فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

قوله: {اذهبوا بقميصي هذا}
يدل على أنه أعطاهم قميصًا، فلعلّه جعل قميصه علامة لأبيه على حياته، ولعلّ ذلك كان مصطلحًا عليه بينهما.
وكان للعائلات في النظام القديم علامات يصطلحون عليها ويحتفظون بها لتكون وسائل للتعارف بينهم عند الفتن والاغتراب، إذ كانت تعتريهم حوادث الفقد والفراق بالغزو والغارات وقطع الطريق، وتلك العلامات من لباس ومِن كلمات يتعارفون بها وهي الشعار، ومن علامات في البَدن وشَامات.
وفائدة إرساله إلى أبيه القميصَ أن يثق أبوه بحياته ووجوده في مصر، فلا يظن الدعوة إلى قدومه مكيدة من ملك مصر، ولقصد تعجيل المسرة له.
والأظهر أنه جعل إرسال قميصه علامة على صدق إخوته فيما يبلغونه إلى أبيهم من أمر يوسف عليه السلام بجلبه فإنّ قمصان الملوك والكبراء تنسج إليهم خصيصًا ولا توجد أمثالها عند الناس وكان الملوك يخلعونها على خاصتهم، فجعل يوسف عليه السلام إرسال قميصه علامة لأبيه على صدق إخوته أنهم جاءوا من عند يوسف عليه السلام بخبر صدق.
ومن البعيد مَا قيل: إن القميص كان قميص إبراهيم عليه السلام مع أن قميص يوسف قد جاء به إخوته إلى أبيهم حين جاءوا عليه بدم كذب.
وأما إلقاء القميص على وجه أبيه فلقصد المفاجأة بالبُشرى لأنه كان لا يبصر من بعيد فلا يتبين رفعة القميص إلا من قرب.
وأما كونه يصير بصيرًا فحصل ليوسف عليه السلام بالوحي فبشرهم به من ذلك الحين.
ولعل يوسف عليه السلام نُبيءَ ساعتئذٍ.
وأدمج الأمر بالإتيان بأبيه في ضمن تبشيره بوجوده إدماجًا بليغًا إذ قال: {يأت بصيرًا} ثم قال: {وأتوني بأهلكم أجمعين} لقصد صلة أرحام عشيرته.
قال المفسرون: وكانت عشيرة يعقوب عليه السلام ستا وسبعين نفسًا بين رجال ونساء.
{وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ}
التقدير: فخرجوا وارتحلوا في عير.
ومعنى فصلتْ {وَلَمَّا فَصَلَتِ العير قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّى لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلاَ أَن تُفَنِّدُونِ قَالُواْ تالله إِنَّكَ لَفِى ضلالك القديم فَلَمَّا أَن جَاءَ البشير أَلْقَاهُ على وَجْهِهِ فارتد بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ إنى أَعْلَمُ مِنَ الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ قَالُواْ ياأبانا استغفر لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خاطئين قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ ربى إِنَّهُ هُوَ الغفور الرحيم} ابتعدت عن المكان، كما تقدم في قوله تعالى: {فلما فصل طالوت بالجنود} في سورة البقرة (249).
والعير تقدم آنفًا، وهي العير التي أقبلوا فيها من فلسطين.
ووجدَانُ يعقوب ريح يوسف عليهما السلام إلهام خارق للعادة جعله الله بشارة له إذ ذكره بشمه الريح الذي ضمّخ به يوسف عليه السلام حين خروجه مع إخوته وهذا من صنف الوحي بدون كلام ملك مُرسل.
وهو داخل في قوله تعالى: {وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيًا} [سورة الشورى: 51].
والريح: الرائحة، وهي ما يعبق من طيب تدركه حاسة الشم.
وأكد هذا الخبر بإنّ واللام لأنه مظنة الإنكار ولذلك أعقبه بـ: {لولا أن تفندون}.
وجواب: {لولا} محذوف دلّ عليه التأكيد، أي لولا أن تفندوني لتحققتم ذلك.
والتفنيد: النسبة للفنَد بفتحتين، وهو اختلال العقل من الخرف.
وحذفت ياء المتكلم تخفيفًا بعد نون الوقاية وبقيت الكسرة.
والذين قالوا: {تالله إنك لفي ضلالك القديم} هم الحاضرون من أهله ولم يسبق ذكرهم لظهور المراد منهم وليسوا أبناءه لأنهم كانوا سائرين في طريقهم إليه.
والضلال: البُعْد عن الطريق الموصّلة.
والظرفية مجاز في قوة الاتّصاف والتلبّس وأنه كتلبس المظروف بالظرف.
والمعنى: أنك مستمر على التلبس بتطلب شيء من غير طريقه.
