فصل: قال ابن الجوزي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والجنة حقيقة إنما هي الأرض التي فيها الأعناب وفي ذلك تجوز ومنه قول الشاعر زهير بن أبي سلمى: البسيط:
كأن عيني في غربي مقتلة ** من النواضح تسقي جنة سحقا

أي نخيل جنة، إذ لا توصف بالسحق إلا النخل، ومن خفض الزرع ف {الجنات} من مجموع ذلك لا من الزرع وحده، لأنه لا يقال للمزرعة جنة إلا إذا خالطتها شجرات.
و{صنوان} جمع صنو، وهو الفرع يكون مع الآخر في أصل واحد، وربما كان أكثر من فرعين، قال البراء بن عازب: الصنوان: المجتمع، وغير الصنوان المتفرق فردًا فردًا، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «العم صنو الأب» وروي أن عمر بن الخطاب أسرع إليه العباس في ملاحاة فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أردت يا رسول الله أن أقول يا رسول الله لعباس، فذكرت مكانك منه فسكت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يرحمك الله يا عمر العم صنو الأب» وفي كتاب الزكاة من صحيح مسلم أنه قال: «يا عمر أما شعرت أن العم صنو الأب» وجمع الصنو صنوان، وهو جمع مكسر، قال أبو علي: وكسرة الصاد في الواحد ليست التي في الجمع، وهو جار مجرى فلك. وتقول: صنو وصنوان في الجمع بتنوين النون وإعرابه.
وقرأ عاصم- في رواية القواس عن حفص- {صُنوان} بضم الصاد قال أبو علي: هو مثل ذئب وذؤبان.
قال القاضي أبو محمد: وهي قراءة ابن مصرف وأبي عبد الرحمن السلمي، وهي لغة تميم وقيس، وكسر الصاد هي لغة أهل الحجاز، وقرأ الحسن وقتادة {صَنوان} بفتح الصاد وهو اسم جمع لا جمع ونظير هذه الللفظة: قنو وقنوان، وإنما نص على الصنوان في هذه الآية لأنها بمثابة التجاوز في القطع، تظهر فيه غرابة اختلاف الأكل.
وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وحمزة والكسائي والحسن وأبو جعفر وأهل مكة: {تسقى} بالتاء، وأمال حمزة والكسائي القاف. وقرأ عاصم وابن عامر {يسقى} بالياء، على معنى يسقى ما ذكر. وقرأ الجمهور {نفضل} بالنون وقرأ حمزة والكسائي {ويفضل} بالياء، وقرأ ابن محيصن: {يسقى بماء واحد ويفضل} بالياء فيهما، وقرأ يحيى بن يعمر وأبو حيوة {ويفضَّل} بالياء وفتح الضاد {بعضُها} بالرفع، قال أبو حاتم: وجدته كذلك في نقط يحيى بن يعمر في مصحفه- وهو أول من نقط المصاحف.
و{الأكل} اسم ما يؤكل، بضم الهمزة، والأكل المصدر.
وقرأت فرقة {في الأُكُل} بضم الهمزة والكاف، وقد تقدم هذا في البقرة وحكى الطبري عن غير واحد- ابن عباس وغيره-: {قطع متجاورات} أي واحدة سبخة، وأخرى عذبة، ونحو هذا من القول، وقال قتادة المعنى: قرى متجاورات.
قال القاضي أبو محمد: وهذا وجه من العبرة كأنه قال: وفي الأرض قطع مختلفات بتخصيص الله لها بمعانٍ فهي تسقى بماء واحد، ولكن تختلف فيما تخرجه والذي يظهر من وصفه لها بالتجاور إنما هو أنها من تربة واحدة ونوع واحد، وموضع العبرة في هذا أبين لأنها مع اتفاقها في التربة والماء، تفضل القدرة والإرادة بعض أكلها على بعض، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم- حين سئل عن هذه الآية- فقال: «الدقل والفارسي والحلو والحامض» وعلى المعنى الأول قال الحسن: هذا مثل ضربه الله لقلوب بني آدم: كانت الأرض في يد الرحمن طينة واحدة فسطحها فصارت قطعًا متجاورة فينزل عليها ماء واحد من السماء- فتخرج هذه زهرة وثمرة، وتخرج هذه سبخة وملحًا وخبثًا، فكذلك الناس: خلقوا من آدم فنزلت عليهم من السماء تذكرة-فرقت قلوب وخشعت، وقست قلوب ولهت وجفت: قال الحسن: فوالله ما جالس أحد القرآن إلا قام عنه بزيادة أو نقصان، قال الله تعالى: {وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارًا} [الإسراء: 82].
والتفضيل في الأكل الأذواق والألوان والملمس وغير ذلك. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {وهو الذي مَدَّ الأرض}
قال ابن عباس: بسطها على الماء.
