فصل: من لطائف وفوائد المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



أو: أن المقصود هنا بالأجل هو للتعبير عن عملها اليومي.
وقد عرفنا أن هناك مطالع متعددة للشمس، وعلى الرغم من أن المشرق له جهة عامة واحدة؛ لكن المطالع مختلفة، بدليل أن قدماء المصريين أقاموا في بعض المعابد طاقاتٍ وفتحاتٍ في البناء.
فتطلع الشمس كُلَّ يوم من أحد هذه الطاقات؛ فكل يوم توجد لها منزلة مختلفة عن اليوم السابق، وتظل تقطعها، ثم تعود مرة أخرى، وتفعل ذلك إلى أجل مُسمّى أي يوميًا.
ونُسمِّي نحن تلك المنازل البروج كبرج الحَمَل؛ والجَدي؛ والثور؛ والأسد؛ والسنبلة؛ والقوس؛ والحوت؛ ونحن نرصد هذه الأبراج كوسيلة لمعرفة أحوال الطقس من حرارة، وبرودة، ومطر، وغير ذلك، ذلك أن كُلَّ برج له زمن، ويمكن تعريف أحوال الجو خلال هذا الزمن بدقة.
ولكن بعضًا من تصرفات الإنسان تفسد عملية التحديد الدقيق في الكون، مثلما يشعل البعض الحرائق في الغابات؛ فتحرق النار الأكسوجين الذي يحتاجه البشر والحيوانات للتنفس، ويحاول الغلاف الجوي أن يتوازن، فيشُدّ كميات من الهواء من منطقة أخرى، فيختلّ ميزان الطقس لأيام.
وكذلك يفسد الجو من التجارب الذرية التي تُجريها الدول أعضاء النادي الذري؛ تلك التجارب التي تقوم بتفريغ الهواء، فتجعل الطقس غَيْرَ مُسْتقر وغير منضبط؛ وهذا ما يفسد استخدامنا للأبراج كوسيلة لمعرفة تقلُّبات الطقس.
وقد أوجز الشاعر تلك الأبراج في قوله:
حَملَ الثورُ جَوْزةَ السَّرطَانِ ** ورعى الليث سنبل الميزان

عَقْرب القَوْس جَدْي دَلْو وحُوت ** مَا عَرفْنَا مِنْ أُمةِ السُّرْيَانِ

ويتابع الحق سبحانه في نفس الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها: {... يُدَبِّرُ الأمر يُفَصِّلُ الآيات لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ} [الرعد: 2]
وسبحانه قد أوضح من أول الآية مسألة رَفْع السماوات بغير عَمَدٍ، واستوائه على العرش، وتسخير الشمس والقمر، وكيف يجري كُلُّ شيء لأجل مُسمّى.
وكُلُّ ذلك يتطلب تدبيرًا للأمر بعد أن أبرز القدرة؛ ثم يصون ذلك كله، فكما قَدَّر فخلق، فهو يُدبِّر بقيوميته، فهو القائم على كل شيء، وسبحانه كل يوم هو في شَأْن.
وأقول هذا المثل لأوضح لا لأُشبِّه فسبحانه مُنَزَّه عن التشبيه ونحن نقول: فلان فكَّر أولًا ثم دبَّر، والتفكير هو العملية التي تبحث فيها عن الشيء لإخراج المطلوب منه؛ كأن تأتي بقليل من حبوب القمح لتفركه بيدك لتخرج القمحة من قشرته.
هذا هو التفكير الذي يطلب منك أن تبحث وتُنقِّب إلى أن تصل إلى لُبِّ الأشياء.
والتدبُّر يقتضي ألاَّ تقتنع بما هداك إليه فكرك في نفس اللحظة، ولكن أن تُمحِّص الأمر لترى ماذا سينتج عن تنفيذ ما وصل إليه فكرك؟
فربما ما فكرتَ فيه يُسعِفك ويُعينك في لحظتِكَ الحالية؛ لكنه سيأتي لك بعَطَبٍ بعد قليل.
والمَثَلُ الذي أضربه على مثل هذه الحالة دائمًا هو اختراع المُبيدات الحشرية؛ ولم يَفْطِنوا إلى أن هذه المبيدات لا تقتل الحشرات الضارة وحدها، بل تُسمِّم الطيور التي كانت تفيد الفلاح.
ووصل الأمر إلى حَدِّ تحريم استخدام هذه المبيدات؛ وجاء هذا التحريم ممن تفاخروا من قَبْل على كل شعوب الأرض باختراعهم لتلك المبيدات، فقد فَطِنوا إلى أنَّ ما جاءهم من خَير عن طريق تلك المبيدات هو أقلُّ بكثير من الضُّرِّ الذي وقع بسببها.
