فصل: قال القاسمي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{قَالُواْ} أي أولئك المخاطبون: {تالله إِنَّكَ لَفِى ضلالك القديم} أي لفي ذهابك عن الصواب قدمًا بالإفراط في محبة يوسف والإكثار من ذكره والتوقع للقائه وجعله فيه لتمكنه ودوامه عليه، وأخرج ابن جرير عن مجاهد أن الضلال هنا بمعنى الحب، وقال مقاتل: هو الشقاء والعناء، وقيل: الهلاك والذهاب من قولهم: ضل الماء في اللبن أي ذهب فيه وهلك.
وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير تفسيره بالجنون وهو مما لا يليق وكأنه لتفسير بمثل ذلك قال قتادة: لقد قالوا كلمة غليظة لا ينبغي أن يقولها مثلهم لمثله عليه السلام ولعلهم إنما قالوا ذلك لظنهم أنه مات.
{فَلَمَّا أَن جَاء البشير} قال مجاهد. هو يهوذا.
روي أنه قال لإخوته قد علمتم أني ذهبت إلى أبي بقميص الترحة فدعوني أذهب إليه بقميص الفرحة فتركوه.
وفي رواية عن ابن عباس أنه مالك بن ذعر والرواية الشهيرة عنه ما تقدم، و: {إن} صلة وقد أطردت زيادتها بعد لما.
وقرأ ابن مسعود وعد ذلك قراءة تفسير: {وَجَاء البشير مِن بَيْنِ يَدَيْهِ العير}.
{ألقياه} أي ألقى البشير القميص: {مُكِبًّا على وَجْهِهِ} أي وجه يعقوب عليه السلام، وقيل: فاعل: {ألقى} ضمير يعقوب عليه السلام أيضًا والأول أوفق بقوله: {فَأَلْقُوهُ على وجه أبي} [يوسف: 93] وهو يبعد كون البشير مالكًا كما لا يخفى، والثاني قيل: هو الأنسب بالأدب ونسب ذلك إلى فرقد قال: إنه عليه السلام أخذه فشمه ثم وضعه على بصره: {فارتد بَصِيرًا} والظاهر أنه أريد بالوجه كله، وقد جرت العادة أنه متى وجد الإنسان شيئًا يعتقد فيه البركة مسح به وجهه، وقيل: عبر بالوجه عن العينين لأنهما فيه، وقيل: عبر بالكل عن البعض: {وارتد} عند بعضهم من أخوات كان وهي بمعنى صار فبصيرًا خبرها وصحح أبو حيان أنها ليست من أخواتها فبصيرا حال، والمعنى أنه رجع إلى حالته الأولى من سلامة البصر.
وزعم بعضهم أن في الكلام ما يشعر بأن بصره صار أقوى مما كان عليه لأن فعيلًا من صيغ المبالغة وما عدل من يفعل إليه إلا لهذا المعنى.
وتعقب بأن فعيلًا هنا ليس للمبالغة إذ ما يكون لها هو المعدول عن فاعل وأما: {تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} هنا فهو اسم فاعل من بصر بالشيء فهو جار على قياس فعل نحو ظرف فهو طريف ولو كان كما زعم بمعنى مبصر لم يكن للمبالغة أيضًا لأن فعيلًا بمعنى مفعل ليس للمبالغة نحو أليم وسميع، وأيًا ما كان فالظاهر أن عوده عليه السلام بصيرًا بإلقاء القميص على وجهه ليس إلا من باب خرق العادة وليس الخارق بدعًا في هذه القصة، وقيل: إن ذاك لما أنه عليه السلام انتعش حتى قوي قلبه وحرارته الغريزية فأوصل نوره إلى الدماغ وأداه إلى البصر، ومن هذا الباب استشفاء العشاق بما يهب عليهم من جهة أرض المعشوق كما قال:
وإني لأستشفي بكل غمامة ** يهب بها من نحو أرضك ريح

وقال آخر:
ألا يا نسيم الصبح مالك كلما ** تقربت منا فاح نشرك طيبا

كأن سليمى نبئت بسقامنا ** فأعطتك رياها فجئت طبيبا

إلى غير ذلك مما لا يحصى وهو قريب مما سمعته آنفًا عن الإمام هذا، وجاء في بعض الأخبار أنه عليه السلام سأل البشير كيف يوسف؟ قال: ملك مصر فقال: ما أصنع بالملك على أي دين تركته؟ قال: على الإسلام قال: الآن تمت النعمة.
