فصل: قال سيد قطب في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال سيد قطب في الآيات السابقة:

{يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40)} إلى قوله تعالى: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74)}.
ابتداء من هذا المقطع في السورة يواجه السياق بني إسرائيل، أولئك الذين واجهوا الدعوة في المدينة مواجهة نكرة؛ وقاوموها مقاومة خفية وظاهرة؛ وكادوا لها كيدًا موصولًا، لم يفتر لحظة منذ أن ظهر الإسلام بالمدينة؛ وتبين لهم أنه في طريقه إلى الهيمنة على مقاليدها، وعزلهم من القيادة الأدبية والاقتصادية التي كانت لهم، مذ وحد الأوس والخزرج، وسد الثغرات التي كانت تنفذ منها يهود، وشرع لهم منهجًا مستقلًا، يقوم على أساس الكتاب الجديد.. هذه المعركة التي شنها اليهود على الإسلام والمسلمين منذ ذلك التاريخ البعيد ثم لم يخب أوارها حتى اللحظة الحاضرة، بنفس الوسائل، ونفس الأساليب، لا يتغير إلا شكلها؛ أما حقيقتها فباقية، وأما طبيعتها فواحدة، وذلك على الرغم من أن العالم كله كان يطاردهم من جهة إلى جهة، ومن قرن إلى قرن، فلا يجدون لهم صدرًا حنونًا إلا في العالم الإسلامي المفتوح، الذي ينكر الاضطهادات الدينية والعنصرية، ويفتح أبوابه لكل مسالم لا يؤذي الإسلام ولا يكيد للمسلمين!
ولقد كان المنتظر أن يكون اليهود في المدينة هم أول من يؤمن بالرسالة الجديدة ويؤمن للرسول الجديد؛ مذ كان القرآن يصدق ما جاء في التوراة في عمومه؛ ومذ كانوا هم يتوقعون رسالة هذا الرسول، وعندهم أوصافه في البشارات التي يتضمنها كتابهم؛ وهم كانوا يستفتحون به على العرب المشركين.
وهذا الدرس هو الشطر الأول من هذه الجولة الواسعة مع بني إسرائيل؛ بل هذه الحملة الشاملة لكشف موقفهم وفضح كيدهم؛ بعد استنفاد كل وسائل الدعوة معهم لترغيبهم في الإسلام، والانضمام إلى موكب الإيمان بالدين الجديد.
يبدأ هذا الدرس بنداء علوي جليل إلى بني إسرائيل، يذكرهم بنعمته- تعالى- عليهم ويدعوهم إلى الوفاء بعهدهم معه ليوفي بعهده معهم، وإلى تقواه وخشيته؛ يمهد بها لدعوتهم إلى الإيمان بما أنزله مصدقا لما معهم. ويندد بموقفهم منه، وكفرهم به أول من يكفر! كما يندد بتلبيسهم الحق بالباطل وكتمان الحق ليموهوا على الناس- وعلى المسلمين خاصة- ويشيعوا الفتنة والبلبلة في الصف الإسلامي، والشك والارتياب في نفوس الداخلين في الإسلام الجديد. ويأمرهم أن يدخلوا في الصف. فيقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة ويركعوا مع الراكعين، مستعينين على قهر نفوسهم وتطويعها للاندماج في الدين الجديد بالصبر والصلاة. وينكر عليهم أن يكونوا يدعون المشركين إلى الإيمان، وهم في الوقت ذاته يأبون أن يدخلوا في دين الله مسلمين!
ثم يبدأ في تذكيرهم بنعم الله التي أسبغها عليهم في تاريخهم الطويل. مخاطبًا الحاضرين منهم كما لو كانوا هم الذين تلقوا هذه النعم على عهد موسى عليه السلام وذلك باعتبار أنهم أمة واحدة متضامنة الأجيال، متحدة الجبلة.
كما هم في حقيقة الأمر وفق ما بدا من صفاتهم ومواقفهم في جميع العصور!
ويعاود تخويفهم باليوم الذي يُخاف، حيث لا تجزي نفس عن نفس شيئًا، ولا يقبل منها شفاعة، ولا يؤخذ منها فدية، ولا يجدون من ينصرهم ويعصمهم من العذاب.
ويستحضر أمام خيالهم مشهد نجاتهم من فرعون وملئه كأنه حاضر. ومشهد النعم الأخرى التي ظلت تتوالى عليهم من تظليل الغمام إلى المن والسلوى إلى تفجير الصخر بالماء.. ثم يذكرهم بما كان منهم بعد ذلك من انحرافات متوالية، ما يكاد يردهم عن واحدة منها حتى يعودوا إلى أخرى، وما يكاد يعفو عنهم من معصية حتى يقعوا في خطيئة، وما يكادون ينجون من عثرة حتى يقعوا في حفرة.. ونفوسهم هي هي في التوائها وعنادها وإصرارها على الالتواء والعناد، كما أنها هي هي في ضعفها عن حمل التكاليف، ونكولها عن الأمانة، ونكثها للعهد، ونقضها للمواثيق مع ربها ومع نبيها.. حتى لتبلغ أن تقتل أنبياءها بغير الحق، وتكفر بآيات ربها، وتعبد العجل وتجدف في حق الله فترفض الإيمان لنبيها حتى ترى الله جهرة؛ وتخالف عما أوصاها به الله وهي تدخل القرية فتفعل وتقول غير ما أمرت به؛ وتعتدي في السبت، وتنسى ميثاق الطور، وتماحل وتجادل في ذبح البقرة التي أمر الله بذبحها لحكمة خاصة.
وهذا كله مع الإدعاء العريض بأنها هي وحدها المهتدية؛ وأن الله لا يرضى إلا عنها، وأن جميع الأديان باطلة وجميع الأمم ضالة عداها! مما يبطله القرآن في هذه الجولة، ويقرر أن كل من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا من جميع الملل، فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
هذه الحملة- سواء ما ورد منها في هذا الدرس وما يلي منها في سياق السورة- كانت ضرورية أولًا وقبل كل شيء لتحطيم دعاوى يهود، وكشف كيدها، وبيان حقيقتها وحقيقة دوافعها في الدس للإسلام والمسلمين. كما كانت ضرورية لتفتيح عيون المسلمين وقلوبهم لهذه الدسائس والمكايد التي توجه إلى مجتمعهم الجديد، وإلى الأصول التي يقوم عليها؛ كما توجه إلى وحدة الصف المسلم لخلخلته وإشاعة الفتنة فيه.
ومن جانب آخر كانت ضرورية لتحذير المسلمين من مزالق الطريق التي عثرت فيها أقدام الأمة المستخلفة قبلهم، فحرمت مقام الخلافة، وسلبت شرف القيام على أمانة الله في الأرض، ومنهجه لقيادة البشر. وقد تخللت هذه الحملة توجيهات ظاهرة وخفية للمسلمين لتحذيرهم من تلك المزالق كما سيجيء في الشطر الثاني منها.
وما كان أحوج الجماعة المسلمة في المدينة إلى هذه وتلك. وما أحوج الأمة المسلمة في كل وقت إلى تملي هذه التوجيهات، وإلى دراسة هذا القرآن بالعين المفتوحة والحس البصير، لتتلقى منه تعليمات القيادة الإلهية العلوية في معاركها التي تخوضها مع أعدائها التقليديين؛ ولتعرف منها كيف ترد على الكيد العميق الخبيث الذي يوجهونه إليها دائبين، بأخفى الوسائل، وأمكر الطرق.
وما يملك قلب لم يهتد بنور الإيمان، ولم يتلق التوجيه من تلك القيادة المطلعة على السر والعلن والباطن والظاهر، أن يدرك المسالك والدروب الخفية الخبيثة التي يتدسس فيها ذلك الكيد الخبيث المريب.