وهذا يعني أنهم لم يتدبروا اختراعهم لتلك المبيدات؛ فقاموا بتصنيعها لفائدة عاجلة، دون أن يتلفتوا إلى الخطورة الآجلة، وكان لابُدَّ لهم أن يتدبروا الأمر، لأن التدبُّر معناه النظر في دُبُر الأشياء.
والحق سبحانه هو القائل: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القرآن أَمْ على قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: 24]
أي: لا تنظر إلى واجهة الآية فقط، بل انظر في أعماقها، ولذلك يقول لنا سيدنا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: ثَوِّروا القرآن.
أي: استخرجوا منه الكنوز بالتدبُّر؛ لأن التدبر يحمي من حماقة التفكير، والمثل البسيط المتكرر في بيوتنا هو أننا نغسل أفواهنا بعد تناول الطعام ونتمضمض مِمَّا بَقِي في الفم من بقايا.
ونجد من بين هذه البقايا بعضًا من الفتافيت الصلبة بعض الشيء، ثم نغسل حوض المياه بتيار متدفق من ماء الصنبور، ونُفَاجأ بعد فترة من الزمن بانسداد ماسورة الصرف الخاصة بالحوض؛ وحين يفتح السباك ماسورة الصرف هذه يجدها مليئة برواسب من بقايا الأطعمة.
وأنت حين تمضمضتَ لم تلتفت إلا لنظافة الفَمِ من البقايا، ولم تتدبر أمر تلك البقايا، ولو أنك تدبرتَ ذلك لَقُمْتَ بتركيب ماسورة صرف للحوض أكبر من الماسورة التقليدية الضيقة؛ ولَجعلْتَ صندوق الطرد الخاص بالحوض أكبر من الحجم المعتاد والمُجهَّز لصرف المياه فقط.
وهكذا نرى أن الفكر يحثُّك على أن تبحث عن مطلوب لك؛ ولكن عليك أن تنظر وتُدقِّق: هل يحقق لك ما يقترحه عليك فكرك؛ ما يفيدك أم ما يضرك؟
هذا هو التدبُّر، وهو ما نُسمِّيه صيانة الأشياء.
ويتابع الحق سبحانه في نفس الآية: {... يُفَصِّلُ الآيات لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ} [الرعد: 2]
وتفصيل الآيات يعني أنه جعل لكل أمر حُكْمًا مناسبًا له. ودائمًا أقول لمن يسألني عن فتوى؛ ويُلِحّ أن تتوافق الفتوى مع مراده: نحن لا نُفصِّل الفتوى من أجل هواك؛ لأن ما عندي هي فتاوى جاهزة؛ وعليك أن تضبط مقاسك أنت على الفتوى، لا أن نُفصِّل لك الفتوى على هواك.
أقول ذلك؛ لأن المسألة ليست حياة تنتهي إلى العَدَم، ولكن هناك حياة أخرى تُحاسب فيها على كل تصرُّف، فالحق سبحانه هو القائل: {وَقَدِمْنَا إلى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُورًا} [الفرقان: 23]
وهو القائل سبحانه أيضًا جَلَّ وعلا: {كَرَمَادٍ اشتدت بِهِ الريح فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ على شَيْءٍ...} [إبراهيم: 18]
ولذلك فعليك أن تُقبِل على كل عمل وأنت مُوقِن بأن هذا العمل لا ينتهي بتركك للحياة الدنيا، ولكن لكل عمل آثاره في حياة باقية، وإذا كانت الدنيا تحمل لك راحة موقوتة أو تعبًا موقوتًا، فالراحة في الآخرة باقية أبدًا؛ والتعب فيها غير مَوْقوت. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.قال في ملاك التأويل:

قوله تعالى: {المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ} [الرعد: 1]، هنا سؤالان: أحدهما، أن السور الخمس المكتنفة لهذه افتتحت بقوله تعالى: {آلرَ} وخصت سورة الرعد وهي سادستها بزيادة الميم فقيل {آلمر}، وللسائل أن يسأل عن ذلك؟ والسؤال الثاني قوله تعالى: {وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ} [الرعد: 1]، وعطف هذه الجملة على ما قبلها يقتضي أن المعطوف مغاير لما عطف عليه وإلا لزم منه عطف الشيء على نفسه؟
والجواب عن الأول، والله أعلم: وإن كان مفهومًا مما تقدم فلهذا الوارد هنا ما يخصه وهو أن السورتين المكتنفتين لهذه السورة وهما سورة يوسف وسورة إبراهيم لم يرد فيهما من الكلم المجتمع في تركيبها الألف واللام والميم والراء ما ورد في سورة الرعد، أما سورة يوسف ففيها من ذلك كلمة: {الأمر} في قوله تعالى: {قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ} [يوسف: 41]، ولفظ: {المجرمين} في قوله تعالى: {وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} [يوسف: 110]، وأما سورة إبراهيم ففيها قوله تعالى: {لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ} [إبراهيم: 22]، وقوله: {مِنَ الثَّمَرَاتِ} [إبراهيم: 32]، وقوله: {وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} [إبراهيم: 33]، وقوله: {عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ} [إبراهيم: 37]، وقوله: {وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ} [إبراهيم: 49]، فهذه خمس كلمات. وأما سورة الرعد فقد ورد فيها من ذلك قوله تعالى: {وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} [الرعد: 2]، وقوله: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ} [الرعد: 2]، وقوله: {مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} [الرعد: 3]، وقوله: {وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ} [الرعد: 8]، وقوله: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ} [الرعد: 30]، وقوله: {فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا} [الرعد: 42]، فهذه ست كلمات من هذا التركيب لم ترد في مكتنفيها، فلزيادة ما ورد فيها من هذا التركيب ورد في مطلعها ما ورد من زيادة الميم، والله أعلم.
