صلى الله عليه وسلم كما ذهب إليه سفيان بن عيينة بل هي عامة له عليه الصلاة والسلام ولمن قبله من الأنبياء عليهم السلام وآلهم كما ذهب إليه البعض، والسائلون من إحدى الطائفتين لا محالة، وتعقب بأنا لو سلمنا العموم لا نسلم أن المحرم أخذ الصدقة مطلقًا بل المحرم إنما هو أخذ الصدقة المفروضة وما هنا ليس منها، والظاهر كما قال الزمخشري: أنهم تمسكنوا له عليه السلام بقولهم: {مَسَّنَا} الخ وطلبوا إليه يتصدق عليهم بقوله: {وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا} فلو لم يحمل على الظاهر لما طابقه ذلك التمهيد ولا هذا التوطيد أعني: {إِنَّ الله يَجْزِى المتصدقين} بذكر الله تعالى وجزائه الحاملين على ذلك وإن فاعله منه تعالى بمكان.
قال النقاش: وفي العدول عن إن الله تعالى يجزيك بصدقتك إلى ما في النظم الكريم مندوحة عن الكذب فهو من المعاريض، فإنهم كانوا يعتقدونه ملكًا كافرًا وروى مثله عن الضحاك، ووجه عدم بدءهم بما أمروا به على القول بخلاف الظاهر في متعلق التصدق بأن فيما سلكوه استجلابًا للشفقة والرحمة فكأنهم أرادوا أن يملأوا حياض قلبه من نميرها ليسقوا به أشجار تحسسهم لتثمر لهمغرض أبيهم، ووجهه بعضهم بمثل هذا ثم قال: على أن قولهم: {وَتَصَدَّقْ} الخ كلام ذو وجهين فإنه يحتمل الحمل على المحملين فلعله عليه السلام حمله على طلب الرد ولذلك: {قَالَ} مجيبًا عما عرضوا به وضمنوه كلامهم من ذلك: {هَلْ عَلِمْتُمْ مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ} وكان الظاهر على هذا الاقتصار على التعرض بما فعل مع الأخ إلا أنه عليه السلام تعرض لما فعل به أيضًا لاشتراكهما في وقوع الفعل عليهما، فإن المراد بذلك إفرادهم له عنه وإذلاله بذلك حتى كان لا يستطيع أن يكلمهم إلا بعجز وطلة، والاستفهام ليس عن العلم بنفس ما فعلوه لأن الفعل الإرادي مسبوق بالشعور لا محالة بل هو عما فيه من القبح بدليل قوله: {إِذْ أَنتُمْ جاهلون} أي هل علمتم قبح ما فعلتموه زمان جهلكم قبحه وزال ذلك الجهل أم لا؟ وفيه من إبداء عذرهم وتلقينهم إياه ما فيه كما في قوله تعالى: {مَا غَرَّكَ بِرَبّكَ الكريم} [الإنفطار: 6] والظاهر لهذا أن ذلك لم يكن تشفيًا بل حث على الإقلاع ونصح لهم لما رأى من عجزهم وتمسكنهم ما رأى مع خفي معاتبة على وجود الجهل وأنه حقيق الانتفاء في مثلهم، فلله تعالى هذا الخلق الكريم كيف ترك حظه من التشفي إلى حق الله تعالى على وجه يتضمن حق الأخوتين أيضًا والتلطف في اسماعه مع التنبيه على أن هذا الضر أولى بالكشف، قيل: ويجوز أن يكون هذا الكلام منه عليه السلام منقطعًا عن كلامهم وتنبيهًا لهم عما هو حقهم ووظيفتهم من الإعراض عن جميع المطالب والتمحض لطلب بنيامين، بل يجوز أن يقف عليه السلام بطريق الوحي أو الإلهام على وصية أبيه عليه السلام وإرساله إياهم للتحسس منه ومن أخيه فلما رآهم قد اشتغلوا عن ذلك قال ما قال، والظاهر أنه عليه السلام لما رأى ما رأى منهم وهو من أرق خلق الله تعالى قلبًا وكان قد بلغ الكتاب أجله شرع في كشف أمره فقال ما قال.
