فصل: قال الشنقيطي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وجيء في تلك الصلة بفعل المضي فقال: {الله الذي رفع السماوات} كما أشرنا إليه آنفًا.
فأما هنا فصيغ الخبر بصيغة المضارع المفيد للتجدد والتكرير لإفادة أن ذلك العلم متكرر متجدد التعلق بمقتضى أحوال المعلومات المتنوعة والمتكاثرة على نحو ما قرر في قوله: {يدبر الأمر يفصل الآيات} [الرعد: 2].
وذُكر من معلومات الله ما لا نزاع في أنه لا يعلمه أحد من الخلق يومئذٍ ولا تستشار فيه آلهتهم على وجه المثال بإثبات الجُزئي لإثبات الكلّي، فما تحمل كل أنثى هي أجنة الإنسان والحيوان.
ولذلك جيء بفعل الحمل دون الحَبْل لاختصاص الحبل بحمل المرأة.
و{ما} موصولة، وعمومها يقتضي علم الله بحال الحل الموجود من ذكورة وأنوثة، وتمام ونقص، وحسن وقبح، وطول وقصر، ولون.
وتغيض: تنقص، والظاهر أنه كناية عن العلوق لأن غيض الرحم انحباس دم الحيض عنها، وازديادها: فيضان الحيض منها.
ويجوز أن يكون الغيض مستعارًا لعدم التعدد.
والازدياد: التعدد أي ما يكون في الأرحام من جنين واحد أو عدة أجنة وذلك في الإنسان والحيوان.
وجملة: {وكل شيء عنده بمقدار} معطوفة على جملة: {يعلم ما تحمل كل أنثى}.
فالمراد بالشيء الشيء من المعلومات.
و{عنده} يجوز أن يكون خبرًا عن: {وكل شيء} و: {بمقدار} في موضع الحال من: {وكل شيء}.
ويجوز أن يكون: {بمقدار} في موضع الحال من مقدار ويكون: {بمقدار} خبرًا عن: {كل شيء}.
والمقدار: مصدر ميمي بقرينة الباء، أي بتقدير، ومعناه: التحديد والضبط.
والمعنى أنه يعلم كلّ شيء علمًا مفصّلًا لا شيوع فيه ولا إبهام.
وفي هذا ردّ على الفلاسفة غير المسلمين القائلين أنّ واجب الوجود يعلم الكليات ولا يعلم الجزئيات فرارًا من تعلّق العلم بالحوادث.
وقد أبطل مذهبهم علماءُ الكلام بما ليس فوقه مرام.
وهذه قضية كلية أثبتت عموم علمه تعالى بعد أن وقع إثبات العموم بطريقة التمثيل بعلمه بالجزئيات الخفية في قوله: {الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد}.
وجملة: {عالم الغيب والشهادة} تذييل وفذلكة لتعميم العلم بالخفيات والظواهر وهما قسما الموجودات.
وقد تقدم ذكر: {الغيب} في صدر سورة البقرة [4].
وأما {الشهادة} فهي هنا مصدر بمعنى المفعول، أي الأشياء المشهودة، وهي الظاهرة المحسوسة، المرئيات وغيرها من المحسوسات، فالمقصود من: {الغيب والشهادة} تعميم الموجودات كقوله: {فلا أقسم بما تبصرون وما لا تبصرون} [الحاقة: 38 39].
والكبير: مجاز في العظمة، إذ قد شاع استعمال أسماء الكثرة وألفاظ الكبر في العظمة تشبيهًا للمعقول بالمحسوس وشاع ذلك حتى صار كالحقيقة.
والمتعالي: المترفع.
وصيغت الصفة بصيغة التفاعل للدلالة على أن العلو صفة ذاتية له لا من غيره، أي الرفيع رفعة واجبة له عقلًا.
والمراد بالرفعة هنا المجاز عن العزة التامة بحيث لا يستطيع موجود أن يغلبه أو يكرهه، أو المنزه عن النقائص كقوله عزّ وجلّ تعالى: {عما يشركون} [النحل: 3].
وحذف الياء من {المتعال} لمرعاة الفواصل الساكنة لأن الأفصح في المنقوص غير المُنوّن إثبات الياء في الوقف إلاّ إذا وقعت في القافية أو في الفواصل كما في هذه الآية لمراعاة: {من وال} [الرعد: 11]، و: {الآصال} [الرعد: 15].
وقد ذكر سيبويه أن ما يختار إثباته من الياءات والواوات يحذف في الفواصل والقوافي، والإثبات أقيس والحذف عربي كثير. اهـ.

.قال الشنقيطي:

قوله تعالى: {إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ}.
أي إنما عليك البلاغ والإنذار، أما هداهم وتوفيقهم فهو بيد الله تعالى، كما أن حسابهم عليه جل وعلا.
وقد بين هذا المعنى في آيات كثيرة، كقوله: {لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ ولكن الله يَهْدِي مَن يَشَاءُ} [البقرة: 272]، وقوله: {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ وَعَلَيْنَا الحساب} [الرعد: 40] ونحو ذلك من الآيات.
