فصل: قال ابن عطية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عطية:

{وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ}
هذه آية توبيخ للكفرة أي {وإن تعجب} يا محمد من جهالتهم وإعراضهم عن الحق- فهم أهل لذلك، وعجب وغريب ومزر بهم {قولهم}: أنعود بعد كوننا {ترابًا}- خلقًا جديدًا- ويحتمل اللفظ منزعًا آخر أي وإن كنت تريد عجبًا فلهم، فإن من أعجب العجب {قولهم}.
واختلف القراء في قراءة قوله: {أئذا كنا ترابًا} فقرأ ابن كثير وأبو عمرو: {أئذا كنا ترابًا أئنا لفي خلق جديد} جميعًا بالاستفهام، غير أن أبا عمرو يمد الهمزة ثم يأتي بالياء ساكنة، وابن كثير يأتي بياء ساكنة بعد الهمزة من غير مد. وقرأ نافع {أئذا كنا} مثل أبي عمرو، واختلف عنه في المد، وقرأ {إنا لفي خلق جديد} مكسورة على الخبر، ووافقه الكسائي في اكتفائه بالاستفهام الأول عن الثاني، غير أنه كان يهمز همزتين، وقرأ عاصم وحمزة {أئذا كنا ترابًا أئنا} بهمزتين فيهما. وقرأ ابن عامر {إذا كنا} مكسورة الألف من غير استفهام {ءائنا} يهمز ثم يمد ثم يهمز، فمن قرأ بالاستفهامين فذلك للتأكيد والتحفي والاهتبال بهذا التقدير، ومن استفهم في الأول فقط فإنما القصد بالاستفهام الموضع الثاني، وإذا ظرف له، وإذا في موضع نصب بفعل مضمر، تقديره: انبعث أو نحشر إذا. ومن استفهم في الثاني فقط فهو بين،- ولا حول ولا قوة إلا بالله-.
والإشارة ب: {أولئك} إلى القوم القائلين: {أئذا كنا ترابًا} وتلك المقالة إنما هي تقرير مصمم على الجحد والإنكار للبعث، فلذلك حكم عليهم بالكفر.
وقوله: {وأولئك الأغلال} يحتمل معنيين:
أحدهما: الحقيقة وأنه أخبر عن كون: {الأغلال في أعناقهم} في الآخرة فهي كقوله تعالى: {إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل} [غافر: 71].
ويحتمل أن يكون مجازًا وأنه أخبر عن كونهم مغللين عن الإيمان، فهي إذن تجري مجرى الطبع والختم على القلوب، وهي كقوله تعالى: {إنا جعلنا في أعناقهم أغلالًا فهي إلى الأذقان فهم مقمحون} [يس: 8] وباقي الآية بين.
وقال بعض الناس: {الأغلال}-هنا- عبارة عن الأعمال، أي أعمالهم الفاسدة في أعناقهم كالأغلال.
قال القاضي أبو محمد: وتحرير هذا هو في التأويل الثاني الذي ذكرناه.
وقوله تعالى: {ويستعجلونك بالسيئة...} الآية، هذه آية تبين تخطيئهم في أن يتمنوا المصائب، ويطلبوا سقوط كسف من السماء أو حجارة تمطر عليهم ونحو هذا مع خلو ذلك في الأمم ونزوله بأناس كثير؛ ولو كان ذلك لم ينزل قط لكانوا أعذر، و: {المثلات} جمع مثلة، كسمرة وسمرات، وصدقة وصدقات.
وقرأ الجمهور {المَثُلات} بفتح الميم وضم الثاء، وقرأ مجاهد {المَثَلات} بفتح الميم والثاء، وذلك جمع مثلة، أي الأخذة الفذة بالعقوبة، وقرأ عيسى بن عمر {المُثُلات} بضم الميم والتاء، ورويت عن أبي عمرو؛ وقرأ يحيى بن وثاب بضم الميم وسكون الثاء، وهاتان جمع مثلة، وقرأ طلحة بن مصرف {المَثْلات} بفتح الميم وسكون الثاء.
ثم رجّى عز وجل بقوله: {وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم} قال الطبري: معناه في الآخرة، وقال قوم: المعنى: إذا تابوا، و{شديد العقاب} إذا كفروا.
