فصل: قال الجصاص:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



واعلم أن الجواب عن هذا السؤال من وجهين: الأول: أن نقول هب أنكم أسندتم حوادث العالم السفلي إلى الأحوال الفلكية والاتصالات الكوكبية إلا أنا أقمنا الدليل القاطع على أن اختصاص كل واحد من الأجرام الفلكية وطبعه ووضعه وخاصيته لابد أن يكون بتخصيص المقدر القديم والمدبر الحكيم، فقد سقط هذا السؤال وهذا الجواب قد قرره الله تعالى في هذا المقام، لأنه تعالى ابتدأ بذكر الدلائل السماوية وقد بينا أنها كيف تدل على وجود الصانع.
ثم إنه تعالى أتبعها بالدلائل الأرضية.
فإن قال قائل: لم لا يجوز أن تكون هذه الحوادث الأرضية لأجل الأحوال الفلكية، كان جوابنا أن نقول فهب أن الأمر كذلك إلا أنا دللنا فيما تقدم على افتقار الأجرام الفلكية إلى الصانع الحكيم فحينئذ لا يكون هذا السؤال قادحًا في غرضنا.
والوجه الثاني: من الجواب أن نقيم الدلالة على أنه لا يجوز أن يكون حدوث الحوادث السفلية لأجل الاتصالات الفلكية، وذلك هو المذكور في الآية التي تأتي بعد هذه الآية، ومن تأمل في هذه اللطائف ووقف عليها علم أن هذا الكتاب اشتمل على علوم الأولين والآخرين.
{وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ} في الآية مسائل:
المسألة الأولى:
اعلم أن المقصود من هذه الآية إقامة الدلالة على أنه لا يجوز أن يكون حدوث الحوادث في هذا العالم لأجل الاتصالات الفلكية، والحركات الكوكبية، وتقريره من وجهين، الأول: أنه حصل في الأرض قطع مختلفة بالطبيعة والماهية وهي مع ذلك متجاورة، فبعضها تكون سبخية، وبعضها تكون رخوة، وبعضها تكون صلبة، وبعضها تكون منبتة، وبعضها تكون حجرية أو رملية وبعضها يكون طينًا لزجًا، ثم إنها متجاورة وتأثير الشمس وسائر الكواكب في تلك القطع على السوية فدل هذا على أن اختلافها في صفاتها بتقدير العليم القدير.
والثاني: أن القطعة الواحدة من الأرض تسقى بماء واحد فيكون تأثير الشمس فيها متساويًا، ثم إن تلك الثمار تجيء مختلفة في الطعم واللون والطبيعة والخاصية حتى أنك قد تأخذ عنقودًا من العنب فيكون جميع حباته حلوة نضيجة إلا حبة واحدة فإنها بقيت حامضة يابسة، ونحن نعلم بالضرورة أن نسبة الطباع والأفلاك للكل على السوية، بل نقول: هاهنا ما هو أعجب منه، وهو أنه يوجد في بعض أنواع الورد ما يكون أحد وجهيه في غاية الحمرة، والوجه الثاني في غاية السواد مع أن ذلك الورد يكون في غاية الرقة والنعومة فيستحيل أن يقال: وصل تأثير الشمس إلى أحد طرفيه دون الثاني، وهذا يدل دلالة قطعية على أن الكل بتدبير الفاعل المختار، لا بسبب الاتصالات الفلكية وهو المراد من قوله سبحانه وتعالى: {يسقى بِمَاء واحد وَنُفَضّلُ بَعْضَهَا على بَعْضٍ في الأكل} فهذا تمام الكلام في تقرير هذه الحجة وتفسيرها وبيانها.