ثم نلحظ من جانب التناسق الفني والنفسي في الأداء القرآني، أن بدء هذه الجولة يلتحم بختام قصة آدم، وبالإيحاءات التي أشرنا إليها هناك، وهذا جانب من التكامل في السياق القرآني بين القصص والوسط الذي تعرض فيه:
لقد مضى السياق قبل ذلك بتقرير أن الله خلق ما في الأرض جميعًا للإنسان. ثم بقصة استخلاف آدم في الأرض بعهد الله الصريح الدقيق؛ وتكريمه على الملائكة؛ والوصية والنسيان، والندم والتوبة، والهداية والمغفرة، وتزويده بالتجربة الأولى في الصراع الطويل في الأرض، بين قوى الشر والفساد والهدم ممثلة في إبليس، وقوى الخير والصلاح والبناء ممثلة في الإنسان المعتصم بالإيمان.
مضى السياق بهذا كله في السورة. ثم أعقبه بهذه الجولة مع بني إسرائيل، فذكر عهد الله معهم ونكثهم له؛ ونعمته عليهم وجحودهم بها؛ ورتب على هذا حرمانهم من الخلافة، وكتب عليهم الذلة، وحذر المؤمنين كيدهم كما حذرهم مزالقهم. فكانت هناك صلة ظاهرة بين قصة استخلاف آدم وقصة استخلاف بني إسرائيل، واتساق في السياق واضح وفي الأداء.
والقرآن لا يعرض هنا قصة بني إسرائيل، إنما يشير إلى مواقف منها ومشاهد باختصار أو بتطويل مناسب. وقد وردت القصة في السور المكية التي نزلت قبل هذا، ولكنها هناك كانت تذكر- مع غيرها- لتثبيت القلة المؤمنة في مكة بعرض تجارب الدعوة وموكب الإيمان الواصل منذ أول الخليقة، وتوجيه الجماعة المسلمة بما يناسب ظروفها في مكة. فأما هنا فالقصد هو ما أسلفنا من كشف حقيقة نوايا اليهود ووسائلهم وتحذير الجماعة المسلمة منها، وتحذيرها كذلك من الوقوع في مثل ما وقعت فيه قبلها يهود.. وبسبب اختلاف الهدف بين القرآن المكي والقرآن المدني اختلفت طريقة العرض؛ وإن كانت الحقائق التي عرضت هنا وهناك عن انحراف بني إسرائيل ومعصيتهم واحدة كما سيجيء عند استعراض السور المكية السابقة في ترتيب النزول.
ومن مراجعة المواضع التي وردت فيها قصة بني إسرائيل هنا وهناك يتبين أنها متفقة مع السياق الذي عرضت فيه، متممة لأهدافه وتوجيهاته.. وهي هنا متسقة مع السياق قبلها. سياق تكريم الإنسان، والعهد إليه والنسيان. متضمنة إشارات إلى وحدة الإنسانية، ووحدة دين الله المنزل إليها، ووحدة رسالاته، مع لفتات ولمسات للنفس البشرية ومقوماتها، وإلى عواقب الانحراف عن هذه المقومات التي نيطت بها خلافة الإنسان في الأرض؛ فمن كفر بها كفر بإنسانيته وفقد أسباب خلافته، وارتكس في عالم الحيوان.
وقصة بني إسرائيل هي أكثر القصص ورودًا في القرآن الكريم؛ والعناية بعرض مواقفها وعبرتها عناية ظاهرة، توحي بحكمة الله في علاج أمر هذه الأمة المسلمة، وتربيتها وإعدادها للخلافة الكبرى.
فلننظر بعد هذا الإجمال في استعراض النص القرآني:
{يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم وإياي فارهبون وآمنوا بما أنزلت مصدقًا لما معكم ولا تكونوا أول كافر به ولا تشتروا بآياتي ثمنًا قليلًا وإياي فاتقون ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واركعوا مع الراكعين أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم وأنهم إليه راجعون}.
إن المستعرض لتاريخ بني إسرائيل ليأخذه العجب من فيض الآلاء التي أفاضها الله عليهم، ومن الجحود المنكر المتكرر الذي قابلوا به هذا الفيض المدرار.. وهنا يذكرهم الله بنعمته التي أنعمها عليهم إجمالًا، قبل البدء في تفصيل بعضها في الفقر التالية. يذكرهم بها ليدعوهم بعدها إلى الوفاء بعهدهم معه سبحانه كي يتم عليهم النعمة ويمد لهم في الآلاء:
{يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم}.
فأي عهد هذا الذي يشار إليه في هذا المقام؟ أهو العهد الأول، عهد الله لآدم: {فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون}..؟ أم هو العهد الكوني السابق على عهد الله هذا مع آدم. العهد المعقود بين فطرة الإنسان وبارئه: أن يعرفه ويعبده وحده لا شريك له. وهو العهد الذي لا يحتاج إلى بيان، ولا يحتاج إلى برهان، لأن فطرة الإنسان بذاتها تتجه إليه بأشواقها اللدنية، ولا يصدها عنه إلا الغواية والانحراف؟ أم هو العهد الخاص الذي قطعه الله لإبراهيم جد إسرائيل. والذي سيجيء في سياق السورة: {وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إمامًا قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين}..؟ أم هو العهد الخاص الذي قطعه الله على بني إسرائيل وقد رفع فوقهم الطور، وأمرهم أن يأخذوا ما فيه بقوة والذي سيأتي ذكره في هذه الجولة؟
إن هذه العهود جميعًا إن هي إلا عهد واحد في صميمها. إنه العهد بين البارئ وعباده أن يصغوا قلوبهم إليه، وأن يسلموا أنفسهم كلها له. وهذا هو الدين الواحد. وهذا هو الإسلام الذي جاء به الرسل جميعًا؛ وسار موكب الإيمان يحمله شعارًا له على مدار القرون.
ووفاء بهذا العهد يدعو الله بني إسرائيل أن يخافوه وحده وأن يفردوه بالخشية:
{وإياي فارهبون}.
ووفاء بهذا العهد كذلك يدعو الله بني إسرائيل أن يؤمنوا بما أنزله على رسوله، مصدقًا لما معهم؛ وألا يسارعوا إلى الكفر به، فيصبحوا أول الكافرين؛ وكان ينبغي أن يكونوا أول المؤمنين:
{وآمنوا بما أنزلت مصدقًا لما معكم ولا تكونوا أول كافر به}.
فما الإسلام الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم إلا الدين الواحد الخالد. جاء به في صورته الأخيرة؛ وهو امتداد لرسالة الله، ولعهد الله منذ البشرية الأولى، يضم جناحيه على ما مضى، ويأخذ بيد البشرية فيما سيأتي؛ ويوحد بين العهد القديم والعهد الجديد ويضيف ما أراده الله من الخير والصلاح للبشرية في مستقبلها الطويل؛ ويجمع بذلك بين البشر كلهم إخوة متعارفين؛ يلتقون على عهد الله، ودين الله؛ لا يتفرقون شيعًا وأحزابًا، وأقوامًا وأجناسًا؛ ولكن يلتقون عبادًا لله، مستمسكين جميعًا بعهده الذي لا يتبدل منذ فجر الحياة.
وينهى الله بني إسرائيل أن يكون كفرهم بما أنزله مصدقًا لما معهم، شراء للدنيا بالآخرة، وإيثارًا لما بين أيديهم من مصالح خاصة لهم- وبخاصة أحبارهم الذين يخشون أن يؤمنوا بالإسلام فيخسروا رياستهم، وما تدره عليهم من منافع وإتاوات- ويدعوهم إلى خشيته وحده وتقواه.
{ولا تشتروا بآياتي ثمنًا قليلًا وإياي فاتقون}.
والثمن والمال والكسب الدنيوي المادي.. كله شنشنة يهود من قديم!! وقد يكون المقصود بالنهي هنا هو ما يكسبه رؤساؤهم من ثمن الخدمات الدينية والفتاوى المكذوبة، وتحريف الأحكام حتى لا تقع العقوبة على الأغنياء منهم والكبراء، كما ورد في مواضع أخرى، واستبقاء هذا كله في أيديهم بصد شعبهم كله عن الدخول في الإسلام، حيث تفلت منهم القيادة والرياسة.. على أن الدنيا كلها- كما قال بعض الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم في تفسير هذه الآية- ثمن قليل، حين تقاس إلى الإيمان بآيات الله، وإلى عاقبة الإيمان في الآخرة عند الله.