أرادوا طمعه في لقاء يوسف عليه السلام.
ووصفوا ذلك بالقديم لطول مدّته، وكانت مدة غيبة يوسف عن أبيه عليهما السلام اثنتين وعشرين سنة.
وكان خطابهم إياه بهذا مشتملًا على شيء من الخشونة إذ لم يكن أدب عشيرته منافيًا لذلك في عرفهم.
و{أن} في قوله: {فلما أن جاء البشير} مزيدة للتأكيد.
ووقوع: {أنْ} بعد: {لمّا} التوقيتية كثير في الكلام كما في مغني اللّبيب.
وفائدة التأكيد في هذه الآية تحقيق هذه الكرامة الحاصلة ليعقوب عليه السلام لأنها خارق عادة، ولذلك لم يؤت بـ: {أن} في نظائر هذه الآية مما لم يكن فيه داع للتأكيد.
والبشير: فعيل بمعنى مُفعل، أي المُبشر، مثل السميع في قول عمرو بن معديكرب:
أمِن ريحانة الداعي السميع

والتبشير: المبادرة بإبلاغ الخبر المسرّ بقصد إدخال السرور.
وتقدم عند قوله تعالى: {يبشرّهم ربهم برحمة منه} في سورة براءة (21).
وهذا البشير هو يهوذا بن يعقوب عليه السلام تقدم بين يدي العِير ليكون أول من يخبر أباه بخبر يوسف عليه السلام.
وارتد: رجع، وهو افتعال مطاوع ردّه، أي رد الله إليه قوة بصره كرامة له وليوسف عليهما السلام وخارق للعادة.
وقد أشرت إلى ذلك عند قوله تعالى: {وابيضّت عيناه من الحزن} [سورة يوسف: 84].
{قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ إنى أَعْلَمُ مِنَ الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ قَالُواْ ياأبانا استغفر لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خاطئين قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ ربى إِنَّهُ هُوَ الغفور الرحيم}
جواب للبشارة لأنها تضمنت القول، ولذلك جاء فعل: {قال} مفصولًا غير معطوف لأنه على طريقة المحاورات، وكان بقية أبنائه قد دخلوا فخاطبهم بقوله: {ألم أقل لكم إني أعلم من الله ما لا تعلمون} فبيّن لهم مجمل كلامه الذي أجابهم به حين قالوا: {تالله تفتأ تذكر يوسف} [يوسف: 85] إلخ.
وقولهم: {استغفر لنا ذنوبنا} توبة واعتراف بالذنب، فسألوا أباهم أن يطلب لهم المغفرة من الله.
وإنما وعدهم بالاستغفار في المستقبل إذ قال: {سوف أستغفر لكم ربي} للدلالة على أنه يلازم الاستغفار لهم في أزمنة المستقبل.
ويعلم منه أنه استغفر لهم في الحال بدلالة الفحوى؛ ولكنه أراد أن ينبههم إلى عظم الذنب وعظمة الله تعالى وأنه سيكرر الاستغفار لهم في أزمنة مستقبلة.
وقيل: أخّر الاستغفار لهم إلى ساعة هي مظنة الإجابة.
وعن ابن عباس مرفوعًا أنه أخر إلى ليلة الجمعة، رواه الطبري.
وقال ابن كثير: في رفعه نظر.
وجملة: {إنه هو الغفور الرحيم} في موضع التعليل لجملة: {أستغفر لكم ربي}.
وأكد بضمير الفصل لتقوية الخبر. اهـ.

.قال الشعراوي:

{اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا}
وكان يوسف عليه السلام، قد عَلِم أن أباه يربط عينيه من الحزن، وكاد أن يفقد بصره، فأمر أخوته أن يذهبوا بقميصه الذي كان يلبسه إلى أبيه.
وتقول كتب السِّير أن أخاه الأكبر الذي رفض أن يبرح مصر، وقال: {فَلَنْ أَبْرَحَ الأرض حتى يَأْذَنَ لي أبي أَوْ يَحْكُمَ الله لِي وَهُوَ خَيْرُ الحاكمين} [يوسف: 80]. قد قال ليوسف: يا أيها العزيز إنني أنا الذي حملتُ القميص بدم كذب إلى أبي، فدعْني احمل هذا القميص لأبي، كي تمحو هذه تلك. وقال يوسف عن فعل القميص مع الأب: {فَأَلْقُوهُ على وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا} [يوسف: 93]. ونلحظ أنه لم يَقُلْ: وجه أبيكم. وفي قوله: {وَجْهِ أَبِي} [يوسف: 93]. إشارة إلى الحنان الأبوي الذي فقدوه منذ أن غاب يوسف، فغرق والده في الحزن. و: {يَأْتِ بَصِيرًا} [يوسف: 93] أي: يرتدّ إليه بصره، أو يراه أمامه سليمًا. ويضيف يوسف: {وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ} [يوسف: 93]. هذا تعبير قُرآني دقيق، أن يُحضروا معهم كل مَنْ يَمُتُّ بصلة قرابة لهم أو يعمل معهم، ولم يَقُلْ يوسف بآلكم حتى لا يأتوا بالأعيان فقط.