والجواب عن السؤال الثاني: بعد تمهيد، وهو أنا إن قلنا: إن المراد بالمعطوف الكتاب بجملته، والكتاب بجملته هو المنزل، كان من عطف الشيء على نفسه، وإن قلنا: إن المراد بالكتاب التوراة والإنجيل أو أحد الكتابين ففي هذا من البعد ما لا خفاء به، إذ لم نتعبد من هذه الكتب إلا بالإيمان، فإنزالها ووجودها على الجملة على ما تقرر في شريعتنا، فكيف تقع الإحالة في الاعتبار عليهما ولم نؤمر باعتبارهما في حكم ولا أمر ولا نهي، وإن قلنا إن المراد بآيات الكتاب آيات السورة، وبالكتاب السورة، وبالذي أنزل إليك سائر القرآن، كما قال الزمخشري كان أقرب، وفيه نحو تحريم على المقصود من غير إفصاح مخلص، فأقول ونسأل الله توفيقه: إن الدلائل الاعتبارية على تفاصيلها منحصرة في منهجين بهما حصول التوحيد وإثبات الرسالة، وعلى مضمن تفاصيلها منحصرة في منهجين بهما حصول التوحيد وإثبات الرسالة، وعلى مضمن تفاصيلها دارت الآي الاعتبارية والتذكير في كتاب الله تعالى: أحدهما، ما يدرك بالحواس، وإطالة التفكير في الموجودات وارتباطها، ولحظ الابتداءات والانتهاءات، وتقلب الأكوان، واختلاف الألسنة والألوان، وحركات الأفلاك وكواكبها الثابتة والسيارة، واختلاف حركاتها في السرعة والبطء، وخنوس الخمسة منها ومطارح شعاعها، ومقادير الأزمان، وتقلب النهار والليل بالطول والقصر، وإيلاج الليل في النهار والنهار في الليل، وتعاقب الفصول بالحر والبرد، وتسخير الرياح، وما في ذلك كله من عليّ الإحكام وجليل الإتقان، إلى ما يرجع إلى ذلك مما تستقل به العقول وتجزم بدلالته، والمنهج الثاني: ما يرجع الاعتبار به إلى المأثور من أحوال الأمم والقرون المتقدمة، ودعاء الرسل إياهم وما كان من أخذ تكذيبهم حين تمردوا وعتوا، فكر أخذ بذنبه، ونجاة المؤمنين من كل أمة. فعلى هذين المنهجين دارت آي الكتاب العزيز المنطوية على تذكير العباد وتحريكهم للاعتبار، فمن الأولى قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة: 21] إلى قوله: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 22]، وقوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} إلى قوله: {لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [البقرة: 164]، وقوله: {إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الجاثية: 3]، وقوله تعالى: {وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ وَفِي أَنْفُسِكُمْ} [الذاريات: 20-21]، إلى ما يجاري هذه الآي مما يشير إلى دلائل الآفاق ودلائل الأنفس وما يرجع إلى ذلك من دلائل التوحيد والتذكير به، فالربع الأول من القرآن أكثر، ثم يليه في ذلك الربع الثاني، كما يكثر التذكير في الثاني بما ورد في المنهج الثاني، وإنما ذلك-والله أعلم- لأن الضرب الأول معقول ومستنده ضروري لأن مباديه حسية وبه اعتبر من انتهى إلى علم من الأوائل ممن كان في الفترات، فمنهم المصيب والمخطيء، وهو معتبر منصوب للعالم من لدن وجودهم إلى قيام الساعة، لا يضطر فيه إلى نقل ناقل ولا الاعتبار به من حيث الدلائل يتنزل النظر في آيات الرسل وما جاؤوا به متحدين، وتعرف الخارق للعادة من غيره، فلهذا-والله أعلم- تقرر هذا الضرب مبدوءًا به في الترتيب الثابت عليه المصحف وأتبع بالضرب الآخر على مقتضى الاعتبار، فمن عرف الجائز والمستحيل أمكنة الاعتراف بالبدأة والعودة، وإرسال الرسل، والثواب والعقاب، فيحصل العقل الجواز ويحصل التصديق بوقوع هذا الجائز من أخبار الرسل بالنظر في معجزاتهم، فبدئ بالضرب الأول بمقتضى الترتيب كما بينا، ولم يقع في الربع الأول من القرآن بسط اعتبار بالضرب الثاني بالإخباري، إنما أمعن بذكره في الربع الثاني وبسط الأخبار عن القرون المهلكة والأمم السالفة مع أنبيائهم وما أعقبهم التكذيب وأخذ كل قرن من المكذبين بما أخذ به، ولم ينقطع التنبيه والتحريك مع ذلك بما في الضرب الأول وما يرجع إليه.