واعلم أن بذكر هذا الجواب قد تمت الحجة فإن هذه الحوادث السفلية لابد لها من مؤثر وبينا أن ذلك المؤثر ليس هو الكواكب والأفلاك والطبائع فعند هذا يجب القطع بأنه لابد من فاعل آخر سوى هذه الأشياء، وعندها يتم الدليل، ولا يبقى بعده للفكر مقام ألبتة، فلهذا السبب قال ههنا: {إِنَّ في ذلك لآيات لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} لأنه لا دافع لهذه الحجة إلا أن يقال: إن هذه الحوادث السفلية حدثت لا لمؤثر ألبتة وذلك يقدح في كمال العقل، لأن العلم بافتقار الحادث إلى المحدث لما كان علمًا ضروريًا كان عدم حصول هذا العلم قادحًا في كمال العقل فلهذا قال: {إِنَّ في ذلك لآيات لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} وقال في الآية المتقدمة: {إِنَّ في ذلك لآيات لّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الرعد: 3] فهذه اللطائف نفيسة من أسرار علم القرآن ونسأل الله العظيم أن يجعل الوقوف عليها سببًا للفوز بالرحمة والغفران.
المسألة الثانية:
قوله: {وَفِى الأرض قِطَعٌ متجاورات} قال أبو بكر الأصم: أرض قريبة من أرض أخرى واحدة طيبة، وأخرى سبخة، وأخرى حرة، وأخرى رملة، وأخرى تكون حصباء، وأخرى تكون حمراء، وأخرى تكون سوداء.
وبالجملة فاختلاف بقاع الأرض في الارتفاع والانخفاض والطباع والخاصية أمر معلوم، وفي بعض المصاحف {قطعًا متجاورات} والتقدير: وجعل فيها رواسي وجعل في الأرض قطعًا متجاورات.
وأما قوله: {وجنات مّنْ أعناب وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ} فنقول: الجنة البستان الذي يحصل فيه النخل والكرم والزرع وتحفه تلك الأشجار والدليل عليه قوله تعالى: {جَعَلْنَا لأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أعناب وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا} [الكهف: 32] قرأ ابن كثير وأبو عمرو وحفص عن عاصم: {وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صنوان وَغَيْرُ صنوان} كلها بالرفع عطفًا على قوله: {وجنات} والباقون بالجر عطفًا على الأعناب.
وقرأ حفص عن عاصم في رواية القواس: {صنوان} بضم الصاد والباقون بكسر الصاد وهما لغتان، والصنوان جمع صنو مثل قنوان وقنو ويجمع على أصناء مثل اسم وأسماء.
فإذا كثرت فهو الصني، والصني بكسر الصاد وفتحها، والصنو أن يكون الأصل واحدًا وتنبت فيه النخلتان والثلاثة فأكثر فكل واحدة صنو.
وذكر ثعلب عن ابن الأعرابي: الصنو المثل، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: «ألا إن عم الرجل صنو أبيه» أي مثله.
إذا عرفت هذا فنقول: إذا فسرنا الصنو بالتفسير الأول كان المعنى: أن النخيل منها ما ينبت من أصل واحد شجرتان وأكثر ومنها ما لا يكون كذلك، وإذا فسرناه بالتفسير الثاني كان المعنى: أن أشجار النخيل قد تكون متماثلة متشابهة، وقد لا تكون كذلك.
ثم قال تعالى: {تَسْقِى بِمَاء واحد} قرأ عاصم وابن عامر {يسقى} بالياء على تقدير يسقى كله أو لتغليب المذكر على المؤنث، والباقون بالتاء لقوله: {جنات} قال أبو عمرو: ومما يشهد للتأنيث قوله تعالى: {وَنُفَضّلُ بَعْضَهَا على بَعْضٍ في الأكل} قرأ حمزة والكسائي {يفضل} بالياء عطفًا على قوله: {يُدَبّرُ} [الرعد: 2] و: {يفضل} [الرعد: 2]، و: {يغشي} [الرعد: 3]، والباقون بالنون على تقدير: ونحن نفضل، و: {في الأكل} قولان: حكاهما الواحدي حكي عن الزجاج أن الأكل الثمر الذي يؤكل، وحكى عن غيره أن الأكل المهيأ للأكل، وأقول هذا أولى لقوله تعالى في صفة الجنة: {أُكُلُهَا دَائِمٌ} [الرعد: 35] وهو عام في جميع المطعومات وابن كثير ونافع يقرآن الأكل ساكنة الكاف في جميع القرآن، والباقون بضم الكاف، وهما لغتان. اهـ.

