فصل: قال ابن عطية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عطية:

{اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا}
حكمه بعد الأمر إلقاء القميص على وجه أبيه بأن أباه يأتي بصيرًا ويزول عماه دليل على أن هذا كله بوحي وإعلام من الله. قال النقاش: وروي أن هذا القميص كان لإبراهيم كساه الله إياه حين خرج من النار وكان من ثياب الجنة. وكان بعد لإسحاق ثم ليعقوب ثم كان دفعه ليوسف فكان عنده في حفاظ من قصب.
قال القاضي أبو محمد: وهذا كله يحتاج إلى سند، والظاهر أنه قميص يوسف الذي هو منه بمنزلة قميص كل أحد، وهكذا تبين الغرابة في أن وجد ريحه من بعد، ولو كان من قميص الجنة لما كان في ذلك غرابة ولوجده كل أحد.
وأما: {أهلهم} فروي: أنهم كانوا ثمانين نسمة، وقيل ستة وسبعين نفسًا بين رجال ونساء- وفي هذا العدد دخلوا مصر ثم خرج منها أعقابهم مع موسى في ستمائة ألف. وذكر الطبري عن السدي أنه لما كشف أمره لإخوته سألهم عن أبيهم: ما حاله؟ فقالوا: ذهب بصره من البكاء. فحينئذ قال لهم: {اذهبوا بقميصي} الآية.
وقوله تعالى: {ولما فصلت العير} الآية، معناه: فصلت العير من مصر متوجهة إلى موضع يعقوب، حسبما اختلف فيه، فقيل: كان على مقربة من بيت المقدس، وقيل كان بالجزيرة والأول أصح لأن آثارهم وقبورهم حتى الآن هناك.
وروي أن يعقوب وجد: {ريح يوسف} وبينه وبين القميص مسيرة ثمانية أيام، قاله ابن عباس، وقال: هاجت ريح فحملت عرفه؛ وروي: أنه كان بينهما ثمانون فرسخًا- قاله الحسن- وابن جريج قال: وقد كان فارقه قبل ذلك سبعًا وسبعين سنة.
قال القاضي أبو محمد: وهذا قريب من الأول.
وروي: أنه كان بينهما مسيرة ثلاثين يومًا، قاله الحسن بن أبي الحسن، وروي عن أبي أيوب الهوزني: أن الريح استأذنت في أن توصل عرف يوسف إلى يعقوب، فأذن لها في ذلك. وكانت مخاطبة يعقوب هذه لحاضريه، فروي: أنهم كانوا حفدته، وقيل: كانوا بعض بنيه، وقيل: كانوا قرابته.
و{تفندون} معناه: تردون رأيي وتدفعون في صدري، وهذا هو التفنيد في اللغة، ومن ذلك قول الشاعر: البسيط:
يا عاذليّ دعا لومي وتفنيدي ** فليس ما فات من أمري بمردود

ويقال: أفند الدهر فلانًا: إذا أفسده.
قال ابن مقبل: الطويل:
دع الدهر يفعل ما أراد فإنه ** إذا كلف الإفناد بالناس أفندا

ومما يعطي أن الفند الفساد في الجملة قول النابغة: البسيط:
إلا سليمان إذ قال الإله له ** قم في البرية فاحددها عن الفند