قال القاضي أبو محمد: والظاهر من معنى {المغفرة} هنا إنما هو ستره في الدنيا وإمهاله للكفرة، ألا ترى التيسير في لفظ: {مغفرة}، وأنها منكرة مقللة، وليس فيها مبالغة كما في قوله: {وإني لغفار لمن تاب} [طه: 82] ونمط الآية يعطي هذا، ألا ترى حكمه عليهم بالنار، ثم قال: {ويستعجلونك} فلما ظهر سوء فعلهم وجب في نفس السامع تعذيبهم، فأخبر بسيرته في الأمم وأنه يمهل مع ظلم الكفر، ولم يرد في الشرع أن الله تعالى يغفر ظلم العباد.
ثم خوف بقوله: {وإن ربك لشديد العقاب} قال ابن المسيب: لما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لولا عفو الله ومغفرته لما تمنى أحد عيشًا، ولولا عقابه لاتكل كل أحد» وقال ابن عباس: ليس في القرآن أرجى من هذه الآية.
و{المثلات} هي العقوبات المنكلات التي تجعل الإنسان مثلًا يتمثل به، ومنه التمثيل بالقتلى، ومنه المثلة بالعبيد. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {وإِن تعجب} أي: من تكذيبهم وعبادتهم مالا ينفع ولا يضر بعدما رأوا من تأثير قُدرة الله عز وجل في خلق الأشياء، فإنكارهم البعث موضعُ عجب.
وقيل: المعنى: وإِن تعجب بما وقفت عليه من القِطَع المتجاورات وقدرةِ ربك في ذلك، فعجب جحدهم البعث، لأنه قد بان لهم من خلق السموات والأرض ما يدل على أن البعث أسهل من القدرة.
قوله تعالى: {أإذا كنا ترابًا} قرأ ابن كثير، وأبو عمرو {آيذا كنا ترابًا آينَّا} جميعًا بالاستفهام، غير أن أبا عمرو يمدُّ الهمزة ثم يأتي بالياء ساكنة، وابن كثير يأتي بياء ساكنة بعد الهمزة من غير مدٍّ.
وقرأ نافع {آيذا} مثل أبي عمرو، واختُلف عنه في المَدِّ، وقرأ {إِنا لفي خلق} مكسورة على الخبر.
وقرأ عاصم، وحمزة {أإذا كُنَّا} {أإِنا} بهمزتين فيهما.
وقرأ ابن عامر {إِذا كُنَّا ترابًا} مكسورة الألِف من غير استفهام، {أإنا} يهمز ثم يَمُدُّ ثم يهمز على وزن: عاعِنَّا.
وروي عن ابن عامر أيضًا {أإِذا} بهمزتين لا ألِف بينهما.
والأغلال جمع غُلٍّ، وفيها قولان.
أحدهما: أنها أغلال يوم القيامة، قاله الأكثرون.
والثاني: أنها الأعمال التي هي أغلال، قاله الزجاج.
قوله تعالى: {ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة}
اختلفوا فيمن نزلت على ثلاثة أقوال:
أحدها: أنها نزلت في كفار مكة، سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتيهم بالعذاب، استهزاءً منهم بذلك، قاله ابن عباس.
والثاني: في مشركي العرب، قاله قتادة.
والثالث: في النضر بن الحارث حين قال: اللهم إِن كان هذا هو الحقَّ من عندك، قاله مقاتل.
وفي السيئة والحسنة قولان:
أحدهما: بالعذاب قبل العافية، قاله ابن عباس، ومقاتل.
والثاني: بالشرِّ قبل الخير، قاله قتادة.
فأما: {المَثُلات} فقرأ الجمهور بفتح الميم.
وقرأ عثمان، وأبو رزين، وأبو مجلز، وسعيد بن جبير، وقتادة، والحسن، وابن أبي عبلة برفع الميم.
ثم في معناها قولان:
أحدهما: أنها العقوبات، قاله ابن عباس.
وقال الزجاج: المعنى: قد تقدَّم من العذاب ما هو مثله وما فيه نكال، لو أنهم اتعظوا.