قوله تعالى: {وجعل فيها رواسي} قال الزجاج: أي جبالًا ثَوابِت، يقال: رسا الشيء يرسوا رُسُوًّا، فهو راسٍ: إِذا ثبت.
و{جعل فيها زوجين اثنين} أي: نوعين.
والزوج: الواحد الذي له قرين من جنسه.
قال المفسرون: ويعني بالزوجين: الحلو والحامض، والعذب والملح، والأبيض والأسود.
قوله تعالى: {يغشي الليل النهار} قد شرحناه في [الأعراف: 45].
قوله تعالى: {وفي الأرض قِطَعٌ متجاورات}
فيها قولان:
أحدهما: أنها الأرض السَّبِخة، والأرض العذبة، تنبت هذه، وهذه إِلى جنبها لا تنبت، هذا قول ابن عباس، وأبي العالية، ومجاهد، والضحاك.
والثاني: أنها القرى المتجاورات، قاله قتادة، وابن قتيبة، وهو يرجع إِلى معنى الأول.
قوله تعالى: {وزرع ونخيل} قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وحفص عن عاصم: {وزرعٌ ونخيلٌ صنوانٌ وغيرُ صنوانٍ} رفعًا في الكُلِّ.
وقرأ نافع، وابن عامر، وحمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم: {وزرعٍ ونخيلٍ صنوانٍ وغيرِ صنوانٍ} خفضًا في الكُلِّ.
قال أبو علي: من رفع، فالمعنى: وفي الأرض قطع متجاورات وجنَّات، وفي الأرض زرع، ومن خفض حمله على الأعناب، فالمعنى: جنَّاتٌ من أعناب، ومن زرع، ومن نخيل.
قوله تعالى: {صنوان وغير صنوان} هذا من صفة النخيل.
قال الزجاج: الصنوان: جمع صِنْوٍ وصُنْوٍ، ومعناه: أن يكون الأصل واحدًا وفيه النخلتان والثلاثُ والأربع.
وكذلك قال المفسرون: الصنوان: النخل المجتمع وأصله واحد، وغير صنوان: المتفرِّق.
وقرأ أبو رزين، وأبو عبد الرحمن السُّلَمي، وابن جبير، وقتادة: {صُنوانٌ} بضم الصاد.
قال الفراء: لغة أهل الحجاز {صِنوانٍ} بكسر الصاد، وتميم وقيس يضمون الصاد.
قوله تعالى: {تسقى بماء واحد} قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو {تسقى} بالتاء، {ونفضِّل} بالنون، وقرأ حمزة، والكسائي {تسقى} بالتاء أيضًا، لكنهما أمالا القاف.
وقرأ الحسن {ويفضِّل} بالياء.
وقرأ عاصم، وابن عامر {يُسقى} بالياء، {ونفضِّل} بالنون، وكلُّهم كسر الضاد.
وروى الحلبي عن عبد الوارث ضمَّ الياء من {يُفضَّل} وفتح الضاد، {بعضُها} برفع الضاد.
وقال الفراء: من قرأ {تُسقى} بالتاء ذهب إِلى تأنيث الزرع، والجنَّات، والنخيل، ومن كسر ذهب إِلى النبت، وذلك كلُّه يُسقى بماءٍ واحد، وأُكْلُه مختلف حامِض وحُلو، ففي هذا آية.
قال المفسرون: الماء الواحد: ماء المطر، والأُكُل: الثمر، بعضه أكبر من بعض، وبعضه أفضل من بعض، وبعضه حامض وبعضه حلو، إِلى غير ذلك، وفي هذا دليل على بطلان قول الطبائعيين، لأنه لو كان حدوث الثمر على طبع الأرض والهواء، والماء، وجب أن يتفق ما يحدث لاتفاق ما أوجب الحدوث، فلما وقع الاختلاف، دلَّ على مدبِّرٍ قادر،: {إِن في ذلك لآياتٍ لقوم يعقلون} أنه لا تجوز العبادة إِلا لمن يقدر على هذا. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {وَهُوَ الذي مَدَّ الأرض}
لمّا بيّن آيات السّموات بيّن آيات الأرض؛ أي بسط الأرض طولًا وعرضًا.
{وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ} أي جبالًا ثوابت؛ واحدها راسية؛ لأن الأرض ترسو بها، أي تثبت؛ والإرساء الثّبوت؛ قال عَنْتَرَة:
فَصَبَرْتُ عَارِفَةً لذلك حُرَّةً ** تَرْسُو إذا نَفْسُ الجَبَانِ تَطَلَّعُ

وقال جميل:
أُحِبُّها والذي أَرْسَى قواعِدَهُ ** حُبًّا إذا ظَهَرَت آياتُه بَطَنَا

وقال ابن عباس وعطاء: أوّل جبل وُضع على الأرض أبو قُبَيس.
