فصل: قال صاحب الميزان في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال صاحب الميزان في الآيات السابقة:

{وجاء إخوة يوسف فدخلوا عليه فعرفهم وهم له منكرون}
(بيان) فصل آخر مختار من قصة يوسف عليه السلام يذكر الله تعالى فيه مجئ اخوته إليه في خلال سنى الجدب لاشتراء الطعام لبيت يعقوب وكان ذلك مقدمة لضم يوسف عليه السلام اخاه من امه وهو المحسود المذكور في قوله تعالى حكاية عن الاخوة: {ليوسف واخوه احب إلى ابينا منا ونحن عصبة} إليه ثم تعريفهم نفسه ونقل بيت يعقوب عليه السلام من البدو إلى مصر.
وانما لم يعرفهم نفسه ابتداء لأنه اراد ان يلحق اخاه من امه إلى نفسه ويرى اخوته من ابيه عند تعريفهم نفسه صنع الله بهما ومن الله عليهما اثر تقواهما وصبرهما على ما آذوهما عن الحسد والبغى ثم يشخصهم جميعا والآيات الخمس تتضمن قصة دخولهم مصر واقتراحه ان ياتوا باخيهم من ابيهم إليه ان عادوا إلى اشتراء الطعام والميرة وتقبلهم ذلك.
قوله تعالى: {وجاء اخوة يوسف فدخلوا عليه فعرفهم وهم له منكرون} في الكلام حذف كثير وانما ترك الاقتصاص له لعدم تعلق غرض هام به وانما الغرض بيان لحوق اخى يوسف من امه به واشراكه معه في النعمة والمن الإلهى ثم معرفتهم بيوسف ولحوق بيت يعقوب به فهو شطر مختار من قصته وما جرى عليه بعد عزة مصر.
والذى جاء إليه من اخوته هم العصبة ما خلا اخيه من امه فان يعقوب عليه السلام كان يأنس به ولا يخلى بينه وبينهم بعد ما كان من أمر يوسف ما كان والدليل على ذلك كله ما سيأتي من الآيات.
وكان بين دخولهم هذا على اخيهم يوسف وبين انتصابه على خزائن الأرض وتقلده عزة مصر بعد الخروج من السجن اكثر من سبع سنين فانهم انما جاؤا إليه في بعض السنين المجدبة وقد خلت السبع السنون المخصبة ولم يروه منذ سلموه إلى السيارة يوم اخرج من الجب وهو صبى وقد مر عليه سنون في بيت العزيز ولبث بضع سنين في السجن وتولى أمر الخزائن منذ اكثر من سبع سنين وهو اليوم في زى عزيز مصر لا يظن به انه رجل عبرى من غير القبط وهذا كله صرفهم عن ان يظنوا به انه اخوهم ويعرفوه لكنه عرفهم بكياسته أو بفراسة النبوة كما قال تعالى: {وجاء اخوة يوسف فدخلوا عليه فعرفهم وهم له منكرون}.
قوله تعالى: {ولما جهزهم بجهازهم قال ائتونى بأخ لكم من ابيكم الا ترون انى أو في الكيل وانا خير المنزلين} قال الراغب في المفردات الجهاز ما يعد من متاع وغيره والتجهيز حمل ذلك أو بعثه انتهى فالمعنى ولما حملهم ما اعد لهم من الجهاز والطعام الذي باعه منهم امرهم بان ياتوا إليه باخ لهم من ابيهم وقال ائتونى إلخ.
وقوله ألا ترون انى أو في الكيل أي لا ابخس فيه ولا اظلمكم بالاتكاء على قدرتي وعزتي وانا خير المنزلين اكرم النازلين بى واحسن مثواهم وهذا تحريض لهم ان يعودوا إليه ثانيا ويأتوا إليه بأخيهم من ابيهم كما ان قوله في الآية التالية: {فان لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي ولا تقربون} تهديد لهم لئلا يعصوا امره وكما ان قولهم في الآية الاتية: {سنراود عنه اباه وانا لفاعلون} تقبل منهم لذلك في الجملة وتطييب لنفس يوسف عليه السلام.
ثم من المعلوم ان قوله عليه السلام أو ان خروجهم: {ائتونى بأخ لكم من ابيكم} مع ما فيه من التأكيد والتحريض والتهديد ليس من شأنه ان يورد كلاما ابتدائيا من غير مقدمة وتوطئة تعمي عليهم وتصرفهم ان يتفطنوا أنه يوسف أو يتوهموا فيه ما يريبهم في أمره.