وقال ابن الأنباري: المُثْلَةُ: العقوبة التي تُبقي في المعاقَب شَيْنًا بتغيير بعض خَلْقِه، من قولهم: مثَّل فلان بفلان، إِذا شان حَلْقَه بقَطْعِ أنفه أو أُذُنِهِ، أو سملِ عينيه ونحو ذلك.
والثاني: أن المثلاتِ: الأمثالُ التي ضربها الله عز وجل لهم، قاله مجاهد، وأبو عبيدة.
قوله تعالى: {وإِن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم} قال ابن عباس: لذو تجاوزٍ عن المشركين إِذا آمنوا، وإِنه لشديد العقاب للمصرِّين على الشرك.
وقال مقاتل: لذو تجاوز عن شركهم في تأخير العذاب، وإِنه لشديد العقاب إذا عذَّب.
فصل:
وذهب بعض المفسرين إِلى أن هذه الآية منسوخة بقوله: {إِن الله لا يغفر أن يُشرك به} [النساء: 48]، والمحققون على أنها محكَمة. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ} أي إن تعجب يا محمد من تكذيبهم لك بعد ما كنت عندهم الصادق الأمين فأعجب منه تكذيبهم بالبعث؛ والله تعالى لا يتَعجَّب، ولا يجوز عليه التعجّب؛ لأنه تَغيُّر النفس بما تخفى أسبابه، وإنما ذَكَر ذلك ليتعجّب منه نَبيُّه والمؤمنون.
وقيل المعنى: أي إن عجبت يا محمد من إنكارهم الإعادة مع إقرارهم بأني خالق السموات والأرض والثمار المختلفة من الأرض الواحدة فقولهم عجب يعجب منه الخلق؛ لأن الإعادة في معنى الابتداء.
وقيل: الآية في منكري الصانع؛ أي إن تعجب من إنكارهم الصانع مع الأدلة الواضحة بأن المتغير لابد له من مغيّر فهو محل التعجّب؛ ونظم الآية يدلّ على الأوّل والثاني؛ لقوله: {أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا} أي أنبعث إذا كنا ترابا؟ا.
{أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} وقرئ {إِنَّا}.
و{الأغلال} جمع غلّ؛ وهو طَوْق تشد به اليد إلى العُنُق، أي يُغلّون يوم القيامة؛ بدليل قوله: {إِذِ الأغلال في أَعْنَاقِهِمْ} [غافر: 71] إلى قوله: {ثُمَّ فِي النار يُسْجَرُونَ} [غافر: 40].
وقيل: الأغلال أعمالهم السيئة التي هي لازمة لهم.
قوله تعالى: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالسيئة قَبْلَ الحسنة} أي لفرط إنكارهم وتكذيبهم يطلبون العذاب؛ قيل هو قولهم: {اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السماء} [الأنفال: 32].
قال قتادة: طلبوا العقوبة قبل العافية؛ وقد حكم سبحانه بتأخير العقوبة عن هذه الأمة إلى يوم القيامة.
وقيل: {قَبْلَ الْحَسَنَةِ} أي قبل الإيمان الذي يرجى به الأمان والحسنات.
و{المثلات} العقوبات؛ الواحدة مَثُلَة.
ورُوي عن الأعمش أنه قرأ {المُثْلاَت} بضم الميم وإسكان الثاء؛ وهذا جمع مُثْلَة، ويجوز {المَثْلاَت} تبدل من الضمة فتحة لثقلِها، وقيل: يُؤْتى بالفتحة عِوَضًا من الهاء.
وروي عن الأعمش أنه قرأ {المثلات} بفتح الميم وإسكان الثاء؛ فهذا جمع مُثْلة، ثم حَذف الضمة لثقلها؛ ذكره جميعه النحاس رحمه الله.
وعلى قراءة الجماعة واحدة مَثُلة، نحو صَدُقة وصُدْقَة؛ وتميم تضم الثاء والميم جميعًا، واحدها على لغتهم مُثْلة، بضم الميم وجزم الثاء؛ مثل: غُرْفة وغُرُفات؛ والفعل منه مَثَلْتُ به أَمْثُلُ مَثْلا، بفتح الميم وسكون الثاء.
{وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ} أي لذو تجاوز عن المشركين إذا آمنوا، وعن المذنبين إذا تابوا.
وقال ابن عباس: أرجى آية في كتاب الله تعالى: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ على ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ العقاب} إذا أصروا على الكفر.
وروى حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن سعيد بن المسيب قال: لما نزلت: {وإن ربك لذو مغفرةٍ للناس على ظلمهم وإن ربك لشديد العقاب} قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لولا عفو الله ورحمته وتجاوزه لما هَنَأَ أحدًا عيشٌ ولولا عقابه ووعيده وعذابه لاتَّكَل كل أحد». اهـ.

.قال الخازن:

قوله تعالى: {وإن تعجب فعجب قولهم}
العجب تبعيد النفس رؤية المستبعد في العادة، وقيل: العجب حالة تعرض للإنسان عند الجهل بسبب ولهذا قال بعض الحكماء: العجب ما لا يعرف سببه ولهذا قيل: العجب في حق الله محال لأنه تعالى علاّم الغيوب لا تخفى عليه خافية، والخطاب في الآية للنبي صلى الله عليه وسلم ومعناه وإنك يا محمد إن تعجب من تكذيبهم إياك بعد أن كنت عندهم تعرف بالصادق الأمين فعجب أمرهم، وقيل: معناه وإن تعجب من اتخاذ المشركين ما لا يضرهم ولا ينفعهم آلهة يعبدونها مع إقرارهم بأن الله تعالى خالق السماوات والأرض، وهو يضر وينفع وقد رأوا من قدرة الله وما ضرب لهم به الأمثال ما رأوا فعجب قولهم.
وقيل وإنك إن تعجب من إنكارهم النشأة الآخرة والبعث بعد الموت مع إقرارهم بأن ابتداء الخلق من الله فعجب قولهم وذلك أن المشركين كانوا ينكرون البعث بعد الموت مع إقرارهم بأن ابتداء الخلق من الله وقد تقرر في النفوس أن الإعادة أهون من الابتداء فهذا موضع التعجب وهو قولهم: {أئذا كنا ترابًا} يعني بعد الموت: {أئنا لفي خلق جديد} يعني نعاد خلقًا جديدًا بعد الموت كما كنا قبله ثم إن الله تعالى قال في حقهم: {أولئك الذين كفروا بربهم} وفيه دليل على أن كل من أنكر البعث بعد الموت فهو كافر بالله تعالى، لأن من أنكر البعث بعد الموت فقد أنكر القدرة وأن الله على كل شيء قدير، ومن أنكر ذلك فهو كافر: {وأولئك الأغلال في أعناقهم} يعني يوم القيامة، والأغلال جمع غل وهو طوق من حديد يُجعل في العنق.
وقيل أراد بالأغلال ذلهم وانقيادهم يوم القيامة كما يقاد الأسير ذليلًا بالغل: {وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} يعني أنهم مقيمون فيها ولا يخرجون منها ولا يموتون.
{ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة} الاستعجال طلب تعجيل الأمر قبل مجيء وقته، والمراد بالسيئة هنا هي العقوبة وبالحسنة العافية، وذلك أن مشركي مكة كانوا يطلبون العقوبة بدلًا من العافية استهزاء منهم، وهو قولهم: {اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم}: {وقد خلت من قبلهم المثلات} يعني وقد مضت في الأمم المكذبة العقوبات بسبب تكذيبهم رسلهم، والمثلة بفتح الميم وضم الثاء المثلثة نقمة تنزل بالإنسان فيجعل مثلًا ليرتدع غيره به، وذلك كالنكال وجمعه مثلات بفتح الميم وضمها مع ضم الثاء فيهما لغتان: {وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم} قال ابن عباس: معناه إنه لذو تجاوزٍ عن المشركين إذا آمنوا: {وإن ربك لشديد العقاب} يعني للمصرين على الشرك الذي ماتوا عليه.
وقال مجاهد: إنه لذو تجاوز عن شركهم في تأخير العذاب عنهم، وإنه لشديد العقاب إذا عاقب. اهـ.