ويمضي السياق يحذرهم ما كانوا يزاولونه من تلبيس الحق بالباطل، وكتمان الحق وهم يعلمونه، بقصد بلبلة الأفكار في المجتمع المسلم، وإشاعة الشك والاضطراب:
{ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون}.
ولقد زاول اليهود هذا التلبيس والتخليط وكتمان الحق في كل مناسبة عرضت لهم، كما فصل القرآن في مواضع منه كثيرة؛ وكانوا دائما عامل فتنة وبلبلة في المجتمع الإسلامي، وعامل اضطراب وخلخلة في الصف المسلم. وسيأتي من أمثلة هذا التلبيس الشيء الكثير!
ثم يدعوهم إلى الاندماج في موكب الإيمان، والدخول في الصف، وأداء عباداته المفروضة، وترك هذه العزلة والتعصب الذميم، وهو ما عرفت به يهود من قديم:
{وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واركعوا مع الراكعين}.
ثم ينكر عليهم- وبخاصة أحبارهم- أن يكونوا من الدعاة إلى الإيمان بحكم أنهم أهل كتاب بين مشركين، وهم في الوقت ذاته يصدون قومهم عن الإيمان بدين الله، المصدق لدينهم القديم:
{أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون}.
ومع أن هذا النص القرآني كان يواجه ابتداء حالة واقعة من بني إسرائيل، فإنه في إيحائه للنفس البشرية، ولرجال الدين بصفة خاصة، دائم لا يخص قومًا دون قوم ولا يعني جيلا دون جيل.
إن آفة رجال الدين- حين يصبح الدين حرفة وصناعة لا عقيدة حارة دافعة- أنهم يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم؛ يأمرون بالخير ولا يفعلونه؛ ويدعون إلى البر ويهملونه؛ ويحرفون الكلم عن مواضعه؛ ويئولون النصوص القاطعة خدمة للغرض والهوى، ويجدون فتاوى وتأويلات قد تتفق في ظاهرها مع ظاهر النصوص، ولكنها تختلف في حقيقتها عن حقيقة الدين، لتبرير أغراض وأهواء لمن يملكون المال أو السلطان! كما كان يفعل أحبار يهود!
والدعوة إلى البر والمخالفة عنه في سلوك الداعين إليه، هي الآفة التي تصيب النفوس بالشك لا في الدعاة وحدهم ولكن في الدعوات ذاتها. وهي التي تبلبل قلوب الناس وأفكارهم، لأنهم يسمعون قولًا جميلًا، ويشهدون فعلًا قبيحًا؛ فتتملكهم الحيرة بين القول والفعل؛ وتخبو في أرواحهم الشعلة التي توقدها العقيدة؛ وينطفئ في قلوبهم النور الذي يشع الإيمان؛ ولا يعودون يثقون في الدين بعد ما فقدوا ثقتهم برجال الدين.
إن الكلمة لتنبعث ميتة، وتصل هامدة، مهما تكن طنانة رنانة متحمسة، إذا هي لم تنبعث من قلب يؤمن بها. ولن يؤمن إنسان بما يقول حقًا إلا أن يستحيل هو ترجمة حية لما يقول، وتجسيمًا واقعيًا لما ينطق.. عندئذ يؤمن الناس، ويثق الناس، ولو لم يكن في تلك الكلمة طنين ولا بريق.. إنها حينئذ تستمد قوتها من واقعها لا من رنينها؛ وتستمد جمالها من صدقها لا من بريقها.. إنها تستحيل يومئذ دفعة حياة، لأنها منبثقة من حياة.
والمطابقة بين القول والفعل، وبين العقيدة والسلوك، ليست مع هذا أمرًا هينًا، ولا طريقًا معبدًا. إنها في حاجة إلى رياضة وجهد ومحاولة. وإلى صلة بالله، واستمداد منه، واستعانة بهديه؛ فملابسات الحياة وضروراتها واضطراراتها كثيرًا ما تنأى بالفرد في واقعه عما يعتقده في ضميره، أو عما يدعو إليه غيره. والفرد الفاني ما لم يتصل بالقوة الخالدة ضعيف مهما كانت قوته، لأن قوى الشر والطغيان والإغواء أكبر منه؛ وقد يغالبها مرة ومرة ومرة؛ ولكن لحظة ضعف تنتابه فيتخاذل ويتهاوى، ويخسر ماضيه وحاضره ومستقبله؛ فأما وهو يركن إلى قوة الأزل والأبد فهو قوي قوي، أقوى من كل قوي. قوي على شهوته وضعفه. قوي على ضروراته واضطراراته. قوي على ذوي القوة الذين يواجهونه.
ومن ثم يوجه القرآن اليهود الذين كان يواجههم أولًا، ويوجه الناس كلهم ضمنًا، إلى الاستعانة بالصبر والاستعانة بالصلاة.. وفي حالة اليهود كان مطلوبًا منهم أن يؤثروا الحق الذي يعلمونه على المركز الخاص الذي يتمتعون به في المدينة، وعلى الثمن القليل- سواء كان ثمن الخدمات الدينية أو هو الدنيا كلها- وأن يدخلوا في موكب الإيمان وهم يدعون الناس إلى الإيمان! وكان هذا كله يقتضي قوة وشجاعة وتجردًا.
واستعانة بالصبر والصلاة:
{واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم وأنهم إليه راجعون}.
والغالب أن الضمير في أنها ضمير الشأن، أي إن هذه الدعوة إلى الاعتراف بالحق في وجه هذه العوامل كبيرة وصعبة وشاقة، إلا على الخاشعين الخاضعين لله، الشاعرين بخشيته وتقواه، الواثقين بلقائه والرجعة إليه عن يقين.
والاستعانة بالصبر تتكرر كثيرًا؛ فهو الزاد الذي لابد منه لمواجهة كل مشقة، وأول المشقات مشقة النزول عن القيادة والرياسة والنفع والكسب احترامًا للحق وإيثارًا له، واعترافًا بالحقيقة وخضوعًا لها.
فما الاستعانة بالصلاة؟
إن الصلاة صلة ولقاء بين العبد والرب. صلة يستمد منها القلب قوة، وتحس فيها الروح صلة؛ وتجد فيها النفس زادًا أنفس من أعراض الحياة الدنيا.. ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة، وهو الوثيق الصلة بربه الموصول الروح بالوحي والإلهام.. وما يزال هذا الينبوع الدافق في متناول كل مؤمن يريد زادًا للطريق، وريًّا في الهجير، ومددًا حين ينقطع المدد، ورصيدًا حين ينفد الرصيد.
واليقين بلقاء الله- واستعمال ظن ومشتقاتها في معنى اليقين كثير في القرآن وفي لغة العرب عامة- واليقين بالرجعة إليه وحده في كل الأمور.. هو مناط الصبر والاحتمال؛ وهو مناط التقوى والحساسية. كما أنه مناط الوزن الصحيح للقيم: قيم الدنيا وقيم الآخرة. ومتى استقام الميزان في هذه القيم بدت الدنيا كلها ثمنًا قليلًا، وعرضًا هزيلًا؛ وبدت الآخرة على حقيقتها، التي لا يتردد عاقل في اختيارها وإيثارها.
وكذلك يجد المتدبر للقرآن في التوجيه الذي قصد به بنو إسرائيل أول مرة، توجيهًا دائمًا مستمر الإيحاء للجميع.
ومن ثم عودة إلى نداء بني إسرائيل، وتذكيرهم بنعمة الله عليهم، وتخويفهم ذلك اليوم المخيف إجمالًا قبل الأخذ في التفصيل:
{يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين واتقوا يومًا لا تجزي نفس عن نفس شيئًا ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل ولا هم ينصرون}.
وتفضيل بني إسرائيل على العالمين موقوت بزمان استخلافهم واختيارهم، فأما بعد ما عتوا عن أمر ربهم، وعصوا أنبياءهم، وجحدوا نعمة الله عليهم، وتخلوا عن التزاماتهم وعهدهم، فقد أعلن الله حكمه عليهم باللعنة والغضب والذلة والمسكنة، وقضى عليهم بالتشريد وحق عليهم الوعيد.