روى عن ابن إسحاق أنهم لما استعطفوه رق لهم ورحمهم حتى أنه ارفض دمعه باكيًا ولم يملك نفسه فشرع في التعرف لهم، وأراد بما فعلوه به جميع ما جرى وبما فعلوه بأخيه أداهم له وجفاءهم إياه وسوء معاملتهم له وإفرادهم له كما سمعت، ولم يذكر لهم ما آذوا به أباهم على ما قيل تعظيمًا لقدره وتفخيمًا لشأنه أن يذكره مع نفسه وأخيه مع أن ذلك من فروع ما ذكر، وقيل: إنهم أدوا إليه كتابًا من أبيهم وصورته كما في الكشاف من يعقوب إسرائيل الله بن إسحاق ذبيح الله بن إبراهيم خليل الله إلى عزيز مصر أما بعد فإنا أهل بيت موكل بنا البلاء، أما جدي فشدت يداه ورجلاه ورمى به في النار ليحرق فنجاه الله تعالى وجعلت النار عليه بردًا وسلامًا، وأما أبي فوضع على قفاه السكين ليقتل ففداه الله تعالى، وأما أنا فكان لي ابن وكان أحب الأولاد إلي فذهب به إخوته إلى البرية ثم أتوني بقميصه ملطخًا بالدم وقالوا: قد أكله الذئب فذهبت عيناي من بكائي عليه ثم كان لي ابن كان أخاه من أمه وكنت أتسلى به فذهبوا به ثم رجعوا وقالوا: إنه سرق وإنك حبسته لذلك وإنا أهل بيت لا نسرق ولا نلد سارقًا فإن رددته علي وإلا دعوت عليك دعوة تدرك السابع من ولدك والسلام.
وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي روق نحوه، فلما قرأ يوسف عليه السلام الكتاب لم يتمالك وعيل صبره فقال لهم ذلك.
وروى أنه لما قرأ الكتاب بكى وكتب الجواب اصبر كما صبروا تظفر كما ظفروا هذا، وما أشرنا إليه من كون المراد إثبات الجهل لهم حقيقة هو الظاهر، وقيل: لم يرد نفي العلم عنهم لأنهم كانوا علماء ولكنهم لما لم يفعلوا ما يقتضيه العلم وترك مقتضى العلم من صنيع الجهال سماهم جاهلين، وقيل: المراد جاهلون بما يؤل إليه الأمر، وعن ابن عباس والحسن: {جاهلون} صبيان قبل أن تبلغوا أوان الحلم والرزانة، وتعقب بأنه ليس بالوجه لأنه لا يطابق الوجود وينافي: {وَنَحْنُ عُصْبَةٌ} [يوسف: 8] فالظاهر عدم صحة الإسناد، وزعم في التحرير أن قول الجمهور: إن الاستفهام للتقرير والتوبيخ ومراده عليه السلام تعظيم الواقعة أي ما أعظم ما ارتكبتم في يوسف وأخيه كما يقال: هل تدري من عصيت، وقيل: هل بمعنى قد كما في: {هَلْ أتى عَلَى الإنسان حِينٌ مّنَ الدهر} [الإنسان: 1] والمقصود هو التوبيخ أيضًا وكلا القولين لا يعول عليه والصحيح ما تقدم.
ومن الغريب الذي لا يصح البتة ما حكاه الثعلبي أنه عليه السلام حين قالوا له ما قالوا غضب عليهم فأمر بقتلهم فبكوا وجزعوا فرق لهم وقال: {هَلْ عَلِمْتُمْ} إلخ.
{قَالُوا أَئِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ} استفهام تقرير ولذلك أكد بإن واللام لأن التأكيد يقتضي التحقق المنافي للاستفهام الحقيق، ولعلهم قالوه اسغرابًا وتعجبًا، وقرأ ابن كثير وقتادة وابن محيصن: {إِنَّكَ} بغير همزة استفهام، قال في البحر: والظاهر أنها مرادة ويبعد حمله على الخبر المحض، وقد قاله بعضهم لتعارض الاستفهام والخبر أن اتحد القائلون وهو الظاهر، فإن قدر أن بعضًا استفهم وبعضًا أخبر ونسب كل إلى المجموع أمكن وهو مع ذلك بعيد، و: {أَنتَ} في القراءتين مبتدأ و: {يُوسُفَ} خبره والجملة في موضع الرفع خبر إن، ولا يجوز أن يكون أنت تأكيدًا للضمير الذي هو اسم إن لحيلولة اللام، وقرأ أبي: {فَلَمَّا دَخَلُواْ على يُوسُفَ} وخرج ذلك ابن جني في كتاب المحتسب على حذف خبر إن وقدره أئنك لغير يوسف أو أنت يوسف، وكذا الزمخشري إلا أنه قدره أئنك يوسف أو أنت يوسف ثم قال: وهذا كلام متعجب مستغرب لما يسمع فهو يكرر الاستيثاق، قال في الكشف وما قدره أولى لقلة الإضمار وقوة الدلالة على المحذوف وإن كان الأول أجرى على اقنون الاستفهام، ولعل الأنسب أن يقدر أئنك أنت أو أنت يوسف تجهيلًا لنفسه أن يكون مخاطبه يوسف أي أئنك المعروف عزيز مصر أو أنت يوسف، استبعدوا أن يكون العزيز يوسف أو يوسف عزيزًا، وفيه قلة الإضمار أيضًا مع تغاير المعطوف والمعطوف عليه وقوة الدلالة على المحذوف والجري على قانون الاستفهام مع زيادة الفائدة من إيهام البعد بين الحالتين.
