فصل: التفسير المأثور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فأما المؤمنون الموصولة قلوبهم بالله، الندية أرواحهم بروْحه، الشاعرون بنفحاته المحيية الرخية، فإنهم لا ييأسون من روْح الله ولو أحاط بهم الكرب، واشتد بهم الضيق. وإن المؤمن لفي روح من ظلال إيمانه، وفي أنس من صلته بربه، وفي طمأنينة من ثقته بمولاه، وهو في مضايق ومخانق الكروب..
ويدخل إخوة يوسف مصر للمرة الثالثة، وقد أضرت بهم المجاعة، ونفدت منهم النقود، وجاءوا ببضاعة رديئة هي الباقية لديهم يشترون بها الزاد.. يدخلون وفي حديثهم انكسار لم يعهد في أحاديثهم من قبل، وشكوى من المجاعة تدل على ما فعلت بهم الأيام: {فلما دخلوا عليه قالوا يا أيها العزيز مسنا وأهلنا الضر وجئنا ببضاعة مُزجاة فأوف لنا الكيل وتصدّق علينا إن الله يجزي المتصدقين}..
وعندما يبلغ الأمر بهم إلى هذا الحد من الاسترحام والضيق والانكسار لا تبقى في نفس يوسف قدرة على المضي في تمثيل دور العزيز، والتخفي عنهم بحقيقة شخصيته. فقد انتهت الدروس، وحان وقت المفاجأة الكبرى التي لا تخطر لهم على بال؛ فإذا هو يترفق في الإفضاء بالحقيقة إليهم، فيعود بهم إلى الماضي البعيد الذي يعرفونه وحدهم، ولم يطلع عليه أحد إلا الله: {قال هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون}!!
ورن في آذانهم صوت لعلهم يذكرون شيئًا من نبراته. ولاحت لهم ملامح وجه لعلهم لم يلتفتوا إليها وهم يرونه في سمت عزيز مصر وأبهته وشياته. والتمع في نفوسهم خاطر من بعيد: {قالوا أَئنك لأنت يوسف}..
أئنك لأنت؟! فالآن تدرك قلوبهم وجوارحهم وآذانهم ظلال يوسف الصغير في ذلك الرجل الكبير..
{قال أنا يوسف وهذا أخي قد من الله علينا إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين}..
مفاجأة! مفاجأة عجيبة. يعلنها لهم يوسف ويذكرهم في إجمال بما فعلوه بيوسف وأخيه في دفعة الجهالة.. ولا يزيد.. سوى أن يذكر منة الله عليه وعلى أخيه، معللًا هذه المنة بالتقوى والصبر وعدل الله في الجزاء.
أما هم فتتمثل لعيونهم وقلوبهم صورة ما فعلوا بيوسف، ويجللهم الخزي والخجل وهم يواجهونه محسنًا إليهم وقد أساءوا.
حليمًا بهم وقد جهلوا. كريمًا معهم وقد وقفوا منه موقفًا غير كريم: {قالوا تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين}.. اعتراف بالخطيئة، وإقرار بالذنب، وتقرير لما يرونه من إيثار الله له عليهم بالمكانة والحلم والتقوى والإحسان. يقابله يوسف بالصفح والعفو وإنهاء الموقف المخجل. شيمة الرجل الكريم. وينجح يوسف في الابتلاء بالنعمة كما نجح من قبل في الابتلاء بالشدة. إنه كان من المحسنين.
{قال لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين}..
لا مؤاخذة لكم ولا تأنيب اليوم. فقد انتهى الأمر من نفسي ولم تعد له جذور. والله يتولاكم بالمغفرة وهو أرحم الراحمين.. ثم يحول الحديث إلى شأن آخر. شأن أبيه الذي ابيضت عيناه من الحزن. فهو معجل إلى تبشيره. معجل إلى لقائه. معجل إلى كشف ما علق بقلبه من حزن، وما ألم بجسمه من ضنى، وما أصاب بصره من كلال: {اذهبوا بقميصي هذا فألقوه على وجه أبي يأت بصيرًا وأتوني بأهلكم أجمعين}..