وهو ظاهر.
وقد اورد المفسرون في القصة من مفاوضته لهم وتكليمه اياهم امورا كثيرة لا دليل على شيء منها من كلامه تعالى في سياق القصة ولا اثر يطمأن إليه في امثال المقام.
وكلامه تعالى خال عن التعرض لذلك، وانما الذي يستفاد منه أنه سألهم عن خطبهم فأخبروه وهم عشرة أنهم اخوة وأن لهم أخا آخر بقي عند أبيهم لا يفارقه ابوه ولا يرضى أن يفارقه لسفر أو غيره فأحب العزيز أن يأتوا به إليه فيراه.
قوله تعالى: {فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي ولا تقربون} الكيل بمعنى المكيل وهو الطعام، ولا تقربون اي لا تقربوني بدخول أرضي والحضور عندي للامتيار واشتراء الطعام. ومعنى الآية ظاهر، وهو تهديد منه لهم لو خالفوا عن أمره كما تقدم.
قوله تعالى: {قالوا سنراود عنه أباه وإنا لفاعلون} المراودة كما تقدم هي الرجوع في أمر مرة بعد مرة بالالحاح أو الاستخدام، ففي قولهم ليوسف عليه السلام: {سنراود عنه أباه} دليل على انهم قصوا عليه قصته أن أباهم يضن به ولا يرضى بمفارقته له ويأبى أن يبتعد منه لسفر أو أي غيبة، وفى قولهم: {اباه} ولم يقولوا: ابانا تأييد لذلك.
وقولهم: {وإنا لفاعلون} أي فاعلون للاتيان به أو للمراودة لحمله معهم والاتيان به إليه، ومعنى الآية ظاهر، وفيه تقبل منهم لذلك في الجملة وتطييب لنفس يوسف عليه السلام كما تقدم.
قوله تعالى: {وقال لفتيانه اجعلوا بضاعتهم في رحالهم لعلهم يعرفونها إذا انقلبوا إلى أهلهم لعلهم يرجعون} الفتيان جمع الفتى وهو الغلام وقال الراغب البضاعة قطعة وافرة من المال يقتنى للتجارة يقال ابضع بضاعة وابتضعها قال تعالى: {هذه بضاعتنا} ردت الينا وقال تعالى ببضاعة مزجاة والأصل في هذه الكلمة البضع بفتح الباء وهو جملة من اللحم يبضع أي يقطع قال وفلان بضعة منى أي جار مجرى بعض جسدي لقربه منى قال والبضع بالكسر المنقطع من العشرة ويقال ذلك لما بين الثلاث إلى العشرة وقيل بل هو فوق الخمس ودون العشرة انتهى والرحال جمع رحل وهو الوعاء والاثاث والانقلاب الرجوع.
ومعنى الآية وقال يوسف عليه السلام لغلمانه اجعلوا مالهم وبضاعتهم التي قدموها ثمنا لما اشتروه من الطعام في اوعيتهم لعلهم يعرفونها إذا انقلبوا ورجعوا إلى اهلهم وفتحوا الاوعية لعلهم يرجعون الينا ويأتوا باخيهم فان ذلك يقع في قلوبهم ويطمعهم إلى الرجوع والتمتع من الاكرام والاحسان {فلما رجعوا إلى ابيهم قالوا يا ابانا منع منا الكيل فارسل معنا اخانا نكتل وانا له لحافظون} 63.
(بيان) الآيات تقتص رجوع اخوة يوسف عليه السلام من عنده إلى ابيهم وارضاءهم اباهم ان يرسل معهم اخا يوسف من امه للاكتيال ثم مجيئهم ثانيا إلى يوسف واخذ يوسف اخاه إليه عن حيلة احتالها لذلك.
قوله تعالى: {فلما رجعوا إلى ابيهم قالوا يا ابانا منع منا الكيل فأرسل معنا اخانا نكتل وانا له لحافظون} الاكتيال اخذ الطعام كيلا ان كان مما يكال قال الراغب الكيل كيل الطعام يقال كلت له الطعام إذا توليت له ذلك وكلته الطعام إذا اعطيته كيلا واكتلت عليه إذا اخذت منه كيلا قال تعالى: {ويل للمطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم}.