وأخرج أبو الشيخ عن الحسن قال: لما جاء البشير إليه عليه السلام قال: ما وجدت عندنا شيئًا وما اختبزنا منذ سبعة أيام ولكن هون الله تعالى عليك سكرات الموت، وجاء في رواية أنه قال له: ما أدري ما أثيبك اليوم ثم دعا له بذلك: {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ} يحتمل أن يكون خطابًا لمن كان عنده من قبل أي ألم أقل لكم إني لأجد ريح يوسف، ويحتمل أن يكون خطابًا لبنيه القادمين أي ألم أقل لكم.
لا تيأسوا من رحمة الله وهو الأنسب بقوله: {إِنّى أَعْلَمُ مِنَ الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ} فإن مدار النهي العلم الذي أوتيه عليه السلام من جهة الله سبحانه، والجملة على الاحتمالين مستأنفة وعلى الأخير يجوز أن تكون مقول القول أي ألم أقل لكم حين أرسلتكم إلى مصر وأمرتكم بالتحسس ونهيتكم عن اليأس من روح الله تعالى إني أعلم من الله ما لا تعلمون من حياة يوسف عليه السلام، واستظهر في البحر كونها مقول القول وهو كذلك.
{قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا} طلبوا منه عليه السلام الاستغفار، ونادوه بعنوان الأبوة تحريكًا للعطف والشفقة وعللوا ذلك بقولهم: {إِنَّا كُنَّا خاطئين} أي ومن حق المعترف بذنبه أن يصفح عنه ويستغفر له، وكأنهم كانوا على ثقة من عفوه ولذلك اقتصروا على طلب الاستغفار وأدرجوا ذلك في الاستغفار، وقيل: حيث نادوه بذلك أرادوا ومن حق شفقتك علينا أن تستغفر لنا فإنه لولا ذلك لكنا هالكين لتعمد الإثم فمن ذا يرحمنا إذا لم ترحمنا وليس بذاك. {قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبّى إِنَّهُ هُوَ الغفور الرحيم}
روي عن ابن عباس مرفوعًا أنه عليه السلام أخر الاستغفار لهم إلى السحر لأن الدعاء فيه مستجاب، وروي عنه أيضًا كذلك أنه أخره إلى ليلة الجمعة وجاء ذلك في حديث طويل رواه الترمذي وحسنه، وقيل: سوفهم إلى قيام الليل، وقال ابن جبير وفرقة: إلى الليالي البيض فإن الدعاء فيها يستجاب، وقال الشعبي: أخره حتى يسأل يوسف عليه السلام فإن عفا عنهم استغفر لهم، وقيل أخر ليعلم حالهم في صدق التوبة وتعقب بعضهم بعض هذه الأقوال بأن سوف تأبى ذلك لأنها أبلغ من السين في التنفيس فكان حقه على ذلك السين ورد بما في المغني من أن ما ذكر مذهب البصريين وغيرهم يسوى بينهما، وقال بعض المحققين: هذا غير وارد حتى يحتاج إلى الدفع لأن التنفيس التأخير مطلقًا ولو أقل من ساعة فتأخيره إلى السحر مثلًا ومضى ذلك اليوم محل للتنفيس بسوف، وقيل: أراد عليه السلام الدوام على الاستغفار لهم وهو مبني على أن السين وسوف يدلان على الاستمرار في المستقبل وفيه كلام للنحويين. نعم جاء في بعض الأخبار ما يدل على أنه عليه السلام استمر برهة من الزمان يستغفر لهم.