وتذكيرهم بتفضيلهم على العالمين، هو تذكير لهم بما كان لهم من فضل الله وعهده؛ وإطماع لهم لينتهزوا الفرصة المتاحة على يدي الدعوة الإسلامية، فيعودوا إلى موكب الإيمان. وإلى عهد الله؛ شكرًا على تفضيله لآبائهم، ورغبة في العودة إلى مقام التكريم الذي يناله المؤمنون.
ومع الإطماع في الفضل والنعمة، التحذير من اليوم الذي يأتي وصفه:
{لا تجزي نفس عن نفس شيئًا}.
فالتبعة فردية، والحساب شخصي، وكل نفس مسئولة عن نفسها، ولا تغني نفس عن نفس شيئًا.. وهذا هو المبدأ الإسلامي العظيم. مبدأ التبعة الفردية القائمة على الإرادة والتمييز من الإنسان، وعلى العدل المطلق من الله. وهو أقوم المبادئ التي تشعر الإنسان بكرامته، والتي تستجيش اليقظة الدائمة في ضميره. وكلاهما عامل من عوامل التربية، فوق أنه قيمة إنسانية تضاف إلى رصيده من القيم التي يكرمه بها الإسلام.
{ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل}.
فلا شفاعة تنفع يومئذ من لم يقدم إيمانًا وعملًا صالحًا؛ ولا فدية تؤخذ منه للتجاوز عن كفره ومعصيته.
{ولا هم ينصرون}.
فما من ناصر يعصمهم من الله، وينجيهم من عذابه.. وقد عبر هنا بالجمع باعتبار مجموع النفوس التي لا تجزي نفس منها عن نفس، ولا يقبل منها شفاعة، ولا يؤخذ منها عدل، وانصرف عن الخطاب في أول الآية إلى صيغة الغيبة في آخرها للتعميم. فهذا مبدأ كلي ينال المخاطبين وغير المخاطبين من الناس أجمعين.
بعدئذ يمضي يعدد آلاء الله عليهم، وكيف استقبلوا هذه الآلاء، وكيف جحدوا وكفروا وحادوا عن الطريق. وفي مقدمة هذه النعم كانت نجاتهم من آل فرعون ومن العذاب الأليم:
{وإذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم وإذ فرقنا بكم البحر فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون}.
إنه يعيد على خيالهم ويستحيي في مشاعرهم صورة الكرب الذي كانوا فيه- باعتبار أنهم أبناء هذا الأصل البعيد- ويرسم أمامهم مشهد النجاة كما رسم أمامهم مشاهد العذاب.
يقول لهم: واذكروا إذ نجيناكم من آل فرعون حالة ما كانوا يديمون عذابكم، من سام الماشية أي جعلها سائمة ترعى دائمًا وكأن العذاب كان هو الغذاء الدائم الذي يطعمونهم إياه!! ثم يذكر لونًا من هذا العذاب. هو تذبيح الذكور واستيحاء الإناث. كي يضعف ساعد بني إسرائيل وتثقل تبعاتهم!
وقبل أن يعرض مشهد النجاة يعقب بأن ذلك التعذيب كان فيه بلاء من ربهم عظيم. ليلقي في حسهم- وحس كل من يصادف شدة- أن إصابة العباد بالشدة هي امتحان وبلاء، واختبار وفتنة. وأن الذي يستيقظ لهذه الحقيقة يفيد من الشدة، ويعتبر بالبلاء، ويكسب من ورائهما حين يستيقظ. والألم لا يذهب ضياعًا إذا أدرك صاحبه أنه يمر بفترة امتحان لها ما بعدها إن أحسن الانتفاع بها. والألم يهون على النفس حين تعيش بهذا التصور وحين تدخر ما في التجربة المؤلمة من زاد للدنيا بالخبرة والمعرفة والصبر والاحتمال، ومن زاد للآخرة باحتسابها عند الله، وبالتضرع لله وبانتظار الفرج من عنده وعدم اليأس من رحمته.
ومن ثم هذا التعقيب الموحى: {وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم}.
فإذا فرغ من التعقيب جاء بمشهد النجاة بعد مشاهد العذاب.
{وإذ فرقنا بكم البحر فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون}.
وقد وردت تفصيلات هذه النجاة في السور المكية التي نزلت من قبل. أما هنا فهو مجرد التذكير لقوم يعرفون القصة. سواء من القرآن المكي، أو من كتبهم وأقاصيصهم المحفوظة. إنما يذكرهم بها في صورة مشهد، ليستعيدوا تصورها، ويتأثروا بهذا التصور، وكأنهم هم الذين كانوا ينظرون إلى فرق البحر، ونجاة بني إسرائيل بقيادة موسى عليه السلام على مشهد منهم ومرأى! وخاصية الاستحياء هذه من أبرز خصائص التعبير القرآني العجيب.
ثم يمضي السياق قدمًا مع رحلة بني إسرائيل بعد خروجهم من مصر ناجين:
{وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون ثم عفونا عنكم من بعد ذلك لعلكم تشكرون وإذ آتينا موسى الكتاب والفرقان لعلكم تهتدون وإذ قال موسى لقومه يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم فتاب عليكم إنه هو التواب الرحيم}.
وقصة اتخاذ بني إسرائيل للعجل، وعبادته في غيبة موسى عليه السلام عندما ذهب إلى ميعاد ربه على الجبل، مفصلة في سورة طه السابقة النزول في مكة. وهنا فقط يذكرهم بها، وهي معروفة لديهم. يذكرهم بانحدارهم إلى عبادة العجل بمجرد غيبة نبيهم، الذي أنقذهم باسم الله، من آل فرعون يسومونهم سوء العذاب. ويصف حقيقة موقفهم في هذه العبادة: {وأنتم ظالمون}.. ومن أظلم ممن يترك عبادة الله ووصية نبيه ليعبد عجلًا جسدًا، وقد أنقذه الله ممن كانوا يقدسون العجول!
ومع هذا فقد عفا الله عنهم، وآتى نبيهم الكتاب- وهو التوراة- فيه فرقان بين الحق والباطل، عسى أن يهتدوا إلى الحق البين بعد الضلال.
ولم يكن بد من التطهير القاسي؛ فهذه الطبيعة المنهارة الخاوية لا تقومها إلا كفارة صارمة، وتأديب عنيف. عنيف في طريقته وفي حقيقته:
{وإذ قال موسى لقومه يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم}.
أقتلوا أنفسكم. ليقتل الطائع منكم العاصي. ليطهره ويطهر نفسه.. هكذا وردت الروايات عن تلك الكفارة العنيفة.. وإنه لتكليف مرهق شاق، أن يقتل الأخ أخاه، فكأنما يقتل نفسه برضاه. ولكنه كذلك كان تربية لتلك الطبيعة المنهارة الخوارة، التي لا تتماسك عن شر، ولا تتناهى عن نكر. ولو تناهوا عن المنكر في غيبة نبيهم ما عبدوا العجل. وإذ لم يتناهوا بالكلام فليتناهوا بالحسام؛ وليؤدوا الضريبة الفادحة الثقيلة التي تنفعهم وتربيهم!
وهنا تدركهم رحمة الله بعد التطهير:
{فتاب عليكم إنه هو التواب الرحيم}.
ولكن إسرائيل هي إسرائيل! هي هي كثافة حس، ومادية فكر، واحتجابًا عن مسارب الغيب.. فإذا هم يطلبون أن يروا الله جهرة، والذي طلب هذا هم السبعون المختارون منهم، الذين اختارهم موسى لميقات ربه- الذي فصلت قصته في السور المكية من قبل- ويرفضون الإيمان لموسى إلا أن يروا الله عيانًا. والقرآن يواجههم هنا بهذا التجديف الذي صدر من آبائهم، لينكشف تعنتهم القديم الذي يشابه تعنتهم الجديد مع الرسول الكريم، وطلبهم الخوارق منه، وتحريضهم بعض المؤمنين على طلب الخوارق للتثبت من صدقه:
{وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون وظللنا عليكم الغمام وأنزلنا عليكم المن والسلوى كلوا من طيبات ما رزقناكم وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون}.. إن الحس المادي الغليظ هو وحده طريقهم إلى المعرفة.. أم لعله التعنت والمعاجزة.