فإن قيل: ذاك أوفق للمشهور لقوة الدلالة على أنه هو، يجاب بأنه يكفي في الدلالة على الأوجه كلها أن الاستفهام غير جار على الحقيقة، على أن عدم التنافي بين كونه مخاطبهم المعروف وكونه يوسف شديد الدلالة أيضًا مع زيادة إفادة ذكر موجب استبعادهم وهو كلام يلوح عليه مخايل التحقيق، واختلفوا في تعيين سبب معرفتهم إياه عليه السلام فقيل: عرفوه بروائه وشمائله وكان قد أدناهم إليه ولم يدنهم من قبل، وقيل: كان يكلمهم من وراء حجاب فلما أراد التعرف إليهم رفعه فعرفوه، وقيل: تبسم فعرفوه بثناياه وكانت كاللؤلؤ المنظوم وكان يضئ ما حواليه من نور تبسمه، وقيل: إنه عليه السلام رفع التاج عن رأسه فنظروا إلى علامة بقرنه كان ليعقوب وإسحاق وسارة مثلها تشبه الشامة البيضاء فعرفوه بذلك، وينضم إلى كل ذلك علمهم أن ما خاطبهم به لا يصدر مثله إلا عن حنيف مسلم من سنخ إبراهيم لا عن بعض أعزاء مصر، وزعم بعضهم أنهم إنما قالوا ذلك على التوهم ولم يعرفوه حتى أخبر عن نفسه: {قَالَ أَنَاْ يُوسُفُ} والمعول عليه ما تقدم وهذا جواب عن مساءلتهم وزاد عليه قوله: {وهذا أَخِى} أي من أبوي مبالغة في تعريف نفسه، قال بعض المدققين: إنهم سألوه متعجبين عن كونه يوسف محققين لذلك مخيلين لشدة التعجب أنه ليس إياه فأجابهم بما يحقق ذلك مؤكدًا، ولهذا لم يقل عليه السلام: بلى أو أنا هو فأعاد صريح الاسم: {وهذا أَخِى} بمنزلة أنا يوسف لا شبهة فيه على أن فيه ما يبنيه عليه من قوله: {قَدْ مَنَّ الله عَلَيْنَا} وجوز الطيبي أن يكون ذلك جاريًا على الأسلوب الحكيم كأنهم لما سألوه متعجبين أنت يوسف؟ أجاب لا تسألوا عن ذلك فإنه ظاهر ولكن اسألوا ما فعل الله تعالى بك من الامتنان والإعزاز وكذلك بأخي وليس من ذاك في شيء كما لا يخفى.
وفي إرشاد العقل السليم أن في زيادة الجواب مبالغة وتفخيمًا لشأن الأخ وتكملة لما أفاده قوله: {هَلْ عَلِمْتُمْ مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ} [يوسف: 89] حسبما يفيده: {قَدْ مَنَّ} الخ فكأنه قال: هل علمتم ما فعلتم بنا من التفريق والإذلال فأنا يوسف وهذا أخي قد من الله تعالى علينا بالخلاص عما ابتلينا به والاجتماع بعد الفرقة والعزة بعد الذلة والأنس بعد الوحشة.
ولا يبعد أن يكون فيه إشارة إلى الجواب عن طلبهم لرد بنيامين بأنه أخي لا أخوكم فلا وجه لطلبكم انتهى وفيه ما فيه.