فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

{وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ}
عطف على جملة: {الله الذي رفع السماوات بغير عمد} [الرعد: 2] فلما قُضِي حق الاستدلال على الوحدانية نقل الكلام إلى الردّ على منكري البعث وهو غرض مستقل مقصود من هذه السورة.
وقد أدمج ابتداءً خلال الاستدلال على الوحدانية بقوله: {لعلكم بلقاء ربكم توقنون} [الرعد: 2] تمهيدًا لما هنا، ثم نقل الكلام إليه باستقلاله بمناسبة التدليل على عظيم القدرة مستخرجًا من الأدلة السابقة عليه أيضًا كقوله: {أفعيينا بالخلق الأول بل هم في لبس من خلق جديد} [ق: 15] وقوله: {إنه على رَجعه لقادر} [سورة الطارق: 8] فصيغ بصيغة التعجيب من إنكار منكري البعث لأن الأدلة السالفة لم تبق عذرًا لهم في ذلك فصار في إنكارهم محل عجب المتعجب.
فليس المقصود من الشرط في مثل هذا تعليق حصول مضمون جواب الشرط على حصول فعل الشرط كما هو شأن الشروط لأن كون قولهم: {أإذا كنا ترابًا} عجبًا أمر ثابت سواء عجب منه المتعجب أم لم يعجب، ولكن المقصود أنه إن كان اتصاف بتعجب فقولهم ذلك هو أسبق من كل عجب لكل متعجب، ولذلك فالخطاب يجوز أن يكون موجهًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو المناسب بما وقع بعده من قوله: {ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة} [الرعد: 6] وما بعده من الخطاب الذي لا يصلُحُ لغير النبي.
ويجوز أن يكون الخطاب هنا لغير معين مثل: {ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا رؤوسهم} [السجدة: 12].
والفعل الواقع في سياق الشرط لا يقصد تعلقه بمعمول معين فلا يقدر: إن تعجب من قول أو إن تعجب من إنكار، بل ينزل الفعل منزلة اللازم ولا يقدر له مفعول.
والتقدير: إن يكن منك تعجب فاعجب من قولهم إلخ.... على أن وقوع الفعل في سياق الشرط يشبه وقوعه في سياق النفي فيكون لعموم المفاعيل في المقام الخَطابي، أي إن تعجب من شيء فعجب قولهم.
ويجوز أن تكون جملة {وإن تعجب} إلخ عطفًا على جملة: {ولكن أكثر الناس لا يؤمنون} [سورة الرعد: 1].
فالتقدير: إن تعجب من عدم إيمانهم بأن القرآن منزل من الله، فعجب إنكارهم البعث.
وفائدة هذا هو التشويق لمعرفة المتعجب منه تهويلًا له أو نحوه، ولذلك فالتنكير في قوله: {فعجب} للتنويع لأن المقصود أن قولهم ذلك صالح للتعجيب منه، ثم هو يفيد معنى التعظيم في بابه تبعًا لما أفاده التعليق بالشرط من التشويق.
والاستفهام في: {أإذا كنا ترابًا} إنكاري، لأنهم موقنون بأنهم لا يكونون في خلق جديد بعد أن يكونوا ترابًا.
والقول المحكي عنهم فهو في معنى الاستفهام عن مجموع أمرين وهما كونهم: ترابًا، وتجديد خلقهم ثانية.
والمقصود من ذلك العجب والإحالة.
وقرأ الجمهور: {أإذا كنا} بهمزة استفهام في أوله قبل همزة: {إذا}.
وقرأه ابن عامر بحذف همزة الاستفهام.
وقرأ الجمهور: {أإنا لفي خلق جديد} بهمزة استفهام قبل همزة: {إنّا}.
وقرأه نافع وابن عامر وأبو جعفر بحذف همزة الاستفهام.
والإشارة بقوله: {أولئك الذين كفروا بربهم} للتنبيه على أنهم أحرياء بما سيرد بعد اسم الإشارة من الخبَر لأجْل ما سبق اسمَ الإشارة من قولهم: {أإذا كنا ترابا أإنا لفي خلق جديد} بعد أن رأوا دلائل الخلق الأول فحق عليهم بقولهم ذلك حكمان: أحدهما أنهم كفروا بربهم لأن قولهم: {أإذا كنا ترابًا أإنا لفي خلق جديد} لا يقوله إلا كافر بالله.
أي بصفات إلهيته إذ جعلوه غير قادر على إعادة خلقه؛ وثانيهما استحقاقهم العذاب.
وعطف على هذه الجملة جملة: {وأولئك الأغلال في أعناقهم} مفتتحة باسم الإشارة لمثل الغرض الذي افتتحت به الجملة قبلها فإن مضمون الجملتين اللتين قبلها يحقق أنهم أحرياء بوضع الأغلال في أعناقهم وذلك جزاء الإهانة.
وكذلك عطف جملة: {وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون}.
وقوله: {الأغلال في أعناقهم} وعيد بسوقهم إلى الحساب سوق المذلة والقهر، وكانوا يضعون الأغلال للأسرى المثقلين، قال النابغة:
أو حُرّة كمهاة الرمل قد كُبلت ** فوق المعاصم منها والعراقيب