كيف عرف يوسف أن رائحته سترد على أبيه بصره الكليل؟ ذلك مما علمه الله. والمفاجأة تصنع في كثير من الحالات فعل الخارقة.. وما لها لا تكون خارقة ويوسف نبي رسول ويعقوب نبي رسول؟
ومنذ اللحظة نحن أمام مفاجأة في القصة بعد مفاجأة، حتى تنتهي مشاهدها المثيرة بتأويل رؤيا الصبي الصغير.
{ولما فصلت العير قال أبوهم إني لأجد ريح يوسف لولا أن تفندون}..
ريح يوسف! كل شيء إلا هذا. فما يخطر على بال أحد أن يوسف بعد في الأحياء بعد هذا الأمد الطويل. وأن له ريحًا يشمها هذا الشيخ الكليل!
إني لأجد ريح يوسف. لولا أن تقولوا شيخ خرف: {لولا أن تفندون}.. لصدقتم معي ما أجده من ريح الغائب البعيد.
كيف وجد يعقوب ريح يوسف منذ أن فصلت العير. ومن أين فصلت؟ يقول بعض المفسرين: إنها منذ فصلت من مصر، وأنه شم رائحة القميص من هذا المدى البعيد. ولكن هذا لا دلالة عليه. فربما كان المقصود لما فصلت العير عند مفارق الطرق في أرض كنعان، واتجهت إلى محلة يعقوب على مدى محدود.
ونحن بهذا لا ننكر أن خارقة من الخوارق يمكن أن تقع لنبي كيعقوب من ناحية نبي كيوسف. كل ما هنالك أننا نحب أن نقف عند حدود مدلول النص القرآني أو رواية ذات سند صحيح. وفي هذا لم ترد رواية ذات سند صحيح. ودلالة النص لا تعطي هذا المدى الذي يريده المفسرون!
ولكن المحيطين بيعقوب لم يكن لهم ما له عند ربه، فلم يجدوا ما وجد من رائحة يوسف: {قالوا تالله إنك لفي ضلالك القديم}..
في ضلالك بيوسف، وضلالك بانتظاره وقد ذهب مذهب الذي لا يعود.
ولكن المفاجأة البعيدة تقع، وتتبعها مفاجأة أخرى: {فلما أن جاء البشير ألقاه على وجهه فارتد بصيرًا}..
مفاجأة القميص. وهو دليل على يوسف وقرب لقياه. ومفاجأة ارتداد البصر بعد ما ابيضت عيناه.. وهنا يذكر يعقوب حقيقة ما يعلمه من ربه. تلك التي حدثهم بها من قبل فلم يفهموه: {قال ألم أقل لكم إني أعلم من الله ما لا تعلمون}..
{قالوا يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا إنا كنا خاطئين}..
ونلمح هنا أن في قلب يعقوب شيئًا من بنيه، وأنه لم يصف لهم بعد، وإن كان يعدهم باستغفار الله لهم بعد أن يصفو ويسكن ويستريح: {قال سوف أستغفر لكم ربي إنه هو الغفور الرحيم}.
وحكاية عبارته بكلمة: {سوف} لا تخلو من إشارة إلى قلب إنساني مكلوم.
ويمضي السياق في مفاجات القصة. فيطوي الزمان والمكان، لنلتقي في المشهد النهائي المؤثر المثير: {فلما دخلوا على يوسف آوى إليه أبويه وقال ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين ورفع أبويه على العرش وخروا له سجدًا وقال يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقًا وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن وجاء بكم من البدو من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي إن ربي لطيف لما يشاء إنه هو العليم الحكيم}..
ويا له من مشهد! بعد كر الأعوام وانقضاء الأيام. وبعد اليأس والقنوط. وبعد الألم والضيق. وبعد الامتحان والابتلاء. وبعد الشوق المضني والحزن الكامد واللهف الظامئ الشديد.
يا له من مشهد ختامي بالانفعال والخفقات والفرح والدموع!