ونلحظ أنه لم يذكر والده في أمر يوسف لأخوته أن يأتوه بكل مَنْ يمُتُّ لهم بصلة قُرْبى؛ لأن في مثل هذا الأمر من موقع عزيز مصر إجبارًا للأب على المجيء، وهو يُجِلُّ أباه عن ذلك.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {وَلَمَّا فَصَلَتِ...}.
و{فصلت} تدل على شيء كان مُلْتصقًا بشيء آخر وانفصل عنه، وفَصِلت العِيرُ. أي: خرجتْ من المدينة وتجاوزتْها؛ لتسير في رحلتها، والمقصود خروج القافلة من حدود مصر قاصدةً مكان يعقوب عليه السلام.
وهنا قال يعقوب لمن كانوا حاضرين معه من الأحفاد وأبناء الأبناء: {إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ} [يوسف: 94].
والمعروف أن القميص الذي أرسله مع أخيه الأكبر يحمل رائحة يوسف، لكن الذين حول يعقوب من أقربائه لم يُصدِّقوا قوله، فأضاف: {لَوْلاَ أَن تُفَنِّدُونِ} [يوسف: 94].
أي: لولا اتهامكم لي بالخَرف، لأن التفنيد هو الخرف. ومن العجيب أننا في أيامنا هذه نجد العلم وقد أثبت أن صُورَ المرائي والأصوات، توجد لها آثار في الجو، رغم ما يُخيَّل للإنسان أنها تلاشتْ.
ويحاول العلم بوسائل من الأشعة أن يكشف صورة أيِّ جماعة كانت تجلس في مكان ما، ثم رحلتْ عنه منذ ساعة أو ساعتين، ممَّا يدلُّ على أن الصور لها نضح من شعاع وظلال يظل بالمكان لفترة قبل أن يضيع.
وكذلك الأصوات؛ فالعلماء يحاولون استرداد أصوات مَنْ رحلوا؛ ويقولون: لا شيءَ يضيع في الكون، بل كل ما وُجِد فيه محفوظ بشكل أو بآخر.
والرائحة أيضًا لا تضيع، بدليل أن الكلب يشُمُّ الريح من على مسافات بعيدة، ويميز الآن المخدرات من رائحتها؛ ولذلك تنتشر الكلاب المدرَّبة في المطارات وعلى الحدود؛ لتكشف أيَّ محاولة لتهريب المخدرات.
وإذا كان الحيوان المخلوق بقدرة الله قادرًا على التقاط الرائحة من بين آلاف الروائح، وإذا كان العلم الموهوب من الله للبشر؛ يبحث الآن في كيفية استحضار الصورة واسترداد الصوت من الفضاء المحيط بالإنسان؛ فعلينا أن ندرك أن العِيرَ عندما خرجتْ من أسوار المدينة؛ وأخذتْ طريقها إلى الموقع الذي يعيش فيه يعقوب عليه السلام؛ استطاع يعقوبُ بقدرة الله أن يَشُمَّ رائحة يوسف؛ تلك التي يحملها قميصه القادم مع القافلة.
ولسائل أن يقول: ولماذا ارتبط تنسُّم يعقوب لرائحة يوسف بخروج العِير من مصر، وتواجدها على الطريق إلى موطن يعقوب؟
نقول: لأن العِيرَ لحظة تواجدها في المدينة تكون رائحة قميص يوسف مُخْتلطة بغيرها من الروائح؛ فهناك الكثير من الروائح الأخرى داخل أي مدينة، ويصعب نفاذ رائحة بعينها لتغلب على كل الروائح؛ ويختلف الأمر في الخلاء؛ حيث يمكن أن تمشي هَبَّة الرائحة دون أن يعترضها شيء.
وبذلك نؤمن أن كل شيء في الكون محفوظ ولا يضيع؛ مصداقًا لقوله تعالى: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَامًا كَاتِبِينَ} [الانفطار: 10-11].
وكل ما يصدر منك مُسجَّل عليك؛ ولذلك يأتيك كتابك يوم القيامة لتقرأه، وتكون على نفسك حسيبًا.
ويردُّ مَنْ بقِي من أهل يعقوب معه على قوله بأنه يجد رِيحَ يوسف: {قَالُواْ تالله...}.