تدعو قعينا وقد عض الحديد بها ** عض الثقاف على صمّ الأنابيب

والأغلال: مع غُل بضم الغين، وهو القيد الذي يوضع في العنق، وهو أشد التقييد.
قال تعالى: {إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل} [غافر: 71].
وإعادة اسم الإشارة ثلاثًا للتهويل.
وجملة {هم فيها خالدون} بيان لجملة أصحاب النار.
{وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ}
جملة: {ويستعجلونك} عطفٌ على جملة: {وإن تعجب} [الرعد: 5]، لأن كلتا الجملتين حكاية لغريب أحوالهم في المكابرة والعناد والاستخفاف بالوعيد.
فابتدأ بذكر تكذيبهم بوعيد الآخرة لإنكارهم البعث، ثم عطف عليه تكذيبهم بوعيد الدنيا لتكذيبهم الرسول صلى الله عليه وسلم وفي الاستخفاف بوعيد نزول العذاب وعَدّهم إياه مستحيلًا في حال أنهم شاهدوا آثار العذاب النازل بالأمم قبلهم، وما ذلك إلا لذهولهم عن قدرة الله تعالى التي سيق الكلام للاستدلال عليها والتفريع عنها، فهم يستعجلون بنزوله بهم استخفافًا واستهزاء كقولهم: {فأمطر علينا حجارةً من السماء أو ائتنا بعذاب أليم} [الأنفال: 32]، وقولهم: {أو تُسقِطَ السماءَ كما زعمتَ علينا كِسَفا} [الإسراء: 93].
والباء في {بالسيئة} لتعدية الفعل إلى ما لم يكن يتعدى إليه.
وتقدم عند قوله تعالى: {ما عندي ما تستعجلون به} في سورة الأنعام [57].
والسيئة: الحالة السيئة.
وهي هنا المصيبة التي تسوء من تحل به.
والحسنة ضدها، أي أنهم سألوا من الآيات ما فيه عذاب بسوء، كقولهم: {إن كان هذا هو الحقّ من عندك فأمطِر علينا حجارةً من السماء} [الأنفال: 32] دون أن يسألوا آية من الحسنات.
فهذه الآية نزلت حكاية لبعض أحوال سؤالهم الظّانين أنه تعجيز، والدالين به على التهكم بالعذاب.
وقبْليّة السيئة قبلية اعتبارية، أي مختارين السيئة دون الحسنة.
وسيأتي تحقيقه عند قوله تعالى: {قال يا قوم لم تستعجلون بالسيئة قبل الحسنة} في سورة النمل [46] فانظره.
وجملة {وقد خلت من قبلهم المثلات} في موضع الحال.
وهو محل زيادة التعجيب لأن ذلك قد يعذرون فيه لو كانوا لم يروا آثار الأمم المعذبة مثل عاد وثمود.
والمَثُلات بفتح الميم وضم المثلثة: جمع مَثُلة بفتح الميم وضم الثاء كسَمُرة، وبضم الميم وسكون الثاء كعُرْفة: وهي العقوبة الشديدة التي تكون مثالًا تُمثل به العقوبات.
وجملة: {وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم} عطف على جملة: {وقد خلت من قبلهم المثلات}.
وهذا كشف لغرورهم بتأخير العذاب عنهم لأنهم لمّا استهزأوا بالنبي صلى الله عليه وسلم وتعرضوا لسؤال حلول العذاب بهم ورأوا أنه لم يعجل لهم حلوله اعترتهم ضراوة بالتكذيب وحسبوا تأخير العذاب عَجْزًا من المتوعد وكذبوا النبي صلى الله عليه وسلم وهم يجهلون أن الله حليم يُمهل عباده لعلهم يرجعون، فالمغفرة هنا مستعملة في المغفرة الموقتة، وهي التجاوز عن ضراوة تكذيبهم وتأخير العذاب إلى أجل، كما قال تعالى: {ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة ليقولن ما يحسبه ألا يوم يأتيهم ليس مصروفًا عنهم وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون} [سورة النحل: 34].
وقرينة ذلك أن الكلام جار على عذاب الدنيا وهو الذي يقبل التأخير كما قال تعالى: {إنا كاشفوا العذاب قليلًا إنكم عائدون}
[الدخان: 15]، أي عذاب الدنيا، وهو الجوع الذي أصيب به قريش بعد أن كان يطعمهم من جوع.
و{على} في قوله: {على ظلمهم} بمعنى: {مع}.
وسياق الآية يدل على أن المراد بالمغفرة هنا التجاوز عن المشركين في الدنيا بتأخير العقاب لهم إلى أجل أراده الله أو إلى يوم الحساب، وأن المراد بالعقاب في قوله: {وإن ربك لشديد العقاب} ضد تلك المغفرة وهو العقاب المؤجل في الدنيا أو عقاب يوم الحساب، فمحمل الظلم على ما هو المشهور في اصطلاح القرآن من إطلاقه على الشرك.
ويجوز أن يحمل الظلم على ارتكاب الذنوب بقرينة السياق كإطلاقه في قوله تعالى: {فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم} [سورة النساء: 160] فلا تعارض أصلًا بين هذا المحمل وبين قوله: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} [النساء: 48] كما هو ظاهر.
وفائدة هذه العلاوة إظهار شدة رحمة الله بعباده في الدنيا كما قال: {ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى} [فاطر: 45].
وجملة {وإن ربك لشديد العقاب} احتراس لئلا يحسبوا أن المغفرة المذكورة مغفرة دائمة تعريضًا بأن العقاب حال بهم من بعد. اهـ.