أخرج ابن جرير عن أنس بن مالك قال: إن الله تعالى لما جمع شمله ببنيه وأقر عينه خلا ولده نجيًا فقال بعضهم لبعض: لستم قد علمتم ما صنعتم وما لقي منكم الشيخ وما لقى منكم يوسف قالوا بلى قال فيغركم عفوهما عنكم فكيف لكم بربكم واستقام أمرهم على أن أتوا الشيخ فجلسوا بين يديه ويوسف إلى جنبه فقالوا يا أبانا أتيناك في أمر لم نأتك في مثله قط ونزل بنا أمر لم ينزل بنا مثله حتى حركوه والأنبياء عليهم السلام أرحم البرية فقال: ما لكم يا بني؟ قالوا ألست قد علمت ما كان منا إليك وما كان منا إلى أخينا يوسف؟ قالا بلى قالوا أفلستما قد عفوتما؟ قالا بلى قالوا فإن عفوكما لا يغني عنا شيئًا إن كان الله تعالى لم يعف عنا قال فما تريدون يا بني؟ قالوا: نريد أن تدعو الله سبحانه فإذا جاءك الوحي من عند الله تعالى بأنه قد عفا عما صنعنا قرت أعيننا واطمأنت قلوبنا وإلا فلا قرة عين في الدنيا لنا أبدًا قال فقام الشيخ فاستقبل القبلة وقام يوسف عليه السلام خلفه وقاموا خلفهما أذلة خاشعين فدعا وأمن يوسف فلم يجب فيهم عشرين سنة حتى إذا كان رأس العشرين نزل جبريل على يعقوب عليهما السلام فقال: إن الله تعالى بعثني أبشرك بأنه قد أجاب دعوتك في ولدك وأنه قد عفا عما صنعوا وأنه قد عقد مواثيقهم من بعدك على النبوة، قيل: وهذا إن صح دليل على نبوتهم وإن ما صدر منهم كان قبل استنبائهم، والحق عدم الصحة وقد مر تحقيق المقام بما فيه كفاية فتذكر.
وأخرج أبو الشيخ عن ابن عائشة قال: ما تيب على ولد يعقوب إلا بعد عشرين سنة وكان أبوهم بين يديهم فما تيب عليهم حتى نزل جبريل عليه السلام فعلمه هذا الدعاء «يا رجاء المؤمنين لا تقطع رجاءنا يا غياث المؤمنين أغثنا يا معين المؤمنين أعنا يا محب التوابين تب علينا» فأخره إلى السحر فدعا به فتيب عليهم، وأخرج أبو عبيد. وغيره عن ابن جريج أن ما سيأتي إن شاء الله متعلق بهذا وهو من تقديم القرآن وتأخيره والأصل سوف أستغفر لكم ربي إن شاء الله.
وأنت تعلم أن هذا مما لا ينبغي الالتفات إليه فإن ذاك من كلام يوسف عليه السلام بلا مرية ولا أدري ما الداعي إلى ارتكابه ولعله محض الجهل. واعلم أنه ذكر بعض المتأخرين في الكلام على هذه الآية أن الصحيح أن: {أَسْتَغْفِرُ} متعد إلى مفعولين يقال: استغفرت الله الذنب، وقد نص على ذلك ابن هشام وقد حذف من: {استغفر لَنَا} أولهما، وذكر ثانيهما وعكس الأمر في: {سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ} ولعل السر والله سبحانه أعلم أن حذف الأول من الأول لإرادة التعميم أي استغفر لنا كل من أذنبنا في حقه ليشمله سبحانه وتعالى ويشمل يوسف وبنيامين وغيرهما ولم يحذف الثاني أيضًا تسجيلًا على أنفسهم باقتراف الذنوب لأن المقام مقام الاعتراف بالخطأ والاستعطاف لما سلف فالمناسب هو التصريح، وأما إثباته في الثاني فلأنه الأصل مع التنبيه على أن الأهم الذي ينبغي أن يصرف إليه الهم ويمحض له الوجه هو استغفار الرب واستجلاب رضاه فإنه سبحانه إذا رضي أرضى، على أن يوسف وأخاه قد ظهرت منهما مخايل العفو وأدركتهما رقة الأخوة، وأما حذف الثاني منه فللإيجاز لكونه معلومًا من الأول مع قرب العهد بذكره اه، ولعل التسويف على هذا ليزداد انقطاعهم إلى الله تعالى فيكون ذلك أرجى لحصول المقصود فتأمل. اهـ.

.قال القاسمي:

{اذْهَبُواْ بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ} أراد يوسف تبشير أبيه بحياته، وإدخال السرور عليه بذلك، وتصديقه بإرسال حلة من حلله التي كان يستشعر بها أو يتدثر، ليكون في مقابلة القميص الأول، جالب الحزن، وغشاوة العين. و (الإلقاء على وجهه) بمعنى المبالغة في تقريبه منه، لما ناله من ضعف بصره، فتتراجع إليه قوة بصره، بانتعاش قلبه، بشمه واطمئنانه على سلامته. وللمفرحات تأثير عظيم في صحة الجسم، وتقوية الأعضاء، وقد جوَّد الكلام في ذلك الحكيم داود الأنطاكي في تذكرته في مادة مفرح بما لا يستغنى عن مراجعته. وفي الكنوز من كتب الطب: الفرح، إن كان بلطف، فإنه ينفع الجسم، ويبسط النفس، ويريح العقل، فتقوى الأعضاء وتنتعش. انتهى.