وقوله: {قالوا يا ابانا منع منا الكيل} أي لو لم نذهب بأخينا ولم يذهب معنا إلى مصر بدليل قوله فأرسل معنا اخانا فهو اجمال ما جرى بينهم وبين عزيز مصر من امره بمنعهم من الكيل ان لم ياتوا إليه باخ لهم من ابيهم يقصونه لابيهم ويسألونه ان يرسله معهم ليكتالوا ولا يحرموا.
وقولهم اخانا اظهار رأفة واشفاق لتطييب نفس ابيهم من انفسهم كقولهم: {وانا له لحافظون} بما فيه من التأكيد البالغ.
قوله تعالى: {قال هل آمنكم عليه الا كما امنتكم على اخيه من قبل فالله خير حافظا وهو ارحم الراحمين} قال في المجمع الا من اطمئنان القلب إلى سلامة الأمر يقال أمنه يأمنه امنا انتهى فقوله هل آمنكم عليه الخ أي هل اطمئن اليكم في ابني هذا الا مثل ما اطماننت اليكم في اخيه يوسف من قبل هذا فكان ما كان.
ومحصله انكم تتوقعون منى ان اثق فيه بكم وتطمئن نفسي اليكم كما وثقت بكم واطماننت اليكم في اخيه من قبل وتعدوننى بقولكم وانا له لحافظون ان تحفظوه كما وعدتم في يوسف بقولكم وانا له لحافظون وقد امنتكم بمثل هذا الا من على يوسف فلم تغنوا عنى شيئا وجئتم بقميصه الملطخ بالدم ان الذئب اكله وامنى لكم على هذا الاخ مثل امني على اخيه من قبل امن لمن لا يغنى امنه والاطمئنان إليه شيئا ولا بيده حفظ ما سلم إليه وائتمن له.
وقوله فالله خير حافظا وهو ارحم الراحمين تفريع على سابق كلامه هل آمنكم عليه الخ وتفيد الاستنتاج أي إذا كان الاطمئنان اليكم في امره لغي لا اثر له ولا يغنى شيئا فخير الاطمئنان والاتكال ما كان اطمئنانا إلى الله سبحانه من حيث حفظه وإذا تردد الأمر بين التوكل عليه والتفويض إليه وبين الاطمئنان إلى غيره كان الوثوق به تعالى هو المختار المتعين وقوله: {وهو ارحم الراحمين} في موضع التعليل لقوله فالله خير حافظا أي ان غيره تعالى ربما امن في أمر وائتمن عليه في امانة سلم له فلم يرحم المؤتمن وضيع الامانة لكنه سبحانه ارحم الراحمين لا يترك الرحمة في محل الرحمة ويترحم العاجز الضعيف الذي فوض إليه امرا وتوكل عليه ومن يتوكل على الله فهو حسبه.
ومن هنا يظهر ان مراده عليه السلام ليس بيان لزوم اختياره تعالى في الاعتماد عليه من جهة انه سبب مستقل في سببيته غير مغلوب البتة بخلاف سائر الأسباب وان كان الأمر كذلك قال تعالى: {ومن يتوكل على الله فهو حسبه ان الله بالغ امره} الطلاق: 3 كيف والاطمئنان إلى غيره تعالى بهذا المعنى من الشرك الذي يتنزه عنه ساحة الأنبياء وقد نص تعالى على ان يعقوب عليه السلام من المخلصين اهل الاجتباء وانه من الائمة الهداة المهديين وهو عليه السلام يعترف في قوله الا كما امنتكم على اخيه من قبل انه امنهم على يوسف ولو كان من الشرك لم يقدم عليه البتة على انه امنهم على اخى يوسف أيضا بعد ما اعطوه موثقا من الله تعالى كما تدل عليه الآيات التالية.
بل يريد بيان لزوم اختياره تعالى في الاطمئنان إليه دون غيره من جهة انه تعالى متصف بصفات كريمة يؤمن معها ان يستغش عباده المتوكلين عليه المسلمين له امورهم فانه رؤف بعباده رحيم غفور ودود كريم حكيم عليم ويجمع الجميع انه ارحم الراحمين على انه لا يغلب في امره لا يقهر في مشيته واما الناس إذا امنوا على أمر واطمئن إليهم في شيء فانهم اسراء الاهواء وملاعب الهوسات النفسانية ربما اخذتهم كرامة النفس وشيمة الوفاء وصفة الرحمة فحفظوا ما في اختيارهم ان يحفظوه ولا يخونوه وربما خانوا ولم يحفظوا على انهم لا استقلال لهم في قدرة ولا استغناء لهم في قوة وارادة.
