فصل: (سورة يوسف: آية 86)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.[سورة يوسف: آية 86]

{قالَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (86)}
البث: أصعب الهم الذي لا يصبر عليه صاحبه، فيبثه إلى الناس أي ينشره. ومنه: باثه أمره، وأبثه إياه. ومعنى: {إنَّما أَشْكُوا} إنى لا أشكو إلى أحد منكم ومن غيركم، إنما أشكو إلى ربى داعيًا له وملتجئًا إليه، فخلوني وشكايتي. وهذا معنى توليه عنهم، أي فتولى عنهم إلى اللّه والشكاية إليه. وقيل: دخل على يعقوب جارٌ له فقال: يا يعقوب، قد تهشمت وفنيت وبلغت من السن ما بلغ أبوك! فقال: هشمنى وأفنانى ما ابتلاني اللّه به من همّ يوسف، فأوحى اللّه إليه: يا يعقوب، أتشكوني إلى خلقي؟ قال: يا رب خطيئة أخطأتها فاغفر لي، فغفر له، فكان بعد ذلك إذا سئل قال: إنما أشكو بثي وحزنى إلى اللّه. وروى أنه أوحى إلى يعقوب: إنما وجدت عليكم لأنكم ذبحتم شاة فقام ببابكم مسكين فلم تطعموه، وإن أحب خلقي إلىّ الأنبياء، ثم المساكين، فاصنع طعاما وادع عليه المساكين. وقيل: اشترى جارية مع ولدها، فباع ولدها فبكت حتى عميت {أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ} أي أعلم من صنعه ورحمته وحسن ظنى به أنه يأتينى بالفرج من حيث لا أحتسب. وروى أنه رأى ملك الموت في منامه فسأله: هل قبضت روح يوسف؟ فقال، لا واللّه هو حىّ فاطلبه. وقرأ الحسن: {وحزني}، بفتحتين. وحزنى، بضمتين: قتادة.

.[سورة يوسف: آية 87]

{يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكافِرُونَ (87)}
{فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ} فتعرّفوا منهما وتطلبوا خبرهما. وقرئ بالجيم، كما قرئ بهما في الحجرات، وهما تفعل من الإحساس وهو المعرفة {فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ} ومن الجس، وهو الطلب. ومنه قالوا لمشاعر الإنسان: الحواس، والجواس مِنْ رَوْحِ اللَّهِ من فرجه وتنفيسه. وقرأ الحسن وقتادة: {من روح اللّه}، بالضم: أي من رحمته التي يحيا بها العباد.

.[سورة يوسف: آية 88]

{فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (88)}
{الضُّرُّ} الهزال من الشدّة والجوع {مُزْجاةٍ} مدفوعة يدفعها كل تاجر رغبة عنها واحتقارًا لها، من أزجيته إذا دفعته وطردته، والريح تزجى السحاب، قيل: كانت من متاع الأعراب صوفًا وسمنا. وقيل: الصنوبر وحبة الخضراء. وقيل: سويق المقل والأقط.
وقيل: دراهم زيوفا لا تؤخذ إلا بوضيعة {فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ} الذي هو حقنا {وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا} وتفضل علينا بالمسامحة والإغماض عن رداءة البضاعة، أو زدنا على حقنا، فسموا ما هو فضل وزيادة لا تلزمه صدقة، لأنّ الصدقات محظورة على الأنبياء. وقيل كانت تحل لغير نبينا. وسئل ابن عيينة عن ذلك فقال: ألم تسمع {وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا} أراد أنها كانت حلالا لهم.
والظاهر أنهم تمسكنوا له وطلبوا إليه أن يتصدّق عليهم، ومن ثم رق لهم وملكته الرحمة عليهم، فلم يتمالك أن عرّفهم نفسه. وقوله: {إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ} شاهد لذلك لذكر اللّه وجزائه، والصدقة: العطية التي تبتغى بها المثوبة من اللّه: ومنه قول الحسن- لمن سمعه يقول: اللهمّ تصدق علىّ:- إن اللّه تعالى لا يتصدق، إنما يتصدق الذي يبتغى الثواب، قل: اللهم أعطنى، أو تفضل علىّ، أو ارحمني.