.قال الجصاص:

قَوْله تَعَالَى: {وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ}
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَالضَّحَّاكُ: الْأَرْضُ السَّبَخَةُ وَالْأَرْضُ الْعَذْبَةُ.
{وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: النَّخَلَاتُ أَصْلُهَا وَاحِدٌ.
قَوْله تَعَالَى: {يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ} فِيهِ أَوْضَحُ دَلَالَةٍ عَلَى بُطْلَانِ مَذْهَبِ أَصْحَابِ الطَّبَائِعِ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ حُدُوثُ مَا يَحْدُثُ مِنْ الثِّمَارِ بِطَبْعِ الْأَرْضِ وَالْهَوَاءِ وَالْمَاءِ لَوَجَبَ أَنْ يَتَّفِقَ مَا يَحْدُثُ مِنْ ذَلِكَ لِاتِّفَاقِ مَا يُوجِبُ حُدُوثَهُ؛ إذْ كَانَتْ الطَّبِيعَةُ الْوَاحِدَةُ تُوجِبُ عِنْدَهُمْ اتِّفَاقَ مَا يَحْدُثُ مِنْهَا وَلَا يَجُوزُ أَنْ تُوجِبَ فِعْلَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ مُتَضَادَّيْنِ، فَلَوْ كَانَ حُدُوثُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الْمُخْتَلِفَةِ الْأَلْوَانِ وَالطُّعُومِ وَالْأَرَايِيحِ وَالْأَشْكَالِ مِنْ إيجَابِ الطَّبِيعَةِ لَاسْتَحَالَ اخْتِلَافُهَا وَتَضَادُّهَا مَعَ اتِّفَاقِ الْمُوجِبِ لَهَا، فَثَبَتَ أَنَّ الْمُحْدِثَ لَهَا قَادِرٌ مُخْتَارٌ حَكِيمٌ قَدْ أَحْدَثَهَا عَلَى اخْتِلَافِهَا عَلَى عِلْمٍ مِنْهُ بِهَا وَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى. اهـ.

.قال الماوردي:

قوله عز وجل: {وهو الذي مَدّ الأرض} أي بسطها للاستقرار عليها، ردًا على من زعم أنها مستديرة كالكرة.
{وجعل فيها رواسي} أي جبالًا، واحدها راسية، لأن الأرض ترسو بها، أي تثبت.
قال جميل:
أُحبُّهُ والذي أرسى قواعده ** حُبًّا إذا ظهرت آياتُه بطنا

قال عطاء: أول جبل وضع على الأرض أبو قبيس.
{وأنهارًا} وفيها من منافع الخلق شرب الحيوان ونبات الأرض ومغيض الأمطار ومسالك الفلك.
{ومِنْ كُلِّ الثمرات جعل فيها زوجين اثنين} أحد الزوجين ذكر وأنثى كفحول النخل وإناثها، كذلك كل النبات وإن خفي. والزوج الآخر حلو وحامض، أو عذب ومالح، أو أبيض وأسود، أو أحمر وأصفر، فإن كل جنس من الثمار ذو نوعين، فصار كل ثمر ذي نوعين زوجين، وهي أربعة أنواع.
{يغشي الليل النهار} معناه يغشي ظلمةَ الليل ضوءَ النهار، ويغشي ضوء النهار ظلمة الليل.
قوله عز وجل: {وفي الأرض قطعٌ متجاورات} فيه وجهان:
أحدهما: أن المتجاورات المدن وما كان عامرًا، وغير المتجاورات الصحارى وما كان غير عامر.
الثاني: أي متجاورات في المدى، مختلفات في التفاضل. وفيه وجهان:
أحدهما: أن يتصل ما يكون نباته مرًا.
الثاني: أن تتصل المعذبة التي تنبت بالسبخة التي لا تنبت، قاله ابن عباس.
{وجنات من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان} فيه أربعة أوجه:
أحدها: أن الصنوان المجتمع، وغير الصنوان المفترق، قاله ابن جرير. قال الشاعر:
العلم والحلم خُلّتا كرَمٍ ** للمرءِ زين إذا هما اجتمعا