وقال منذر بن سعيد: يقال: شيخ مفند: أي قد فسد رأيه، ولا يقال: عجوز.
قال القاضي أبو محمد: والتفنيد يقع إما لجهل المفند، وإما لهوى غلبه، وإما لكذبه، وإما لضعفه وعجزه لذهاب عقله وهرمه، فلهذا فسّر الناس التفنيد في هذه الآية بهذه المعاني ومنه قوله عليه السلام أو هرمًا مفندًا.
قال ابن عباس ومجاهد وقتادة: معناه تسفهون، وقال ابن عباس- أيضًا- تجهلون، وقال ابن جبير وعطاء: معناه: تكذبون، وقال ابن إسحاق: معناه: تضعفون، وقال ابن زيد ومجاهد: معناه: تقولون: ذهب عقلك، وقال الحسن: معناه: تهرمون.
والذي يشبه أن تفنيدهم ليعقوب إنما كان لأنهم كانوا يعتقدون أن هواه قد غلبه في جانب يوسف. قال الطبري: أصل التفنيد الإفساد.
وقولهم: {لفي ضلالك} يريدون في انتكافك وتحيرك، وليس هو بالضلال الذي هو في العرف ضد الرشاد، لأن ذلك من الجفاء الذي لا يسوغ لهم مواجهته به، وقد تأول بعض الناس على ذلك، ولهذا قال قتادة رحمه الله: قالوا لوالدهم كلمة غليظة لم يكن ينبغي لهم أن يقولوها لوالدهم ولا لنبي الله عليه السلام، وقال ابن عباس: المعنى: لفي خطئك.
قال القاضي أبو محمد: وكان حزن يعقوب قد تجدد بقصة بنيامين، فلذلك يقال له: ذو الحزنين.
{فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا}
روي عن ابن عباس: أن: {البشير} كان يهوذا لأنه كان جاء بقميص الدم.
قال القاضي أبو محمد: حدثني أبي رضي الله عنه قال: سمعت الواعظ أبا الفضل بن الجوهري على المنبر بمصر يقول: إن يوسف عليه السلام لما قال: {اذهبوا بقميصي هذا فألقوه على وجه أبي} [يوسف: 93] قال يهوذا لإخوته: قد علمتم أني ذهبت إليه بقميص الترحة فدعوني أذهب إليه بقميص الفرحة؛ فتركوه وذلك. وقال هذا المعنى السدي. و: {ارتد} معناه: رجع هو، يقال: ارتد الرجل ورده غيره، و: {بصيرا} معناه: مبصرًا، ثم وقفهم على قوله: {إني أعلم من الله ما لا تعلمون} وهذا- والله أعلم- هو انتظاره لتأويل الرؤيا- ويحتمل أن يشير إلى حسن ظنه بالله تعالى فقط.
وروي: أنه قال للبشير: على أي دين تركت يوسف؟ قال: على الإسلام قال: الحمد لله، الآن كملت النعمة.
وفي مصحف ابن مسعود: {فلما أن جاء البشير من بين يدي العير}، وحكى الطبري عن بعض النحويين أنه قال: {أن} في قوله: {فلما أن جاء البشير} زائدة، والعرب تزيدها أحيانًا في الكلام بعد لما وبعد حتى فقط، تقول: لما جئت كان كذا، ولما أن جئت، وكذلك تقول: ما قام زيد حتى قمت، وحتى أن قمت.
وقوله: {قالوا يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا} الآية، روي أن يوسف عليه السلام لما غفر لإخوته، وتحققوا أيضًا أن يعقوب يغفر لهم، قال بعضهم لبعض: ما يغني عنا هذا إن لم يغفر الله لنا؟! فطلبوا- حينئذ- من يعقوب أن يطلب لهم المغفرة من الله تعالى، واعترفوا بالخطأ، فقال لهم يعقوب: {سوف أستغفر}، فقالت فرقة: سوفهم إلى السحر، وروي عن محارب بن دثار أنه قال: كان عم لي يأتي المسجد فسمع إنسانًا يقول: اللهم دعوتني فأجبت وأمرتني فأطعت، وهذا سحر فاغفر لي، فاستمع الصوت فإذا هو من دار عبد الله بن مسعود، فسئل عبد الله بن مسعود عن ذلك، فقال: إن يعقوب عليه اسلام أخر بنيه إلى السحر، ويقوي هذا التأويل قول النبي صلى الله عليه وسلم: «ينزل ربنا كل ليلة إذا كان الثلث الآخر إلى سماء الدنيا فيقول: من يدعوني فأستجيب له؟ من يستغفرني فأغفر له؟» الحديث. ويقويه قوله تعالى: {والمستغفرين بالأسحار} [آل عمران: 17]. وقالت فرقة: إنما سوفهم يعقوب إلى قيام الليل، وقالت فرقة- منهم سعيد بن جبير- سوفهم يعقوب إلى الليالي البيض، فان الدعاء فيهن يستجاب وقيل: إنما أخرهم إلى ليلة الجمعة، وروى ابن عباس هذا التأويل عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «أخرهم يعقوب حتى تأتي له الجمعة». ثم رجاهم يعقوب عليه السلام بقوله: {إنه هو الغفور الرحيم}. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {اذهبوا بِقَمِيصِي هذا}
نعت للقميص، والقميص مذكر، فأما قول الشاعر:
تَدْعو هَوَازِنُ والقميصُ مُفَاضَةٌ ** فوق النِّطاقِ تُشَدُّ بالأزرارِ