ثم قد تجد السورة الواحدة مجرد لهذا الضرب كسورة الرعد، وللضرب الثاني كسورة الأعراف وسورة يوسف، عليه السلام، وقد تجمع السورة الضربين على السواء أو ما يقاربه كما في سورة الحجر، وأما سورة البقرة فقد تضمنت من كل من الضربين ما فيه شفاء على إجمال فيما أشير إليه من الضرب الثاني، إذ هذا الضرب إنما استوفى تفصيله في الربع الثاني.
ثم إن الضرب الأول وهو الذي يدرك بالعيان من آيات اللوح المحفوظ المتضمن لكل من الضربين، قال تعالى: {كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [هود: 6]، وإذا قلنا إن الإشارة إلأى اللوح إنما يريد ما يستدل به ويعتبر مما نصب تعالى من الآيات الدالة على عجائب من مضمناته، إذ لولا نصب تلك الدلائل ووضوح الاعتبار بها لما أطلعنا عليه، وبلغ بحسب ما قدر الوصول إليه من مضمنه، إذ هو محتو على كل شيء، قال تعالى: {وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [النمل: 75]، وتتباين أحوال المعتبرين، فعلى هذا يفهم المراد من قولنا: إن الإشارة بقوله: {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ} إلى اللوح المحفوظ، وهو مراد من قال بذلك في سورة البقرة من المفسرين وسورة النمل، ومن قال به أيضًا في سورة الرعد وهو الظاهر فيها، وقوله: {وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ} [الرعد: 1]، إشارة إلى الضرب الثاني وهو ما طريق تعرفه الخبر الصادق وذلك أخبار الأمم مع أنبيائهم على ما تقدم وما نبينه بعد، وهذا الضرب موصل أيضًا إلى المقصود، إلا أنه لا يوصل إليه إلا من جهة الخبر وإن كان من مضمن ما في اللوح المحفوظ، وإذا وضح هذا التفصيل لم يبق إشكال في فهم ما تقدم من أن الإشارة بقوله: {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ} إلى غير ما أشير مما عطف عليه من قوله: {وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ} وقوله في الحجر: {وَقُرْآنٍ مُبِينٍ} [الحجر: 1]، وكذلك الوارد في النمل وإن خالف في التقديم والتأخير لقوله فيها: {تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ} [النمل: 1]، فقدم هذا الإشارة إلى الضرب المؤخر في السورتين قبل، ويشهد لهذا ويوضحه رعي التقابل المناسب في هذه السور وبناء النظم وبيانه على ذلك، ألا ترى أن سورة الرعد لم تنطو من الضرب الثاني على قصة واحدة، وإنما دارت آيها الاعتبارية على ما به الاعتبار من الضرب الأول خاصة، وسنعود إلى بيان ذلك بإيراد آيها، وإنما لم يذكر فيها شيء من الضرب الثاني لأن بناء السورة إنما هو على الضرب الأول، ولهذا لم يشترك المعطوفان في اسم الإشارة إلا أن قوله تعالى: {وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ} [الرعد: 1] جملة مستقلة، وقد وقع الموصول فيها وهو الذي مبتدأ خبره الحق، وما بينها صلة، والجملة معطوفة على الجملة قبلها، وكل واحدة منهما مستقلةن ولا تسلط لاسم الإشارة على الجملة الثانية.