ويا له من مشهد ختامي موصول بمطلع القصة: ذلك في ضمير الغيب وهذا في واقع الحياة. ويوسف بين هذا كله يذكر الله ولا ينساه: {فلما دخلوا على يوسف آوى إليه أبويه وقال ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين}.. ويذكر رؤياه ويرى تأويلها بين يديه في سجود إخوته له وقد رفع أبويه على السرير الذي يجلس عليه كما رأى الأحد عشر كوكبًا والشمس والقمر له ساجدين: {ورفع أبويه على العرش وخروا له سجدًا وقال يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقًا}.. ثم يذكر نعمة الله عليه: {وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن وجاء بكم من البدو من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي}.. ويذكر لطف الله في تدبيره لتحقيق مشيئته: {إن ربي لطيف لما يشاء}..
يحقق مشيئته بلطف ودقة خفية لا يحسها الناس ولا يشعرون بها: {إنه هو العليم الحكيم}..
ذات التعبير الذي قاله يعقوب وهو يقص عليه رؤياه في مطلع القصة: {إن ربك عليم حكيم}.. ليتوافق البدء والختام حتى في العبارات.
وقبل أن يسدل الستار على المشهد الأخير المثير، نشهد يوسف ينزع نفسه من اللقاء والعناق والفرحة والابتهاج والجاه والسلطان، والرغد والأمان.. ليتجه إلى ربه في تسبيح الشاكر الذاكر! كل دعوته وهو في أبهة السلطان، وفي فرحة تحقيق الأحلام أن يتوفاه ربه مسلمًا وأن يلحقه بالصالحين: {رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث فاطر السماوات والأرض أنت وليي في الدنيا والآخرة توفني مسلمًا وألحقني بالصالحين}..
{رب قد آتيتني من الملك}..
آتيتني منه سلطانه ومكانه وجاهه وماله. فذلك من نعمة الدنيا.
{وعلمتني من تأويل الأحاديث}..
بإدراك مآلاتها وتعبير رؤاها. فذلك من نعمة العلم.
نعمتك يا ربي أذكرها وأعددها..
{فاطرَ السماوات والأرض}..
بكلمتك خلقتها وبيدك أمرها، ولك القدرة عليها وعلى أهلها..
{أنت وليي في الدنيا والآخرة}..
فأنت الناصر والمعين.
رب تلك نعمتك. وهذه قدرتك.
رب إني لا أسألك سلطانًا ولا صحة ولا مالًا. رب إني أسألك ما هو أبقى وأغنى: {توفني مسلمًا وألحقني بالصالحين}.
وهكذا يتوارى الجاه والسلطان، وتتوارى فرحة اللقاء واجتماع الأهل ولمة الإخوان. ويبدو المشهد الأخير مشهد عبد فرد يبتهل إلى ربه أن يحفظ له إسلامه حتى يتوفاه إليه، وأن يلحقه بالصالحين بين يديه.
إنه النجاح المطلق في الامتحان الأخير. اهـ.

.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{رَبِّ قَدْ آَتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101)}
أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ، عن الأعمش رضي الله عنه قال: لما قال يوسف عليه السلام: {رب قد آتيتني من الملك....} إلى قوله: {توفني مسلمًا وألحقني بالصالحين} شكر الله له ذلك، فزاد في عمره ثمانين عامًا.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ من طريق ابن جريج، عن ابن عباس- رضي الله عنهما- في الآية قال: اشتاق إلى لقاء الله، وأحب أن يلحق به وبآبائه، فدعا الله أن يتوفاه وأن يلحقه بهم. قال ابن عباس- رضي الله عنهما- ولم يسأل نبي قط الموت غير يوسف عليه السلام، فقال: {رب قد آتيتني من الملك...} الآية. قال ابن جريج رضي الله عنه وأنا أقول: في بعض القرآن من الأنبياء من قال توفني.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس- رضي الله عنهما- قال: ما سأل نبي الوفاة غير يوسف.
وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن الضحاك رضي الله عنه في قوله: {توفني مسلمًا وألحقني بالصالحين} يقول: توفني على طاعتك، واغفر لي إذا توفيتني.