فتقديره: (والقميص) دِرْع مُفاضةٌ. قاله النحاس.
وقال ابن السدّي عن أبيه عن مجاهد: قال لهم يوسف: {اذهبوا بِقَمِيِصي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبيِ يَأْتِ بَصِيرًا} قال: كان يوسف أعلم بالله من أن يعلم أن قميصه يَرُدّ على يعقوب بصره، ولكن ذلك قميص إبراهيم الذي ألبسه الله في النار من حرير الجنة، وكان كساه إسحق، وكان إسحق كساه يعقوب، وكان يعقوب أدرج ذلك القميص في قَصَبة من فضة وعلّقه في عُنق يوسف، لِمَا كان يخاف عليه من العين، وأخبره جبريل بأن أرسل قميصك فإن فيه ريح الجنة، و (إن) ريح الجنة لا يقع على سقيم ولا مُبتلًى إلا عُوفي.
وقال الحسن: لولا أن الله تعالى أعلم يوسف بذلك لم يعلم أنه يرجع إليه بصره، وكان الذي حمل قميصه يهوذا، قال ليوسف: أنا الذي حملت إليه قميصك بدم كذب فأحزنته، وأنا الذي أحمله الآن لأسرّه، وليعود إليه بصره، فحمله؛ حكاه السدّي.
{وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ} لتتخذوا مصر دارًا.
قال مسروق: فكانوا ثلاثة وتسعين، ما بين رجل وامرأة.
وقد قيل: إن القميص الذي بعثه هو القميص الذي قدّ من دُبره، ليعلم يعقوب أنه عُصِم من الزنى؛ والقول الأوّل أصح، وقد روي مرفوعًا من حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ ذكره القُشَيريّ والله أعلم.
قوله تعالى: {وَلَمَّا فَصَلَتِ العير} أي خرجت منطلقة من مصر إلى الشام، يقال: فَصَلَ فُصُولًا، وفَصَلْته فَصْلًا، فهو لازم ومتعد.
{قَالَ أَبُوهُمْ} أي قال لمن حضر من قرابته ممن لم يخرج إلى مصر وهم ولد ولده: {إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ}.
وقد يحتمل أن يكون خرج بعض بنيه، فقال لمن بقي: {إنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلاَ أَنْ تُفَنِّدُونِ}.
قال ابن عباس: هاجت ريح فحملت ريح قميص يوسف إليه، وبينهما مسيرة ثمان ليال.
وقال الحسن: مسيرة عشر ليال؛ وعنه أيضًا مَسيرة شهر.
وقال مالك بن أنس رضي الله عنه: إنما أوصل ريحه من أوصل عرش بلقيس قبل أن يرتدّ إلى سليمان عليه السلام طرفه.
وقال مجاهد: هبّت ريح فصَفَقَت القميصَ فراحت روائح الجنة في الدنيا واتصلت بيعقوب، فوجد ريح الجنة فعلم أنه ليس في الدنيا من ريح الجنة إلا ما كان من ذلك القميص، فعند ذلك قال: {إنِّي لأَجِدُ} أي أشم؛ فهو وجود بحاسة الشم.
{لَوْلاَ أَن تُفَنِّدُونِ} قال ابن عباس ومجاهد: لولا أن تُسفّهون؛ ومنه قول النابغة:
إلاَّ سُليمان إذ قال المليكُ لَهُ ** قُمْ في البرِيَّة فاحددها عنِ الفَنَدِ

أي عن السَّفَه.
وقال سعيد بن جُبير والضحاك: لولا أن تكذِّبون.
والفَنَد الكذب.
وقد أَفْنَد إفْنَادًا كَذَب؛ ومنه قول الشاعر:
هل في افتخار الكريم من أَوَدِ ** أَمْ هل لقول الصَّدُوقِ من فَنَدِ

أي من كذب.
وقيل: لولا أن تُقبِّحون؛ قاله أبو عمرو؛ والتّفنيد التقبيح، قال الشاعر:
يا صاحبيّ دعا لوميِ وتَفْنيدِي ** فليس ما فاتَ مِن أمرِي بمردودِ

وقال ابن الأعرابي: {لَوْلاَ أَنْ تُفَنِّدُونِ} لولا أن تُضعِّفوا رأيي؛ وقاله ابن إسحق. والفند ضعف الرأي من كِبر.
وقول رابع: تُضلِّلون، قاله أبو عبيدة. وقال الأخفش: تلوموني؛ والتفنيد اللوم وتضعيف الرأي. وقال الحسن وقَتَادة ومجاهد أيضًا: تُهرِّمون؛ وكله متقارب المعنى، وهو راجع إلى التعجيز وتضعيف الرأي؛ يقال: فَنَّده تفنيدًا إذا أعجزه، كما قال:
أهلكني باللوم والتفنِيد

ويقال: أفند إذا تكلم بالخطأ؛ والفند الخطأ في الكلام والرأي، كما قال النابغة:
فاحددها عن الفَنَدِ

أي امنعها عن الفساد في العقل، ومن ذلك قيل: اللوم تفنيد؛ قال الشاعر:
يا عاذليّ دَعَا الْمَلاَمَ وأَقْصِرَا ** طالَ الهَوَى وأطلتما التَّفْنِيدا

ويقال: أَفْنَد فلانًا الدهرُ إذا أفسده؛ ومنه قول ابن مُقْبِل:
دَعِ الدَّهْرَ يَفْعَلْ ما أَرادَ فإنَّهُ ** إذا كُلِّف الإفنادَ بالناسِ أَفْنَدَا

قوله تعالى: {قَالُواْ تالله إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ القديم} أي لفي ذهاب عن طريق الصواب.
وقال ابن عباس وابن زيد: لفي خطئِك الماضي من حبّ يوسف لا تنساه. وقال سعيد بن جُبير: لفي جنونك القديم. قال الحسن: وهذا عقوق. وقال قَتَادة وسفيان: لفي محبتك القديمة. وقيل: إنما قالوا هذا؛ لأن يوسف عندهم كان قد مات. وقيل: إن الذي قال له ذلك من بقي معه من ولده ولم يكن عندهم الخبر. وقيل: قال له ذلك من كان معه من أهله وقرابته. وقيل: بنو بنيه وكانوا صغارًا؛ فالله أعلم.
قوله تعالى: {فَلَمَّا أَن جَاءَ البشير أَلْقَاهُ على وَجْهِهِ} أي على عينيه.
{فارتد بَصِيرًا} أَنْ زائدة، والبشير قيل هو شمعون.