والآيات الكثيرة، والنعم الإلهية، والعفو والمغفرة.. كلها لا تغير من تلك الطبيعة الجاسية، التي لا تؤمن إلا بالمحسوس، والتي تظل مع ذلك تجادل وتماحل ولا تستجيب إلا تحت وقع العذاب والتنكيل، مما يوحي بأن فترة الإذلال التي قضوها تحت حكم فرعون الطاغية قد أفسدت فطرتهم إفسادًا عميقًا. وليس أشد إفسادًا للفطرة من الذل الذي ينشئه الطغيان الطويل، والذي يحطم فضائل النفس البشرية، ويحلل مقّوماتها، ويغرس فيها المعروف من طباع العبيد: استخذاء تحت سوط الجلاد، وتمردًا حين يرفع عنها السوط، وتبطرًا حين يتاح لها شيء من النعمة والقوة.. وهكذا كانت إسرائيل، وهكذا هي في كل حين.
ومن ثم يجدفون هذا التجديف. ويتعنتون هذا التعنت:
{وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة} ومن ثم يأخذهم الله جزاء ذلك التجديف، وهم على الجبل في الميقات المعلوم {فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون}.
ومرة أخرى تدركهم رحمة الله، وتوهب لهم فرصة الحياة عسى أن يذكروا ويشكروا، ويذكرهم هنا مواجهة بهذه النعمة: {ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون}.
ويذكرهم برعايته لهم في الصحراء الجرداء حيث يسر لهم طعامًا شهيًا لا يجهدون فيه ولا يكدون، ووقاهم هجير الصحراء وحر الشمس المحرق بتدبيره اللطيف:
{وظللنا عليكم الغمام وأنزلنا عليكم المن والسلوى كلوا من طيبات ما رزقناكم وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون}.
وتذكر الراويات أن الله ساق لهم الغمام يظللهم من الهاجرة. والصحراء بغير مطر ولا سحب، جحيم يفور بالنار، ويقذف بالشواظ. وهي بالمطر والسحاب رخية ندية تصح فيها الأجسام والأرواح.. وتذكر الروايات كذلك أن الله سخر لهم {المن} يجدونه على الأشجار حلوًا كالعسل، وسخر لهم {السلوى} وهو طائر السماني يجدونه بوفرة قريب المنال. وبهذا توافر لهم الطعام الجيد، والمقام المريح، وأحلت لهم هذه الطيبات.. ولكن أتراهم شكروا واهتدوا.
إن التعقيب الأخير في الآية يوحي بأنهم ظلموا وجحدوا. وإن كانت عاقبة ذلك عليهم، فما ظلموا إلاَّ أنفسهم!
{وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون}.
ويمضي السياق في مواجهتهم بما كان منهم من انحراف ومعصية وجحود:
{وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية فكلوا منها حيث شئتم رغدًا وادخلوا الباب سجدًا وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم وسنزيد المحسنين فبدل الذين ظلموا قولًا غير الذي قيل لهم فأنزلنا على الذين ظلموا رجزا من السماء بما كانوا يفسقون}.
وتذكر بعض الروايات أن القرية المقصودة هنا هي بيت المقدس، التي أمر الله بني إسرائيل بعد خروجهم من مصر أن يدخلوها، ويخرجوا منها العمالقة الذين كانوا يسكنونها، والتي نكص بنو إسرائيل عنها وقالوا: {يا موسى إن فيها قومًا جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون} والتي قالوا بشأنها لنبيهم موسى عليه السلام: {إنا لن ندخلها أبدًا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون} ومن ثم كتب عليهم ربهم التيه أربعين سنة، حتى نشأ جيل جديد بقيادة يوشع بن نون، فتح المدينة ودخلها.. ولكنهم بدلًا من أن يدخلوها سجدًا كما أمرهم الله، علامة على التواضع والخشوع، ويقولوا: حطة.. أي حط عنا ذنوبنا واغفر لنا.. دخلوها على غير الهيئة التي أمروا بها، وقالوا قولًا آخر غير الذي أمروا به.
والسياق يواجههم بهذا الحادث في تاريخهم؛ وقد كان مما وقع بعد الفترة التي يدور عنها الحديث هنا- وهي عهد موسى- ذلك أنه يعتبر تاريخهم كله وحدة، قديمه كحديثه، ووسطه كطرفيه.. كله مخالفة وتمرد وعصيان وانحراف!
وأيًّا كان هذا الحادث، فقد كان القرآن يخاطبهم بأمر يعرفونه، ويذكرهم بحادث يعلمونه.. فلقد نصرهم الله فدخلوا القرية المعينة؛ وأمرهم أن يدخلوها في هيئة خشوع وخضوع، وأن يدعوا الله ليغفر لهم ويحط عنهم؛ ووعدهم أن يغفر لهم خطاياهم، وأن يزيد المحسنين من فضله ونعمته. فخالفوا عن هذا كله كعادة يهود:
{فبدل الذين ظلموا قولًا غير الذي قيل لهم}.
ويخص الذين ظلموا بالذكر. إما لأنهم كانوا فريقًا منهم هو الذي بدل وظلم. وإما لتقرير وصف الظلم لهم جميعًا، إذا كان قد وقع منهم جميعًا.
{فأنزلنا على الذين ظلموا رجزًا من السماء بما كانوا يفسقون}.
والرجز: العذاب. والفسوق: المخالفة والخروج.. وكانت هذه واحدة من أفاعيل بني إسرائيل!
وكما يسر الله لبني إسرائيل الطعام في الصحراء والظل في الهاجرة، كذلك أفاض عليهم الري بخارقة من الخوارق الكثيرة التي أجراها الله على يدي نبيه موسى عليه السلام والقرآن يذكرهم بنعمة الله عليهم في هذا المقام، وكيف كان مسلكهم بعد الإفضال والإنعام:
{وإذ استسقى موسى لقومه فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينًا قد علم كل أناس مشربهم كلوا واشربوا من رزق الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين}.
لقد طلب موسى لقومه السقيا. طلبها من ربه فاستجاب له. وأمره أن يضرب حجرًا معينًا بعصاه، فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا بعدة أسباط بني إسرائيل، وكانوا يرجعون إلى اثني عشر سبطًا بعدة أحفاد يعقوب- وهو إسرائيل الذي ينتسبون إليه- وأحفاد إسرائيل- أو يعقوب- هم المعروفون باسم الأسباط، والذين يرد ذكرهم مكررًا في القرآن، وهم رءوس قبائل بني إسرائيل. وكانوا ما يزالون يتبعون النظام القبلي، الذي تنسب فيه القبيلة إلى رأسها الكبير.
ومن ثم يقول: {قد علم كل أناس مشربهم}.. أي العين الخاصة بهم من الاثنتي عشرة عينًا. وقيل لهم، على سبيل الإباحة والإنعام والتحذير من الاعتداء والإفساد:
{كلوا واشربوا من رزق الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين}.
لقد كانوا بين الصحراء بجدبها وصخورها، والسماء بشواظها ورجومها. فأما الحجر فقد أنبع الله لهم منه الماء، وأما السماء فأنزل لهم منها المن والسلوى: عسلًا وطيرًا.. ولكن البنية النفسية المفككة، والجبلة الهابطة المتداعية، أبت على القوم أن يرتفعوا إلى مستوى الغاية التي من أجلها أخرجوا من مصر، ومن أجلها ضربوا في الصحراء.. لقد أخرجهم الله- على يدي نبيهم موسى عليه السلام من الذل والهوان ليورثهم الأرض المقدسة، وليرفعهم من المهانة والضعة.. وللحرية ثمن، وللعزة تكاليف، وللأمانة الكبرى التي ناطهم الله بها فدية. ولكنهم لا يريدون أن يؤدوا الثمن، ولا يريدون أن ينهضوا بالتكاليف، ولا يريدون أن يدفعوا الفدية. حتى بأن يتركوا مألوف حياتهم الرتيبة الهينة. حتى بأن يغيروا مألوف طعامهم وشرابهم، وأن يكيفوا أنفسهم بظروف حياتهم الجديدة، في طريقهم إلى العزة والحرية والكرامة. إنهم يريدون الأطعمة المنوعة التي ألفوها في مصر. يريدون العدس والثوم والبصل والقثاء.. وما إليها! وهذا ما يذكرهم القرآن به. وهم يدعون في المدينة دعاواهم العريضة:
{وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها قال أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير اهبطوا مصرًا فإن لكم ما سألتم وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباءوا بغضب من الله ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير الحق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون}.
