فصل: قال القاسمي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وجملة: {قَدْ مَنَّ} الخ عند أبي البقاء مستأنفة، وقيل: حال من: {يُوسُفَ} و: {أَخِى} وتعقب بأن فيه بعدًا لعدم العامل في الحال حينئذٍ، ولا يصح أن يكون: {هذا} لأنه إشارة إلى واحد وعلينا راجع إليهما جميعًا: {أَنَّهُ} أي الشأن: {مَن يَتَّقِ} أي يفعل التقوى في جميع أحواله أو يق نفسه عما يوجب سخط الله تعالى وعذابه: {وَيِصْبِرْ} على البلايا والمحن أو على مشقة الطاعات أو عن المعاصي التي تستلذها النفس: {فَإِنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المحسنين} أي أجرهم، وإنما وضع المظهر موضع المضمر تنبيهًا على أن المنعوتين بالتقوى والصبر موصوفون بالإحسان، والجملة في موضع العلة للمن.
واختار أبو حيان عدم التخصيص في التقوى والصبر، وقال مجاهد: المراد من يتق في ترك المعصية ويصبر في السجن، والنخعي من يتق الزنا ويصبر على العزوبة، وقيل: من يتق المعاصي ويصبر على أذى الناس، وقال الزمخشري: المراد من يخف الله تعالى ويصبر عن المعاصي وعلى الطاعات.
وتعقبه صاحب الفرائد بأن فيه حمل من يتق على المجاز ولا مانع من الحمل على الحقيقة والعدول عن ذلك إلى المجاز من غير ضرورة غير جائز فالوجه أن يقال: من يتق من يحترز عن ترك ما أمر به وارتكاب ما نهى عنه ويصبر في المكاره وذلك باختياره وهذا بغير اختياره فهو محسن، وذكر الصبر بعد التقوى من ذكر الخاص بعد العام، ويجوز أن يكون ذلك لإرادة الثبات على التقوى كأنه قيل: من يتق ويثبت على التقوى انتهى.
والوجه الأول: ميل لما ذكره أبو حيان.
وتعقب ذلك الطيبي بأن هذه الجملة تعليل لما تقدم وتعريض باخوته بأنهم لم يخافوا عقابه تعالى ولم يصبروا على طاعته عز وجل وطاعة أبيهم وعن المعصية إذ فعلوا ما فعلوا فيكون المراد بالاتقاء الخوف وبالصبر الصبر على الطاعة وعن المعصية ورد بأن التعريض حاصل في التفسير الآخر فكأنه فسره به لئلا يتكرر مع الصبر وفيه نظر.
وقرأ قنبل: {مِنْ يَتَّقِى} بإثبات الياء، فقيل: هو مجزوم بحذف الياء التي هي لام الكلمة وهذه ياء إشباع؛ وقيل: جزمه بحذف الحركة المقدرة وقد حكوا ذلك لغة، وقيل: هو مرفوع و: {مِنْ} موصول وعطف المجزوم عليه على التوهم كأنه توهم أن: {مِنْ} شرطية و: {يَتَّقِى} مجزوم، وقيل: أن: {يصبر} مرفوع كيتقي إلا أنه سكنت الراء لتوالي الحركات وإن كان ذلك في كلمتين كما سكنت في: {يَأْمُرُكُمْ} [البقرة: 67] و: {يُشْعِرُكُمْ} [الأنعام: 109] ونحوهما أو للوقف وأجرى الوصل مجرى الوقف، والأحسن من هذه الأقوال كما في البحر أن يكون يتقي مجزومًا على لغة وإن كانت قليلة، وقول أبي علي: إنه لا يحمل على ذلك لأنه إنما يجئ في الشعر لا يلتفت إليه لأن غيره من رؤساء النحويين حكوه لغة نظمًا ونثرًا.
{قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آَثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا} أي اختارك وفضلك علينا بالتقوى والصبر، وقيل: بالملك، وقيل: بالصبر والعلم ورويا عن ابن عباس، وقيل: بالحلم والصفح ذكره سليمان الدمشقي، وقال صاحب الغنيان: بحسن الخلق والخلق والعلم والحلم والإحسان والملك والسلطان والصبر على أذانا والأول أولى.
{وَأَنْ} أي والحال أن الشأن: {كُنَّا لخاطئين} أي لمتعمدين للذنب إذ فعلنا ما فعلنا ولذلك أعزك وأذلنا، فالواو حالية و: {إن} مخففة اسمها ضمير الشأن واللام التي في خبر كان هي المزحلقة: {وخاطئين} من خطئ إذا تعمد وأما أخطأ فقصد الصواب ولم يوفق له، وفي قولهم: هذا من الاستنزال لإحسانه عليه السلام والاعتراف بما صدر منهم في حقه مع الإشعار بالتوبة ما لا يخفى ولذلك.