قوله تعالى: {وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ}.
أظهر الأقوال في هذه الآية الكريمة أن المراد بالقوم الأمة، والمراد بالهادي الرسول، كما يدل به قوله تعالى: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ} [يونس: 47] الآية. وقوله: {وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ} [فاطر: 24]، وقوله: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا} [النحل: 36] الآية. وقد اوضحنا أقوال العلماء وأدلتها في هذه الآية الكريمة في كتابنا دفع إيهام الاضطراب، عن آيات الكتاب.
قوله تعالى: {الله يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أنثى}.
لفظة ما في هذه الآية يحتمل أن تكون موصوله والعائد محذوف، اي يعلم الذي تحمله كل أنثى وعلى هذا فالمعنى: يعلم ما تحمله م الولد على اي حال هو من ذكورة وأنوثة، وخداج، وحسن، وقبح، وطول وقصر، وسعادة وشقاوة إلى غير ذلك من الأحوال.
وقد دلت على هذا المعنى آيات من كتاب الله، كقوله: {وَيَعْلَمُ مَا فِي الأرحام} [لقمان: 34]. لأن ما فيه موصولة بلا نزاع، وكقوله: {هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُمْ مِّنَ الأرض وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ} [النجم: 32]، وقوله: {هُوَ الذي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأرحام كَيْفَ يَشَاءُ} [آل عمران: 6] الآية.
ويحتمل أيضًا أن تكون لفظة ما في هذه الآية الكريمة مصدرية، اي يعلم حمل كل انثى بالمعنى المصدري، وقد جاءت ىيات تدل أيضًا على هذا المعنى، كقوله: {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أنثى وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ} [فاطر: 11]، وقوله: {إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ الساعة وَمَا تَخْرُجُ مِن ثَمَرَاتٍ مِّنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أنثى وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ} [فصلت: 47] الآية.
وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك أن الآية قد يكون لها وجهان كلاهما حق، وكلاهما يشهد له قرآن، فنذكر الجميع.
وأما احتمال كون لفظة ما في هذه الآية استفهامية، فهو بيعد فيما يظهر لي، وإن قال به بعض اهل العلم، وقد دلت السنة الصحيحة على أن علن ما في الأرحام المنصوص عليه في الآيات المذكورة مما استأثر الله به دون خلقه، وذلك هو ما ثبت في صحيح ابخاري من أن المراد بمفاتح الغيب في قوله تعالى: {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغيب لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ} [الأنعام: 59] الخمس المذكورة في قوله تعالى: {إِنَّ الله عِندَهُ عِلْمُ الساعة وَيُنَزِّلُ الغيث وَيَعْلَمُ مَا فِي الأرحام وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} [لقمان: 34]، والاحتمالان المذكوران في لفظة ما من قوله: {يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ} الآية، جاريان ايضًا في قوله: {وَمَا تَغِيضُ الأرحام وَمَا تَزْدَادُ} [الرعد: 8]، فعلى كونها موصولة فيهما، فالمعنى يعلم الذي تنقصه وتزيده، وعلى كونها مصدرية، فالمعنى يعلم نقصها وزيادتها.
واختلف العلماء في المراد بقوله: {وَمَا تَغِيضُ الأرحام وَمَا تَزْدَادُ} وهذه أقوالهم في الآية بواسطة نقل صاحب الدر المنثور في التفسير بالمأثور: أخرج ابن جرير عن الضحاك في قوله: {وَمَا تَغِيضُ الأرحام وَمَا تَزْدَادُ} قال: هي المرأة ترى الدم في حملها.
وأخرج ابن ابي شيبة وابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله: {وَمَا تَغِيضُ الأرحام} قال: خروج الدم: {وَمَا تَزْدَادُ} قال: استمساكه.
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: {وَمَا تَغِيضُ الأرحام} قال: أن ترى الدم في حملها: {وَمَا تَزْدَادُ} قال: في التسعة أشهر.
وأخرج ابن أبي حاتم من طريق الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: {وَمَا تَغِيضُ الأرحام وَمَا تَزْدَادُ} قال: ما تزداد على التسعة وما تنقص من التسعة.
وأخرج ابن المنذر وأبو الشيخ عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: {وَمَا تَغِيضُ الأرحام} قال: ما دون تسعة اشهر: {وَمَا تَزْدَاد} فوق التسعة.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: {وَمَا تَغِيضُ الأرحام} يعني السقط. {وَمَا تَزْدَاد} يقول: ما زادت في الحمل على ما غاضت حتى ولدته تمامًا وذلك أن من النساء من تحمل عشرة أشهر ومنهن من تزيد في الحمل ومنهن من تنقص فذلك الغيض والزيادة التي ذكر الله تعالى وكل ذلك بعلمه تعالى.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن الضحاك رضي الله عنه قال: ما دون التسعة أشهر فهو غيض وما فوقها فهو زيادة.