ثم رأيت الرازي عوَّل على نحو ما ذكرناه، وعبارته: قال المفسرون: لما عرفهم يوسف سألهم عن أبيه، فقالوا: ذهبت عيناه، فأعطاهم قميصه. قال المحققون: إنما عرف أن إلقاء القميص على وجهه يوجب قوة البصر بوحي من الله تعالى، ولولا الوحي، لما عرف ذلك؛ لأن العقل لا يدل عليه. ويمكن أن يقال: لعل يوسف عليه السلام علم أن أباه ما صار أعمى إلا أنه من كثرة البكاء، وضيق القلب، ضعف بصره، فإذا ألقي عليه قميصه، فلابد أن ينشرح صدره، وأن يحصل في قلبه الفرح الشديد، وذلك يقوي الروح، ويزيل الضعف عن القوى، فحينئذ يقوى بصره، ويزول عنه ذلك النقصان. فهذا القدر مما يمكن معرفته بالقلب. فإن القوانين الطبية تدل على صحة هذا المعنى. انتهى.
ولعل الرازي عنى بالمحققين الصوفية، أو من يقف على الظاهر وقوفًا بحتًا، ولا يخفى أن أسلوب التنزيل في كناياته ومجازاته أسلوب فريد، ينبغي التفطن له.
وقد جوز في قوله: {يَأْتِ بَصِيرًا} أن يكون معناه: يصير بصيرًا، أو يجيء إليَّ بصيرًا، على حقيقة الإتيان فـ (بصيرًا) حال. قيل: ينصره قوله: {وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ} أي: بأبي وغيره، وفيه نظر؛ لأن اتحاد الفعلين هنا في المبنى لا يدل على اتحادهما في المعنى. ولا يقال: الأصل الحقيقة؛ لأن ذلك فيما يقتضيه السياق، ولا اقتضاء هنا. فالأول أرق وأبدع، لما فيه من التجانس.
روي أن يوسف عليه السلام، بعد أن دعا لهم بالمغفرة قال لهم: إن الله بعثني أمامكم لأحييكم، وقد مضت سنتا جوع في الأرض وبقي خمس سنين، ليس فيها حرث ولا حصاد. فأرسلني الله أمامكم ليجعل لكم بقية في الأرض، ويستبقيكم لنجاة عظيمة. وقد جعلني سبحانه أبًا لفرعون، وسيدًا لجميع أهله، ومتسلطًا على جميع أرض مصر، فبادروا وأشخصوا إلى أبي، وأخبروه بجميع مجدي بمصر، وما رأيتموه، وقولوا له: كذا قال ابنك يوسف: قد جعلني الله سيدًا لجميع المصريين، فهلم إلي، فتقم في أرض جاسان، وتكون قريبًا مني أنت وبنوك، وبنو بنيك، ومواشيك، وجميع ما هو لك، وأعولك، ها هنا، فقد بقي خمس سنين مجدبة، فأخشى أن يهلك الأهل والمال. وكان نما الخبر إلى بيت فرعون. وقيل: جاء إخوة يوسف، فسر بذلك فرعون وخاصته، وأمره أيضًا بأن يؤكد عليهم إتيانهم بأبيهم وأهلهم، ووعدهم خير أرض في مصر تكون لهم؛ لئلا يأسفوا على ما خلفوا. ثم زود يوسف إخوته أحسن زاد، وأعطاهم من الحلل والثياب والدراهم مقدارًا وافرًا، وبعث إلى أبيه بمثل ذلك، وأصحبهم عجلات لأطفالهم ونسائهم، وأوصاهم ألا يتخاصموا في الطريق- والله أعلم-.