{قَالَ لَا تَثْرِيبَ} أي لا تأنيب ولا لوم: {عَلَيْكُمْ} وأصله من الثرب وهو الشحم الرقيق في الجوف وعلى الكرش، وصيغة التفعيل للسلب أي إزالة الثرب كالتجليد والتقريع بمعنى إزالة الجلد والقرع، واستعير للوم الذي يمزق الاعراض ويذهب بهاء الوجه لأنه بإزالة الشحم يبدو الهزال وما لا يرضى كما أنه باللوم تظهر العيوب فالجامع بينهما طريان النقص بعد الكمال وإزالة ما به الكمال والجمال وهو اسم: {لا} و: {عَلَيْكُمْ} متعلق بمقدر وقع خبرًا، وقوله تعالى: {اليوم} متعلق بذلك الخبر المقدر أو بالظرف أي لا تثريب مستقر عليكم اليوم، وليس التقييد به لإفادة وقوع التثريب في غيره فإنه عليه السلام إذا لم يثرب أول لقائه واشتعال ناره فبعده بطريق الأولى.
وقال المرتضى: إن: {اليوم} موضوع موضع الزمان كله كقوله:
اليوم يرحمنا من كان يغبطنا ** واليوم نتبع من كانوا لنا تبعًا

كأنه أريد بعد اليوم، وجوز الزمخشري تعلقه بتثريب وتعقبه أبو حيان قائلًا: لا يجوز ذلك لأن التثريب مصدر وقد فصل بينه وبين معموله بعليكم وهو إما خبر أو صفة ولا يجوز الفصل بينهما بنحو ذلك لأن معمول المصدر من تمامه، وأيضًا لو كان متعلقًا به لم يجز بناؤه لأنه حينئذٍ من قبيل المشبه بالمضاف وهو الذي يسمى المطول والممطول فيجب أن يكون معربًا منونًا، ولو قيل: الخبر محذوف و: {عَلَيْكُمْ} متعلق بمحذوف يدل عليه تثريب وذلك المحذوف هو العامل في: {اليوم} والتقدير لا تثريب يثرب عليكم اليوم كما قدروا في: {لاَ عَاصِمَ اليوم مِنْ أَمْرِ الله} [هود: 43] أي لا عاصم يعصم اليوم لكان وجهًا قويًا لأن خبر: {لا} إذا علم كثر حذفه عند أهل الحجاز ولم يلفظ به بنو تميم، وكذا منع ذلك أبو البقاء وعلله بلزوم الإعراب والتنوين أيضًا، واعترض بأن المصرح به في متون النحو بأن شبيه المضاف سمع فيه عدم التنوين نحو لا طالع جبلًا ووقع في الحديث: «لا مانع لما أعطيت ولا معطى لما منعت» باتفاق الرواة فيه وإنما الخلاف فيه هل هو مبني أو معرب ترك تنوينه، وفي التصريح نقلًا عن المغني أن نصب الشبيه بالمضاف وتنوينه هو مذهب البصريين، وأجاز البغداديون لا طالع جبلًا بلا تنوين أجروه في ذلك مجرى المضاف كما أجروه مجراه في الإعراب وعليه يتخرج الحديث: «لا مانع» إلخ.
فيمكن أن يكون مبني ما قاله أبو حيان وغيره مذهب البصريين، والحديث المذكور لا يتعين كما قال الدنوشرى أخذًا من كلام المغني في الجهة الثانية من الباب الخامس حمله على ما ذكر لجواز كون اسم: {لا} فيه مفردًا واللام متعلقة بالخبر والتقدير لا مانع مانع لما أعطيت وكذا فيما بعده.
وذكر الرضي أن الظرف بعد النفي لا يتعلق بالمنفي بل بمحذوف وهو خبر وأن: {اليوم} في الآية معمول: {عَلَيْكُمْ} ويجوز العكس، واعترض أيضًا حديث الفصل بين المصدر ومعموله بما فيه ما فيه، وقيل: {عَلَيْكُمْ} بيان كلك في سقيا لك فيتعلق بمحذوف و: {اليوم} خبر.