ولقد تلقى موسى عليه السلام طلبهم بالاستنكار:
{أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير}.
أتريدون الدنية وقد أراد الله لكم العلية؟
{اهبطوا مصرًا فإن لكم ما سألتم}.
إما بمعنى أن ما يطلبونه هين زهيد، لا يستحق الدعاء؛ فهو موفور في أي مصر من الأمصار، فاهبطوا أية مدينة فإنكم واجدوه فيها.. وإما بمعنى عودوا إذن إلى مصر التي أخرجتم منها.
عودوا إلى حياتكم الدارجة المألوفة. إلى حياتكم الخانعة الذليلة.. حيث تجدون العدس والبصل والثوم والقثاء! ودعوا الأمور الكبار التي ندبتم لها.. ويكون هذا من موسى عليه السلام تأنيبًا لهم وتوبيخًا.
وأنا أرجح هذا التأويل الذي استبعده بعض المفسرين، أرجحه بسبب ما أعقبه في السياق من قوله تعالى: {وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباءوا بغضب من الله}.
فإن ضرب الذلة والمسكنة عليهم، وعودتهم بغضب الله، لم يكن- من الناحية التاريخية- في هذه المرحلة من تاريخهم؛ إنما كان فيما بعد، بعد وقوع ما ذكرته الآية في ختامها:
{ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير الحق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون}.
وقد وقع هذا منهم متأخرًا بعد عهد موسى بأجيال. إنما عجل السياق بذكر الذلة والمسكنة والغضب هنا لمناسبته لموقفهم من طلب العدس والبصل والثوم والقثاء! فناسب أن يكون قول موسى لهم، {اهبطوا مصرًا} هو تذكير لهم بالذل في مصر، وبالنجاة منه، ثم هفوة نفوسهم للمطاعم التي ألفوها في دار الذل والهوان!
ولم يشهد تاريخ أمة ما شهده تاريخ إسرائيل من قسوة وجحود واعتداء وتنكر للهداة. فقد قتلوا وذبحوا ونشروا بالمناشير عددًا من أنبيائهم- وهي أشنع فعلة تصدر من أمة مع دعاة الحق المخلصين- وقد كفروا أشنع الكفر، واعتدوا أشنع الاعتداء، وعصوا أبشع المعصية. وكان لهم في كل ميدان من هذه الميادين أفاعيل ليست مثلها أفاعيل!
ومع هذا كله فقد كانت لهم دعاوى عريضة عجيبة. كانوا دائما يدعون أنهم هم وحدهم المهتدون، وهم وحدهم شعب الله المختار، وهم وحدهم الذين ينالهم ثواب الله؛ وأن فضل الله لهم وحدهم دون شريك.. وهنا يكذب القرآن هذه الدعوى العريضة، ويقرر قاعدة من قواعده الكلية، التي تتخلل القصص القرآني، أو تسبقه أو تتلوه. يقرر قاعدة وحدة الإيمان.. ووحدة العقيدة، متى انتهت إلى إسلام النفس لله، والإيمان به إيمانًا ينبثق منه العمل الصالح. وإن فضل الله ليس حجرًا محجورًا على عصبية خاصة، إنما هو للمؤمنين أجمعين، في كل زمان وفي كل مكان، كل بحسب دينه الذي كان عليه، حتى تجيء الرسالة التالية بالدين الذي يجب أن يصير المؤمنون إليه:
{إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحًا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون}.
والذين آمنوا يعني بهم المسلمين. والذين هادوا هم اليهود- إما بمعنى عادوا إلى الله، وإما بمعنى أنهم أولاد يهوذا- والنصارى هم اتباع عيسى عليه السلام والصابئون: الأرجح أنهم تلك الطائفة من مشركي العرب قبل البعثة، الذين ساورهم الشك فيما كان عليه قومهم من عبادة الأصنام، فبحثوا لأنفسهم عن عقيدة يرتضونها، فاهتدوا إلى التوحيد، وقالوا: إنهم يتعبدون على الحنيفية الأولى، ملة إبراهيم، واعتزلوا عبادة قومهم دون أن تكون لهم دعوة فيهم.
فقال عنهم المشركون: إنهم صبأوا- أي مالوا عن دين آبائهم- كما كانوا يقولون عن المسلمين بعد ذلك. ومن ثم سموا الصابئة. وهذا القول أرجح من القول بأنهم عبدة النجوم كما جاء في بعض التفاسير.
والآية تقرر أن من آمن بالله واليوم الآخر من هؤلاء جميعًا وعمل صالحًا، فإن لهم أجرهم عند ربهم، ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون. فالعبرة بحقيقة العقيدة، لا بعصبية جنس أو قوم.. وذلك طبعًا قبل البعثة المحمدية. أما بعدها فقد تحدد شكل الإيمان الأخير.
ثم يمضي السياق يستعرض مواقف بني إسرائيل في مواجهة يهود المدينة بمسمع من المسلمين.
{وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه لعلكم تتقون ثم توليتم من بعد ذلك فلولا فضل الله عليكم ورحمته لكنتم من الخاسرين}.
وتفصيل هذا الميثاق وارد في سور أخرى، وبعضه ورد في هذه السورة فيما بعد. والمهم هنا هو استحضار المشهد، والتناسق النفسي والتعبيري بين قوة رفع الصخرة فوق رءوسهم وقوة أخذ العهد، وأمرهم أن يأخذوا ما فيه بقوة. وأن يعزموا فيه عزيمة. فأمر العقيدة لا رخاوة فيه ولا تميع، ولا يقبل أنصاف الحلول ولا الهزل ولا الرخاوة.. إنه عهد الله مع المؤمنين.. وهو جد وحق، فلا سبيل فيه لغير الجد والحق.. وله تكاليف شاقة، نعم! ولكن هذه هي طبيعته. إنه أمر عظيم. أعظم من كل ما في هذا الوجود. فلابد أن تقبل عليه النفس إقبال الجاد القاصد العارف بتكاليفه، المتجمع الهم والعزيمة المصمم على هذه التكاليف. ولابد أن يدرك صاحب هذا الأمر أنه إنما يودع حياة الدعة والرخاء والرخاوة، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد نودي للتكليف: «مضى عهد النوم يا خديجة». وكما قال له ربه: {إنا سنلقي عليك قولًا ثقيلًا} وكما قال لبني إسرائيل: {خذوا ما آتيناكم بقوة}. {واذكروا ما فيه لعلكم تتقون}.
ولابد مع أخذ العهد بقوة وجد واستجماع نفس وتصميم.. لابد مع هذا من تذكر ما فيه، واستشعار حقيقته، والتكيف بهذه الحقيقة، كي لا يكون الأمر كله مجرد حماسة وحمية وقوة. فعهد الله منهج حياة، منهج يستقر في القلب تصورًا وشعورًا، ويستقر في الحياة وضعًا ونظامًا، ويستقر في السلوك أدبًا وخلقًا، وينتهي إلى التقوى والحساسية برقابة الله وخشية المصير.
ولكن هيهات! لقد أدركت إسرائيل نحيزتها، وغلبت عليها جبلتها:
{ثم توليتم من بعد ذلك}.
ثم أدركتها رحمة الله مرة أخرى وشملها فضله العظيم؛ فأنقذها من الخسار المبين:
{فلولا فضل الله عليكم ورحمته لكنتم من الخاسرين}.