مسألة:
في هذه الآية ردّ على من زعم أن الأرض كالكرة، وردّ على من زعم أن الأرض تهوِي أبوابها عليها؛ وزعم ابن الرَّاوندي أن تحت الأرض جسمًا صَعَّادًا كالرِّيح الصعَّادة؛ وهي منحدرة فاعتدل الهاوي والصعادي في الجِرْم والقوّة فتوافقا.
وزعم آخرون أن الأرض مركبة من جسمين، أحدهما منحدر، والآخر مصعد، فاعتدلا، فلذلك وقفت.
والذي عليه المسلمون وأهل الكتاب القول بوقوف الأرض وسكونها ومدّها، وأن حركتها إنما تكون في العادة بزلزلة تصيبها.
وقوله تعالى: {وَأَنْهَارًا} أي مياهًا جارية في الأرض، فيها منافع الخلق.
{وَمِن كُلِّ الثمرات جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثنين} بمعنى صنفين.
قال أبو عبيدة: الزوج واحد، ويكون اثنين.
الفراء: يعني بالزوجين هاهنا الذكر والأنثى؛ وهذا خلاف النص.
وقيل: معنى {زَوْجَيْنٍ} نوعان، كالحُلْو والحامض، والرطب واليابس، والأبيض والأسود، والصغير والكبير.
{إِنَّ فِي ذلك لآيَاتٍ} أي دلالات وعلامات: {لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}.
{وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ} فيه خمس مسائل:
الأولى:
قوله تعالى: {وَفِي الأرض قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ} في الكلام حذف؛ المعنى: وفي الأرض قِطع متجاورات وغير متجاورات؛ كما قال: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر} [النحل: 81] والمعنى وتقيكم البَرْد، ثم حذف لعلم السامع.
والمتجاورات المدن وما كان عامرًا، وغير متجاورات الصحارى وما كان غير عامر.
الثانية:
قوله تعالى: {مُتَجَاوِرَاتٌ} أي قُرًى متدانيات، ترابها واحد، وماؤها واحد، وفيها زروع وجنات، ثم تتفاوت في الثّمار والتَّمر؛ فيكون البعض حُلْوًا، والبعض حامضًا؛ والغصن الواحد من الشجرة قد يختلف الثّمر فيه من الصغر والكبر واللون والمطعم، وإن انبسط الشمس والقمر على الجميع على نسق واحد؛ وفي هذا أدلّ دليل على وحدانيته وعِظم صمدِيته، والإرشاد لمن ضلّ عن معرفته؛ فإنه نَبَّهَ سبحانه بقوله: {يسقى بِمَاءٍ وَاحِدٍ} على أن ذلك كله ليس إلا بمشيئته وإرادته، وأنه مقدور بقدرته؛ وهذا أدلّ دليل على بطلان القول بالطبع؛ إذ لو كان ذلك بالماء والتراب والفاعل له الطبيعة لما وقع الاختلاف.
وقيل: وجه الاحتجاج أنه أثبت التفاوت بين البِقاع؛ فمِن تربة عذبة، ومن تربة سبِخة مع تجاورهما؛ وهذا أيضًا من دلالات كمال قدرته؛ جلّ وعزّ تعالى عما يقول الظالمون والجاحدون عُلُوًّا كبيرًا.
الثالثة:
ذهبت الكفرة لعنهم الله إلى أن كل حادث يحدث بنفسه لا من صانع؛ وادّعوا ذلك في الثمار الخارجة من الأشجار، وقد أقرّوا بحدوثها، وأنكروا محدثها، وأنكروا الأعراض.
وقالت فرقة: بحدوث الثمار لا من صانع، وأثبتوا للأعراض فاعلًا؛ والدليل على أن الحادث لابد له من مُحدِث أنه يَحدُث في وقت، ويَحدُث ما هو من جنسه في وقت آخر؛ فلو كان حدوثه في وقته لاختصاصه به لوجب أن يَحدُث في وقته كل ما هو من جنسه؛ وإذا بطل اختصاصه بوقته صح أن اختصاصه به لأجل مُخصِّص خَصَّصه به، ولولا تخصيصه إياه به لم يكن حدوثه في وقته أولى من حدوثه قبل ذلك أو بعده؛ واستيفاء هذا في علم الكلام.
الرابعة:
قوله تعالى: {وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ} قرأ الحسن {وَجَنَّاتٍ} بكسر التاء، على التقدير: وجعل فيها جنات، فهو محمول على قوله: {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ}.
ويجوز أن تكون مجرورة على الحمل على {كل} التقدير: ومن كل الثمرات، ومن جنات.
الباقون: {جَنَّاتٌ} بالرفع على تقدير: وبينهما جنات.
{وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ} بالرفع.
ابن كثير وأبو عمرو وحفص عطفًا على الجنات؛ أي على تقدير: وفي الأرض زرع ونخيل.