وجوز أيضًا كون الخبر ذاك و: {اليوم} متعلقًا بقوله: {يَغْفِرَ الله لَكُمْ} ونقل عن المرتضى أنه قال في الدرر: قد ضعف هذا قوم من جهة أن الدعاء لا ينصب ما قبله ولم يشتهر ذلك، وقال ابن المنير: لو كان متعلقًا به لقطعوا بالمغفرة بإخبار الصديق ولم يكن كذلك لقوله: {يا أَبَانَا استغفر لَنَا ذُنُوبَنَا} [يوسف: 97] وتعقب بأنه لا طائف تحته لأن المغفرة وهي ستر الذنوب يوم القيامة حتى لا يؤاخذوا به ولا يقرعوا إنما يكون ذلك الوقت وأما قبله فالحاصل هو الإعلام به والعلم بتحقق وقوعه بخبر الصادق لا يمنع الطلب لأن الممتنع طلب الحاصل لا طلب ما يعلم حصوله، على أنه يجوز أن يكون هضمًا للنفس واعتبر باستغفار الأنبياء عليهم السلام، ولا فرق بين الدعاء والإخبار هنا انتهى.
وقد يقال أيضًا: إن الذي طلبوه من أبيهم مغفرة ما يتعلق به ويرجع إلى حقه ولم يكن عندهم علم بتحقق ذلك، على أنه يجوز أن يقال: إنهم لم يعتقدوا إذ ذاك نبوته وظنوه مثلهم غير نبي فإنه لم يمض وقت بعد معرفة أنه يوسف يسع معرفة أنه نبي أيضًا وما جرى من المفاوضة لا يدل على ذلك فافهم، وإلى حمل الكلام على الدعاء ذهب غير واحد وذهب جمع أيضًا إلى كونه خبرًا.
والحكم بذلك مع أنه غيب قيل: لأنه عليه السلام صفح عن جريمتهم حينئذٍ وهم قد اعترفوا بها أيضًا فلا محالة أنه سبحانه يغفر لهم ما يتعلق به تعالى وما يتعلق به عليه السلام بمقتضى وعده جل شأنه بقبول توبة العباد، وقيل: لأنه عليه السلام قد أوحى إليه بذلك، وأنت تعلم أن أكثر القراء على الوقف على: {اليوم} وهو ظاهر في عدم تعلقه بيغفر وهو اختيار الطبري وابن إسحاق وغيرهم واختاروا كون الجملة بعد دعائية وهو الذي يميل إليه الذوق والله تعالى أعلم: {وَهُوَ أَرْحَمُ الرحمين} فإن كل من يرحم سواه جل وعلا فإنما يرحم برحمته سبحانه مع كون ذلك مبنيًا على جلب نفع أو دفع ضر ولا أقل من دفع ما يجده في نفسه من التألم الروحاني مما يجده في المرحوم، وقيل: لأنه تعالى يغفر الصغائر والكبائر التي لا يغفرها غيره سبحانه ويتفضل على التائب بالقبول، والجملة إما بيان للوثوق بإجابة الدعاء أو تحقيق لحصول المغفرة لأنه عفا عنهم فالله تعالى أولى بالعفو والرحمة لهم هذا.
ومن كرم يوسف عليه السلام ما روي أن إخوته أرسلوا إليه إنك تدعونا إلى طعامك بكرة وعشية ونحن نستحي منك بما فرط منا فيك فقال عليه السلام: إن أهل مصر وإن ملكت فيهم كانوا ينظرون إليّ بالعين الأولى ويقولون: سبحان من بلغ عبدًا بيع بعشرين درهمًا ما بلغ ولقد شرفت بكم الآن وعظمت في العيون حيث علم الناس أنكم إخوتي وأني من حفدة إبراهيم عليه السلام، والظاهر أنه عليه السلام أنه حصل بذلك من العلم للناس ما لم يحصل قبل فإنه عليه السلام على ما دل عليه بعض الآيات السابقة والإخبار قد أخبرهم أنه ابن من وممن.
وكذا ما أخرجه سعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس قال: قال الملك يومًا ليوسف عليه السلام أني أحب أن تخالطني في كل شيء إلا في أهلي وأنا آنف أن تأكل معي فغضب يوسف عليه السلام، فقال: أنا أحق أن آنف أنا ابن إبراهيم خليل الله وأنا ابن إسحاق ذبيح الله وأنا ابن يعقوب نبي الله لكن لم يشتهر ذلك أو لم يفد الناس علمًا.