ومرة أخرى يواجههم بمظهر من مظاهر النكث والنكسة، والتحلل من العهد والعجز عن الاستمساك به، والضعف عن احتمال تكاليفه، والضعف أمام الهوى أو النفع القريب:
{ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين فجعلناها نكالًا لما بين يديها وما خلفها وموعظة للمتقين}.
وقد فصل القرآن حكاية اعتدائهم في السبت في موضع آخر فقال: {واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر إذ يعدون في السبت إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعًا ويوم لا يسبتون لا تأتيهم} فلقد طلبوا أن يكون لهم يوم راحة مقدس، فجعل الله لهم يوم السبت راحة مقدسًا لا يعملون فيه للمعاش. ثم ابتلاهم بعد ذلك بالحيتان تكثر يوم السبت، وتختفي في غيره! وكان ابتلاء لم تصمد له يهود! وكيف تصمد وتدع هذا الصيد القريب يضيع؟ أتتركه وفاء بعهد واستمساكًا بميثاق؟ إن هذا ليس من طبع يهود!
ومن ثم اعتدوا في السبت اعتدوا على طريقتهم الملتوية. راحوا يحوطون على الحيتان في يوم السبت، ويقطعونها عن البحر بحاجز، ولا يصيدونها! حتى إذا انقضى اليوم تقدموا وانتشلوا السمك المحجوز!
{فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين}.
لقد حق عليهم جزاء النكول عن عهدهم مع الله، والنكوص عن مقام الإنسان ذي الإرادة. فانتكسوا بهذا إلى عالم الحيوان والبهيمة، الحيوان الذي لا إرادة له، والبهيمة التي لا ترتفع على دعوة البطون! انتكسوا بمجرد تخليهم عن الخصيصة الأولى التي تجعل من الإنسان إنسانًا. خصيصة الإرادة المستعلية المستمسكة بعهد الله.
وليس من الضروري أن يستحيلوا قردة بأجسامهم، فقد استحالوا إليها بأرواحهم وأفكارهم، وانطباعات الشعور والتفكير تعكس على الوجوه والملامح سمات تؤثر في السحنة وتلقي ظلها العميق!
ومضت هذه الحادثة عبرة رادعة للمخالفين في زمانها وفيما يليه، وموعظة نافعة للمؤمنين في جميع العصور:
{فجعلناها نكالًا لما بين يديها وما خلفها وموعظة للمتقين}.. وفي نهاية هذا الدرس تجيء قصة البقرة.. تجيء مفصلة وفي صورة حكاية، لا مجرد إشارة كالذي سبق، ذلك أنها لم ترد من قبل في السور المكية، كما أنها لم ترد في موضع آخر؛ وهي ترسم سمة اللجاجة والتعنت والتلكؤ في الاستجابة، وتمحل المعاذير، التي تتسم بها إسرائيل:
{وإذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة قالوا أتتخذنا هزوًا قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي قال إنه يقول إنها بقرة لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك فافعلوا ما تؤمرون قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها قال إنه يقول إنها بقرة صفراء فاقع لونها تسر الناظرين قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي إن البقر تشابه علينا وإنا إن شاء الله لمهتدون قال إنه يقول إنها بقرة لا ذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث مسلمة لاشية فيها قالوا الآن جئت بالحق فذبحوها وما كادوا يفعلون وإذ قتلتم نفسًا فادارأتم فيها والله مخرج ما كنتم تكتمون فقلنا اضربوه ببعضها كذلك يحيي الله الموتى ويريكم آياته لعلكم تعقلون}.
وفي هذه القصة القصيرة- كما يعرضها السياق القرآني- مجال للنظر في جوانب شتى.. جانب دلالتها على طبيعة بني إسرائيل وجبلتهم الموروثة. وجانب دلالتها على قدرة الخالق، وحقيقة البعث، وطبيعة الموت والحياة. ثم جانب الأداء الفني في عرض القصة بدءًا ونهاية واتساقًا مع السياق.
إن السمات الرئيسية لطبيعة إسرائيل تبدو واضحة في قصة البقرة هذه: انقطاع الصلة بين قلوبهم، وذلك النبع الشفيف الرقراق: نبع الإيمان بالغيب، والثقة بالله، والاستعداد لتصديق ما يأتيهم به الرسل. ثم التلكؤ في الاستجابة للتكاليف، وتلمس الحجج والمعاذير، والسخرية المنبعثة من صفاقة القلب وسلاطة اللسان!
لقد قال لهم نبيهم: {إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة}.. وكان هذا القول بهذه الصيغة يكفي للاستجابة والتنفيذ. فنبيهم هو زعيمهم الذي أنقذهم من العذاب المهين، برحمة من الله ورعاية وتعليم؛ وهو ينبئهم أن هذا ليس أمره وليس رأيه، إنما هو أمر الله، الذي يسير بهم على هداه.. فماذا كان الجواب؟ لقد كان جوابهم سفاهة وسوء أدب، واتهامًا لنبيهم الكريم بأنه يهزأ بهم ويسخر منهم! كأنما يجوز لإنسان يعرف الله- فضلًا على أن يكون رسول الله- أن يتخذ اسم الله وأمره مادة مزاح وسخرية بين الناس:
{قالوا أتتخذنا هزوًا}.
وكان رد موسى على هذه السفاهة أن يستعيذ بالله؛ وأن يردهم برفق، وعن طريق التعريض والتلميح، إلى جادة الأدب الواجب في جانب الخالق جل علاه؛ وأن يبين لهم أن ما ظنوه به لا يليق إلا بجاهل بقدر الله، لا يعرف ذلك الأدب ولا يتوخاه:
{قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين}.
وكان في هذا التوجيه كفاية ليثوبوا إلى أنفسهم، ويرجعوا إلى ربهم، وينفذوا أمر نبيهم.. ولكنها إسرائيل!
نعم. لقد كان في وسعهم- وهم في سعة من الأمر- أن يمدوا أيديهم إلى أية بقرة فيذبحوها، فإذا هم مطيعون لأمر الله، منفذون لإشارة رسوله. ولكن طبيعة التلكؤ والالتواء تدركهم، فإذا هم يسألون: {قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي}.. والسؤال بهذه الصيغة يشي بأنهم ما يزالون في شكهم أن يكون موسى هازئًا فيما أنهى إليهم! فهم أولًا: يقولون: {ادع لنا ربك}.. فكأنما هو ربه وحده لا ربهم كذلك! وكأن المسألة لا تعنيهم هم إنما تعني موسى وربه! وهم ثانيًا: يطلبون منه أن يدعو ربه ليبين لهم: {ما هي} والسؤال عن الماهية في هذا المقام- وإن كان المقصود الصفة- إنكار واستهزاء.. ما هي؟ إنها بقرة. وقد قال لهم هذا من أول الأمر بلا تحديد لصفة ولا سمة.
بقرة وكفى!
هنا كذلك يردهم موسى إلى الجادة، بأن يسلك في الإجابة طريقًا غير طريق السؤال. إنه لا يجبههم بانحرافهم في صيغة السؤال كي لا يدخل معهم في جدل شكلي.. إنما يجيبهم كما ينبغي أن يجيب المعلم المربي من يبتليه الله بهم من السفهاء المنحرفين. يجيبهم عن صفة البقرة:
{قال إنها بقرة لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك}.
إنها بقرة لا هي عجوز ولا هي شابة، وسط بين هذا وذاك. ثم يعقب على هذا البيان المجمل بنصيحة آمرة حازمة:
{فافعلوا ما تؤمرون}.
ولقد كان في هذا كفاية لمن يريد الكفاية؛ وكان حسبهم وقد ردهم نبيهم إلى الجادة مرتين، ولمح لهم بالأدب الواجب في السؤال وفي التلقي. أن يعمدوا إلى أية بقرة من أبقارهم، لا عجوز ولا صغيرة، متوسطة السن، فيخلصوا بها ذمتهم، وينفذوا بذبحها أمر ربهم، ويعفوا أنفسهم من مشقة التعقيد والتضييق.. ولكن إسرائيل هي إسرائيل!
لقد راحوا يسألون:
{قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها}.