وأخرج أبو الشيخ عن الضحاك رضي الله عنه في قوله: {وألحقني بالصالحين} قال: يعني إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب.
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم، عن عكرمة رضي الله عنه في قوله: {توفني مسلمًا وألحقني بالصالحين} قال: يعني أهل الجنة.
وأخرج ابن أبي حاتم عن وهب بن منبه رضي الله عنه قال: لما أوتي يوسف عليه السلام من الملك ما أوتي، تاقت نفسه إلى آبائه قال: {رب قد آتيتني من الملك...} إلى قوله: {وألحقني بالصالحين} قال: بآبائه إبراهيم وإسحق ويعقوب.
وأخرج أحمد في الزهد وابن جرير وابن أبي حاتم، عن قتادة قال: لما قدم على يوسف أبوه واخوته وجمع الله شمله وأقر عينيه- وهو يومئذ مغموس في نعيم من الدنيا- اشتاق إلى آبائه الصالحين: إبراهيم وإسحق ويعقوب، فسأل الله القبض، ولم يتمن الموت أحد قط، نبي ولا غيره إلا يوسف.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن سعيد بن عبد العزيز رضي الله عنه أن يوسف عليه السلام، لما حضرته الوفاة قال: يا اخوتاه، إني لم انتصر من أحد ظلمني في الدنيا، وإني كنت أحب أن أظهر الحسنة وأخفي السيئة، فذلك زادي من الدنيا. يا اخوتاه، إني أشركت آبائي في أعمالهم، فأشركوني معهم في قبورهم، وأخذ عليهم الميثاق، فلم يفعلوا حتى بعث الله موسى عليه السلام، فسأل عن قبره، فلم يجد أحدًا يخبره إلا امرأة يقال لها شارخ بنت شيرا بن يعقوب، فقالت: أدلك عليه على أن أشترط عليه.
قال ذاك لك، قالت: أصير شابة كلما كبرت. قال: ذاك لك. قالت: وأكون معك في درجتك يوم القيامة. فكأنه امتنع، فأمر أن يمضي لها ذلك ففعل، فدلته عليه فأخرجه، فكانت كلما كانت بنت خمسين سنة، صارت مثل ابنة ثلاثين سنة. حتى عمرت عمر نسرين ألف وستمائة سنة، أو ألف وأربعمائة سنة، حتى أدركها سليمان بن داود عليه السلام فتزوجها.
وأخرج ابن إسحق وابن أبي حاتم، عن عروة بن الزبير رضي الله عنه قال: إن الله حين أمر موسى عليه السلام بالسير ببني إسرائيل، أمره أن يحتمل معه عظام يوسف عليه السلام، وأن لا يخلفها بأرض مصر، وأن يسير بها معه حتى يضعها بالأرض المقدسة، فسأل موسى عليه السلام عمن يعرف موضع قبره، فما وجد إلا عجوزًا من بني إسرائيل، فقالت: يا نبي الله، إني أعرف مكانه، إن أنت أخرجتني معك ولم تخلفني بأرض مصر، دللتك عليه. قال: أفعل. وقد كان موسى وعد بني إسرائيل أن يسير بهم إذا طلع الفجر، فدعا ربه أن يؤخر طلوعه حتى يفرغ من أمر يوسف، ففعل. فخرجت به العجوز حتى أرته إياه في ناحية من النيل في الماء، فاستخرجه موسى عليه السلام صندوقًا من مرمر فاحتمله. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال السمين:
{رَبِّ قَدْ آَتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}
وقرأ عبد اللَّه: {آتَيْتَنِ} و: {عَلَّمْتَنِ} بغير ياءٍ فيهما، وحكى ابن عطية: أنَّ أبا ذر قرأ: {أتيتني} بغير ألفٍ بعد الهمزة و: {مِنْ} في: {مِن المُلْك} وفي: {مِنْ تأويل} للتبعيض، والمفعولُ محذوفٌ، أي: عظيمًا من الملك فهي صفة لذلك المحذوفِ وقيل: زائدة. وقيل: لبيان الجنس، وهذان بعيدان. و: {فاطر} يجوز أن يكونَ نعتًا لربّ، ويجوز أنْ يكون بدلًا أو بيانًا أو منصوبًا بإضمار أَعْني أو نداءً ثانيًا. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
قوله جلّ ذكره: {رَبِّ قَدْ ءَاتَيْتَنِى مِنَ المُلْكِ وَعَلَّمْتَنِى مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ}.