.[سورة يوسف: آية 89]

{قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ (89)}
{قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ} أتاهم من جهة الدين وكان حليما موفقًا، فكلمهم مستفهمًا عن وجه القبح الذي يجب أن يراعيه التائب، فقال: {هل علمتم} قبح {ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ} لا تعلمون قبحه، فلذلك أقدمتم عليه، يعنى: هل علمتم قبحه فتبتم إلى اللّه منه، لأنّ علم القبح يدعو إلى الاستقباح، والاستقباح يجرّ إلى التوبة، فكان كلامه شفقة عليهم وتنصحًا لهم في الدين، لا معاتبة وتثريبًا، إيثارًا لحق اللّه على حق نفسه، في ذلك المقام الذي يتنفس فيه المكروب، وينفث المصدور، ويتشفى المغيظ المحنق، ويدرك ثأره الموتور، فللّه أخلاق الأنبياء ما أوطأها وأسجحها وللّه حصا عقولهم ما أرزنها وأرجحها.
وقيل. لم يرد نفى العلم عنهم، لأنهم كانوا علماء، ولكنهم لما لم يفعلوا ما يقتضيه العلم ولا يقدم عليه إلا جاهل، سماهم جاهلين.
وقيل: معناه إذ أنتم صبيان في حد السفه والطيش قبل أن تبلغوا أوان الحلم والرزانة. روى أنهم لما قالوا: مسنا وأهلنا الضر، وتضرعوا إليه: ارفضت عيناه، ثم قال هذا القول. وقيل: أدوا إليه كتاب يعقوب: من يعقوب إسرائيل اللّه بن إسحاق ذبيح اللّه بن إبراهيم خليل اللّه، إلى عزيز مصر. أما بعد، فإنا أهل بيت موكل بنا البلاء: أما جدّى، فشدّت يداه ورجلاه ورمى به في النار ليحرق فنجاه اللّه وجعلت النار عليه بردًا وسلامًا، وأما أبى فوضع السكين على قفاه ليقتل ففداه اللّه. وأمّا أنا فكان لي ابن وكان أحبّ أولادى إلىّ فذهب به إخوته إلى البرية ثم أتونى بقميصه ملطخًا بالدم وقالوا قد أكله الذئب، فذهبت عيناي من بكائي عليه، ثم كان لي ابن وكان أخاه من أمّه وكنت أتسلى به، فذهبوا به ثم رجعوا وقالوا: إنه سرق، وأنك حبسته لذلك، وإنا أهل بيت لا نسرق ولا نلد سارقًا، فإن رددته علىّ وإلا دعوت عليك دعوة تدرك السابع من ولدك والسلام. فلما قرأ يوسف الكتاب لم يتمالك وعيل صبره، فقال لهم ذلك. وروى أنه لما قرأ الكتاب بكى وكتب الجواب: اصبر كما صبروا تظفر كما ظفروا. فإن قلت: ما فعلهم بأخيه؟
قلت: تعريضهم إياه للغم والثكل بإفراده عن أخيه لأبيه وأمّه، وجفاؤهم به، حتى كان لا يستطيع أن يكلم أحدًا منهم إلا كلام الذليل للعزيز، وإيذاؤهم له بأنواع الأذى.

.[سورة يوسف: الآيات 90- 93]

{قالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (90) قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ (91) قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (92) اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (93)}
قرئ: {أَإِنَّكَ} على الاستفهام. وأنك، على الإيجاب. وفي قراءة أبىّ: {أإنك أو أنت يوسف} على معنى أإنك يوسف أو أنت يوسف، فحذف الأوّل لدلالة الثاني عليه، وهذا كلام متعجب مستغرب لما يسمع، فهو يكرر الاستثبات. فإن قلت: كيف عرفوه؟ قلت: رأوا في روائه وشمائله حين كلمهم بذلك ما شعروا به أنه هو، مع علمهم بأنّ ما خاطبهم به لا يصدر مثله إلا عن حنيف مسلم من سنخ إبراهيم، لا عن بعض أعزاء مصر. وقيل: تبسم عند ذلك فعرفوه بثناياه وكانت كاللؤلؤ المنظوم. وقيل: ما عرفوه حتى رفع التاج عن رأسه فنظروا إلى علامة بقرنه كانت ليعقوب وسارة مثلها، تشبه الشامة البيضاء. فإن قلت: قد سألوه عن نفسه فلم أجابهم عنها وعن أخيه؟ على أن أخاه كان معلومًا لهم. قلت: لأنه كان في ذكر أخيه بيان لما سألوه عنه {مَنْ يَتَّقِ} من يخف اللّه وعقابه {وَيَصْبِرْ} عن المعاصي وعلى الطاعات {فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ} أجرهم، فوضع المحسنين موضع الضمير لاشتماله على المتقين والصابرين {لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا} أي فضلك علينا بالتقوى والصبر وسيرة المحسنين. وإنّ شأننا وحالنا أنا كنا خاطئين متعمدين للإثم، لم نتق ولم نصبر، لا جرم أنّ اللّه أعزّك بالملك وأذلنا بالتمسكن بين يديك {لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ} لا تأنيب عليكم ولا عتب. وأصل التثريب من الثرب وهو الشحم الذي هو غاشية الكرش. ومعناه: إزالة الثرب، كما أن التجليد والتقريع إزالة الجلد والقرع، لأنه إذا ذهب كان ذلك غاية الهزال والعجف الذي ليس بعده، فضرب مثلا للتقريع الذي يمزق الأعراض ويذهب بماء الوجوه. فإن قلت: بم تعلق اليوم؟ قلت: بالتثريب، أو بالمقدر في {عَلَيْكُمُ} من معنى الاستقرار. أو بيغفر. والمعنى: لا أثر بكم اليوم، وهو اليوم الذي هو مظنة التثريب، فما ظنكم بغيره من الأيام، ثم ابتدأ فقال: {يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ} فدعا لهم بمغفرة ما فرط منهم. يقال: غفر اللّه لك، ويغفر اللّه لك، على لفظ الماضي والمضارع جميعًا. ومنه قول المشمت «يهديكم اللّه ويصلح بالكم» و{الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ} بشارة بعاجل غفران اللّه، لما تجدّد يومئذ من توبتهم وندمهم على خطيئتهم. وروى أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أخذ بعضادتي باب الكعبة يوم الفتح، فقال لقريش: ما ترونني فاعلا بكم؟ قالوا: نظن خيرًا، أخ كريم وابن أخر كريم، وقد قدرت. فقال: أقول ما قال أخى يوسف: لا تثريب عليكم اليوم. وروى أنّ أبا سفيان لما جاء ليسلم قال له العباس: إذا أتيت الرسول فاتل عليه {لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ} ففعل، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: غفر اللّه لك ولمن علمك. ويروى أن إخوته لما عرفوه وأرسلوا إليه: إنك تدعونا إلى طعامك بكرة وعشية، ونحن نستحيى منك لما فرط منا فيك، فقال يوسف: إنّ أهل مصر وإن ملكت فيهم، فإنهم ينظرون إلىّ بالعين الأولى ويقولون سبحان من بلغ عبدًا بيع بعشرين درهما ما بلغ، ولقد شرفت الآن بكم وعظمت في العيون حيث علم الناس أنكم إخوتى، وأنى من حفدة إبراهيم {اذْهَبُوا بِقَمِيصِي} هذا قيل هو القميص المتوارث الذي كان في تعويذ يوسف وكان من الجنة، أَمره جبريل عليه السلام أن يرسله إليه فإنّ فيه ريح الجنة، لا يقع على مبتلى ولا سقيم إلا عوفي يَأْتِ بَصِيرًا يصر بصيرًا، كقولك: جاء البناء محكما، بمعنى صار. ويشهد له {فَارْتَدَّ بَصِيرًا} أو يأت إلىّ وهو بصير. وينصره قوله: {وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ} أي يأتنى أبى، ويأتنى آله جميعًا وقيل: يهوذا هو الحامل، قال: أنا أحزنته بحمل القميص ملطوخًا بالدم إليه، فأفرّحه كما أحزنته. وقيل: حمله وهو حاف حاسر من مصر إلى كنعان، وبينهما مسيرة ثمانين فرسخًا.

.[سورة يوسف: الآيات 94- 96]

{وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ (94) قالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ (95) فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (96)}
{فَصَلَتِ الْعِيرُ} خرجت من عريش مصر. يقال: فصل من البلد فصولا، إذا انفصل منه وجاوز حيطانه. وقرأ ابن عباس: {فلما انفصل العير} {قالَ} لولد ولده ومن حوله من قومه: {إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ} أوجده اللّه ريح القميص حين أقبل من مسيرة ثمان. والتفنيد: النسبة إلى الفند، وهو الخرف وإنكار العقل من هرم. يقال: شيخ مفند، ولا يقال عجوز مفندة، لأنها لم تكن في شبيبتها ذات رأى فتفند في كبرها. والمعنى: لولا تفنيدكم إياى لصدقتمونى {لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ} لفي ذهابك عن الصواب قدما في إفراط محبتك ليوسف، ولهجك بذكره، ورجائك للقائه، وكان عندهم أنه قد مات {أَلْقاهُ} طرح البشير القميص على وجه يعقوب.
أو ألقاه يعقوب {فَارْتَدَّ بَصِيرًا} فرجع بصيرًا. يقال: ردّه فارتد، وارتده إذا ارتجعه {أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ} يعنى قوله: {إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ} أو قوله: {وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ} وقوله: {إِنِّي أَعْلَمُ} كلام مبتدأ لم يقع عليه القول، ولك أن توقعه عليه وتربد قوله: {إنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ}.
ورى: أنه سأل البشير كيف يوسف؟ فقال: هو ملك مصر: فقال: ما أصنع بالملك؟ على أن دين تركته؟ قال: على دين الإسلام. قال: الآن تمت النعمة.