وفي التوراة التي بأيدي اليهود اليوم أنه عليه السلام لما رأى من إخوته مزيد الحجل أدناهم إليه وقال: لا يشق عليكم أن بعتموني وإلى هذا المكان أوصلتموني فإن الله تعالى قد علم ما يقع من القحط والجدب وما ينزل بكم من ذلك ففعل ما أوصلني به إلى هذا المكان والمكانة ليزيل عنكم بي ما ينزل بكم ويكون ذلك سببًا لبقائكم في الأرض وانتشار ذراريكم فيها وقد مضت من سني الجدب سنتان وبقي خمس سنين وأنا اليوم قد صيرني الله تعالى مرجعًا لفرعون وسيدًا لأهله وسلطانًا على جميع أهل مصر فلا يضق عليكم أمركم. اهـ.

.قال القاسمي:

{فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَيْهِ} أي: على يوسف بعد ما رجعوا من مصر، ولانفهامه من المقام طوى ذكره إيجازًا: {قَالُواْ يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ} أي: الملك القادر المتمنع: {مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ} أي: الشدة من الجدب: {وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ} أي: بدراهم قليلة في مقابلة ما نمتاره. استقلوا الثمن واستحقروه؛ اتضاعًا لهيبة الملك، واستجلابًا لرأفته وحنانه. وأصل معنى (التزجية): الدفع والرمي، فكنوا به عن القليل الذي يدفع؛ رغبة عنه، لذلك: {فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْل} أي: أتممه ووفره بهذه الدراهم المزجاة، كما توفره بالدراهم الجياد: {وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا} أي: برد أخينا، أو بالإيفاء، أو بالمسامحة وقبول ما لا يعد عوضًا: {إِنَّ اللّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ} أي: يثيبهم أحسن المثوبة.
تنبيهات:
الأول: في الآية إرشاد إلى أدب جليل، وهو تقديم الوسائل أمام المآرب، فإنها أنجح لها. وهكذا فعل هؤلاء: قدموا ما ذكر من رقة الحال، والتمسكن وتصغير العوض، ولم يفجؤوه بحاجتهم؛ ليكون ذريعة إلى إسعاف مرامهم، ببعث الشفقة، وهز العطف والرأفة، وتحريك سلسلة الرحمة- كما قدمنا- ومن ثم رق لهم، وملكته الرحمة عليهم، فلم يتمالك أن عرَّفهم نفسه،- كما يأتي-.
الثاني: يؤخذ من الآية جواز شكوى الحاجة لمن يرجى منه إزالتها.
الثالث: استدل بعضهم بقوله تعالى: {فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ} على أن أجرة الكيال على البائع؛ لأنه إذا كان عليه توفية الكيل، فعليه مؤنته، وما يتم به.
الرابع: استدل بقوله تعالى: {وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا} من قال: إن الصدقة لم تكن محرمة على الأنبياء- كذا في الإكليل- وهذا بعد تسليم نبوة إخوة يوسف. وفيها خلاف. وسيأتي في التنبيهات، آخر السورة، تحقيق ذلك.
الخامس: في قوله تعالى: {إِنَّ اللّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِين} حثٌّ على الإحسان، وإشارة إلى أن المحسن يجزى أحسن جزاء منه تعالى، وإن لم يجزه المحسن إليه.
ثم بيَّن تعالى رأفة يوسف بتعرفه إليهم بقوله: {قَالَ} أي: يوسف مجيبًا لهم: {هَلْ عَلِمْتُم مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ} أي: شبان غافلون؟ استفهام تقرير، يفيد تعظيم الواقعة. ومعناه: ما أعظم ما ارتكبتم في يوسف، وما أقبح ما أقدمتم عليه! كما يقال للمذنب: هل تدري من عصيت وهل تعرف من خالفت؟ وهذه الآية تصديق لقوله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [يوسف: من الآية 15].
لطائف:
الأولى: أبدى المهايمي مناسبة بديعة في قول يوسف لهم: {هَلْ عَلِمْتُم} إثر قولهم: {إِنَّ اللّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِين} وهو أنهم أرادوا بقولهم: {إِنَّ اللّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِين} أنه يعطيهم في الآخرة ما هو خير من العوض الدنيوي، فأشار لهم يوسف بأنكم تريدون دفع الضرر العاجل، بوعد الأجر الآجل، ولا تدفعون عن أنفسكم الضرر الآجل، كأنكم تنكرونه، هل علمتم ضرر ما فعلتم بيوسف؟.
الثانية: قيل: من تلطفه بهم قوله: {إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ} كالاعتذار عنهم؛ لأن فعل القبيح على جهل بمقدار قبحه، أسهل من فعله على علم. وهم لو ضربوا في طرق الاعتذار لم يُلفوا عذرًا كهذا. ألا ترى أن موسى عليه السلام، لما اعتذر عن نفسه لم يزد على أن قال: {فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ} [الشعراء: 20] ففيه تخفيف للأمر عليهم.