وبالجملة مراده عليه السلام ان الاطمئنان إلى حفظ الله سبحانه خير من الاطمئنان إلى حفظ غيره لأنه تعالى ارحم الراحمين لا يخون عبده فيما امنه عليه واطمأن فيه إليه بخلاف الناس فانهم ربما لم يفوا لعهد الامانة ولم يرحموا المؤتمن المتوسل بهم فخانوه ولذلك لما كلف بنيه ثانيا ان يؤتوه موثقا من الله قال: {ان تؤتون موثقا من الله لتأتنني به إلا أن يحاط بكم} فاستثنى ما ليس في اختيارهم من الحفظ وهو حفظه إذا احيط بهم فانه فوق استطاعتهم ومقدرتهم وليسوا بمسؤلين عنه وانما سالهم الموثق في اتيانه فيما لا يخرج من اختيارهم كالقتل والنفى ونحو ذلك فافهم ذلك.
ومما تقدم يظهر ان في قوله عليه السلام وهو ارحم الراحمين نوع تعريض لهم وتلويح إلى انهم لم يستوفوا الرحم أو لم يرحموه اصلا في أمر يوسف حين امنهم عليه والآية على أي حال في معنى الرد لما سألوه.
قوله تعالى: {ولما فتحوا متاعهم وجدوا بضاعتهم ردت إليهم} إلى آخر الآية البغى هو الطلب ويستعمل كثيرا في الشر ومنه البغى بمعنى الظلم والبغى بمعنى الزنا وقال في المجمع الميرة الاطعمة التي تحمل من بلد إلى بلد ويقال مرتهم اميرهم ميرا إذا اتيتهم بالميرة ومثله امترتهم امتيارا انتهى.
وقوله: {يا ابانا ما نبغى} استفهام أي لما فتحوا متاعهم ووجدوا بضاعتهم ردت إليهم وكان ذلك دليلا على اكرام العزيز لهم وانه غير قاصد بهم سوء وقد سلم إليهم الطعام ورد إليهم الثمن فكان ذهابهم إلى مصر للامتيار خير سفر نفعا ودرا راجعوا اباهم وقالوا يا ابانا ما الذي نطلب من سفرنا إلى مصر وراء هذا؟ فقد أو في لنا الكيل ورد الينا ما بذلناه من البضاعه ثمنا.
فقولهم يا ابانا ما نبغى هذه بضاعتنا ردت الينا ارادوا به تطييب نفس ابيهم ليرضى بذهاب اخيهم معهم لأنه في امن من العزيز وهم يحفظونه كما وعدوه ولذلك عقبوه بقولهم ونمير اهلنا ونحفظ اخانا ونزداد كيل بعير ذلك كيل يسير أي سهل.
وربما قيل ان ما في قوله ما نبغى للنفي أي ما نطلب بما اخبرناك من العزيز واكرامه لنا الكذب فهذه بضاعتنا ردت الينا وكذا قيل ان اليسير بمعنى القليل أي ان الذي جئنا به اليك من الكيل قليل لا يقنعنا فنحتاج إلى ان نضيف إليه كيل بعير اخينا.
قوله تعالى: {قال لن ارسله معكم حتى تؤتون موثقا من الله لتاتننى به إلا أن يحاط بكم فلما آتوه موثقهم قال الله على ما نقول وكيل} الموثق بكسر الثاء ما يوثق به ويعتمد عليه والموثق من الله هو أمر يوثق به ويرتبط مع ذلك بالله وايتاء موثق الهى واعطاؤه هو ان يسلط الإنسان على أمر الهى يوثق به كالعهد واليمين بمنزلة الرهينة والمعاهد والمقسم بقوله عاهدت الله ان افعل كذا أو بالله لافعلن كذا يراهن كرامة الله وحرمته فيضعها رهينة عند من يعاهده أو يقسم له ولو لم يف بما قال خسر في رهينته وهو مسؤل عند الله لا محالة.