وقوله تعالى: {وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ} أي: خرجت من مصر. يقال: فصل القوم عن المكان وانفصلوا، بمعنى فارقوه: {قَالَ أَبُوهُمْ} أي: لحفدته ومن حوله من قومه، من عظم اشتياقه ليوسف، وانتظاره لروح الله: {إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلاَ أَن تُفَنِّدُونِ} الريح: الرائحة، توجد في النسيم. لأتنسم رائحته مقبلة إلي، كناية عن تحققه وجوده بما ألقى الله في روعه من حياته، وساق إليه من نسائم البشارة الغيبية بسلامته. وقد كان عظم رجاؤه بذلك من مولاه، ووثق بنيل مأموله ومبتغاه، ولذلك نهى بنيه عن الاستيئاس من روح الله. وإذا دنا أجل الضراء أخذت تهب نسائم الفرج حاملة عرف السراء، يدري ذلك كل من قوي إحساسه، وعظمت فطنته، واستنارت بصيرته، فيكاد أن يلمس في نهاية الشدة زهر الفرج، ولا يحنث إن آلى أنه يجد من نسيمه أزكى الفرج. عرف ذلك من عرف، فأحرى بمن نالوا من النبوة ذروة الشرف.
وإضافة الريح إلى الولد معروفة في كلامهم: وفي حديث عند الطبراني: «ريح الولد من ريح الجنة». وقال الشاعر:
يا حبذا ريح الولد ** ريح الخزامى في البلد

وقوله: {لَوْلاَ أَن تُفَنِّدُونِ} بمعنى إلا أنكم تفندون. أو لولاه لصدقتموني. و (فنده) نسبه إلى الفند بفتحتين. وهو ضعف الرأي والعقل من الهرم وكبر السن.
قال في العناية: مأخوذ من الفند، وهو الحجر والصخرة، كأنه جعل حجرًا لقلة فهمه، كما قال:
إذا أنت لم تعشق ولم تدر ما الهوى ** فكن حجرًا من يابس الصخر جلمدا

ثم اتسع فيه فقيل: فنده، إذا ضعف رأيه، ولامه على ما فعله.
وقوله تعالى: {قَالُواْ} أي: حفدته ومن عنده: {تَاللّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ الْقَدِيمِ} أي: لفي ذهابك عن الصواب المتقدم، في إفراطك في محبة يوسف، ولهجتك بذكره، ورجائك للقائه، وكان عندهم أنه مات أو تشتت، فاستحال الاجتماع به، وجعله فيه لتمكنه ودوامه عليه.
{فَلَمَّا أَن جَاء الْبَشِيرُ} أي: المخبر بما يسرّه من أمر يوسف: {أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ} أي: طرح البشير القميص على وجه يعقوب، أو ألقاه يعقوب نفسه على وجهه: {فَارْتَدَّ بَصِيرًا} أي: عاد بصيرًا لما حدث فيه من السرور والانتعاش: {قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} أي: من حياة يوسف، وإنزال الفرج، وجوَّز كون: {إِنِّي أَعْلَمُ} كلامًا مبتدأ. والمقول: {لاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ} إن كان الخطاب لبنيه. أو: {إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ} إن كان لحفدته ومن عنده.
{قَالُواْ يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ} الضمير لبنيه. طلبوا أن يستغفر لهم لما فرط منهم، أو لحفدته ومن عنده لقولهم: {إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ الْقَدِيمِ} والأول أقرب وأصوب.
ولما كان من حق المعترف بذنبه أن يُصفح عنه، ويسأل له المغفرة، وعدهم بذلك.
{قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّيَ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} أي: سوف أدعوه لكم، فإنه المتجاوز عن السيئات، الرحيم لمن تاب.
قال المهايمي: صرحوا بالذنوب دون الله؛ لمزيد اهتمامهم بها، وكأنهم غلب عليهم النظر إلى قهره. وصرح يعقوب بذكر الرب دون الذنوب، إذ لا مقدار لها بالنظر إلى رحمته التي ربى بها الكل. انتهى.
وهذا من دقائق لطائف التنزيل ومحاسنها فيه.
تنبيه:
قيل: في هذه الآيات دلالة على جواز التبشير ببشائر الدنيا واستحبابه، وجواز السرور بحصول النعم الحاصلة في الدنيا. وفيها دلالة على إرجاء الاستغفار والدعاء لوقت يرى أنه أحضر فيه قلبًا من غيره أو أنه أفضل وأقرب للإجابة.
وقد روي أنه أخر الاستغفار إلى السحر. وتخصيص الأوقات الفاضلة بالاستغفار والدعاء معروف في السنة، ومنه شرع الاستغفار في السحر، وعقب الصلوات، وقضاء الحج. وكان الدعاء في السجود، وعند الأذان، وبينه وبين الإقامة، والإفطار من الصيام أقرب للإجابة مما عداه. اهـ.