الثالثة: قال الزمخشري: فإن قلت: ما فعلهم بأخيه؟ قلت: تعريضهم إياه للغم والثكل، بإفراده عن أخيه لأبيه وأمه، وجفاؤهم به، حتى كان لا يستطيع أن يكلم أحدًا منهم إلا كلام الذليل للعزيز، وإيذاؤهم له بأنواع الأذى. انتهى.
{قَالُواْ} أي: استغرابًا وتعجبًا من أن هذا لا يعلمه إلا يوسف: {أَإِنَّكَ لَأَنتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَاْ يُوسُفُ} أي: الذي فعلتم به ما فعلتم: {وَهَذَا أَخِي} أي: من أبويِّ.
قال أبو السعود: زادهم ذلك مبالغة في تعريف نفسه، وتفخيمًا لشأن أخيه، وتكملة لما أفاده قوله: {هَلْ عَلِمْتُم مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ} حسبما يفيده قوله: {قَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَيْنَا} فكأنه قال: هل علمتم ما فعلتم بنا من التفريق والإذلال، فأنا يوسف، وهذا أخي، قد منَّ الله علينا بالخلاص مما ابتلينا به، والاجتماع بعد الفرقة، والعزة بعد الذلة، والأنس بعد الوحشة.
ثم علل ذلك بطريق الاستئناف التعليلي بقوله: {إِنَّهُ مَن يَتَّقِ} أي: ربه في جميع أحواله: {وَيِصْبِرْ} أي: على الضراء، وعن المعاصي: {فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} أي: أجرهم، وفي وضع الظاهر موضع الضمير تنبيه على أن المنعوتين بالتقوى والصبر، موصوفون بالإحسان.
{قَالُواْ تَاللّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللّهُ عَلَيْنَا} أي: فضَّلك بما ذكرت من التقوى والصبر، وسيرة المحسنين: {وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ} أي: وإن شأننا وحالنا أنا كنا متعمدين للذنب، لم نتق ولم نصبر، ففعلنا بك ما فعلنا، ولذلك أوثرت علينا. وفيه إشعار بالتوبة والاستغفار، ولذلك: {قَالَ لاَ تَثْرَيبَ} أي: لا تعيير ولا توبيخ ولا تقريح: {عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ} أي: وإن كنتم ملومين قبل ظهور منتهى فعلكم، ولا إثم عليكم؛ إذ: {يَغْفِرُ اللّهُ لَكُمْ} أي: حقي لرضاي عنكم، وحقه أيضًا لواسع رحمته، كما قال: {وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} أي: فكأنه لا خطأ منكم. و (اليوم) متعلق بالتثريب، أو بالمقدر في (عليكم) من معنى الاستقرار. والمعنى: ولا أثرّبكم اليوم، وهو اليوم الذي هو مظنة التثريب، فما ظنكم بغيره من الأيام؟! فتعبيره بـ (اليوم) ليس لوقوع التثريب في غيره، لأن من لم يثرب أول لقائه واشتعال ناره، فبعده بطريق الأولى.
وقال الشريف المرتضى في الدرر: إن اليوم موضوع موضع الزمان كله كقوله:
اليوم يرحمنا من كان يغبطنا ** واليوم نتبع من كانوا لنا تبعا

ثم زادهم تكريمًا بأن دعا لهم بالمغفرة، لما فرط منهم بقوله: {يَغْفِرُ اللّهُ لَكُمْ}.
وقوله: {وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} تحقيق لحصول المغفرة؛ لأنه عفا عنهم، فالله أولى بالعفو والرحمة لهم، وبيان للوثوق بإجابة الدعاء. وجوز تعلق (اليوم) بـ (يغفر). والجملة خبرية سيقت بشارة بعاجل غفران الله؛ لما تجدد يومئذ من توبتهم وندمهم على خطيئتهم. والوجه الأول أظهر. والثاني من الإغراب في التوجيهات.
تنبيه:
قال بعضهم: إن تجاوز يوسف عن ذنب إخوته، وإبقاءه عليهم، ومصافاته لهم، تعلمنا أن نغفر لمن يسيء إلينا، ونحسن إليه، ونصفي له الود، وأن نغضي عن كل إهانة تلحق بنا، فيسبغ الله تعالى إذ ذاك علينا نعمه وخيراته في هذه الدنيا، كما أوسع على يوسف ويورثنا السعادة الأخروية. وأما إذا أضمرنا السوء للمسيئين إلينا، ونقمنا منهم، فينتقم الله منا، ويوردنا مورد الثبور، فنعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا. اهـ.