.قال الشنقيطي:

قوله تعالى: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالسيئة قَبْلَ الحسنة وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ المثلات} الآية.
المراد بالسيئة هنا: العقوبة وإنزال العذاب قبل الحسنة، اي قبل العافية، وقيل الإيمان، وقد بين تعالى هذه الآية الكريمة أن الكفار يطلبون منه صلى الله عليه وسلم أن يعجل له العذاب الذي يخوفهم به إن تمادوا على الكفر، وقد بين هذا المعنى في ىيات كثيرة، كقوله: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالعذاب وَلَن يُخْلِفَ الله وَعْدَهُ} [الحج: 47]، وكقوله: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالعذاب وَلَوْلاَ أَجَلٌ مُّسَمًّى لَّجَاءَهُمُ العذاب وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} [العنكبوت: 53]، وكقوله: {يَسْتَعْجِلُونَكَ بالعذاب وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بالكافرين} [العنكبوت: 54]، وقوله: {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ لِّلْكَافِرِينَ} [المعارج: 1- 2]، وقوله: {وَإِذْ قَالُواْ اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السماء} [الأنفال: 32] الآية.
وقوله: {يَسْتَعْجِلُ بِهَا الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بِهَا والذين آمَنُواْ مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الحق} [الشورى: 18]، وقوله: {وَقَالُواْ رَبَّنَا عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الحساب} [ص: 16] إلى غير ذلك من الآيات.
وسبب طلبهم لتعجيل العذاب هو العناد، وزعم أن النَّبي صلى الله عليه وسلم كذاب فيما يخوفهم به من بأس الله وعقابه، كما قال تعالى: {وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ العذاب إلى أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ لَّيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ} [هود: 8]، وكقوله: {يَاصَالِحُ ائتنا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ المرسلين} [الأعراف: 77]،: {قَالُواْ يانوح قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتَنِا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصادقين} [هود: 32]، كما تقدمت الإشارة إلى هذا.
والمثلات: العقوبات واحدتها مثلة.
والمعنى: أنهم يطلبون تعجيل العذاب تمرادًا وطغيانًا، ولم يتعظوا بما أوقع الله بالأمم السالفة من المثلات- أي العقوبات- كما فعل بقوم نوحن وقوم هود، وقوم صالح، وقوم لوطن وقوم شعيب، وفرعون وقومه وغيرهم.
قوله تعالى: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ على ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ العقاب}.
بين- جل وعلا- في هذه الآية الكريمة أنه ذو مغفرة للناس على ظلمهم، وأنه شديد العقاب. فجمع بين الوعد والوعيد ليعظم رجاء الناس على فضله، ويشتد خوفهم من عقابه وعذابه الشديد. لأن مطامع العقلاء محصورة في جلب النفع ودفع الضر، فاجتماع الخوف والطمع أدعى للطاعة وقد بن هذا المعنى في آيات كثيرة، كقوله تعالى: {فَإِن كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ القوم المجرمين} [الأنعام: 147]، وقوله: {إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ العقاب وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} [الأنعام: 165]، وقوله جل وعلا: {نَبِّئ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الغفور الرحيم وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ العذاب الأليم} [الحجر: 49- 50]، وقوله: {غَافِرِ الذنب وَقَابِلِ التوب شَدِيدِ العقاب ذِي الطول} [غافر: 3] الآية. إلى غير ذلك من الآيات. اهـ.