.[سورة يوسف: الآيات 97- 98]

{قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ (97) قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (98)}
{سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ} قيل: أخر الاستغفار إلى وقت السحر. وقيل: إلى ليلة الجمعة ليتعمد به وقت الإجابة. وقيل: ليتعرّف حالهم في صدق التوبة وإخلاصها. وقيل: أراد الدوام على الاستغفار لهم. فقد روى أنه كان يستغفر لهم كل ليلة جمعة في نيف وعشرين سنة. وقيل: قام إلى الصلاة في وقت السحر، فلما فرغ رفع يديه وقال: اللهمّ اغفر لي جزعي على يوسف وقلة صبري عنه، واغفر لولدي ما أتوا إلى أخيهم، فأوحى إليه: إنّ اللّه قد غفر لك ولهم أجمعين.
وروى أنهم قالوا له وقد علتهم الكآبة: ما يغنى عنا عفو كما إن لم يعف عنا ربنا، فإن لم يوح إليك بالعفو فلا قرّت لنا عين أبدًا، فاستقبل الشيخ القبلة قائما يدعو، وقام يوسف خلفه يؤمّن، وقاموا خلفهما أذلة خاشعين عشرين سنة حتى بلغ جهدهم وظنوا أنها الهلكة نزل جبريل عليه السلام فقال: إن اللّه قد أجاب دعوتك في ولدك، وعقد مواثيقهم بعدك على النبوّة، وقد اختلف في استنبائهم.

.[سورة يوسف: الآيات 99- 100]

{فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ (99) وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100)}
{فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ} قيل وجه يوسف إلى أبيه جهازًا ومائتي راحلة ليتجهز إليه بمن معه. وخرج يوسف والملك في أربعة آلاف من الجند والعظماء وأهل مصر بأجمعهم، فتلقوا يعقوب وهو يمشى يتوكأ على يهوذا، فنظر إلى الخيل والناس فقال: يا يهوذا، أهذا فرعون مصر؟ قال لا، هذا ولدك، فلما لقيه قال يعقوب عليه السلام: السلام عليك يا مذهب الأحزان.
وقيل إن يوسف قال له لما التقيا: يا أبت، بكيت علىّ حتى ذهب بصرك، ألم تعلم أن القيامة تجمعنا؟ فقال: بلى، ولكن خشيت أن تسلب دينك فيحال بيني وبينك، وقيل: إنّ يعقوب وولده دخلوا مصر وهم اثنان وسبعون، ما بين رجل وامرأة، وخرجوا منها مع موسى ومقاتلتهم ستمائة ألف وخمسمائة وبضعة وسبعون رجلا سوى الذرية والهرمى، وكانت الذرّية ألف ألف ومائتي ألف آوى {إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ} ضمهما إليه واعتنقهما. قال ابن أبي إسحاق: كانت أمّه تحيى، وقيل: هما أبوه وخالته. ماتت أمّه فتزوّجها وجعلها أحد الأبوين، لأنّ الرابة تدعى أمًّا، لقيامها مقام الأمّ، أو لأنّ الخالة أمّ كما أنّ العم أب. ومنه قوله: {وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ} فإن قلت: ما معنى دخولهم عليه قبل دخولهم مصر؟ قلت: كأنه حين استقبلهم نزل لهم في مضرب أو بيت ثم، فدخلوا عليه وضمّ إليه أبويه، ثم قال لهم: {ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} ولما دخل مصر وجلس في مجلسه مستويا على سريره واجتمعوا إليه، أكرم أبويه فرفعهما على السرير {وَخَرُّوا لَهُ} يعنى الإخوة الأحد عشر والأبوين {سُجَّدًا} ويجوز أن يكون قد خرج في قبة من قباب الملوك التي تحمل على البغال، فأمر أن يرفع إليه أبواه، فدخلا عليه القبة. فآواهما إليه بالضم والاعتناق وقرّبهما منه، وقال بعد ذلك: ادخلوا مصر. فإن قلت: بم تعلقت المشيئة؟ قلت: بالدخول مكيفًا بالأمن، لأن القصد إلى اتصافهم بالأمن في دخولهم، فكأنه قيل لهم: اسلموا وأمنوا في دخولكم إن شاء اللّه. ونظيره قولك للغازى: ارجع سالما غانما إن شاء اللّه. فلا تعلق المشيئة بالرجوع مطلقا، ولكن مقيدًا بالسلامة والغنيمة، مكيفا بهما. والتقدير: ادخلوا مصر آمنين إن شاء اللّه دخلتم آمنين، ثم حذف الجزاء لدلالة الكلام عليه، ثم اعترض بالجملة الجزائية بين الحال وذى الحال. ومن بدع التفاسير أن قوله: {إِنْ شاءَ اللَّهُ} من باب التقديم والتأخير، وأن موضعها ما بعد قوله: {سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي} في كلام يعقوب، وما أدرى ما أقول فيه وفي نظائره. فإن قلت: كيف جاز لهم أن يسجدوا لغير اللّه؟ قلت: كانت السجدة عندهم جارية مجرى التحية والتكرمة، كالقيام، والمصافحة وتقبيل اليد ونحوها مما جرت عليه عادة الناس، من أفعال شهرت في التعظيم والتوقير. وقيل: ما كانت إلا انحناء دون تعفير الجباه، وخرورهم سجدًا يأباه. وقيل: معناه وخرّوا لأجل يوسف سجدًا للّه شكرًا. وهذا أيضا فيه نبوة. يقال: أحسن إليه وبه، وكذلك أساء إليه وبه. قال:
أَسِيئِى بِنَا أَوْ أَحْسِنِى لَا مَلُومَةً