في حرف تبعيض؛ لأن المُلك- بالكمال- لله وحده.
ويقال المُلْكُ الذي أشار إليه قسمان: مُلْكُه في الظاهر من حيث الولاية، ومُلْكٌ على نفسه حتى لم يعمل ما همَّ به الزَّلَّة.
ويقال ليس كلُّ مُلْكِ المخلوقين الاستيلاَءَ على الخْلق، إنما المُلْكُ- على الحقيقة- صفاءُ الخُلُق.
قوله: {وَعَلَّمْتَنِى مِن تَأْويِلِ الأَحَادِيثِ}: التأويل للخواص، وتفسير التنزيل للعوام. قوله جلّ ذكره: {فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنتَ وَلِّىِ في الدُّنْيَا وَالآَخِرَةِ تَوَفَّنِى مُسْلِمًا وَأَلْحَقْنِى بِالصَّالِحِينَ}.
{فَاطرَ السَّمَاواتِ وَالأَرْضِ}- هذا ثناء، وقوله: {تَوَفَّنِى}- هذا دعاء.
فَقَدَّمَ الثناء على الدعاء، كذلك صفة أهل الولاء.
ثم قال: {أَنتَ وَلِىِّ في الدنيا والأخرة} هذا إقرارٌ بِقَطْع الأسرار عن الأغيار.
ويقال معناه: الذي يتولَّى في الدنيا والآخرة بعرفانه أنتَ، فليس لي غيرك في الدارين.
قوله: {تَوَفَّنِى مُسْلِمًا}: قيل عَلِمَ أنه ليس بعد الكمال إلا الزوال فَسأَلَ الوفاة.
وقيل من أمارات الاشتياق تمنِّي الموت على بساط العوافي مثل يوسف عليه السلام أُلقِيَ في الجُبِّ فلم يقل توفني مسلمًا، وأقيم فيمن يزيد فلم يقل توفني مسلمًا، وحُبِسَ في السجن سنين فلم يقل توفني مسلمًا، ثم لماتمَّ له المُلْكُ، واستقام الأمر، ولَقِيَ الإخوةَ سُجَّدًا، وأَلْفَى أبويه معه على العرش قال: {تَوَفَّنِى مُسْلِمًا} فعُلِمَ أنه كان يشتاق للقائه سبحانه.
وسمعت الأستاذ أبا علي الدقاق- رحمه الله يقول. قال يوسف ليعقوب: عَلِمْتَ أنَّا نلتقي فيما بعد الموت.. فلِمَ بَكيْتَ كلَّ هذا البكاء؟
فقال يعقوب، يا بُنَيّ إنَّ هناك طرُقًا، خِفْتُ أن أسلكَ طريقًا وأنت تسلك طريقًا، فقال يوسف عند ذلك: {تَوَفَّنِى مُسْلِمًا}.
ويقال إن يوسف عليه السلام لما قال: توفني مسلمًا، فلا يبعد من حال يعقوب أن لو قال: يا بني دَعْني أشتفي بلقائك من الذي مُنِيتُ به في طول فراقك، فلا تُسْمِعْني- بهذه السرعة- قولَكَ: توفَّنِي مسلمًا. اهـ.

.قال التستري:

قوله تعالى: {تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بالصالحين} [101] قال سهل: فيه ثلاثة أشياء، سؤال ضرورة وإظهار فقر واختيار فرض، ومعناه: أمتني وأنا مسلم إليك أمري، مفوض إليك شأني، لا يكون لي إلى نفسي رجوع بحال ولا تدبير بسبب من الأسباب. اهـ.