وكأنهم قد مَلُّوا حديثه عن يوسف؛ وأعرضوا عن كلامه قائلين له: إلى متى ستظل على ضلالك، وهم لا يعنُون الضلال بمعنى الخروج عن المنهج، ولكنهم يعنُونَ الضلال بمعنى الجزئيات التي لا علاقة لها بالتديُّن من محبة شديدة ليوسف، وتعلُّق به، والتمنِّي لعودته، وكثرة الحديث عنه، وتوقُّع لقائه، وهم الذين ظَنُّوا أن يوسف قد مات.
ويأتي البشير ليعقوب، يقول الحق سبحانه: {فَلَمَّا أَن جَاءَ البشير..}.
وحين حضر البشير، وهو كما تقول الروايات كبير الأخوة؛ ويُقال أيضًا: إنه يهوذا؛ وهو مَنْ رفض أن يغادر مصر إلا بعد أن يأذن له والده، أو يأتي حَلٌّ من السماء لمشكلة بقاء بنيامين في مصر، بعد اتهام أعوان العزيز له بالسرقة، طبقًا لما أراده يوسف ليستبقي شقيقه معه.
ولما جاء هذا البشير ومعه قميص يوسف؛ فألقاه على وجه الأب تنفيذًا لأمر يوسف عليه السلام.
وبذلك زال سبب بكاء يعقوب، وفَرِح يعقوب فرحًا شديدًا؛ لأنه في أيام حزنه على يوسف، وابيضاض عينيه من كثرة البكاء حدَّثه قلبه بالإلهام من الله أن يوسف ما زال حيًا؛ وكان البكاء عليه من بعد ذلك هو بكاء من فَرْط الشوق لرؤية ابنه.
وكذلك قد يكون يوسف قد علم بالوحي من الله أن إلقاء القميص على وجه أبيه يردُّ إليه بصره، بإذن من الحق سبحانه وتعالى، فضلًا عن أن الفرح له آثار نفسية تنعكس على الحالة الصحية، وهكذا تجلَّتْ انتصارات الحقِّ والنبوة.
وقال يعقوب عليه السلام: {أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ إني أَعْلَمُ مِنَ الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [يوسف: 96].
ولم يَقُلْ ذلك إذلالًا لهم، بل ليعطي الثقة والتوثيق لأخبار كل نبي، وأن الواقع قد أيَّد الكلام الذي قاله لهم: {يابني اذهبوا فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ الله إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ الله إِلاَّ القوم الكافرون} [يوسف: 87].
فإذا جاءكم خبر من معصوم؛ إياكم أن تقفوا بعقولكم فيه؛ لأن العقول تأخذ مُدْركات الأشياء على قَدْرها، وهناك أشياء فوق مُدْركات العقول.
وحين يُحدِّثكم معصوم عن ما فوق مُدْركات عقولكم إياكم أن تُكذِّبوه؛ سواء فهمتم ما حدَّثكم عنه، أو لم تستوعبوا حديثه عَمَّا فوق مُدْركات العقول.
وهنا يقرّ أخوة يوسف بذنوبهم فيقول الحق سبحانه: {قَالُواْ يا أبانا استغفر...}.
وهم هنا يُقِرُّون بالذنب، ويُحدِّثون والدهم بنداء الأبوة كي يستغفر لهم ما ارتكبوه من ذنوب كثيرة، فقد آذَوْا أباهم وجعلوه حزينًا، ولا يسقط مثل هذا الذنب إلا بأن يُقِرَّ به مَنْ فعله، ونلحظ أنهم قالوا: {إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ} [يوسف: 97]
أي: أنهم كانوا يعلمون الصواب، ولم يفعلوه.
ويأتي الحق سبحانه بما قاله يعقوب: {قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ ربي...}
ونلحظ أن يوسف قد قال لهم من قبل: {لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ اليوم يَغْفِرُ الله لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الراحمين} [يوسف: 92]
لكن والدهم هنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها يقول: {سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ ربي...} [يوسف: 98]
ولم يقل: {سأستغفر لكم ربي}، وهذا يدل على أن الكبار يحتاجون لوقت أكبر من وقت الشباب؛ لذلك أجَّل يعقوب الاستغفار لما بعد.
والشيخ الألوسي في تفسيره يقول: إنما كان ذلك لأن مطلوبات البر من الأخ لأخوته غير مطلوبات البر من ابن لأبيه؛ لأن الأخ ليس له نفس حق الأب؛ لذلك يكون غضب الأب أشدَّ من غضب الأخ. ثم إن ذنوبهم هنا هي من الذنوب الكبيرة التي مرّ عليها وعلى تأثيرها على الأب زمن طويل. ويقال: إن يعقوب عليه السلام قد أخَّر الاستغفار لهم إلى السَّحَر، لأن الدعاء فيه مُستجَاب. اهـ.