واخرج ابن ابي شيبة ووابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن عكرمة رضي الله عنه قال: ما غاضت الرحم بالدم يومًا إلا زاد في الحمل يومًا حتى تكمل تسعة اشهر طاهرًا.
وأخرج ابن المنذر وابن ابي حاتم عن الحسن رضي الله عنه في قوله: {وَمَا تَغِيضُ الأرحام} قال: السقط وأخرج ابن ابي شيبة وابن المنذر وابن جرير وابن ابي حاتم عن مجاهد رضي الله عنه في الآية قال: إذا رأت الدم هش الولد وإذا لم تر الدم عظم الولد.اهـ من الدر المنثور في التفسير بالمأثور.
وقيل الغيض والزيادة يرجعان إلى الولد كنقصان إصبع وغيرها وزيادة إصبع وغيرها.
وقيل الغيض: انقطاع دم الحيض وما تزداد بدم النفاس بعد الوضع.
ذكر هذين القولين القرطبي، وقيل تغيض تشتمل على واحد وتزداد تشتمل على توأمين فأكثر.
قال مقيده- عفا الله عنه: مرجع هذه الأقوال كلها إلى شيء واحد وهو أنه تعالى عالم بما تنقصه الأرحام وما تزيده لأن معنى تغيض تنقص وتزداد أي تأخذه زائدًا فيشمل النقص المذكور نقص العدد ونقص العضو من الجنين ونقص جسمه إذا حاضت عليه فتقلص ونقص مدة الحمل بأن تسقطه قبل أمد حمله المعتاد، كما أن الازدياد يشمل زيادة العضو وزيادة العدد وزيادة جسم الجنين إن لم تحض وهي حامل وزيادة أمد الحمل عن القدر المعتاد، والله جل وعلا يعلم ذلك كله والآية تشمله كله.
تنبيه.
أخذ بعض العلماء من هذه الآية الكريمة أن أقل أمد الحمل وأكثره وأقل أمد الحيض وأكثر مأخوذ من طريق الاجتهاد لأن الله استأثر بعلم ذلك لقوله: {الله يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أنثى وَمَا تَغِيضُ الأرحام} الآية.
ولا يجوز أن يحكم في شيء من ذلك إلا بقدر ما أظهره الله لنا ووجد ظاهرًا في النساؤ نادرًا أو معتادًا وسنذكر إن شاء الله أقوال العلماء في اقل الحمل وأكثره، ونرجح ما يظهر رجحانه بالدليل. فنقول وبالله تعالى نستعين.
اعلم أن العلماء أجمعوا على أن أقل أمد الحمل ستة أشهر وسيأتي بيان ان القرآن دل على ذلك لأن قوله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 15] إن ضمتت إليه قوله تعالى: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} [لقمان: 14] بقي عن مدة الفصال من الثلاثين شهرًا لمدة الحمل ستة أشهر فدل ذلك على أنها أمد للحمل يولد فيه الجنين كاملًا كما يأتي إيضاحه إن شاء الله تعالى.
وقد ولد عبد الملك بن مروام لستة أشهر وهذه الأشهر الستة بالأهلة كسائر أشهر الشريعة لقوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهلة قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ} [البقرة: 189] الآية.
قال القرطبي: ولذلك قد روي في المذهب عن بعض أصحاب مالك وأظنه في كتاب ابن حارث أنه إن نقص عن الأشهر الستة ثلاثة أيام فإن الولد يلحق لعلة نقص الأشهر وزيادتها حكاه ابن عطية.اهـ.
قال مقيده- عفا الله عنه: الذي يظهر والله تعالى أعلم أن الشهر المعدود من أوله يعتبر على حاله من كمال أو نقصان وأن المنكسر يتمم ثلاثين، أما أكثر أمد الحمل فلم يرد في تحديده شيء من كتاب ولا سنة والعلماء مختلفون فيه وكلهم يقول بحسب ما ظهر له من أحوال النساء.
فذهب الإمام أحمد والشافعي: إلى أن أقصى أمد الحمل أربع سنين وهو إحدى الروايتين المشهورتين عن مالك والرواية المشهورة الأخرى عن مالك خمس سنين وذهب الإمام أبو حنيفة إلى أن أقصاه سنتان وهو رواية عن أحمد وهو مذهب الثوري وبه قالت عائشة رضي الله عنها وعن الليث ثلاث سنين وعن الزهري ست وسبع وعن نحمد بن الحكم سنة لا أكثر وعن داود تسعة أشهر.
وقال ابن عبد البر هذه مسألة لا اصل لها إلا الاجتهاد والرد إلى ما عرف من أمر النساء وقال القرطبي روى الدارقطني عن الوليد بن مسلم قال قلت لمالك بن أنس إني حدثت عن عائشة أنها قالت: «لا تزيد المرأة في حملها على سنتين قدر ظل المغزل فقال: سبحان الله من يقول هذا هذه جارتنا امرأة محمد بن عجلان تحمل وتضع في أربع سنين وكانت تسمى حاملة الفيل».