صنوانٍ لا يستتم حسنها ** إلا بجمع ذا وذاك معا

الثاني: أن الصنوان النخلات يكون أصلها واحدًا، وغير صنوان أن تكون أصولها شتى، قاله ابن عباس والبراء بن عازب.
الثالث: أن الصنوان الأشكال، وغير الصنوان المختلف، قاله بعض المتأخرين.
الرابع: أن الصنوان الفسيل يقطع من أمهاته، وهو معروف، وغير الصنوان ما ينبت من النوى، وهو غير معروف حتى يعرف، وأصل النخل الغريب من هذا، قاله علي بن عيسى.
{يسقى بماءٍ واحدٍ ونُفَضّلُ بعْضَها على بعضٍ في الأكل} فبعضه حلو، وبعضه حامض، وبعضه أصفر، وبعضه أحمر، وبعضه قليل، وبعضه كثير.
{إن في ذلك لآياتٍ لقومٍ يعقلون} فيه وجهان:
أحدهما: أن في اختلاف ذلك اعتبار يدل ذوي العقول على عظيم القدرة، وهو معنى قول الضحاك.
الثاني: أنه مثل ضربه الله تعالى لبني آدم، أصلهم واحد وهم مختلفون في الخير والشر والإيمان والكفر كاختلاف الثمار التي تسقى بماء واحد، قاله الحسن. اهـ.

.قال ابن عطية:

{وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ}
لما فرغت الآيات من ذكر السماوات ذكرت آيات الأرض.
وقوله: {مد الأرض} يقتضي أنها بسيطة لا كرة- وهذا هو ظاهر الشريعة وقد تترتب لفظة المد والبسط مع التكوير والله أعلم. والرواسي الجبال الثابتة، يقال: رسا يرسو، إذا ثبت، ومنه قول الشاعر: الطويل:
به خالدات ما يرمن وهامد ** وأشعث أرسته الوليدة بالفهر

والزوج- في هذه الآية- الصنف والنوع، وليس بالزوج المعروف بالمتلازمين الفردين من الحيوان وغيره، ومنه قوله تعالى: {سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون} [يس: 36] ومثل هذه الآية: {والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج} [ق: 7].
وهذه الآية تقتضي أن كل ثمرة فموجود منها نوعان، فإن اتفق أن يوجد في ثمرة أكثر من نوعين فغير ضار في معنى الآية.
وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وحفص عن عاصم {يغْشي} بسكون الغين وتخفيف الشين، وقرأ حمزة والكسائي وعاصم- في رواية أبي بكر- بفتح الغين وتشديد الشين، وكفى ذكر الواحد ذكر الآخر، وباقي الآية بين.
قال القاضي أبو محمد: ويشبه أن الأزواج التي يراد بها الأنواع والأصناف والأجناس إنما سميت بذلك من حيث هي اثنان، اثنان، ويقال: إن في كل ثمرة ذكر وأنثى، وأشار إلى ذلك الفراء عند المهدوي، وحكى عنه غيره ما يقتضي أن المعنى تم في قوله: {الثمرات} ثم ابتدأ أنه جعل في الأرض من كل ذكر وأنثى زوجين.
وقوله تعالى: {وفي الأرض قطع...} الآية، القطع: جمع قطعة وهي الأجزاء، وقيد منها في هذا المثال ما جاور وقرب بعضه من بعض، لأن اختلاف ذلك في الأكل أغرب.
وقرأ الجمهور {وجناتٌ} بالرفع، عطفًا على: {قطع}، وقرأ الحسن بن أبي الحسن {وجناتٍ} بالنصب بإضمار فعل، وقيل: هو عطف على: {رواسي}، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحفص- عن عاصم- {وزرعٌ ونخيلٌ صنوانٌ وغيرُ} بالرفع في الكل- عطفًا على: {قطع}- وقرأ الباقون: {وزرعٍ} بالخفض في الكل- عطفًا على: {أعناب} وجعل الجنة من الأعناب من رفع الزرع.