{مِنَ الْبَدْوِ} من البادية، لأنهم كانوا أهل عمد وأصحاب مواش ينتقلون في المياه والمناجع {نَزَغَ} أفسد بيننا وأغرى، وأصله من نخس الرائض الدابة وحمله على الجري. يقال، نزغه ونسغه، إذا نخسه {لَطِيفٌ لِما يَشاءُ} لطيف التدبير لأجله، رفيق حتى يجيء على وجه الحكمة والصواب. وروى أن يوسف أخذ بيد يعقوب فطاف به في خزائنه، فأدخله خزائن الورق والذهب، وخزائن الحلىّ، وخزائن الثياب، وخزائن السلاح وغير ذلك، فلما أدخله خزانة القراطيس قال: يا بنىّ، ما أعقك: عندك هذه القراطيس وما كتبت إلىّ على ثمان مراحل؟
قال: أمرنى جبريل. قال أو ما تسأله؟ قال: أنت أبسط إليه منى فسله. قال جبريل عليه السلام: اللّه تعالى أمرنى بذلك لقولك {وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ} قال: فهلا خفتنى؟ وروى أن يعقوب أقام معه أربعا وعشرين سنة ثم مات. وأوصى أن يدفنه بالشام إلى جنب أبيه إسحاق. فمضى بنفسه ودفنه ثمة، ثم عاد إلى مصر، وعاش بعد أبيه ثلاثا وعشرين سنة، فلما تم أمره وعلم أنه لا يدوم له، طلبت نفسه الملك الدائم الخالد، فتاقت نفسه إليه فتمنى الموت. وقيل: ما تمناه نبىّ قبله ولا بعده، فتوفاه اللّه طيبا طاهرًا، فتخاصم أهل مصر وتشاحوا في دفنه: كل يحب أن يدفن في محلتهم حتى هموا بالقتال، فرأوا من الرأى أن عملوا له صندوقا من مر مر وجعلوه فيه، ودفنوه في النيل بمكان يمرّ عليه الماء ثم يصل إلى مصر ليكونوا كلهم فيه شرعا واحدًا، وولد له: إفراثيم وميشا، وولد لإفراثيم نون، ولنون يوشع فتى موسى، ولقد توارثت الفراعنة من العماليق بعده مصر، ولم يزل بنو إسرائيل تحت أيديهم على بقايا دين يوسف وآبائه. إلى أن بعث اللّه موسى صلى اللّه عليه وسلم.