هكذا مرة أخرى: {ادع لنا ربك}! ولم يكن بد- وقد شققوا الموضوع وطلبوا التفصيل- أن يأتيهم الجواب بالتفصيل:
{قال إنه يقول إنها بقرة صفراء فاقع لونها تسر الناظرين}.
وهكذا ضيقوا على أنفسهم دائرة الاختيار- وكانوا من الأمر في سعة- فأصبحوا مكلفين أن يبحثوا لا عن بقرة.. مجرد بقرة.. بل عن بقرة متوسطة السن، لا عجوز ولا صغيرة، وهي بعد هذا صفراء فاقع لونها؛ وهي بعد هذا وذلك ليست هزيلة ولا شوهاء: {تسر الناظرين}.. وسرور الناظرين لا يتم إلا أن تقع أبصارهم على فراهة وحيوية ونشاط والتماع في تلك البقرة المطلوبة؛ فهذا هو الشائع في طباع الناس: أن يعجبوا بالحيوية والاستواء ويسروا، وأن ينفروا من الهزال والتشويه ويشمئزوا.
ولقد كان فيما تلكأوا كفاية، ولكنهم يمضون في طريقهم، يعقدون الأمور، ويشددون على أنفسهم، فيشدد الله عليهم. لقد عادوا مرة أخرى يسألون عن الماهية:
{قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي}.
ويعتذرون عن هذا السؤال وعن ذلك التلكؤ بأن الأمر مشكل:
{إن البقر تشابه علينا}.
وكأنما استشعروا لحاجتهم هذه المرة. فهم يقولون:
{وإنا إن شاء الله لمهتدون}.
ولم يكن بد كذلك أن يزيد الأمر عليهم مشقة وتعقيدًا، وأن تزيد دائرة الاختيار المتاحة لهم حصرًا وضيقًا، بإضافة أوصاف جديدة للبقرة المطلوبة، كانوا في سعة منها وفي غنى عنها:
{قال إنه يقول إنها بقرة لا ذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث مسلمة لا شية فيها}.
وهكذا لم تعد بقرة متوسطة العمر. صفراء فاقع لونها فارهة فحسب. بل لم يعد بد أن تكون- مع هذا- بقرة غير مذللة ولا مدربة على حرث الأرض أو سقي الزرع؛ وأن تكون كذلك خالصة اللون لا تشوبها علامة.
هنا فقط.. وبعد أن تعقد الأمر، وتضاعفت الشروط، وضاق مجال الاختيار:
{قالوا الآن جئت بالحق}.
الآن! كأنما كان كل ما مضى ليس حقًا. أو كأنهم لم يستيقنوا أن ما جاءهم به هو الحق إلا اللحظة! {فذبحوها وما كادوا يفعلون}!!
عندئذ- وبعد تنفيذ الأمر والنهوض بالتكليف- كشف الله لهم عن الغاية من الأمر والتكليف:
{وإذ قتلتم نفسًا فادارأتم فيها والله مخرج ما كنتم تكتمون فقلنا اضربوه ببعضها كذلك يحيي الله الموتى ويريكم آياته لعلكم تعقلون}.
وهنا نصل إلى الجانب الثاني من جوانب القصة. جانب دلالتها على قدرة الخالق، وحقيقة البعث، وطبيعة الموت والحياة. وهنا يتغير السياق من الحكاية إلى الخطاب والمواجهة:
لقد كشف الله لقوم موسى عن الحكمة من ذبح البقرة.. لقد كانوا قد قتلوا نفسا منهم؛ ثم جعل كل فريق يدرأ عن نفسه التهمة ويلحقها بسواه. ولم يكن هناك شاهد؛ فأراد الله أن يظهر الحق على لسان القتيل ذاته؛ وكان ذبح البقرة وسيلة إلى إحيائه، وذلك بضربه ببعض من تلك البقرة الذبيح.. وهكذا كان، فعادت إليه الحياة، ليخبر بنفسه عن قاتله، وليجلو الريب والشكوك التي أحاطت بمقتله؛ وليحق الحق ويبطل الباطل بأوثق البراهين.
ولكن. فيم كانت هذه الوسيلة، والله قادر على أن يحيي الموتى بلا وسيلة؟ ثم ما مناسبة البقرة المذبوحة مع القتيل المبعوث؟
إن البقر يذبح قربانًا كما كانت عادة بني إسرائيل.. وبضعة من جسد ذبيح ترد بها الحياة إلى جسد قتيل. وما في هذه البضعة حياة ولا قدرة على الأحياء.. إنما هي مجرد وسيلة ظاهرة تكشف لهم عن قدرة الله، التي لا يعرف البشر كيف تعمل. فهم يشاهدون آثارها ولا يدركون كنهها ولا طريقتها في العمل و: {كذلك يحيي الله الموتى}.. كذلك بمثل هذا الذي ترونه واقعًا ولا تدرون كيف وقع؛ وبمثل هذا اليسر الذي لا مشقة فيه ولا عسر.
إن المسافة بين طبيعة الموت وطبيعة الحياة مسافة هائلة تدير الرءوس.
ولكنها في حساب القدرة الإلهية أمر يسير.. كيف؟.. هذا ما لا أحد يدريه. وما لا يمكن لأحد إدراكه.. إن إدراك الماهية والكيفية هنا سر من أسرار الألوهية، لا سبيل إليه في عالم الفانين! وإن يكن في طوق العقل البشري إدراك دلالته والاتعاظ بها: {ويريكم آياته لعلكم تعقلون}.
وأخيرًا نجيء إلى جمال الأداء وتناسقه مع السياق.
هذه قصة قصيرة نبدؤها، فإذا نحن أمام مجهول لا نعرف ما وراءه. نحن لا نعرف في مبدأ عرض القصة لماذا يأمر الله بني إسرائيل أن يذبحوا بقرة، كما أن بني إسرائيل إذ ذاك لم يعرفوا، وفي هذا اختبار لمدى الطاعة والاستجابة والتسليم.
ثم تتابع الحوار في عرض القصة بين موسى وقومه، فلا نرى الحوار ينقطع ليثبت ما دار بين موسى وربه؛ على حين أنهم كانوا في كل مرة يطلبون منه أن يسأل ربه، فكان يسأله، ثم يعود إليهم بالجواب.
ولكن سياق القصة لا يقول: إنه سأل ربه ولا إن ربه أجابه.. إن هذا السكوت هو اللائق بعظمة الله، التي لا يجوز أن تكون في طريق اللجاجة التي يزاولها بنو إسرائيل!
ثم تنتهي إلى المباغتة في الخاتمة- كما بوغت بها بنو إسرائيل- انتفاض الميت مبعوثا ناطقًا، على ضربة من بعض جسد لبقرة بكماء مذبوحة، ليس فيها من حياة ولا مادة حياة!
ومن ثم يلتقي جمال الأداء التعبيري بحكمة السياق الموضوعية في قصة قصيرة من القصص القرآني الجميل.
وتعقيبًا على هذا المشهد الأخير من القصة، الذي كان من شأنه أن يستجيش في قلوب بني إسرائيل الحساسية والخشية والتقوى؛ وتعقيبا كذلك على كل ما سلف من المشاهد والأحداث والعبر والعظات، تجيء هذه الخاتمة المخالفة لكل ما كان يتوقع ويرتقب:
{ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله وما الله بغافل عما تعملون}.
والحجارة التي يقيس قلوبهم إليها، فإذا قلوبهم منها أجدب وأقسى.. هي حجارة لهم بها سابق عهد. فقد رأوا الحجر تتفجر منه اثنتا عشرة عينًا، ورأوا الجبل يندك حين تجلى عليه الله وخر موسى صعقًا! ولكن قلوبهم لا تلين ولا تندى، ولا تنبض بخشية ولا تقوى.. قلوب قاسية جاسية مجدبة كافرة.. ومن ثم هذا التهديد:
{وما الله بغافل عما تعملون}.
وبهذا يختم هذا الشطر من الجولة مع بني إسرائيل في تاريخهم الحافل بالكفر والتكذيب، والالتواء واللجاجة، والكيد والدس، والقسوة والجدب، والتمرد والفسوق. اهـ.